بعد عودة فاس للسعديين ظهر السلطان محمد الشيخ السعدي كخصم عنيد للعثمانيين، ومن المعارضين لسياستهم التوسعيَّةِ في بلاد المغرب، بل والأكثر من ذلك أنه أعلن إثرَ دخوله فاس بأنه عازمٌ على الذهاب إلى الجزائر لمنازلة العثمانيين هناك، فهذا التنافسُ السعديُّ العثماني على شمال إفريقيا، بل وعلى الخلافةِ الإسلامية كان في صالحِ الإسبان والبرتغال، ولا عجب إذا رأينا بعد ذلك تقاربًا بين هؤلاء جميعًا ضد العثمانيين حيث بعث الملك البرتغالي جون الثالث رسالةً إلى حاكم مازكان البرتغالي الفارودي كالفولو ردًّا على الطلب الذي تقدم به السلطانُ محمد الشيخ إلى كلٍّ من مدريد ولشبونة لتزويده بقوات عسكرية ضد العثمانيين، كما حددت الرسالةُ بعض الشروط التي يراها البرتغاليون لمساعدة السعديين، كتسليم بعض المراكز البحرية المغربية، مثل: بادس بنيون والعرائش، بالإضافة إلى تموين القوات التي سيرسلها لمساعدته، وأخيرًا يختتمُ الملك جون الثالث بضرورة إخبار الإمبراطور الإسباني بذلك للتنسيق في عمل مشترك ضِدَّ العثمانيين؛ ونتيجة لهذا التقارب فقد عُقِدت هدنةٌ بين السعديين والبرتغال بواسطة حاكم مازكان لمدة ستة أشهر, وظلَّ مفعول هذه الهدنة زمنًا طويلًا.
لَمَّا توفِّيَ المنصور أحمد الذهبي السعدي وفرَغَ الناس من دفنِه، اجتمع أهلُ الحَلِّ والعقد من أعيان فاس وكبرائها والجمهورِ من جيش المنصور على بيعةِ ولده زيدان، وقالوا إن المنصور استخلفه في حياتِه ومات في حجرِه، وكان ممن تصدى لذلك القاضيان قاضي الجماعة بفاس أبو القاسم بن أبي النعيم، والقاضي أبو الحسن علي بن عمران السلاسي, وكان زيدان لما توفِّي والده كتم موتَه وبعث جماعةً للقبض على أخيه محمد الشيخ المأمون المسجون بمكناسة، فمنعهم من ذلك الباشا جؤذر كبير جيش الأندلس، وحُمل محمد الشيخ موثقًا إلى مراكش حتى دُفِع إلى أخيه أبي فارس، وكان شقيقًا له فلم يزل مسجونًا عنده إلى أن أخرجه أبو فارس ليقاتِلَ به أخاهما زيدان، وقيل: إن زيدان لما اشتغل بدفنِ والده احتال القائد أبو العباس أحمد بن منصور العلج، فذهب بنصف المحلةِ إلى مراكش نازعًا طاعتَه عن زيدان إلى أبي فارس، ومرَّ في طريقه بمكناسة فأخرج محمد الشيخ من اعتقالِه واحتمله معه إلى أبي فارس، فسجنه فلم يزل مسجونًا عنده.
هو محمد بن علي السنوسي الكبير صاحِبُ الدعوة السنوسية، وواحِدٌ من كبار المُصلِحين في العالم الإسلامي في العصر الحديث. ولِدَ بمقاطعة وهران بالجزائر سنة 1202 هـ / 1798م، ورحل إلى فاس سنة 1812م، والتحق بجامِعِ القرويين وبعد تخرُّجِه فيها عُيِّن مدرسًا بالجامعِ الكبير بفاس. عاصرَ دخولَ الدولةِ السعودية الأولى للحجازِ واختلط بعُلَمائِها وأخذ عنهم، ثم عاد إلى ليبيا وقام بدعوته الإصلاحية التي اتخذت الإسلامَ طريقًا لها في العمَلِ، فدعا المجتمَعَ الليبي إلى العودةِ إلى الإسلام والاعتماد على الكتابِ والسنَّةِ ومحاربة الاختلافِ والتفَرُّق في الدينِ، ومواجهة المبشِّرين بالنصرانية، ومحاربة الاستعمار الإيطالي المتسَلِّط. لَقِيَت الدعوة التي أسَّسها السنوسي صدًى في نفوس سكان الصحراء في الشمال الإفريقي كله والسودان، وكسب صاحبُها من النفوذ والسُّمعة, وقد حقَّقت قدرًا كبيرًا من النجاح، فكَوَّن دولة إسلامية امتدَّت آثارها إلى أفريقيا الغربية. وأقام مدرسةً عِلميةً إسلاميةً خرَّجت العلماءَ والقضاة والدعاة، وله عددٌ من المؤلَّفات بلغت نحو 40 كتابًا. توفي السنوسي في الجغبوب، وخلفه ابنه أحمد المهدي في قيادة الحركة السنوسية.
كانت إيران قد وقفت في الحرب العالمية الثانية مع ألمانيا ضِدَّ الحلفاء الذين طالبوا إيران بتسليمِ الألمان الموجودين في إيران، وفي 15 شعبان 1360هـ / 6 أيلول 1941م عاد الحلفاءُ فطلبوا من إيران طرْدَ البَعثات السياسية لدول المحور، وفي 23 شعبان / 14 أيلول طلبت بريطانيا وروسيا من الشاه رضا بهلوي التنازُلَ عن العرش لولي عهده محمد رضا، وإعلان الحرب على ألمانيا وبقية دول المحور، فرفض فأجبره الحلفاءُ على التنازل؛ ففي 25 شعبان / 16 أيلول تنازل الشاه لابنه عن الحكم، وقرأ محمد علي فروغي رئيس الوزراء وثيقةَ التنازل للمجلس، وترك رضا شاه طهران إلى أصفهان، ثم انتقل إلى جزيرة موريشيوس وفُرِضَت عليه الإقامة الجبرية هناك، ثم نقل إلى جوهانسبرغ جنوبي إفريقيا حتى توفِّيَ فيها، وبعد عدة سنوات نُقِل رفاته إلى طهران، أما ابنه فتُوِّجَ في نفس اليوم الذي تنازل له فيه والده عن الحكم، وتوِّجَ شاهًا على إيران وأدى اليمين الدستورية، وتعهد أمام المجلس بحِفظِ سيادة إيران، وصيانة حقوق الشعب، واحترام الدين الإسلامي، ورعاية الدستور والقوانين.
بعد استقرارِ الأحوال في ألبانيا، أُجريت انتخابات عامة وعلى إثر فوز أنور خوجا بها أُعلنت ألبانيا جمهوريةً شعبية، وأُلغيت الملكية رسميًّا، وأصبح أنور خوجا رئيسًا للبلاد، وما إن أمسك بمقاليد الأمور حتى بادر إلى قطعِ العلاقات مع كلٍّ مِن بريطانيا والولايات المتحدة الأمريكية. وكان أنور خوجا من المعجَبين بستالين: دكتاتور الاتحاد السوفيتي الشيوعي، فوقف إلى جانِبِه حين نشب خلافٌ سنة 1367هـ / 1948م بينه وبين "تيتو" الرئيس اليوغسلافي، على الرغم من مساندة الحزب الشيوعي اليوغسلافي للشيوعيين الألبان في أثناء الاحتلال الإيطالي لبلادِهم، غير أنَّ هذا التأييد الذي أبداه أنور خوجا للسياسة السوفيتية توقَّفَ بعد وفاة ستالين سنة 1373هـ / 1953م، وانتهاج خلفائِه سياسةً مغايرة؛ فتحوَّل التأييد إلى عداءٍ مُستحكم، انتهى بقطع العلاقات بين البلدين في سنة 1381هـ / 1961م، وكان من الأسباب التي أدَّت إلى هذه النتيجة وقوف "خوجا" إلى جانب الصين في صراعها الأيديولوجي المذهبي ضِدَّ الاتحاد السوفيتي، ثم أعقب ذلك انسحابُ ألبانيا من حلف "وارسو" سنة 1388هـ / 1968م، والتوقُّف عن المشاركة في "الكوميكون"، وهو المجلس المشترك لمساعدة دولة الكتلة الشرقية.
تأزَّم الأمرُ في باكستان كثيرًا -وخاصةً بعد الحربِ مع الهند- وزادت المعارَضةُ، وبدأت المطالَبةُ بتقسيم باكستان إلى إقليمين، وفُصِلَ الإقليمُ الشرقي، وزادت الاضطراباتُ، وكانت مكانةُ أيوب خان (سُنِّي) في باكستان بدأت تَضعُفُ؛ بسَبَبِ ازدياد المعارِضين لسياسته، وزاد من قوَّتِها انتقادُ وزير الخارجية ذي الفقار علي بوتو (شيعي) للمعاهدة، وفي هذه الأوضاع تأسَّس حزبُ الشعب الاشتراكي بهدف إقصاءِ أيوب خان عن السلطة، وتكَوَّنت أحزابٌ سياسيَّةٌ أخرى اجتمعت كلُّها على إسقاط حكومة أيوب خان، وأخذت شعبيَّةُ أيوب خان في الانهيارِ عندما أحسَّت قطاعاتٌ عريضةٌ من الشعب الباكستاني بفشلِه في الحُصولِ على تأييد عددٍ مِن الدول الإسلامية ذاتِ الثِّقلِ الدولي، وتدهور الموقِفُ السياسي الداخلي بسبب اشتدادِ المعارضة واندلاع المظاهراتِ الطُّلَّابية الحاشدة، فلم يجِدِ الرئيسُ أيوب خان بدًّا من اعتزالِ الحكم، فتركه وسلَّمه إلى رئيسِ هيئة أركان الحرب في الجيش الباكستاني الجنرال يحيى خان الذي تسلَّم السلطة، فشَكَّل حكومةً عَسكريةً، وفرَضَ الأحكامَ العُرفية، وحَلَّ الهيئاتِ النيابيَّة، ومَنَع الإضراباتِ والمظاهراتِ.
زادت نِقمةُ النَّاسِ على النِّظامِ الحاكم في ليبيا، وكانت تزدادُ كُلَّما ازداد التودُّدُ للإيطاليين الذين كانوا بالأمسِ محتلِّين وأذاقوا الناسَ الويل، وأيضًا لعدَمِ مقاطعتهم لإسرائيل رغمَ صدور قرار المقاطعة من الجامعة العربية، ثمَّ ازدياد النفوذ الأمريكي في المنطقة، وغيرها من الأمور التي ولَّدت الحِقدَ الشعبيَّ، وظهرت المعارضةُ. وفي 19 جمادى الآخرة 1389هـ / 2 أيلول (سبتمبر) تحرَّك الجيشُ بقيادةِ العقيد معمَّر القذافي، وقضى على الوَضعِ القائم الذي وَجَدَه هشًّا؛ إذ نِقمةُ الشَّعبِ كانت عارمةً على النظام الملكي، وتشكَّل المجلسُ الأعلى لقيادة الثورة، وتشكَّلت حكومةٌ جديدة من عسكريِّين ومَدَنيين، وعلى إثر ذلك انسحبت أمريكا وانجلترا من ليبيا، فأصبح لهذه الثورةِ مكانتُها في أعُينِ النَّاسِ، ثمَّ مِن الناحية الإسلاميَّة أصدرت الثورةُ قانونًا بمنع تعاطي الخُمورِ في ليبيا، وطبَّقت الزكاةَ، وأصدرت مجموعةَ قوانين تدور حولَ هذا الفَلَك الإسلامي! ثم أبدى القذافيُّ قائدُ الثورة بعد وفاة جمال عبد الناصر أنَّه الوريثُ للزعامة العربية! وعَمِلَ على إقامة اتحادِ الجُمهوريات العربية المتَّحَدة بين ليبيا ومصر وسوريا.
في مدينةِ جروزني (عاصمةِ الشيشان) دشَّن الرئيسُ الشيشانيُّ: رمضان قاديروف مُؤتمَرًا عالميًّا تحتَ عُنوانِ "من هم أهلُ السنَّةِ والجماعةِ؟" في اليومِ الثاني والعشرين من هذا الشهرِ حضَرَه قُرابةُ 200 مشاركٍ من المَنسوبين إلى العِلمِ الشرعيِّ والدَّعوةِ الإسلاميَّةِ من مُختلِفِ الدُّوَلِ العربيةِ والإسلاميَّةِ، ومِن بينهم وفدٌ مصريٌّ مِن مشايخِ الأزهرِ برئاسةِ شيخِ الأزهرِ: الدكتور أحمد الطيب، وضمَّ كلًّا من شوقي علَّام مفتي مِصرَ، وعلي جمعة، وأسامة الأزهري مستشارِ الرئيسِ. واستُثنِيَ المحسوبونَ على التيَّارِ السَّلَفيِّ من الدَّعوةِ لحضورِ المؤتمَرِ، وخاصةً من عُلَماءِ السعوديةِ، وكان المُؤتمَرُ يقتصِرُ على الصوفيَّةِ والأشعريَّةِ والماتُريديَّةِ. أصدَرَ المُؤتمِرون بيانَهم الخِتاميَّ، وأعرَبوا من خِلالِه عن وَصفِ أهلِ السُّنَّةِ والجماعةِ بأنَّهم هم: “الأشاعرةُ والماتُريديَّةُ في الاعتقادِ، وهم أهلُ المذاهبِ الأربعةِ في الفِقهِ، وأهلُ التصوُّفِ الصَّافي عِلمًا وأخلاقًا وتزكيةً...”، في حين أنَّهم تجاهلوا إضافةَ “أهلِ الحديثِ” والسَّلَفيِّين؛ مما تسبَّبَ في إثارةِ استياءٍ كبيرٍ ونزاعٍ وجدَلٍ حولَ ذلك، وصدَرَتِ البياناتُ والمقالاتُ التي تُوضِّحُ خطأَ المؤتمَرِ وبَيانِه، وترُدُّ عليه.
سار إبراهيم ينال إلى قلعة كنكور، وبها عكبر بن فارس- صاحِبُ كرشاسف بن علاء الدَّولة- يحفَظُها له، فامتنع عكبر بها إلى أن فَنِيَت ذخائره، وكانت قليلةً، فلمَّا نَفِدَت الذخائِرُ عَمِلَ حيلة وطلب الأمانَ على تسليمِ القلعةِ، ثمَّ لَمَّا تسلَّمَها إبراهيمُ، صَعِدَ إلى القلعة فانكشفت الحيلة، فسار عكبر بمن معه إلى قلعة سرماج، وصَعِدَ إليها، ولَمَّا ملك ينال كنكور عاد إلى همذان، فسَيَّرَ جيشًا لأخذ قلاعِ سرخاب، واستعمل عليهم نَسيبًا له اسمُه أحمد، وسَلَّمَ إليه سرخابًا ليفتح به قلاعَه، فسار به إلى قلعة كلكان، فامتنعت عليه، فساروا إلى قلعةِ دزديلويه فحصَروها، وسارت طائفةٌ منهم إلى أبي الفتح بن ورام، الذي قاتَلَهم، فظَفِرَ بهم، وقتل وأسَرَ جماعةً منهم، وغَنِمَ ما معهم، ورجع الباقون، وأرسل إلى بغدادَ يطلُبُ نجدةً خَوفًا من عَودِهم، فلم يُنجِدوه لعدم الهَيبةِ وقلَّة إمساكِ الأمر، فعبَرَ بنو ورام دجلةَ إلى الجانب الغربي، ثمَّ إنَّ الغز أسْرَوا إلى سعدي بن أبي الشوك في رجب، وهو نازِلٌ على فرسخين من باحسري، وكبسوه، فانهزم وقُتِلَ منهم خلقٌ كثير، وغَنِمَ الغزُّ أموالَهم، ونجا سعدي من الوقعةِ بجريعة الذقنِ، ونهب الغزُّ الدسكرة، وباجسري، والهارونية، وقصر سابور وجميع تلك الأعمال، ووصلَ الخبَرُ إلى بغداد بأنَّ إبراهيم ينال عازِمٌ على قصد بغداد، فارتاع النَّاسُ، واجتمع الأمراءُ والقُوَّاد إلى الأميرِ أبي منصور ابنِ المَلِك أبي كاليجار البويهي؛ ليجتمعوا ويسيروا إليه ويمنَعوه، واتَّفَقوا على ذلك، فلم يخرجْ غيرُ الأميرِ أبي منصور والوزير ونفر يسيرٍ، وتخلَّف الباقون، وهَلَك مِن أهل تلك النواحي المنهوبة خلقٌ كثيرٌ، ثمَّ إنَّ إبراهيم ينال سار إلى السيروان، فحصر القلعةَ، وضَيَّقَ على من بها، وأرسل سريَّةً نَهَبَت البلاد، وانتَهَت إلى مكانٍ بينه وبين تكريت عشرةُ فراسخ، ودخل بغدادَ مِن أهل طريق خراسان خلقٌ كثير، وذَكَروا مِن حالهم ما أبكى العُيونَ، ثُمَّ سلَّمَها إليه مُستحفَظُها، بعد أن أمَّنَه على نفسِه وماله، وأخذ منها ينالُ مِن بقايا ما خَلَّفَه سعدي شيئًا كثيرًا، ولَمَّا فتحها استخلف فيها مُقَدَّمًا كبيرًا من أصحابِه يقال له سخت كمان، وانصرف إلى حلوان، وعاد منها إلى همذان ومعه بدر ومالك ابنا مهلهل فأكرَمَهما.
خرج جماعةٌ مِن قُوَّاد حاكِمِ مِصرَ جيشِ بنِ خِمارَوَيه، وجاهروا بالمُخالفة، وقالوا: لا نرضى بك أميرًا فاعتَزِلْنا حتى نولِّي عَمَّك الإمارةَ. وكان سببُ ذلك أنَّه لَمَّا وَلِيَ وكان صبيًّا قَرَّبَ الأحداثَ والسفلَ، وأخلد إلى استماعِ أقوالهم، فغَيَّروا نيَّته على قوَّادِه وأصحابه، وصار يقعُ فيهم ويذُمُّهم، ويُظهِرُ العزمَ على الاستبدالِ بهم، وأخذَ نَعَمَهم وأموالَهم، فاتَّفَقوا عليه ليقتلوه ويقيموا عمَّه، فبلغه ذلك فلم يكتُمْه بل أطلق لسانَه فيهم، ففارَقَه بعضُهم، وخلعه طغج بن جف أميرُ دمشق. وسار القوَّادُ الذين فارقوه إلى بغداد، وهم محمَّد بن إسحاق بن كنداجيق، وخاقان المفلحي وبدر بن جف، أخو طغج، وغيرُهم من قوَّاد مصر، وقَدِموا على المعتَضِد، وبقِيَ سائرُ الجنود بمصر على خِلافِهم ابنَ خِمارَوَيه، فسألهم كاتبُه عليُّ بن أحمد الماذرائي أن ينصرفوا يومَهم ذلك، فرجعوا فقتَلَ جيشُ بنُ خِمارَوَيه عمَّينِ له، وبكَّر الجندُ إليه، فرمى بالرأسينِ إليهم، فهجَمَ الجندُ على جيشِ بنِ خِمارَوَيه فقتلوه ونهبُوا داره، ونهبوا مصرَ وأحرَقوها، وأقعدوا أخاه هارونَ بنَ خِمارَوَيه في الإمرةِ بعدَه، فكانت ولايتُه تسعةَ أشهرٍ.
كان أَوَّلَهم محمدُ خوارزم شاه بن أنوشتكين، وكان أنوش تكين مَملوكًا لِرَجلٍ من غرشتان ولذلك قِيلَ له: أنوش تكين غرشه، فاشتَراهُ منه أَميرٌ من السَّلجوقيَّة اسمُه بلكابل، وكان أنوشتكين حَسَنَ الطَّريقةِ فكَبُرَ وعَلَا مَحِلُّهُ، وصار أنوشتكين مُقَدَّمًا مَرجُوعًا إليه، ووُلِدَ له محمد خوارزم شاه المذكور، فرَبَّاهُ والِدُه أنوشتكين وأَحسَنَ تَأدِيبَه، فانتَشَأ محمدٌ عارِفًا أَدِيبًا، وتَقدَّم بالعِنايَةِ الأَزَلِيَّةِ، واشتُهِرَ بالكِفايَةِ وحُسْنِ التَّدبيرِ، فلمَّا قَدِمَ الأَميرُ داذا الحبشيُّ إلى خُراسان وهو مِن أُمراءِ بركيارق؛ كان قد أَرسلَهُ بركيارق لِتَهدِئَةِ أَمرِ خُراسان؛ بسَببِ فِتنَةٍ كانت قد وَقعَت فيها من الأَتراكِ، قُتِلَ فيها النائِبُ علي خوارزم، فوَصلَ داذا وأَصلحَ أَمرَ خوارزم، واستَعملَ على خوارزم في هذه السَّنَةِ محمدَ بن أنوشتكين المذكورَ، ولَقَّبَهُ خوارزم فقَصَرَ محمدٌ أَوقاتَهُ على مَعْدَلَةٍ يَنشُرُها ومَكْرَمَةٍ يَفعلُها، وقَرَّبَ أَهلَ العِلمِ والدِّينِ، فَعَلَا مَحِلُّهُ وعَظُمَ ذِكرُه، ثم أَقَرَّهُ السُّلطانُ سنجر على وِلايَةِ خوارزم، وعَظُمَت مَنزِلَةُ محمد خوارزم شاه المذكور عند السُّلطانِ سنجر، ولمَّا تُوفِّي خوارزم شاه محمد، وَلِيَ بعدَه ابنُه أطسز فمَدَّ غِلالَ الأَمنِ وأَفاضَ العَدلَ.
حاصر عسكر علي بن يحيى، صاحب إفريقية، مدينة تونس، وبها أحمد بن خراسان، وضَيَّق على من بها، فصالحه على ما أراد وفتح أيضًا جبل وسلات بإفريقية، واستولى عليه، وهو جبل منيع، ولم يزل أهله طول الدهر يفتكون بالناس، ويقطعون الطريق، فلما استمَرَّ ذلك منهم سيَّرَ إليهم جيشًا، فكان أهل الجبل ينزلون إلى الجيش، ويقاتلون أشد قتال، فعمل قائد الجيش الحيلةَ في الصعود إلى الجبل من شعب لم يكن أحد يظن أنه يُصعد منه، فلما صار في أعلاه في طائفة من أصحابه ثار إليه أهل الجبل، فصبر لهم، وقاتلهم فيمن معه أشد قتال، وتتابع الجيش في الصعود إليه، فانهزم أهل الجبل، وكثُرَ القتل فيهم، ومنهم من رمى نفسه فتكسر، ومنهم من أفلت، واحتمى جماعة كثيرة منهم بقصر في الجبل، فلما أحاط بهم الجيش طلبوا أن يرسل إليهم من يصلح حالهم، فأرسل إليهم جماعة من العرب والجند، فثار بهم أولئك بالسلاح، فقتلوا بعضهم، وطلع الباقون إلى أعلى القصر، ونادوا أصحابهم من الجيش، فأتوهم وقاتلوهم بعضُهم من أعلى القصر، وبعضهم من أسفله، فقتلوا كلَّ من في الجبل.
وصل المَلِكُ العزيزُ عُثمانُ بن صلاح الدين، وهو صاحِبُ مصر، إلى مدينةِ دِمشقَ، فحَصَرَها وبها أخوه الأكبَرُ الملك الأفضل عليُّ بن صلاح الدين، فنزل بنواحي ميدان الحصى، فأرسل الأفضَلُ إلى عمه الملك العادل أبي بكر بن أيوب، وهو صاحِبُ الديار الجزرية، يستنجِدُه، فسار الملك العادِلُ إلى دمشق هو والمَلِك الظاهر غازي بن صلاح الدين، صاحِبُ حلب، وناصِرُ الدين محمد بن تقي الدين، صاحِبُ حماة، وأسدُ الدين شيركوه بن محمد بن شيركوه، صاحِبُ حمص، وعسكَرُ الموصل وغيرها، كُلُّ هؤلاء اجتمعوا بدمشق، واتَّفَقوا على حفظها، علمًا منهم أنَّ العزيزَ إن مَلَكَها أخذ بلادَهم، فلما رأى العزيزُ اجتماعَهم عَلِمَ أنَّه لا قدرة له على البلد، فترَدَّدَت الرسل حينئذ في الصلح، فاستقَرَّت القاعدة على أن يكون بيتُ المقدس وما جاوره من أعمالِ فلسطين للعزيز، وتبقى دمشق وطبرية وأعمالها والغور للأفضَلِ، على ما كانت عليه، وأن يعطيَ الأفضَلُ أخاه المَلِك الظاهر جبلة واللاذقية بالساحل الشامي، وأن يكون للعادِلِ بمصر إقطاعُه الأول، واتفقوا على ذلك، وعاد العزيزُ إلى مصر، ورجع كُلُّ واحدٍ من الملوكِ إلى بلده.
كان عددٌ قليل من العثمانيين قد نادى بالإصلاح للوصول إلى الوسائل التي حققت بها أوروبا قوَّتها خاصة في التنظيم العسكري والأسلحة الحديثة, وكان الداماد إبراهيم باشا الذي تولى الصدارة العظمى في عهد السلطان أحمد الثالث هو أول مسؤول عثماني يعترف بأهمية التعرف على الإصلاحات الأوربية؛ لذا فإنه أقام اتصالاتٍ منتظمةً بالسفراء الأوربيين المقيمين بالآستانة، وأرسل السفراءَ العثمانيين إلى العواصم الأوروبية، وبخاصة فيينا وباريس للمرة الأولى, وكانت مهمة هؤلاء السفراء لا تقتصر على توقيع الاتفاقات التجارية والدبلوماسية الخاصة بالمعاهدات التي سبق توقيعها، بل إنه طلب منهم تزويد الدولة بمعلومات عن الدبلوماسية الأوروبية وقوة أوربا العسكرية. وكان معنى ذلك فتح ثغرة في الستار الحديدي العثماني والاعتراف بالأمر الواقع الخاص بأنه لم يعُد بإمكان العثمانيين تجاهل التطورات الداخلية التي كانت تحدُث في أوروبا. وقد بدأ التأثر بأوروبا في مجال بناء القصور والإسراف والبذخ اللذين شارك فيهما السلطان أحمد ذاته بنصيب كبير؛ مما جعل الأغنياء وعلية القوم يسعون الى اقتباس العادات الأوروبية الخاصة بالأثاث وتزيين الدور وبناء القصور وإنشاء الحدائق، حتى بدا ظهور تقليد الغرب في شهواتهم وإسرافهم للعِيان
هو سليمان باشا أحد ولاة العراق, وكان من المماليك، وكان من عُتقاء محمد بك الدفتري الربيعي، واسمه سليمان آغا. ولِدَ في عام 1137هـ، وصار واليًا للبصرة، ثم نُقل واليًا على بغداد عام 1194هـ/1780م، وعُرِف بعد توليه ولاية بغداد باسم سليمان الكبير, وقد عُرِف عصرُه باسم العصر الذهبي لفترة حكم المماليك في العراق, في أواخر سنوات حكم سليمان باشا الكبير بدأت هجَمات أتباع دولة الدرعية، وكانوا يُغيرون على تخوم العراق, فكَلف بمحاربتِهم، فأرسل حملتين لمحاربةِ أتباع دولة الدرعية في الأحساء عام 1217هـ/ 1802م، وأرسل حملةً ثالثة ضِدَّهم في منطقةِ القصيم. توفِّيَ سليمان باشا الكبير في بغدادَ عن عمر ناهز الثمانين عامًا، حيث مَرِض واشتَدَّ مَرَضُه فاستدعى كبارَ المسؤولين وشاورهم في أمرِ ولاية بغداد مِن بَعدِه، ثمَّ عَهِدَ بولايتها إلى معاوِنِه علي باشا وهو زوج ابنته، وأوصاهم بطاعتِه وامتثال أمرِه وبذَلَ لهم النصيحة، وتوفِّيَ ليلة السبت 8 ربيع الثاني، ودفن في مقبرة مشهد وشُيِّع بموكب رسمي، ودفِنَ يوم السبت قبل صلاة الظهرِ.