بدأ التعصُّبُ القومي أو بالأحرى: الدعوة إلى العصبية، تظهَرُ بوضوحٍ في أيامِ عبد الحميد الثاني، وإن كانت قد برزت قبله، ولكن بدأ تأسيسُ الجمعيات ذات الأهدافِ السياسية المشبوهةِ، والمرتبطة بالدولِ الاستعمارية، وإن كانت تحمِلُ صِفاتٍ أدبيةً وعلميةً، وكانت مراكِزُها المهمَّةُ هي استانبول وبيروت، ولعب النصارى دورًا كبيرًا جدًّا في نشر هذه الجمعيات في بيروت، فظهرت جمعيةُ العلوم والفنون تحت رعاية الإرساليات التبشيرية الأمريكية، ومن مؤسِّسيها بطرس البستاني، وناصيف اليازجي، وهَدَفت لنشر العلوم الغربية والدعاية لدُولِ أوربا، وقام اليسوعيون بتأسيس الجمعية الشرقية بأعضاء نصارى وتدعَمُها الإرساليات الكاثوليكية، ثمَّ تأسست الجمعية العلمية العربية وضَمَّت نصارى ودروزًا وعربًا مسلمين، وأمَّا في استانبول فقد ضَمَّت الجمعيات مختلفَ الفئات، وإن كان معظَمُها من الأتراك إلا أنَّهم من الذين فُتِنوا بأوربا ويريدون تغيير الوضعِ، أو من اليهود وخاصةً يهود الدونمة، وأشهر هذه الجمعيات جمعية تركيا الفتاة، التي تأسَّست في باريس ولها فروع في برلين وسلانيك واستانبول، ورئيسها أحمد رضا بك المفتونُ بالثورة الفرنسية، ومقالاته الداعية دائمًا لتقليد الغرب، وكانت هذه الجمعيةُ تلقى ترحيبًا من المحافل الماسونية، وفيها تمَّ تنظيمُ الاتحاد والترقي الذي كان له الأثرُ الكبير في إنهاء الخلافةِ العثمانية، وكان من رجالها رجالٌ في الدولة مثلُ مدحت باشا الذي كانت له اليدُ الطولى في خلعِ السلطان عبد العزيز ومراد الخامس، وكانوا يطالبون بوضعِ دستور للدولة غير الدستور الإسلاميِّ، على نمط الأوربيِّين! وزاد نفوذُ يهود الدونمة الذين أظهر كثيرٌ منهم الإسلامَ، فنُسِيَ أصلُهم, وبدؤوا بالتخريبِ مِن الداخل.
بعد الحرب مع روسيا التقى مندوبو الدولةِ العُثمانيَّة ومندوبو روسيا في بلدة قرب استانبول على بحر مرمرة تُسمَّى سان ستفانو، وذلك بعد محادثات تقَدَّمَ فيها الروس قليلًا عن خطِّ وقف إطلاق النار الذي اتُّفِق عليه، ونُقِلَ أيضًا مركزُ المحادثات من أدرنة إلى هذه القريةِ، وقدَّمَ المندوبُ الروسي شروطًا مسبقةً وطلب التوقيعَ عليها مباشرةً، وإلا تتقَدَّم الجيوش الروسية وتحتل استانبول، ولم يكن للعثمانيين من خيارٍ سوى التوقيع، وتنص المعاهدةِ على: تعيينِ حُدودٍ جديدة للجبل الأسودِ لإنهاء النزاع، وتحصُلُ هذه على الاستقلالِ، وإذا حَدَثت خلافاتٌ جديدةٌ تحلُّها روسيا والنمسا، تستقِلُّ إمارة الصرب وتُضافُ لها أراضٍ جديدةٌ، وتحدَّدُ الحدود حسبَ الخريطةِ المرفقة، وبمساعدة الروس تأخذ بلغاريا استقلالًا إداريًّا وتدفع مبلغًا محدَّدًا إلى الدولة العثمانية، ويكون موظفو الدولة والجندُ من النصارى فقط، وتُعَيَّن الحدود بمعرفة العثمانيين والروس، ويُنتَخَب الأمير من قِبَل السكان، ويُخلِّي العثمانيون جنودَهم نهائيًّا من بلغاريا، ويحِقُّ للعثمانيِّين نقلُ جنودهم إلى ولايات أخرى ضِمنَ الأراضي البلغارية، تحصل دولةُ رومانيا على استقلالها التام، يتعهَّدُ الباب العالي بحماية الأرمن النصارى من الأكرادِ والشركس، يقومُ الباب العالي بإصلاح أوضاع النصارى في جزيرة كريت، تدفعُ الدولة العثمانية غرامةً مالية حربية قدرها 245.217.391 ليرة ذهبية، ويمكِنُ لروسيا أن تتسلم أراضيَ مقابل المبلغ، تبقى المضائِقُ البوسفور والدردنيل مفتوحةً للسفن الروسية في زمن السِّلمِ وزَمَن الحرب، يمكِنُ للمسلمين الذين يعيشون في الأراضي التي اقتُطِعَت من الدولة العثمانية أن يبيعوا أملاكَهم ويهاجروا إلى حيث يريدون من أجزاءِ الدولةِ العُثمانية.
لم يرضَخِ الشعبُ التونسي لاحتلالِ فرنسا لبلادِه تحت عنوانٍ برَّاقٍ، وهو إعلانُ الحماية، والذي استهدفت فرنسا من اختيارِه عدمَ إثارة الدول الأوروبية، والتمويه على أبناء تونس بأنَّها لم تحتَلَّ بلدهم، وتُنزِلها منزلةَ المستعمرات، وحتى تُحمِّلَ الجانبَ الوطني نفقاتِ الاحتلال. واشتعلت الثورةُ في معظم أنحاءِ تونس، وعجزت فرنسا عن وقفِ العملياتِ الحربيَّة في تونس، واتَّضح أن القبائلَ التي تسكن شرقيَّ تونس وجنوبها أظهرت رفضَها وعداءَها للطريقة التي خضع بها الباي لطلبات الفرنسيين، وعَلَت الأصواتُ داعيةً إلى الجهاد والبذل والعطاء، وفي الوقت نفسِه اتصلت رسلُ السلطان العثماني عبد الحميد الثاني بالمجاهِدين تُعلِنُ رَفضَ السلطان للمعاهدة ووقوفَه إلى جانب الشعب، وتمكَّن المجاهدون من قَطعِ المواصلات، وفَرَّت معظم جنود الباي إليهم، وأعلن المسلِمون الجهادَ ضِدَّ الفرنسيين. وبعد أن كانت فرنسا تفكِّرُ في أنه يكفي أن يقومَ جيش صغير على استتباب الأمن في تونس، لكنَّها وجدت أنها تعاني مشكلةً كبيرة في السيطرة على البلاد، وتطلَّب ذلك تعاوُنَ الأسطول الفرنسي مع الجيش، وحَشْد قوات جديدة بلغت خمسًا وأربعين ألف جندي. وكان قد تزعَّم حركةَ المقاومة في مدينة قابس "علي بن خليفة" إلى جانب كثيرين قادوا الثورةَ في صفاقس والقيروان، وقد حاول علي بن خليفة أن يوحِّدَ القيادةَ في شخصه، واجتمع لهذا الغَرَضِ مع مجاهدي صفاقس والقيروان، لكِنَّ جهوده لم تُكَلَّل بالنجاح بعد أن أصَرَّ زعيمُ كل منطقة أن يتولى الأمر بنفسه، فاستطاعت فرنسا أن توقِعَ بهم واحدًا بعد الآخر. وكان من جرَّاء ذلك أن سقطت قابس في أيدي المحتلِّين الفرنسيين بعد مقاومة شديدة، في 28 شعبان من هذه السنة!
خطَّطت فرنسا -بعد أن انتهت الثورةُ العربية الكبرى ضِدَّ العثمانيين- لما ستفعله في سوريا، فأول ما قامت به هو فَصلُ لبنان عن سوريا، وخاصة أن فيه كثيرًا من الموارنة النصارى، وقد سنَّت دستورًا خاصًّا للبنان الكبير، ومع أنَّ الدستور لم ينُصَّ على ديانة الرئيس إلَّا أن فرنسا كانت مصممة على ألَّا يليَ الرئاسة إلا نصراني، فعُيِّنَ أولًا شارل دباس، وحاول حبيب باشا السعد أن يجعل اللهجةَ العامية هي اللغة الرسمية للبلاد؛ ليقضيَ على اللغة العربية الأصيلة، وبدأ التمييز الديني بين النصارى والمسلمين؛ من هضم للحقوق، وتدني في المستوى الاجتماعي والمعيشي، وعمَّقَت فرنسا هذا الموضوع الطائفي، وفي أول سنة 1936م تسلَّم الرئيس إميل إدة مهامَّ رئاسة لبنان الكبير، وتزايدت في عهده حِدَّةُ الصراعات الطائفية، ثم بدأت المفاوضات اللبنانية الفرنسية التي حذت حذو المفاوضات السورية الفرنسية، وكانت الكتلة الدستورية برئاسة بشارة الخوري قد تقَدَّمت بالمطالبة بأن تحلَّ محلَّ الانتداب، ثم تداعت القوى الإسلامية والقومية الوحدوية من مختَلِف الطوائف إلى عقدِ مؤتمر الساحل والأقضية الأربعة في مارس 1936م، وكانوا يطالبون بالوحدة مع سوريا، ثم عُقِدَ مؤتمر آخر هو المؤتمر القومي الإسلامي في أكتوبر 1936م، وطالبوا بالاتحاد مع سوريا وأن تكون هناك بنودٌ واضحة لحقوق وواجبات الطوائف، ثم بعد المفاوضات والأخذ والرد وُقِّعَت المعاهدة في 13 نوفمبر 1936م من قِبَل رئيس الجمهورية إميل إدة، والمفوض الداني دي مارتل الفرنسي، وكانت مدتها خمسة وعشرين عامًا اعترفت فيها فرنسا باستقلال لبنان، وتعهَّدت بمساعدته للانضمام للأمم المتحدة على أن يبقى جنود فرنسيون في لبنان، وتمثِّلُ فرنسا لبنان في الشؤون الخارجية والعسكرية.
هو أبو القاسِمِ إسماعيلُ بنُ عَبَّاد بن عباس بن عباد بن أحمد بن إدريس الطالقاني الوزيرُ المشهورُ بكافي الكُفاة، وزَرَ لمؤَيَّد الدولة بن رُكنِ الدولة بن بُوَيه. هو أوَّلُ مَن سُمِّيَ بالصَّاحِبِ؛ لأنَّه صَحِبَ مُؤَيَّد الدولة من الصِّبا، وسَمَّاه الصاحِبَ، فغَلَب عليه، ثمَّ سُمِّيَ به كلُّ مَن وَلِيَ الوَزارةَ بعده، وقيل: لأنَّه كان يصحَبُ أبا الفضل بن العَميدِ، فقيل له صاحِبُ ابن العميد، ثم خُفِّفَ فقيل: الصاحب. أصلُه من الطالقان، وكان نادرةَ دَهرِه وأعجوبةَ عَصرِه في الفضائِلِ والمكارم. أخذ الأدبَ عن الوزيرِ أبي الفضل بن العميدِ، وأبي الحُسَين أحمد بن فارس. وقد كان مِن العِلمِ والفضيلة والبراعةِ والكرمِ والإحسان إلى العُلَماءِ والفُقراء على جانبٍ عَظيمٍ، وكان صاحِبَ دُعابةٍ وطُرفةٍ في رُدودِه وتَعليقاتِه. لَمَّا توفِّيَ مُؤيدُ الدولة بُوَيه بجرجان في سنة 373، وَلِيَ بعده أخوه فَخرُ الدولة أبو الحسن، فأقَرَّه على الوزارة، وبالغ في تعظيمِه. قال الذهبي: "بقي في الوزارة ثمانيةَ عشَرَ عامًا، وفتح خمسينَ قلعة، وسَلَّمَها إلى فخر الدولة، لم يجتَمِعْ عشرةٌ منها لأبيه. وكان الصاحِبُ عالِمًا بفنون كثيرةٍ مِن العلم، لم يُدانِه في ذاك وزيرٌ، وكان أفضَلَ وُزَراءِ دَولةِ بني بُوَيه الديلمة، وأغزَرَهم عِلمًا، وأوسَعَهم أدبًا، وأوفَرَهم محاسِنَ". سمع الحديثَ مِن المشايخِ الجيادِ العوالي الإسنادِ، وعُقِدَ له في وقتٍ مَجلِسٌ للإملاءِ فاحتفَلَ النَّاسُ لحُضورِه، وحضره وجوهُ الأُمَراءِ، فلمَّا خرجَ إليهم لَبِسَ زِيَّ الفقهاء وأشهد على نَفسِه بالتَّوبةِ والإنابةِ ممَّا يعاينه مِن أمورِ السُّلطانِ، وذكَرَ للنَّاسِ أنَّه كان يأكُلُ مِن حين نشأ إلى يَومِه هذا من أموالِ أبيه وجَدِّه ممَّا وَرِثَه منهم، ولكِنْ كان يخالِطُ السُّلطانَ، وهو تائِبٌ ممَّا يُمارِسونَه، واتخذَ بناءً في داره سمَّاه بيت التوبة، ووضَعَ العُلَماءُ خطوطهم بصِحَّة تَوبتِه، وحين حدَّث استملى عليه جماعةٌ لكثرةِ مَجلسِه، توفي بالري وله نحوُ ستين سنة، ونُقِلَ إلى أصبهان، وله كتابُ المحيط في اللغة. قال عنه الذهبي: "كان شيعيًّا جَلدًا كآلِ بُوَيه، وما أظنُّه يَسُبُّ، لكِنَّه معتزليٌّ، قيل: إنَّه نال مِن البُخاريِّ، وقال: هو حَشْويٌّ لا يُعَوَّلُ عليه" .
كان أبو علي يونُس بنُ عمر وَلِيَ المهديَّةَ، وجَعَل قائِدَ الجيش بالمهدية محمَّد بن عبد الكريم، وهو شجاعٌ مشهور، فعَظُمَت نكايته في العرب، فلم يَبقَ منهم إلَّا من يخافه، فاتَّفَق أنه أتاه الخبَرُ بأن طائفة من عوف نازلون بمكان، فخرج إليهم، وعَدَل عنهم حتى جازهم، ثم أقبَلَ عائدًا يطلُبُهم، وأتاهم الخبَرُ بخروجه إليهم، فهربوا من بين يديه، فلَقُوه أمامهم، فهربوا وتركوا المالَ والعيال من غيرِ قتال، فأخذ الجميعَ ورجع إلى المهديَّة، وسَلَّم العيالَ إلى الوالي، وأخَذَ مِن الأسلاب والغنيمة ما شاء، وسَلَّمَ الباقيَ إلى الوالي وإلى الجند، ثمَّ إن العرب من بني عوف قصدوا أبا سعيدِ بن عمر اينتي، فوحدوا وصاروا من حِزبِ الموحِّدين، واستجاروا به في رَدِّ عيالهم، فأحضَرَ محمد بن عبد الكريم، وأمره بإعادةِ ما أخذ لهم من النَّعَم، فقال: أخَذَه الجُندُ، ولا أقدِرُ على رده، فأغلظ له في القَولِ، وأراد أن يبطِشَ به، فاستمهَلَه إلى أن يرجِعَ إلى المهديَّة ويسترِدَّ مِن الجند ما يجِدُه عندهم، وما عَدِمَ منه غُرِّمَ العِوَضَ عنه من ماله، فأمهله، فعاد إلى المهديَّة وهو خائف، فلما وصلها جمَعَ أصحابَه وأعلمهم ما كان من أبي سعيد، وحالفهم على موافقتِه، فحَلَفوا له، فقَبَضَ على أبي علي يونس، وتغلَّب على المهديَّة ومَلَكَها، فأرسل إليه أبو سعيد في معنى إطلاقِ أخيه يونس، فأطلَقَه على اثني عشر ألف دينار، فلما أرسَلَها إليه أبو سعيد فَرَّقَها في الجند وأطلق يونس، وجمَعَ أبو سعيد العساكرَ، وأراد قَصْدَه ومحاصرته، فأرسل محمد بن عبد الكريم إلى عليِّ بن إسحاق الملثم فحالفه واعتضَدَ به، فامتنع أبو سعيدٍ مِن قصده، ومات يعقوبُ وولي ابنه محمد، فسير عسكرًا مع عَمِّه في البحر، وعسكرًا آخَرَ في البر مع ابنِ عَمِّه الحسن بن أبي حفص بن عبد المؤمن، فلما وصلَ عسكر البحر إلى بجاية، وعسكَرُ البَرِّ إلى قسنطينة الهوى، هرب الملثَّم ومن معه من العرب من بلاد إفريقيَّة إلى الصحراء، ووصل الأسطولُ إلى المهديَّة، فشكا محمد بن عبد الكريم ما لَقِيَ من أبي سعيد، وقال: أنا على طاعةِ أمير المؤمنين محمد، ولا أسَلِّمُها إلى أبي سعيد، وإنما أسلمها إلى من يَصِلُ من أمير المؤمنين؛ فأرسل محمَّد مَن يتَسَلَّمُها منه، وعاد إلى الطاعةِ.
هو الأمير سيف الدولة صدقة بن بهاء الدولة منصور بن ملك العرب دبيس بن علي بن مزيد الأسدي، الناشري العراقي صاحب الحلة السيفية. كان يتشيع هو وأهل بيته، ويقال له ملك العرب. وكان ذا بأس وسطوة، كريمًا ذا ذمام، عفيفًا من الزنا والفواحش، كأن عليه رقيبًا من الصيانة، ولم يتزوج على زوجته قطُّ ولا تسرَّى، وقيل: إنه لم يشرب مُسكِرًا ولا سَمِعَ غناءً ولا قصد التسوُّقَ في طعام، ولا صادر أحدًا من أصحابه، وكان تاريخ العرب الأماجد كرمًا ووفاءً، وكانت داره ببغداد حرمَ الخائفين. اختطَّ مدينة الحلة في سنة خمس وتسعين وأربع مائة، وسكنها الشيعة، وكان قد عَظُم شأن صدقة، وعلا قدره، واتسع جاهه، واستجار به صغار الناس وكبارهم، فأجابهم، وكان كثير العناية بأمور السلطان محمد، والتقوية ليده، والشدِّ منه على أخيه بركيارق، حتى إنه جاهر بركيارق بالعداوة، ولم يبرحْ على مصافاة السلطان محمد، وزاده محمد إقطاعًا، من جملته مدينة واسط، وأذن له في أخذ البصرة. ثم أفسد ما بينهما العميدُ أبو جعفر محمد بن الحسين البلخي، ثم إنه تعدى ذلك حتى طعن في اعتقاده، ونسبه وأهل بلده إلى مذهب الباطنية، وقيل: إنما كان مذهبه التشيع لا غير، ووافق أرغون السعدي أبا جعفر العميد، وأما سبب قتله فإن السلطان محمدًا قد سخط على أبي دلف سرخاب بن كيخسرو، صاحب ساوة وآبة، فهرب منه وقصد صدقة فاستجار به فأجاره، فأرسل السلطان يطلب من صدقة أن يسلِّمَه إلى نوابه، فلم يفعل، وظهر منه أمورٌ أنكرها السلطان, فأنفذ الخليفةُ المستظهر بالله إلى صدقة ينهاه عن الخروج على السلطان، وتردَّدت الرسل بين الخليفة وصدقة, فما سمع صدقة، واجتمع له عشرون ألف فارس، وثلاثون ألف راجل، فتوجَّه السلطان إلى العراق ليتلافى هذا الأمر، فالتقى الجمعان عند النعمانية، فرشقتهم عساكر السلطان بالسهام، فجرحت خيولهم، ثم ولَّوا، وبقي صدقة يجول بنفسه، فجُرِح فرسه المهلوب، وكان عديمَ المثَل، وهرب وزيره على فرس له، فناداه، فما ألوى عليه، ثم جاءته ضربةُ سيف في وجهه، وقُتِلَ صدقة، وحُمل رأسه إلى بغداد. وقتل من أصحابه ما يزيد على ثلاثة آلاف فارس، فيهم جماعة من أهل بيته، وأُسِرَ ابنه دبيس ووزيره وعِدَّةٌ من أهله، وكان عمره تسعًا وخمسين سنة، وكانت إمارته إحدى وعشرين سنة، وحُمِل فدفن في مشهد الحسين عليه السلام, ثم عاد السلطان إلى بغداد، ولم يَصِل إلى الحلة، وأرسل إلى البطيحة أمانًا لزوجة صدقة، وأمرها بالظهور فأصعدت إلى بغداد، فأطلق السلطان ابنها دبيسًا، وأنفذ معه جماعة من الأمراء إلى لقائها.
ملك العادل أبو بكر بن أيوب بلد الخابور ونصيبين، وحصر مدينة سنجار، والجميع من أعمال الجزيرة، وهو بيد قطب الدين محمد بن زنكي بن مودود، وسببُ ذلك أن قطب الدين كان بينه وبين ابنِ عَمِّه نور الدين أرسلان شاه بن مسعود بن مودود، صاحب الموصل، عداوةٌ مستحكمة، وكان لنور الدين وزراء يحبون أن يشتغل عنهم، فحسَّنوا له مراسلة العادل والاتفاق معه على أن يقتسما بالبلاد التي لقطب الدين، وبالولاية التي لولد سنجر شاه بن غازي بن مودود، وهي جزيرة ابن عمر وأعمالها، فيكون مُلك قطب الدين للعادل، وتكون الجزيرةُ لنور الدين، فوافق هذا القولُ هوى نور الدين، فأرسل إلى العادل في المعنى، فأجابه إلى ذلك مستبشرًا، فبادر العادلُ إلى المسير من دمشق إلى الفرات في عساكره، وقصد الخابور فأخذه، فلما سمع نور الدين بوصوله كأنَّه خاف واستشعر، هذا والعادل قد ملك الخابورَ ونصيبين، وسار إلى سنجار فحصرها، فبينما الأمرُ على ذلك إذ جاءهم أمر لم يكن لهم في حساب، وهو أن مظفر الدين كوكبري، صاحب إربل، أرسل وزيره إلى نور الدين يبذُلُ من نفسه المساعدةَ على منع العادل عن سنجار، وأنَّ الاتفاق معه على ما يريده، فوصل الرسولُ ليلًا فوقف مقابل دار نور الدين وصاح، فعبَرَ إليه سفينة عبر فيها، واجتمع بنور الدين ليلًا وأبلغه الرسالة، فأجاب نور الدين إلى ما طلب من الموافقة، وحلفَ له على ذلك، وعاد الوزيرُ من ليلته، فسار مظفر الدين، واجتمع هو ونور الدين، ونزلا بعساكِرِهما بظاهر الموصل، ولما وصل مظفر الدين إلى الموصل، واجتمع بنور الدين، أرسلا إلى الملك الظاهرِ غازي بن صلاح الدين، وهو صاحِبُ حلب، وإلى كيخسرو بن قلج أرسلان، صاحب بلاد الروم، بالاتِّفاق معهما، فكلاهما أجاب إلى ذلك، فتواعَدوا على الحركة وقصْد بلاد العادل إن امتنع من الصلحِ والإبقاء على صاحب سنجار، وأرسلا أيضًا إلى الخليفة الناصر لدين الله ليرسِلَ رسولًا إلى العادل في الصلح أيضًا، فقويت حينئذ نفس صاحب سنجار على الامتناع، ووصلت رسلُ الخليفة إلى العادل وهو يحاصر سنجار، فأجاب أولًا إلى الرحيل، ثم امتنع عن ذلك، وغالط، وأطال الأمر لعله يبلغ منها غرضًا، فلم ينلْ منها ما أمَّله، وأجاب إلى الصلح على أن يكون له ما أخذ وتبقى سنجار لصاحبها، واستقرَّت القاعدة على ذلك، وتحالفوا على هذا كلُّهم، وعلى أن يكونوا يدًا واحدة على الناكثِ منهم؛ ورحل العادل عن سنجار إلى حران، وعاد مظفر الدين إلى إربل، وبقي كل واحد من الملوك في بلده.
هو السلطان القان معين الدين شاه رخ ابن الطاغية تيمورلنك كوركان بن أيتمش قنلغ بن زنكي بن سنيا بن طارم بن طغريل بن قليج بن سنقور بن كنجك بن طغر سبوقا بن التاخان، المغولي الأصل، من طائفة جغتاي، سلطان هراة، وسمرقند، وشيراز، وما والاها من بلاد العجم وغيرها. مَلَك البلاد بعد ابن أخيه خليل بن أميران شاه بن تيمورلنك، فإنَّه لما مات والده الطاغية تيمورلنك بأهنكران شرقي سمرقند، وثب خليلٌ على الأمر وتسلطن، وبلغ شاه رخ هذا الخبر في هراة، فجمع ومشى إليه، ووقعت بينهما حروب وخطوب إلى أن ملك شاه رخ، واستقَلَّ بممالك العجم وعراقة، وعظُمَ أمره وهابته الملوك، وحُمِدَت سيرتُه، وشُكِرت أفعاله، وقَدِمَت رسله إلى البلاد المصرية مرارًا عديدة, وراسلته ملوكُ مصر، إلى أن تسلطَنَ الملك الأشرف برسباي، وقع بينهما وحشة بسبب طلب شاه رخ أن يكسوَ البيت الشريف، فأبى الأشرفُ برسباي وخشَّن له الجواب. وترددت الرسلُ بينهما مرارًا، واحتجَّ شاه رخ أنه نذر أن يكسو البيت الشريف، فلم يلتفت الأشرفُ إلى كلامه، ورد قصَّاده إليه بالخيبة. ولَمَّا آل المُلك إلى المَلِك الظاهر جقمق، أذن له بكسوتها, واستمرَّت الصحبةُ بين الملك الظاهر جقمق وبين شاه رخ إلى أن مات شاه رخ في سنة 851. تولى الملك بعده حفيدُه علاء الدولة بن باي سنقر، نصبته جدتُه لأبيه كهرشاه خاتون، أرادت بولاية علاء الدولة، وعدم ولايتها ولَدَها ألوغ بك صاحب سمرقند، أن يكون الأمرُ إليها. فلما سمع ألوغ بك ذلك عزَّ عليه، وحشد ومشى إلى والدته كهرشاه وإلى ابن أخيه علاء الدولة بن باي سنقر، ووقع له معهما أمور وحوادث، ثم قُتِلَ ألوغ بك, واستمرت الفتنة بين بني تيمور. ولم يعُدْ بيت تيمور صالحًا للحكم بعد موت شاه رخ وقتْلِ ولده ألوغ بك صاحب سمرقند. كان شاه رخ ملكًا عادلًا ديِّنًا خَيِّرًا، فقيهًا متواضعًا، محبَّبًا لرعيته، غير محجوب عنهم، لم يسلك طريقة والده الطاغية تيمورلنك- لعنه الله وقبَّحه- كان يحب أهل العلم والصلاح، ويكرِمُهم ويقضي حوائجَهم. وكان متضعفًا في بدنه، يعتريه مرضُ الفالج فلا يزال يتداوى منه. وكان يحبُ السَّماع الطيب، وله حظٌّ منه، بل كان يَعرِفُ يضرب بالعود، وكان ينادمه الأستاذ عبد القادر بن الحاج غيبى ويختصُّ به، وكان له حظ من العبادة وله أوراد هائلة، لم يزل غالبَ أوقاته على طهارة كاملة، مستقبِلَ القبلة والمصحفُ بين يديه، وكان مَسيكًا لا يصرف المالَ إلا لحقه.
إنَّ الملك الظاهر يلباي الإينالي لما تسلطن وتم أمره غطَّاه المنصب، وصار كالمذهول، ولزم السكوتَ وعدم الكلام، وضَعُف عن بتِّ الأمور، وردْع الأجلاب، بل صارت الأجلاب في أيامه كما كانت أولًا وأعظم، فلم يَحسُن ذلك ببال أحد، وصار الأمير خيربك الدوادار الثاني هو صاحب الحل والعقد في مملكته، وإليه جميعُ أمور المملكة، وشاع ذلك في الناس والأقطار، فبهذا وأشباهه اضطربت أحوالُ الديار المصرية، ولما كان عصر يوم الأربعاء رابع جمادى الأولى، وطلعت الأمراء الألوف إلى القلعة ليبيتوا بالقصرِ على العادة، امتنعت المؤيدية عن الطلوع بمن وافقهم ما خلا الأمير جانبك الإينالي الأشرفي المعروف بقلقسيز أمير مجلس، وهو كبير الأشرفية الكبار يومئذ، واستمالت الظاهرية أيضًا الأمير جانبك قلقسيز الأشرفي أمير مجلس، فمال إليهم، ووعدهم بممالأة خشداشيته- زملائه- الأشرفية إليهم، وخذلان يشبك الدوادار، فعند ذلك صار الملك الظاهر يلباي وحده أسيرًا في أيدي القلعيين، فلما أصبحوا يوم الخميس خامس جمادى الأولى أعلن الأمير يشبك الفقيه الوثوب على الخشقدمية، ولبسوا آلة الحرب، وركب بمن معه من المؤيدية والأشرفية الكبار والأشرفية الصغار، والسيفية، واجتمع عليهم خلائقُ من كل طائفة، ومالت زعر الديار المصرية إليهم، وبلغ مَن بالقلعة أمرهم، فخافوهم خوفًا شديدًا، ولَبِسوا هم أيضًا آلة الحرب، ونزلوا بالسلطان الملك الظاهر يلباي إلى مقعد الإسطبل السلطاني المطل على الرميلة، وشرعوا في قتال الأمير يشبك بمن معه في الأزقة والشوارع بالصليبية، وأصبح يوم الجمعة سادس جمادى الأولى والقتال قائم بين الفريقين بشارع الصليبية من أول النهار إلى آخره، فلما جاء الليل ليلة السبت أدخل يلباي إلى مبيت الحراقة، وبات به على هيئة عجيبة، إلى أن أصبح النهار وأخذوه وطلعوا به إلى القصر الأبلق، وحبسوه في المخبأة التي تحت الخرجة، بعد أن طلعوا به ماشيًا على هيئة الخَلعِ من السلطنة ثم سُجِنَ بعد ذلك بسجن الإسكندرية إلى أن توفي في العام التالي وقد جاوز السبعين من عمره، وأخذ الناس في سلطنة الملك الظاهر تمربغا، وزال ملك يلباي هذا كأنه لم يكن، وكانت مدة ملكه شهرين إلا أربعة أيام، ليس له فيها إلا مجرد الاسم فقط، أما السلطان الجديد الظاهر أبو سعيد تمربغا فجلس بصدر المقعد بالإسطبل السلطاني المعروف بالحراقة، وحضر الخليفة المستنجد بالله أبو المظفر يوسف، والقاضي الشافعي والقاضي الحنفي، وتخلف المالكي لتوعكه، والحنبلي لإبطائه، وحضر غالب أرباب الدولة والأعيان وبايعوه بالسلطنة، فقام من وقته ودخل مبيت الحراقة، ولبس خلعة السلطنة السواد الخليفتي.
سيَّر سلمان باشا والي العراق العساكِرَ الكثيرة من العراق والأكراد والمحمرة، ومعهم من البوادي عُربان المنتفق مع رئيسِهم حمود بن ثامر، وعُربان آل بعيج، والزقاريط وآل قشعم، وجميع بوادي العراق، وعربان شمر والظفير، وسار معه أهل الزبير وما يليهم، وجعل على قيادةِ الحملة وزيره علي كيخيا، واتفق له قوةٌ هائلة من المدافع والقنابر وآلات الحروب، واجتمع معه جموع كثيرة، حتى قيل إنَّ الخيل الذي يعلَّقُ عليها ثمانية عشر ألف, فسار علي كيخيا بجميع تلك الجموع وقصد الأحساءَ، فلما نزل فيها تابعَه أهلُ المبرز والهفوف وقرى الشرق وجميع نواحيه، ونقضوا العهدَ مع دولة الدرعيَّة, وامتنع على حملةِ علي كيخيا قصر الصاهود بالمبرز وحصْن الهفوف، فزحف بجنوده على قصرِ الصاهود وحاصره شهرين، وبذل كُلَّ الأسباب لفتحِ بسوق الأبطال والرمي المتواصِلِ بالمدافع والقنابر، وحفر حفرًا في السورِ ملأها بالبارود، ثمَّ ثوَّرها عليهم دون طائلٍ حتى وقع فيهم الفشلُ، ولم يكن في داخل هذا القصر إلَّا 100 رجل أكثَرُهم من نجد مع سليمان بن محمد بن ماجد الناصر من أهل ثادق، وكان يتصف بالشجاعة فثبت هو ومن معه ولم يعطُوا الدنيَّةَ لعدُوِّهم حتى بطَلَ كَيدُهم ووقع في قلوبِ الكيخيا وعساكره الملَلُ والتخاذل, فارتحلوا راجعين وتركوا الأحساءَ، وانهزم معهم أهلُ الأحساء الخائنون الذين نقضوا العهد، وتركوا محالَّهم وأمتعتَهم وأموالهم، وقيل: لَمَّا أراد الكيخيا ومن معه الارتحال جمعوا سلالِمَهم وزحَّافات الخشب والجذوع التي أعدوها لحفر الحفر والجدران، وشيئًا من خيامهم ومتعهم وطعامهم وأشعلوا فيه النيران. أما الذين امتنعوا على الكيخيا في قصر الهفوف فرئيسُهم إبراهيم بن عفيصان لم يقع عليهم حصارٌ، ولكن حاولوا مرارًا عديدة لفتحِه ولم يحصلوا على طائلٍ, وكان الأميرُ سعود قد سار بأهل نجدٍ من البادي والحاضر وقصد الأحساءَ، فلما عَلِمَ برجوع الكيخيا رحل من مكانِه, ونزل على ثاج الماء المعروف في ديار بني خالد، فجمع اللهُ بينه وبين الكيخيا على غير ميعادٍ، فنزل الكيخيا الشباك ماء قريب من ماء ثاج, فجرى بينهم محاولة خيل وطراد، وأقاموا على ذلك أيامًا، ثم ألقيَ في قَلبِ الكيخيا وجنودِه الرعبُ ووقع فيهم الفشَلُ وطلبوا الصلح، وأنَّ كُلًّا من الفريقين يرحل على عافية وحقن دماء. وصالحهم سعود على ذلك وارتحلوا إلى أوطانِهم، ثم رحل سعودٌ ونزل الأحساء ورتَّب حصونَه وثغوره، وأقام فيه قريبًا من الشهرين، واستعمل فيه أميرًا سليمان بن محمد بن ماجد الناصر، ثم رحل سعود إلى وطنِه قافلًا.
تمَّت معاهدةُ جُدة بين حكومة بريطانيا وحكومة ملك الحجاز وملحقاتِها؛ لتوطيد العلاقة بينهما، وتأمين مصالحهما، وقد مثَّل بريطانيا جلبرت فلكنجهام كلايتن، بينما مثَّل حكومة ملك الحجاز وملحقاتها الأميرُ فيصل بن عبد العزيز نائب الملك في الحجاز، وأهم ما جاء في هذه المعاهدة: اعترافُ الحكومة البريطانية بالاستقلال التام لعبد العزيز آل سعود ملكًا على الحجاز ونجد، وتعهَّد الجانبان بالحفاظ على السلام والصداقة بينهما، وتعهَّد الملك عبد العزيز بتسهيل مهمَّة الحجاج من الرعايا البريطانيين إلى الديار المقدسة أسوةً بباقي الحجاج، واعترفت بريطانيا بالجنسية الحجازية النجدية لجميعِ رعايا هذه البلاد وملحقاتها خلالَ وجودِهم في بريطانيا أو في محميَّاتها، وتعهَّد الملك عبد العزيز بالحفاظ على العلاقات السِّلمية مع الكويت والبحرين ومشيخات ساحل عمان ومسقط وعُمان، الذين يرتبطون بمعاهدات مع بريطانيا، وأن يتعاونَ الطرفان للقضاء على تجارة الرقيق في الحجاز، وتم إلحاقُ الكتب التي تبودِلَت بين الملك عبد العزيز وكلايتون بالمعاهدة، خاصةً فيما يتعلَّقُ برغبة عبد العزيز في شراء وتوريد جميع الأسلحة والأدوات العسكرية والذخيرة من الأمور والحاجيات العسكرية التي يحتاجها؛ فقد أكد كلايتون أنَّ الحكومة البريطانية لا ترى ضرورةَ إيرادها في نص المعاهدة بعد أن تمَّ إلغاء قرار تحريم تصدير الأسلحة إلى المنطقة؛ وعليه فإن الملك عبد العزيز يمكن أن يستورد من السلاح ما يشاء على أنَّ بريطانيا تفَضِّل أن يتم الاتفاق مباشرة مع المنتجين البريطانيين للأسلحة. وبعد أن أصدر الملك عبد العزيز قرارَ تصديق المعاهدة وكذلك ملك بريطانيا جورج الخامس تبادل مديرُ الشؤون الخارجية الدكتور عبد الله الدملوجي مع القنصل البريطاني في جدة قراراتِ التصديق في 17 سبتمبر، وأصبحت المعاهدةُ نافذةَ المفعول من تاريخ التصديق لمدة سبع سنوات قابلة للتجديد على أساس الموافقة المتبادلة بينهما. وقد رحَّب العديد من الأوساط السياسية والصحفية العربية والبريطانية بعقد معاهدة جدة، وتم في المعاهدة إلغاءُ نظام الحماية والتبعية والقيود التي فرضتها معاهدةُ العقير عام 1915م. كان هَمُّ الملك عبد العزيز في هذه المعاهدة انتزاعَ اعتراف بريطانيا بسيادتِه على جميع المناطق التي ضمَّها تحت حُكمِه، وقد تحقَّق له ذلك كما تمَّ إلغاءُ الامتيازات الأجنبية في الحجاز والتي كان يتمتع بها الرعايا الأجانب دونَ غيرهم في القضاء والقانون الجنائي والمدني، ووضعت المعاهدة أساسًا جديدًا للمساواة في تطبيق القانون بين الأقليات في الحجاز. كما حصلت بريطانيا على استقرارِ الأمن والاستقلال في الساحل الشرقي بالحفاظ على علاقات سلام مع الكويت والبحرين وقطر وعمان التي تربطها ببريطانيا معاهدات حماية، كما ضَمِنَت بريطانيا بموجِبِ هذه المعاهدة سلامةَ حجِّ رعاياها في جميع مستعمراتها.
هو محمد جمال الدين بن صفدر -وتكتب صفتر- الحسيني الأفغاني الأسد آبادي، كان فيلسوفًا سياسيًّا، وكاتبًا وخطيبًا وصحفيًّا، ولد في شعبان 1254هـ / أكتوبر 1838م بأسد آباد بالقربِ من همذان من أعمال فارس، وقيل إنه ولد بأسد آباد الأفغانية؛ ولذا اختُلِفَ في أصل نسب أسرتِه، هل هو فارسي إيراني أم أفغاني, وقيل إنه من أسرة أفغانية عريقة ينتهي نسَبُها إلى الحسين بن علي رضي الله عنه, نشأ الأفغاني في كابول عاصمة الأفغان. وتعلَّم فيها بدايةَ تلقيه العلمَ اللغتينِ العربيةَ والفارسية، ودرَس القرآن وشيئًا من العلومِ الإسلامية، وفي سِنِّ الثامنة لفت أنظارَ من حوله بذكائه الشديد، مما جعل والِدَه يحفِّزُه إلى التعلم، وفي أوائل سنة 1266هـ / 1849م وقد بلغ الثانية عشرة من عمره انتقل به والده إلى طهران، وفي طهران سأل جمال الدين عن أكبَرِ علمائها في ذلك الوقت، فقيل له: إنه "أقاسيد صادق" فتوجَّه مباشرةً إلى مجلسه، ودار حوارٌ بينهما في مسألةٍ علميةٍ، فأُعجِبَ الشيخ من علمه وجرأتِه مع صِغَرِ سنه، فأقبل عليه وضمَّه إلى صدره وقبَّلَه، ثم أرسَلَ إلى والده يستدعيه، وأمره أن يشتريَ له عباءةً وعمامة، ثم قام الشيخُ بلَفِّ العمامة ووضَعَها بيده فوقَ رأسه تكريمًا له، واعتزازًا بعلمِه. ثم ترك جمال الدين طهران، وسافر مع والدِه -إلى مركز الشيعية العلمي- في النَّجفِ بالعراق في نفس العام، ومكث فيها أربعَ سنوات درس فيها العلومَ الإسلامية وغيرها؛ فدرس التفسير والحديث، والفلسفة والمنطق وعلم الكلام، وأصول الفقه، والرياضة، والطب والتشريح، والنجوم. وقرأ في اللغةِ والأدبِ، والتاريخ والتصوف، والشريعة، وظهر حُبُّه الشديد للمناقشة في المسائل الدينية، أتقن الأفغانيُّ الحديث باللغة العربية والأفغانية والفارسية والسنسكريتية والتركية، وتعلم الفرنسية والإنجليزية والروسية، وإذا تكَلَّم بالعربية فلغتُه فصحى، وهو واسِعُ الاطِّلاع على العلومِ القديمة والحديثة، كريمُ الأخلاقِ كبيرُ العقل، وعندما بلغ الثامنة عشرة أتمَّ دراستَه للعلوم، وظلَّ الأفغاني طوال حياته حريصًا على العلمِ والتعلُّم، وبرزت فيه هوايةُ التَّرحالِ والأسفار. فسافر إلى الهندِ لدراسة بعض العلوم العصرية، ثم عاد إلى أفغانستان. كان الأفغانيُّ يُظهِرُ في عمله السياسي مناهَضةَ استبداد الحكَّام ومناوأة الاستعمار عمومًا والإنجليزيِّ خصوصًا في كلِّ مكانٍ ينزِلُ فيه. حينما وقع خلافٌ بين الأمراء الأفغان انحاز جمال الدين إلى محمد أعظم خان الذي كان له بمثابةِ وزيرِ دولة، وحدث صدامٌ بين جمال الدين وبين الإنجليز، فرحل عن أفغانستان أو طرَدَه الإنجليزُ منها سنة 1285ه ـ/ 1868م، ومر بالهندِ في طريقِه فكان الإنجليز يمنعون العُلَماءَ وطلبة العلم الجلوسَ معه، فخرج منها إلى مصر حيث أقام بها مدةً قصيرة تردَّد في أثنائها على الأزهرِ، وكان بيته مزارًا لكثيرٍ مِن الطلاب والدارسين خاصةً السوريين. ثم دعاه السُّلطانُ العثماني عبد العزيز إلى زيارةِ الدولة العثمانية فأجاب الدعوة، وسافر إلى الأستانة في عهدِ الصدر عالي باشا، فعَظُم أمرُه بها، وذاعت شهرتُه وارتفعت منزلته، ثم عُيِّن جمالُ الدين وهو في الأستانة عضوًا في مجلس المعارِفِ الأعلى، وهناك لقِيَ معارضة وهجومًا من بعضِ علماء الأستانة وخطباءِ المساجد الذين لم يرُقْهم كثير من آرائِه وأقواله، وخاصة من شيخِ الإسلام حسين فهمي أفندي، فطُلب من الأفغاني أن يرحَلَ، فخرج من الأستانة عائدًا إلى مصر، فأقام فيها بضعَ سنوات خاض فيها غِمارَ السياسة المصرية، ودعا المصريِّين إلى ضرورةِ تنظيم أمورِ الحُكمِ، وتأثَّرَ به في مصر عددٌ من رموز الحركة الأدبيَّةِ والسياسية، منهم: محمد عبده، ومحمود سامي البارودي، وغيرهما، فقد أُعجِبوا بفكره وجرأتِه في مناهضة الاستبداد والاستعمار، ويُذكرُ أن للأفغان دورًا في إعطاء دفعةٍ قويةٍ للنَّهضةِ الأدبيَّةِ الحديثة بمصر، فلمَّا تولى الخديوي توفيق باشا حُكمَ البلاد أمَرَ بإخراجه مِن مِصرَ، فأُخرِجَ بطريقة عنيفةٍ بأمرٍ مِن الخديوي بعد أن أقام في مِصرَ نحوَ ثماني سنوات. انتقل إلى الهند سنة 1296هـ / 1879م، ثمَّ طُرِدَ من الهند بأمرٍ مِن الإنجليز، فاتَّجَه إلى أوروبا واختار أن يبدأ بلندن، ومنها انتَقَل إلى باريس، فشرع في تعلُّم الفرنسية فيها، وبذل كثيرًا من الجُهدِ والتصميمِ حتى خطا خطواتٍ جيدةً في تعلُّمِها، ثم اتصل بتلميذِه الشيخ محمد عبده المنفيِّ حينَها في بيروت، ودعاه إلى الحُضورِ إلى باريس، وأصدرا معًا جريدة "العُروة الوثقى"، ولكِنَّها ما لَبِثَت أن توقَّفَت عن الصدور بعد أن أُوصِدَت أمامَها أبوابُ كُلٍّ مِن مصر والسودان والهند، بأمرٍ مِن الحكومةِ الإنجليزيةِ, ثمَّ دعاه شاه إيران "ناصر الدين" للحُضورِ إلى طهران، واحتفى به وقَرَّبه، وهناك نال الأفغانيُّ تقدير الإيرانيين وحَظِيَ بحُبِّهم، ومالوا إلى تعاليمِه وأفكارِه، ثمَّ ذهب إلى روسيا فأقام فيها ثلاثَ سنواتٍ تنَقَّل بين موسكو وعاصمتِها بطرسبرج آنذاك، وزار كييف، والتقى بقيصرِها ألكسندر الثالث، ثمَّ أمر القيصَرُ بطَردِه من روسيا، فعاد مرةً أخرى لإيران بطلَبٍ من الشاه ناصر الدين، ثم انقَلَب عليه فطَرَده من إيران، فرحل إلى البصرة، ومنها إلى لندن للمرَّة الثانية؛ حيث اتخذ من جريدة "ضياء الخافقين" منبرًا للهُجومِ على الشاه ناصر الدين، وكشف ما آلت إليه أحوالُ إيران في عَهدِه، انتظم جمالُ الدين في سِلكِ الماسونيَّةِ بطَلبٍ منه؛ زعم أنَّ ذلك يُفسِحُ له المجالَ أمامَ أعماله السياسيَّةِ، وقد انتُخِبَ رئيسًا لمحفل "كوكب الشرق" سنة 1295هـ / 1878م، وقيل إنه استقال منه فيما بعدُ. يُعتَبَرُ الأفغانيُّ في نظرِ مُريديه وطنيًّا كبيرًا، بينما يَنظُرُ إليه خصومُه على أنَّه مهَيِّجٌ خطير، فقد كان له أثَرٌ كبير في الحركاتِ الحُرَّة والحركات الدستورية التي قامت في الدُّوَلِ العربية والإسلامية، وكان يَرمي من إثارة الخواطِرِ إلى تحريرِ هذه الدُّوَلِ من النفوذ الأوربي واستغلالِ الأوروبيِّين، ثم بعد ذلك النهوض بها نهوضًا ذاتيًّا من الداخل متوسِّلًا في ذلك بإدخالِ النظُمِ الحُرَّة إليها، كما كان يهدفُ إلى جمع كَلِمةِ الدول الإسلامية بما فيها فارس الشيعيَّة تحت راية خلافةٍ واحدةٍ، وإقامةِ إمبراطوريةٍ إسلاميةٍ قويةٍ تستطيعُ الوقوفَ في وجهِ التدَخُّلِ الأوربي؛ ولذلك دعاه السلطانُ عبد الحميد الثاني في عهدِه وقَرَّبه إليه وتعاون معه في تسويقِ فكرة الجامعة الإسلامية، ثم انقلب عليه السلطانُ عبد الحميد الثاني لَمَّا شك في علاقتِه بالإنجليز. لم يُكثِرِ الأفغاني من التصنيف اعتمادًا على ما كان يبُثُّه في نفوس العاملين، وانصرافًا إلى الدعوة بالسِّرِّ والعلن. له تاريخ الأفغان، ورسالة الرد على الدهريين، ترجمها إلى العربية تلميذه الشيخ محمد عبده, وجمع محمد باشا المخزومي كثيرًا من آرائه في كتاب خاطرات جمال الدين الأفغاني، ولمحمد سلام مدكور كتاب جمال الدين الأفغاني باعث النهضة الفكرية في الشرق. توفِّيَ الأفغاني في الأستانة بعد أن أُصيب بمرَضِ السرطان في فَكِّه، عن عمرٍ بلغ نحو ستين عامًا، وقد ثار الجدَلُ حول وفاته، وشكَّك البعضُ في أسبابها، وأشار آخرون إلى أنه اغتيلَ بالسمِّ. وكانت وفاته في 5 من شوال 1314هـ / 10 من مارس 1897م. قال عنه الفيلسوفُ إرنست رينان الذي التقى به وحاوَرَه: "قد خُيِّلَ إليَّ مِن حريَّةِ فِكرِه ونبالةِ شِيَمِه وصراحتِه وأنا أتحدث إليه، أنَّني أرى وجهًا لوجهِ أحدِ مَن عرفتُهم من القُدَماء، وأنني أشهَدُ ابنَ سينا أو ابنَ رشد, أو أحدَ أولئك الملاحدة العِظامِ الذين ظلُّوا خمسة قرون يعملونَ على تحريرِ الإنسانيةِ مِن الإسارِ" وتبقى شخصيةُ الأفغاني يحومُ حولَها كثيرٌ مِن الشُّكوكِ!
لمَّا جاء أصحابُ الجَملِ إلى البَصرَةِ لِتَأليفِ الكَلِمَةِ والتَّوَصُّلِ بذلك إلى إقامةِ الحَدِّ على قَتَلَةِ عُثمانَ وينظروا في جمعِ طَوائفِ المسلمين، وضَمِّ تَشَرُّدِهِم حتَّى لا يَضْطَرِبوا فيَقتَتِلوا، حَرَّضَ مَن كان بها مِن المُتَأَلِّبِين على عُثمانَ النَّاسَ، وقالوا: اخْرُجوا إليهم حتَّى تَروا ما جاءوا إليه. فبعَث عُثمانُ بنُ حَنيفٍ -والي البَصرَةِ مِن قِبَلِ عَلِيِّ بن أبي طالبٍ- حَكيمَ بنَ جَبَلَةَ العَبديَّ -أحدَ قَتَلَةِ عُثمانَ بن عفَّانَ- لِيمنَعَ أصحابَ الجَملِ مِن دُخولِ البَصرَةِ، فلَقِيَهُم في الزَّابوقَةِ –مَوضِع قَريب مِن البَصرَةِ كانت فيه وَقعةُ الجَملِ في دورِها الأوَّلِ- فقام طَلحةُ ثمَّ الزُّبيرُ يَخْطُبانِ في أَنصارِ المُعَسْكَرَيْنِ، فأَيَّدهُما أصحابُ الجَملِ، ورفَضهُما أصحابُ عُثمانَ بن حَنيفٍ، ثمَّ قامت أُمُّ المؤمنين عائشةُ تَخطُب في المُعَسْكَرَيْنِ، فثبَت معها أَصحابُ الجَملِ، وانحازَت إليها فِرقةٌ مِن أَصحابِ عُثمانَ بن حَنيفٍ، وبَقِيَت فِرقةٌ أُخرى مع ابنِ جَبَلَةَ، واخْتَلف الفَريقان وكَثُرَ بينهما اللَّغَطُ، ثمَّ تَراموا بالحِجارَةِ، فقام حَكيمُ بن جَبلةَ بِتَأْجِيجِ الفِتنَةِ والدَّعوةِ إلى القِتالِ، وأخَذ يَسُبُّ أُمَّ المؤمنين عائشةَ، ويَقتُل كُلَّ مَن أَنكَر عليه مِن الرِّجالِ والنِّساءِ، وكان دُعاةُ أصحابِ الجَملِ يَدعون إلى الكَفِّ عن القِتالِ، فلمَّا لم يَسْتَجِبْ حَكيمُ بن جَبلةَ وأنصارُهُ لدَعْوَى الكَفِّ عن القِتالِ كَرَّ عليهم أصحابُ الجَملِ، فقُتِلَ حكيمُ بن جَبلةَ، ثمَّ اصْطَلح أصحابُ الجَملِ مع عُثمانَ بن حَنيفٍ على أن تَكونَ دارُ الإمارَةِ والمسجدُ الجامعُ وبيتُ المالِ في يَدِ ابنِ حَنيفٍ، ويَنزِل أصحابُ الجَملِ في أيِّ مكانٍ يُريدونَهُ مِن البَصرَةِ، وقِيلَ: إنَّ حَكيمَ بن جَبلةَ قُتِلَ بعدَ هذا الصُّلحِ لمَّا أَظهَر المُعارضةَ.
كان صنجيل الفرنجي قد لقي قلج أرسلان بن سليمان بن قتلمش، صاحب قونية، وكان صنجيل في مائة ألف مقاتل، وكان قلج أرسلان في عدد قليل، فاقتتلوا، فانهزم الفرنجُ وقُتِلَ منهم وأُسِرَ الكثير، وعاد قلج أرسلان بالغنائم والظَّفَر الذي لم يحسَبْه. ومضى صنجيل مهزومًا في ثلاثمائة، فوصل إلى الشام، فأرسل فخر الملك بن عمار، صاحب طرابلس، إلى الأمير ياخز، خليفة جناح الدولة على حمص، يقول: من الصواب أن يُعاجل صنجيل إذ هو في هذه العدة القريبة، فخرج الأمير ياخز بنفسه، وسيَّرَ دقاق ألفي مقاتل، وأتتهم الأمداد من طرابلس، فاجتمعوا على باب طرابلس، وصافُّوا صنجيل هناك، فأخرج مائةً من عسكره إلى أهل طرابلس، ومائة إلى عسكر دمشق، وخمسين إلى عسكر حمص، وبقي هو في خمسين. فأما عسكر حمص فإنهم انكسروا عند المشاهدة، وولَّوا منهزمين، وتبعهم عسكر دمشق. وأما أهل طرابلس فإنهم قاتلوا المائة الذين قاتلوهم، فلما شاهد ذلك صنجيل حمل في المائتين الباقيتين، فكسروا أهل طرابلس، وقتلوا منهم الكثير، ونازل صنجيل طرابلس وحصرها. وأتاه أهلُ الجبل فأعانوه على حصارها، وكذلك أهل السواد، وأكثرهم نصارى، فقاتل مَن بها أشدَّ قتال، فقتل من الفرنج ثلاثمائة، ثم إنَّه هادنهم على مال وخيل، فرحل عنهم إلى مدينة أنطرسوس، وهي من أعمال طرابلس، فحصرها وفتحها وقتل مَن بها من المسلمين، ورحل إلى حصن الطوبان، وهو يقارب رفنية، ومُقَدَّمُه يقال له ابن العريض، فقاتلهم، فنُصِر عليه أهل الحصن، وأسر ابن العريض منه فارسًا من أكابر فرسانه، فبذل صنجيل في فدائه عشرة آلاف دينار وألف أسير، فلم يجِبْه ابن العريض إلى ذلك.