وصَلَ السُّلطانُ مسعودٌ إلى بغداد على عادتِه في كلِّ سَنَةٍ، وجمَعَ العساكِرَ، وتجهَّزَ لِقَصدِ أتابك زنكي، وكان حَقَد عليه حِقدًا شديدًا؛ بسبَبِ أنَّ أصحابَ الأطراف الخارجينَ على السُّلطانِ مَسعودٍ، كانوا يَخرُجونَ عليه بتَحريضٍ من أتابك زنكي، ويقولُ إنَّه هو الذي سعى فيه وأشار به لعِلْمِه أنَّهم كُلَّهم كانوا يَصدُرونَ عن رأيِه، فلمَّا تفَرَّغَ السُّلطانُ هذه السَّنَةَ، جَمَعَ العساكِرَ لِيَسيرَ إلى بلادِه، فسَيَّرَ أتابك يستعطِفُه ويستميلُه، فأرسل إليه السُّلطانُ أبا عبد الله بنَ الأنباري في تقريرِ القواعد، فاستقرَّت القاعِدةُ على مئةِ ألفِ دينارٍ يَحمِلُها إلى السُّلطان ليعودَ عنه، فحَمَل عشرينَ ألف دينار أكثَرُها عروض، ثمَّ تنَقَّلَت الأحوالُ بالسُّلطان إلى أن احتاجَ إلى مداراةِ أتابك وأطلَقَ له الباقيَ استمالةً له وحِفظًا لقَلْبِه، وكان أعظَمُ الأسبابِ في قعودِ السُّلطانِ عنه ما يَعلَمُه مِن حَصانةِ بِلادِه وكثرةِ عَساكِرِه وكثرةِ أموالِه.
لَمَّا قُتِلَ تاشفين أرسَلَ عُمَرُ الهنتاتي- مُقَدَّمُ عَسكَرِ عبدِ المؤمِنِ- إليه بالخبَرِ، فجاء عبدُ المؤمِنِ مِن تاجِرة في يومِه بجميعِ عَسكَرِه، وتفَرَّقَ عَسكَرُ تاشفين، واحتمى بعضُهم بمدينةِ وهران، فلمَّا وصَلَ عبدُ المؤمِنِ دخَلَها بالسَّيفِ، وقَتَل فيها ما لا يُحصى، ثمَّ سار إلى تِلمِسان، وهما مدينَتانِ بينهما شَوطُ فَرَس، إحداهما تاهرت، وبها عسكَرُ المُسلِمينَ، والأخرى أقادير، وهي بناءٌ قديمٌ، فامتَنَعَت أقادير، وغَلَّقَت أبوابَها، وتأهَّبَ أهلُها للقِتالِ. وأمَّا تاهرت، فكان فيها يحيى بنُ الصَّحراويَّة، فهرَبَ منها بعَسكَرِه إلى مدينةِ فاس، وجاء عبدُ المؤمِنِ إليها، فدخَلَها لَمَّا فَرَّ منها العَسكَرُ، ولَقِيَه أهلُها بالخُضوعِ والاستِكانةِ، فلم يَقبَلْ منهم ذلك وقتَلَ أكثَرَهم، ودخَلَها عَسكَرُه، ورَتَّبَ أمْرَها، ورَحَل عنها، وجعَلَ على أقاديرَ جَيشًا يَحصُرُه.
لَمَّا مَلَكَ عَبدُ المؤمِنِ بجايةَ تَجَمَّعَت صنهاجةُ في أُمَمٍ لا يُحصِيها إلَّا الله تعالى، وتقَدَّمَ عليهم رجلٌ اسمُه أبو قصبة، واجتمع معهم مِن كتامة ولواتة وغيرِهما خلقٌ كَثيرٌ، وقَصَدوا حَرْبَ عبد المؤمن، فأرسل إليهم جيشًا كبيرًا، ومُقَدَّمُهم أبو سعيد يخلف، فالتَقَوا في عرض الجَبَلِ شرقي بجاية، فانهزم أبو قصبة وقُتِلَ أكثَرُ مَن معه، ونُهِبَت أموالُهم، وسُبِيَت نساؤهم وذراريُّهم، ولَمَّا فَرَغوا من صنهاجة ساروا إلى قلعةِ بني حَمَّاد، وهي من أحصَنِ القلاعِ وأعلاها، لا تُرامُ، على رأسِ جَبَلٍ شاهِقٍ يكاد الطَّرْفُ لا يُحَقِّقُها لعُلُوِّها، ولكِنَّ القَدَرَ إذا جاء لا يَمنَعُ منه مَعقِلٌ ولا جيوشٌ، فلَمَّا رأى أهلُها عساكِرَ المُوحِّدينَ، هربوا منها في رؤوسِ الجبال، ومُلِكَت القَلعةُ، وأُخِذَ جَميعُ ما فيها من مالٍ وغَيرِه، وحُمِلَ إلى عبدِ المُؤمِنِ فقَسمَه.
جَمَعَ نورُ الدينِ بنُ محمودٍ صاحِبُ الشامِ، العَساكِرَ بحَلَب، وسار إلى قَلعةِ حارِم، وهي للفِرنجِ غَربيَّ حَلَب، فحَصَرَها وَجَدَّ في قِتالِها، فامتَنَعَت عليه بحَصَانَتِها، وكَثرَةِ مَن بها من فِرسانِ الفِرنجِ ورَجَّالَتِهم، فلمَّا عَلِمَ الفِرنجُ ذلك جَمَعوا فارِسَهم وراجِلَهم من سائرِ البلادِ، وحَشَدوا، واستَعَدُّوا، وساروا نَحوَها لِيُرَحِّلُوه عنها، فلمَّا قارَبوهُ طَلَبَ منهم المُصَافَّ، فلم يُجِيبوهُ إليه، وراسَلوهُ، وتَلَطَّفوا الحالَ معه، فلمَّا رأى أنه لا يُمكِنهُ أَخْذُ الحِصنِ، ولا يُجيبُونَه إلى المُصَافِّ، وكان بالحِصنِ شَيطانٌ مِن شَياطِينِهم يَعرِفون عَقْلَهُ ويَرجِعون إلى رَأيهِ، فأَرسلَ إليهم يقول: إننا نَقدِر على حِفْظِ القَلعَةِ، وليس بنا ضَعْفٌ، فلا تُخاطِروا أنتم باللِّقاءِ، فإنه إن هَزَمَكُم أَخَذَها وغَيرَها، والرَّأيُ مُطاوَلَتُه؛ فأَرسَلوا إليه وصالَحوهُ على أن يُعطوهُ نِصفَ أَعمالِ حارِم، فاصطَلَحوا على ذلك، ورَحَلَ عنهم.
لَمَّا استقَرَّ مُلك صلاح الدين لدمشق، وقرَّر أمْرَها، استخلَفَ بها أخاه سيفَ الإسلام طغتكين بن أيوب، وسار إلى مدينة حمص مستهَلَّ جمادى الأولى، وكانت حمص وحماة وقلعة بعين وسلمية وتل خالد والرها من بلد الجزيرة في أقطاعِ الأمير فخر الدين مسعود الزعفراني، فلمَّا مات نور الدين لم يُمكِن فخر الدين المقامُ بها لسوء سيرتِه في أهلها، ولم يكُنْ له في قلاعِ هذه البلاد حُكمٌ، إنما فيها ولاة لنور الدين. وكان بقلعةِ حمص والٍ يحفَظُها، فلما نزل صلاح الدين على حمص، حاديَ عَشَرَ مِن هذا الشهر، راسل مَن فيها بالتسليم، فامتنعوا، فقاتلهم من الغَدِ، فملك البلدَ وأمَّنَ أهلَه، وامتنعت عليه القلعةُ، وبقيت ممتنعة إلى أن عاد من حلب، وترك بمدينة حمص من يحفَظُها، ويمنَعُ مَن بالقلعة من التصَرُّفِ وأن تصعَدَ إليهم ميرةٌ.
فتح المسلمون بالشام شقيفًا من الفرنج، وهو من أعمال طبرية، مُطِل على السواد، وسببُ فَتحِه أنَّ الفرنج لما سمعوا بمسير صلاح الدين من مصر إلى الشام جمعوا له، وحشدوا الفارس والراجل، واجتمعوا بالكرك بالقرب من الطريق؛ لعَلَّهم ينتهزون فرصة، أو يظفرون بنُصرة، وربما عاقوا المسلمينَ عن المسير بأن يَقِفوا على بعض المضايق، فلمَّا فعلوا ذلك خَلَت بلادهم من ناحية الشام، فسَمِعَ عز الدين فرخشاه بن أخي صلاح الدين الخَبَر، فجمع مَن عنده من عساكِرِ الشام، ثمَّ قصد بلاد الفرنج وأغار عليها، ونهب دبورية وما يجاورها من القرى، وأسَرَ الرجال وقَتَل فيهم وأكثَرَ وسَبى النِّساء، وغَنِمَ الأموال وفتَحَ منهم الشقيف، وكان على المسلمينَ منه أذًى شديد، ففَرِحَ المسلمون بفتحه فرحًا عظيمًا، وأرسل إلى صلاح الدين بالبشارة، فلقيه في الطريق، ففَتَّ ذلك في عضد الفرنج، وانكَسَرت شوكتُهم.
أخذَ الظاهِرُ غازي قلعةَ نجمٍ مِن أخيه الأفضل، وكانت في جملةِ ما أخذ من العادِلِ لَمَّا صالَحَه سنة سبع وتسعين، فلما كان هذه السَّنة أخذ العادِلُ من الأفضل سروج وحملين ورأس عين، وبَقِيَ بيده سميساط، وقلعة نجم، فأرسل الظاهِرُ إليه يطلُبُ منه قلعةَ نجم، وضَمِنَ له أنه يشفَعَ إلى عَمِّه العادل في إعادةِ ما أخذ منه، فلم يعُطِه، فتهَدَّدَه بأن يكون إلبًا عليه، ولم تَزَلِ الرسُلُ تترَدَّدُ حتى سَلَّمَها إليه في شعبان، وطلب منه أن يعَوِّضَه قُرًى أو مالًا، فلم يفعَلْ، ولما رأى الأفضَلُ عَمَّه وأخاه قد أخذا ما كان بيده أرسل إلى رُكنِ الدين سليمان بن قلج أرسلان، صاحِب ملطية وقونية، وما بينهما من البلادِ، يَبذُلُ له الطاعةَ، وأن يكون في خِدمتِه، ويخطُبُ له ببلده، ويَضرِب السكَّة باسمه، فأجابه ركن الدين إلى ذلك، وأرسل له خِلعةً فَلِبَسها الأفضَلُ، وخَطَب له بسميساط في سنة ستمائة وصار في جملتِه.
ملك خوارزم شاه محمد بن تكش مدينة غزنة وأعمالها، وسببُ ذلك أنَّ خوارزم شاه لَمَّا استولى على عامَّة خراسان وملك باميان وغيرها، أرسلَ إلى تاج الدين، صاحبِ غزنة، يطلُبُ منه أن يخطُبَ له، ويضرِبَ السِّكَّة باسمه، ويرسِلَ إليه فيلًا واحدًا ليصالِحَه ويقِرَّ بيده غزنة، ولا يعارِضه فيها، فأحضر الأمراءَ وأعيانَ دولته واستشارهم، فخطب لخوارزم شاه، وضَرَب السكة باسمِه، وأرسل إليه فيلًا، وأعاد رسولَه إليه، ومضى إلى الصيدِ، فأرسل قتلغ تكين، والي غزنة، إلى خوارزم شاه يطلبه ليسلم إليه غزنة، فسار مجِدًّا، وسبق خبَرُه، فسلم إليه قتلغ تكين غزنةَ وقلعتها، فلمَّا دخلها خوارزم شاه قتَلَ من بها من عسكر الغورية لا سيما الأتراك، وقيل: إنَّ مِلكَ خوارزم شاه غزنة كان سنة ثلاث عشرة.
سار الكرج من بلادهم إلى بلاد أران وقصدوا مدينة بيلقان، وكان التتار قد خربوها، ونهبوها فلما سار التتر إلى بلاد قفجاق عاد من سلم من أهلها إليها، وعَمَروا ما أمكنهم عمارته من سورها، فبينما هم كذلك إذ أتاهم الكرج ودخلوا البلد وملكوه، وكان المسلمون في تلك البلاد ألِفُوا من الكرج أنهم إذا ظفروا ببلد صانعوه بشيء من المال فيعودون عنهم، فكانوا أحسن الأعداء مقدرةً، فلما كانت هذه الدفعة ظن المسلمون أنهم يفعلون مثل ما تقدم، فلم يبالغوا في الامتناعِ منهم، ولا هربوا من بين أيديهم، فلمَّا ملك الكرج المدينة وضعوا السيف في أهلِها، وفعلوا من القتل والنهب أكثَرَ مما فعل بهم التتر، هذا جميعُه يجري، وصاحب بلاد أذربيجان أوزبك بن البهلوان بمدينة تبريز، ولا يتحرك في صلاح، ولا يتجه لخير، بل قد قنع بالأكل وإدمان الشرب والفساد.
سار الحاجب علي حسام الدين، وهو النائب عن الملك الأشرف بخلاط، والمقدَّم على عساكرِها، إلى بلاد أذربيجان فيمن عندَه من العساكر، وسببُ ذلك أنَّ سيرة جلال الدين كانت جائرةً، وعساكرُه طامعةً في الرعايا، وكانت زوجتُه ابنةَ السلطان طغرل السلجوقي، وهي التي كانت زوجةَ أوزبك بن البهلوان، صاحب أذربيجان، فتزوجَّها جلال الدين، وكانت مع أوزبك تحكُم في البلاد جميعها، ليس له ولا لغيره معها حكمٌ، فلما تزوجها جلال الدين أهملها ولم يلتَفِتْ إليها، فخافته مع ما حُرِمَته من الحكم والأمر والنهي، فأرسلَت هي وأهل خُوَيٍّ إلى حسام الدين الحاجب يستدعونَه ليسَلِّموا البلاد، فسار ودخل البلاد، بلاد أذربيجان، فمَلَك مدينة خوي وما يجاورها من الحصون التي بيد امرأة جلال الدين، وملك مَرَنْدَ، وكاتبه أهلُ مدينة نقجوان، فمضى إليهم، فسَلَّموها إليه، وقَوِيَت شوكتُهم بتلك البلاد.
ركِبَ الملِكُ الأشرف خليلُ بن قلاوون على الهجنِ في أوَّلِ جمادى الأولى ومعه جماعةٌ مِن أمرائه وخواصِّه، وسار إلى الكرك من غيرِ الدَّربِ الذي يُسلَكُ منه إلى الشام، فرَتَّب أحوالَها، وتوجَّهَ إلى دمشقَ، فقَدِمَها في تاسِعِ جمادى الآخرةِ بعد وصولِ الأميرِ بيدرا والوزيرِ بثلاثة أيام، فأمَرَ بالتجهيزِ إلى بهسنا وأخَذَها من الأرمِن أهل سيس، فقَدِمَ رسل سيس يطلبونَ العفوَ، فاتفق الحالُ معهم على تسليم بهسنا ومرعش وتل حمدون، فسار الأميرُ طوغان والي البر بدمشقَ معهم ليتسلَّما، وقدم البريدُ إلى دمشق بتسليمِها في أول رجب، فدُقَّت البشائِرُ، واستَقَرَّ الأميرُ بدر الدين بكتاش في نيابةِ بهسنا، وعُيِّن لها قاضٍ وخطيب، واستُخدِمَ لها رجالٌ وحَفَظة، وقَدِمَ الأمير طوغان ومعه رسُلُ سيس بالحمل والتقادم إلى دمشق في الثاني عشر بعد توجُّه السلطان، فتَبِعوه.
في أوَّلِ رمضان وصَلَت الأخبار إلى دمشق أنه أُجرِيَت عينُ ماء إلى مكَّةَ شَرَّفَها اللهُ وانتفَعَ الناس بها انتفاعًا عظيما، وهذه العين تُعرِفُ قديمًا بعين باذان، أجراها الأميرُ سيف الدين جوبان المغولي نائب السلطان أبي سعيد بن خربندا مَلِك التتار من بلادٍ بعيدة حتى دخَلَت إلى نفس مكة، ووصلت إلى عند الصَّفا وباب إبراهيم، واستقى الناسُ منها فقيرُهم وغَنِيُّهم وضعيفُهم وشريفُهم، كلُّهم فيها سواء، وارتفق أهلُ مكة بذلك رفقًا كثيرًا،ولله الحمد والمنَّة، وكانوا قد شرعوا في حَفرِها وتجديدها في أوائِلِ هذه السنة إلى العشر الأخير من جمادى الأولى، واتَّفَق أن في هذه السنة كانت الآبارُ التي بمكة قد يَبِسَت وقلَّ ماؤها، وقَلَّ ماء زمزم أيضًا، فلولا أنَّ الله تعالى لطَفَ بالنَّاسِ بإجراء هذه القناة لنزح عن مكَّةَ أهلُها، أو هلَكَ كَثيرٌ مِمَّا يقيمُ بها.
لما قَدِمَ المهتار عبدالرحمن الكرك أظهر كتبًا إلى الأمير سودون الظريف نائب الكرك باستعدادِه لحرب الأمير أيتمش، فاختلف أهلُ الكرك وافترقوا فرقتين: قيسية، ويمانية؛ فرأسَ قيسًا قاضي الكرك شرف الدين موسى ابن قاضي القضاة عماد الدين أحمد الكركي. ورأَسَ اليمن الحاجبُ شعبان بن أبي العباس. ووقعت فتنةٌ نُهِب فيها رحل المهتار عبد الرحمن والخِلعة التي أحضرها إلى النائب، وامتدَّت إلى الغور فنُهب، ورحل أهله وفَرَّ عبد الرحمن إلى جهة مصر. وكانت بين الطائفتين مقتلةٌ قُتِل فيها سِتَّةٌ، وجُرِح نحوُ المائة. وانتصر ابنُ أبي العباس ممَّن معه من يمن؛ لِمَيل النائب معهم على قيس، وقُبِض على القاضي شرف الدين موسى وأخيه جمال الدين عبد الله، وذُبِحا ومعهما ثمانيةٌ من أصحابهما، وأُلقوا في بئر من غير غسل ولا كفن، وأُخِذَت أموالُهم كُلُّها.
نزلت صاعقة على هلال المئذنة تجاه الحجرة النبوية، ثم على سطح المسجد، فاحترق بنارِها المسجِدُ الشريف النبوي؛ سَقفُه، وحواصلُه، وخزائِنُ كتُبِه، وربعاته، ولم يبقَ من قناطره وأساطينه إلَّا اليسيرُ، وكانت آيةً من آيات الله تعالى.، وصعدت الرأس إلى الريس- وكان من أهل العلم - بالمئذنة فاحترق، واحترق في الحرم عالمٌ آخر خرج من بيته لطلب ولدِه، وصل الخبرُ من المدينة المشرَّفة بمحضر يكتتب بالكائنة التي اتفقت بالمدينة من الحريق الأعظم، فحصل عند الناس بذلك باعثٌ شديدٌ. وأخذ السلطان في الاهتمام بشأن هذا الحادث والاجتهاد في القيام ببناء المسجد الشريف النبويِّ، ثم عَمِل بتقدير النفقة عليه، فكانت نحوًا من مائة ألف دينار. ثم بُني بعد ذلك وأُعيد أحسَنَ ما كان، وبُنِيت القبَّة المعظَّمة على القبر الشريف بعد إحكام بناء القبر أيضًا، وعُمِلت المقصورة الهائلة النادرة، وكانت هذه من أجلِّ المباني وأعظمِها.
بلغت إمبراطورية سنغاي أوْجَ قوَّتها في عهد الأسقيين، وأبرزهم محمد الكبير وابنه داود، وقد كانت إمبراطوريتهم انتشرت وتوسَّعت حتى وصلت إلى مالي ومشارفِ المجيد، ولامست الصحراءَ الكبرى، وانتصروا على الموسي ومالي والطوارق وبني حسان، حتى جاء أحمد الذهبي زعيمُ السعديين في المغرب الأقصى وجهز جيشًا ليس بالكبير، وكان مؤلَّفًا من ثلاثة آلاف جندي، مات أكثَرُ من نصفهم في طريقهم إلى السنغاي؛ بسبب سوء الأحوال وما أصابهم في الطريق من مشقَّات، ثم استطاع هذا الأميرُ بمن بقي معه أن يدخلوا عاصمةَ سنغاي غاو، ودمَّروها واحتلُّوا تمبكتو وغوغو أيضًا، فتراجع فيها تألُّقُ المسلمين وبقي سلاطينُ المغرب محتفظين بممتلكاتهم فيها حتى نهاية القرن الثاني عشر الهجري، أمَّا من بقي من الأُسرة الحاكمة الأسقية، فبقوا يحكمون على رأس دولةٍ قليلة الشأن في المناطق الجنوبية التي لم يَطُلْها الاحتلال.