خرج الأميرُ بَيدمر نائِبُ الشام عن الطاعة، وبموافقةِ جماعةٍ مِن الأمراء له على ذلك، منهم أسَنْدَمر أخو يَلبغا اليحياوي، والأمير مَنجَك وجماعة، وأنه قام لأخذ ثأر السُّلطانِ حسن، وأفتاه جماعةٌ من الفقهاء بجواز قتال قاتِلِه الذي تغَلَّب على المُلك- يعني الأمير يَلْبُغا- ومنع البريدَ أن يمُرَّ مِن الشام، وجَهَّزَ الأمير مَنجَك والأمير أَسَندَمُر الزيني في عسكَرٍ إلى غزة، فحاربوا نائِبَها ومَلَكوها، فنصب الأميرُ يَلبُغا السَنْجقَ السلطاني، وتقَدَّمَ إلى الأمراء بالتجهيز للسفر، وأخرج الأميرَ قَشَتمر نائب السلطة إلى جهة الصعيد في عسكَرس ليحفظ تلك الجِهةَ في مُدَّة الغيبة بالشام، وأُقيم الأمير شرف الدين موسى بن الأزْكَشي نائب الغيبة، وخَرَجت طلابُ الأمراء شيئًا بعد شيءٍ، وركب السلطانُ في أول شهر رمضانَ مِن قلعة الجبل، ونزل خارِجَ القاهرة، ثم رحل وصحبته الخليفةُ والأمراء، وتاج الدين محمد بن إسحاق المناوي قاضى العسكر، وسراج الدين عمر الندى قاضي العسكر، فرحل الأميرُ منجَك بمن معه من غَزَّة، عائدًا إلى دمشق، فنزل بها السلطانُ بعساكره وجلس الأميرُ يلبغا لعَرضِ العسكر، ثم ساروا جميعًا إلى دمشق، وخيَّموا بظاهرها، فخرج إليهم أكثَرُ أمراء دمشق وعسكَرُها راغبين في الطاعة، حتى لم يبقَ مِن الأمراء مع بيدمر سوى مَنجَك وأسندمر- وقد امتنعوا بالقلعة- فترددت القضاةُ بين الفريقين في الصُّلحِ حتى تقرر، وحَلَف لهم الأميرُ يَلُبغا على ذلك، فاطمأنُّوا إليه ونزلوا من القلعة، فركبَ السلطانُ بعساكره صبحَ يوم الاثنين تاسع عشرين شهر رمضان، ودخَلَ إلى دمشق وقبض على الأمير بيدمر والأمير منجك والأمير أسندمر، وقُيِّدوا، فأنكر ذلك جمال الدين يوسف بن محمد المرداوي الحنبلي قاضي دمشق، وصار إلى الأمير يَلْبُغا، وقال له: لم يقع الصلحُ على هذا فاعتذر بأنَّه ما قصد إلا إقامةَ حُرمةِ السلطان، ووعد بالإفراجِ عنهم، فلما انصرف بعث بهم إلى الإسكندريَّة، فسُجِنوا بها، وصَعِدَ السلطان إلى قلعة دمشق، وسكَنَها، واستبد الأميرُ يَلْبُغا بتدبير الأمورِ في الشام، على عادتِه في مصر، واستقَرَّ الأمير علاء الدين أمير علي نائب الشام عوضًا عن الأمير بَيدمر، واستقر الأميرُ قطْلُوبُغا الأحمدي رأس نوبة في نيابة حلب عوضًا عن الأمير أحمد بن القَشتمري، ثم سار السلطانُ بعساكره من دمشق في يوم الأحد، فلمَّا قرب من القاهرة دُقَّت البشائر بقلعة الجبل، وزُيِّنَت القاهرة ومصر زينة عظيمة، وصعد إلى قلعته في يوم الاثنين عشرين شوال، وفيه قدم الأمير قَشْتَمُر النائبُ مِن الوجه القبلي.
هو الإمامُ العلَّامة، المتفنن المتبحر في العلم، أبو عبد الله محمد بن أحمد بن أبي بكر بن فرخ الخزرجي الأنصاري القرطبي، من أهل قرطبة، كان عالِمًا بالتفسير والأحكام واللغة. قال الذهبي: "له تصانيفُ مفيدة تدل على كثرة اطلاعه ووفور فضله، أشهرها تفسيره الجامع لأحكام القرآن، وقد سارت به لعظيمِ شأنه الركبانُ، وهو كامل في معناه. ومن تصانيفه كذلك: الأسنى في شرح أسماء الله الحسنى، والتذكار في أفضل الأذكار، وكتاب "التذكرة"، وأشياء تدل على إمامته وذكائه وكثرة اطلاعه". رحل إلى المشرق واستقر في شمال أسيوط، كان عالِمًا بالتفسير والأحكام واللغة. توفي في أوائل هذه السنة بمنية بني خصيب من الصعيد الأدنى عن 93 عامًا.
ورد الخبَرُ بأن كيختو بن أبغا بن هولاكو، الذي تسلطنَ بعد أخيه أرغون في سنة تسعين، قُتِل في سنة ثلاث وتسعين، وملَك بعده ابنُ عمه بيدو، وهو ابن طرغاي بن هولاكو، فخرج عليه قازان بن أرغون بن أبغا نائبُ خراسان، وكسَرَه وأخذ المُلكَ منه، ويقال: إن قازان أسلم على يدِ الشيخ صدر الدين بن حمُّويه الجويني، وقيل: على يد نائبه الأمير توزون، ودخلَت التتار أو أكثرُهم في الإسلام، ونثر قازان الذهبَ والفضَّةَ واللؤلؤ على رؤوس النَّاسِ يوم إسلامه، وتسَمَّى بمحمود، وشهِدَ الجمعةَ والخُطبة، وخَرَّب كنائسَ كثيرةً، وضرب على النصارى الجزيةَ ورَدَّ مظالمَ كثيرةً ببغداد وغَيرِها من البلادِ.
لَمَّا تيقَّن السلطان برقوق من عودة تيمورلنك إلى بلاده وجَّه في يوم الاثنين أول شعبان القان غياث الدين أحمد بن أويس من دمشق إلى بغداد، بعد أن قدم له جميع ما يحتاج إليه، وعند وداعه خلع عليه أطلسين بشاش متمر، وسيف بسقط ذهب، وأعطى تقليدًا بنيابة السلطنة ببغداد، ولما وصل إلى ظاهر بغداد خرج إليه نائب تيمور بها، وقاتله فانكسر النائب، ودخل بغداد، وأطلق المياه على عسكر ابن أويس ليُغرقه، فأعانه الله وتخلَّص منها بعد يومين، وعبر أويس بغداد، وقد هرب نائب تيمورلنك منها، فاستولى عليها ابن أويس، واستخدم جماعةً من التركمان والعربان، فلما بلغ ذلك تيمور جهَّز أمراءه بالأموال إلى سمرقندي.
في يوم الخميس أول شعبان قدم الشريف بركات بن حسن بن عجلان مصرَ، ونزل الملك الظاهر جقمق إلى لقائِه خارج القاهرة، وبالغ السلطانُ في إكرام بركات، وقام إليه ومشى له خطوات، وأجلسه بجانبه، ثم خلع عليه، وقيَّد له فرسًا بسرج ذهبٍ وكنبوش زركش، وركب مع السلطان، وسار إلى قريبِ قلعة الجبل، فرسم له السلطانُ بالعود إلى محلٍّ أنزله به، وهو مكان أخلاه له المقرُّ الجمالي ناظر الخواص، ورتَّب له الرواتب الهائلة، وقام الجمالي بجميع ما يحتاج إليه بركات، من الكلَفِ والخدم السلطانية وغيرها، وكان أيضًا هو القائم بأمره، إلى أن أعاده إلى إمرة مكة، والسفيرُ بينهما الخواجا شرف الدين موسى التتائي الأنصاري التاجر.
كثُرَ سُقوطُ الثَّلجِ بدِمشقَ حتى خرج عن العادةِ، وأنفقوا على إزالته من الأسطحِ ما ينيفُ على ثمانين ألف درهم؛ فإنَّه أقام يسقط أسبوعين، وفي هذه السنة تواتَرَ سُقوطُ البرد بأرض مصرَ، مع ريحٍ سوداء، وشَعَث عظيمٍ، وبَرقٍ ورَعدٍ سهول، ثم أعقب ذلك عامٌ شديد الحر، بحيث تطاير منها شَرَرٌ أحرق رؤوسَ الأشجار، وزريعة الباذنجان وبعض الكتَّان، حتى اشتد خوف الناس، وضجُّوا إلى الله تعالى، وجاء مطرٌ غزير، ثم بَرْدٌ فيه يبس لم يُعهَدْ مِثلُه، فكانت أراضي النواحي تُصبِحُ بيضاءَ من كثرة الجليد، وهَلَك من شدَّة البرد جماعةٌ من بلاد الصعيد وغيرها، وأمطرت السماءُ خمسةَ أيام متواليةً حتى ارتفع الماءُ في مزارعِ القصب قَدْرَ ذراعٍ، وعَمَّ ذلك أرض مصر قَبليَّها وبحريَّها، ففسدت بالريحِ والمطر مواضِعُ كثيرة، وقلَّت أسماكُ بحيرة نستراوة وبحيرة دمياط، والخلجان وبركة الفيل وغيرها؛ لِمَوتها من البرد، فتَلِفَت في هذه السنة بعامَّةِ أرض مصر وجميع بلاد الشام- بالأمطار والثلوج والبرد، وهبوب السمائم وشدة البرد- من الزُّروعِ والأشجار، والبائهم والأنعام والدور؛ ما لا يدخُلُ تحتَ حَصرٍ، مع ما ابتليَ به أهل الشام من تجريد عساكِرِها وتسخيرِ أهلِ الضياع وتسَلُّط العربان والعشير، وقِلَّة حُرمة السلطنة مصرًا وشامًا، وقطع الأرزاق وظُلم الرعيَّة.
قام التحالفُ الشماليُّ المعارضُ لحركة طالبان بتعيينِ بُرهان الدين ربَّاني رئيسًا لأفغانستانَ، وهو ثاني رئيس في كابولَ بعد سقوطِ الحكم الشيوعي فيها في إبريل 1992م، وكان قد خرج من كابول في 26 سبتمبر 1996م، على يد حركة طالبان، وظلَّ ينتقلُ في ولايات الشمال التابعةِ له. ويُعَدُّ ربَّاني أحدَ أبرز زعماء تحالُف المعارَضة الشمالي السياسيِّين، والمعارِض لطالبان.
ربَّاني من مواليد 1940م في مدينة فيض آباد مركز ولاية بدخشان، يَنتمي إلى قبيلةِ اليفتليين ذاتِ العِرقية الطاجيكية السُّنية، التحقَ بـمدرسة أبي حنيفة بكابول، وبعد تخرُّجه من المدرسة انضمَّ إلى جامعة "كابول" في كلية الشريعة عام 1960م، وتخرَّج فيها عامَ 1963م، وعُيِّن مدرسًا بها في عام 1966م، والتحق بجامعة الأزهر، وحصل منها على درجة الماجستير في الفلسفة الإسلامية، وعاد بها إلى جامعة كابول ليدرسَ الشريعة الإسلامية، واختارته الجمعية الإسلامية ليكونَ رئيسًا لها عام 1972م، وفي عام 1974م، حاوَلَت الشرطة الأفغانية اعتقالَه من داخل الحرم الجامعي، ولكنْ نجح في الهروب إلى الريف بمساعدة الطلبة.
لم يحظَ ربَّاني بآراء الناخِبينَ لقيادة الحركة الإسلامية في الانتخابات التي أُجْريت خارجَ أفغانستانَ عامَ 1977م، وهو ما أدَّى إلى انشقاق في الحركة الإسلامية التي انقسَمَت إلى حِزْبينِ: "الحزب الإسلامي" الذي كان يقودُه حكمتيار، و"الجمعية الإسلامية" التي كان يقودُها ربَّاني.
هو الحُسين بن منصور بن محمى الحلَّاج أبو مغيث، ويقالُ أبو عبد الله، كان جَدُّه مَجوسيًّا اسمُه محمى من أهل فارس، ونشأ بواسط، ويقال بتُستر، ودخل بغداد وتردَّدَ إلى مكة وجاور بها في وسطِ المسجدِ في البَردِ والحَرِّ، مكث على ذلك سنواتٍ متفرقةً، وكان يصابِرُ نَفسَه ويُجاهدُها، وقد صَحِبَ جماعةً من سادات المشايخ الصوفيَّة، كالجُنَيد بن محمد، وعمرِو بن عثمان المكي، وأبي الحسين النوري، قال الخطيبُ البغدادي: "والصوفيَّةُ مختَلِفون فيه، فأكثَرُهم نفى أن يكونَ الحلَّاج منهم، وأبى أن يَعُدَّه فيهم، وقَبِلَه مِن متقَدِّميهم أبو العبَّاس بن عطاء البغدادي، ومحمد بن خفيف الشيرازي، وإبراهيم بن محمد النصراباذي النيسابوري، وصَحَّحوا له حالَه، ودوَّنوا كلامَه، حتى قال ابن خفيف: الحُسين بن منصور عالمٌ ربَّاني، وقال الخطيب: والذين نَفَوه من الصوفية نسبوه إلى الشَّعبذة في فِعلِه، وإلى الزَّندقة في عقيدتِه، وله أصحابٌ يُنسَبون إليه، ويَغلُونَ فيه. وكان للحلاجِ حُسنُ عبارة، وحَلاوةُ منطقٍ، وشعرٌ على طريقةِ التصوُّفِ"، فأمَّا الفقهاء فحُكِيَ عن غيرِ واحدٍ من العلماء والأئمة إجماعُهم على قتلِه، وأنَّه قُتِل كافِرًا، وكان كافرًا مُمخرَقًا مُمَوِّهًا مشعبِذًا، وبهذا قال أكثَرُ الصوفيةِ فيه، وقال سفيان بن عيينة: "من فسَدَ مِن عُلَمائنا كان فيه شبَهٌ من اليهود، ومن فسدَ مِن عُبَّادِنا كان فيه شبَهٌ من النصارى، ولهذا دخلَ على الحلَّاجِ الحُلولُ والاتِّحادُ، فصار من أهل الانحلالِ والانحرافِ"، وقد روِيَ من وجهٍ أنَّه تقلَّبَت به الأحوالُ وترَدَّدَ إلى البلدان، وهو في ذلك كلِّه يُظهِرُ للناس أنَّه من الدعاة إلى الله عزَّ وجلَّ، وصحَّ أنَّه دخل إلى الهند وتعلَّمَ بها السحرَ، وقال: أدعو به إلى الله، وكان أهلُ الهند يكاتِبونَه بالمُغيثِ- أي أنَّه مِن رجالِ المُغيث - ويكاتِبُه أهل تركستان بالمقيتِ، ويكاتبه أهل خراسان بالمميز، وأهل فارس بأبي عبد الله الزَّاهد، وأهل خوزستان بأبي عبد الله الزاهد حلَّاج الأسرار، ومما يدلُّ على أنه كان ذا حلولٍ في بدء أمره أشياءُ كثيرة، منها شعرُه في ذلك، فمن ذلك قولُه: "جبلت روحَك في روحي كما * يجبل العنبرُ بالمسك الفنق فإذا مسَّكَ شيءٌ مَسَّني * وإذا أنت أنا لا نفترق. وقوله: مُزِجَت روحُك في روحي كما * تُمزَجُ الخمرة بالماء الزلال، فإذا مسَّكَ شيءٌ مسَّني * فإذا أنت أنا في كلِّ حال"، وقد كان الحلاج يتلوَّنُ في ملابسِه، فتارةً يلبَسُ لباس الصوفية وتارة يتجَرَّدُ في ملابس زريَّة، وقد اتفق علماءُ بغداد على كُفرِ الحلَّاج وزندقتِه، وأجمعوا على قَتلِه وصَلبِه. حين أُحضِرَ الحَلَّاجُ في المرة الأولى سُئل عنه أبو بكر محمَّد بن داود الظاهريُّ- قبل وفاة- فقال: "إن كان ما أنزل اللهُ على نبيِّه صلَّى الله عليه وسلَّم حقًّا فما يقولُه الحلَّاجُ باطِلٌ" وكان شديدًا عليه، وقال أبو بكر الصولي: "قد رأيت الحلَّاجَ وخاطبتُه، فرأيته جاهلًا يتعاقلُ، وغبيًّا يتبالَغُ، وخبيثًا مُدَّعِيًا، وراغبًا يتزهَّدُ، وفاجِرًا يتعَبَّدُ"، قال الخطيب البغدادي وغيرُه في صفةِ مَقتَلِ الحَلَّاج: كان الحلَّاجُ قد قَدِمَ آخَرَ قَدْمةٍ إلى بغداد فصَحِبَ الصوفية وانتسب إليهم، وكان الوزيرُ إذ ذاك حامِدَ بن العباس، فبلغَه أنَّ الحلَّاجَ قد أضلَّ خَلقًا من الحَشَم والحُجَّاب في دار السلطان، ومِن غِلمان نصر القشوري الحاجب، وجعل لهم في جملةِ ما ادَّعاه أنَّه يحيي الموتى، وأن الجِنَّ يخدُمونه ويُحضِرونَ له ما شاء ويختار ويشتهيه. وقال: إنَّه أحيا عدَّةً مِن الطيرِ"، وذُكِرَ لعلي بن عيسى أنَّ رجلًا يقال له محمد بن علي القنائي الكاتِبُ يعبُدُ الحلَّاج ويدعو الناسَ إلى طاعتِه، فطلبه فكبَسَ منزِلَه فأخذه فأقَرَّ أنَّه من أصحاب الحلَّاج، ووجد في منزله أشياءَ بخَطِّ الحلَّاج مكتوبةً بماءِ الذهب في ورقِ الحريرِ مُجَلَّدة بأفخَرِ الجلود، ووجد عنده سفطًا فيه من رجيعِ الحلاجِ وعَذرتِه، وبولِه وأشياء من آثاره، وبقيَّة خبز من زاده، فطلب الوزيرُ من المقتدر أن يتكَلَّمَ في أمر الحلاج ففَوَّضَ أمرَه إليه، فاستدعى بجماعةٍ مِن أصحاب الحلَّاج فتهددهم فاعترفوا له أنَّه قد صح عندهم أنَّه إله مع الله، وأنَّه يحيي الموتى، وأنَّهم كاشَفُوا الحلاجَ بذلك ورَمَوه به في وجهِه، فجحَدَ ذلك وكذَّبهم وقال: "أعوذُ بالله أن أدَّعيَ الربوبيَّة أو النبوَّة، وإنما أنا رجلٌ أعبُدُ اللهَ وأكثرُ له الصوم والصلاة وفِعلَ الخير، لا أعرف غيرَ ذلك، وجعل لا يزيدُ على الشهادتين والتوحيدِ، ويكثر أن يقولَ: سبحانك لا إلهَ إلا أنت، عَمِلتُ سوءًا وظلمتُ نفسي فاغفِرْ لي؛ إنَّه لا يغفر الذنوبَ إلا أنت"، وكانت عليه مدرعةٌ سوداءُ، وفي رجليه ثلاثة عشر قيدًا، والمدرعة واصِلةٌ إلى ركبتيه، والقيودُ واصلةٌ إلى رُكبَتَيه أيضًا، وكان قبل احتياط الوزيرِ حامد بن العباس عليه في حُجرةٍ مِن دار نصر القشوري الحاجب، مأذونًا لِمَن يدخلُ إليه، وكان يسمِّي نفسه تارة بالحسين بن منصور، وتارة محمَّد بن أحمد الفارسي، وجُمِعَ له الفقهاء فأجمعوا على كُفرِه وزندقته، وأنه ساحِرٌ مُمخرقٌ، ورجع عنه رجلانِ صالحانِ ممَّن كان اتبَعَه، أحدُهما: أبو علي هارون بن عبد العزيز الأوارجي، والآخرُ يقال له الدبَّاس، فذكَرا من فضائحِه وما كان يدعو النَّاسَ إليه مِن الكَذِب والفُجورِ والمَخرَقة والسحر شيئًا كثيرًا، وكذلك أُحضِرَت زوجةُ ابنه سليمان فذكَرَت عنه فضائحَ كثيرة، من ذلك أنَّه أراد أن يغشاها وهي نائمةٌ فانتبهت، فقال: قومي إلى الصَّلاةِ؟ وإنما كان يريدُ أن يطأها، وأمَرَ ابنتها بالسجودِ له، فقالت: أوَيسجُدُ البشَرُ لبشرٍ؟ فقال: نعم، إلهٌ في السماء وإلهٌ في الأرض، ثمَّ أمرها أن تأخذَ مِن تحت باريَّة هنالك ما أرادت، فوجدت تحتها دنانيرَ كثيرةً مبدورة، ولما كان آخِرُ مجلسٍ مِن مجالسه أُحضِرَ القاضي أبو عمر محمد بن يوسف وجيءَ بالحلَّاجِ، وقد أحضِرَ له كتابٌ مِن دورِ بعضِ أصحابِه، وفيه: من أراد الحجَّ ولم يتيسَّرْ له، فليبنِ في داره بيتًا لا ينالُه شيءٌ مِن النجاسة ولا يُمكِّن أحدًا من دخولِه، فإذا كان في أيَّامِ الحَجِّ، فليصم ثلاثةَ أيَّامٍ ولْيَطُفْ به كما يُطاف، فلما أخرجوه للصَّلبِ مشى إليه وهو يتبختَرُ في مشيته وفي رِجلَيه ثلاثةَ عشر قيدًا، وجعل ينشُدُ ويتمايل ثم قال: (يستعجِلُ بها الذين لا يؤمنونَ بها والذين آمنوا مشفِقونَ منها ويعلمون أنَّها الحقُّ) ثم لم ينطِقْ بعد ذلك حتى فُعِلَ به ما فُعِل، قالوا: ثم قُدِّمَ فضُرِبَ ألفَ سَوطٍ ثمَّ قطعت يداه ورِجلاه، وهو في ذلك كلِّه ساكتٌ ما نطق بكلمةٍ، ولم يتغيَّرْ لونُه، ويقال إنه جعل يقولُ مع كل سوطٍ: أحدٌ أحدٌ، ومنهم من قال: بل جَزِع عند القتلِ جَزعًا شديدًا وبكى بكاءً كثيرًا، فالله أعلم، قال أبو عمر بن حيويه: "لَمَّا أُخرِجَ الحُسَينُ بن منصور الحلَّاج ليُقتَل مَضَيتُ في جملة الناسِ، ولم أزل أزاحِمُ حتى رأيتُه فدنوت منه، فقال لأصحابه: لا يَهولنَّكم هذا الأمر، فإني عائدٌ اليكم بعد ثلاثينَ يومًا، ثم قُتِلَ فما عاد"، وذكر الخطيبُ أنَّه قال وهو يُضرَبُ لمحمَّد بن عبد الصمد والي الشُّرطة:: ادعُ بي إليك؛ فإن عندي نصيحةً تعدل فتحَ القُسطنطينية، فقال له: قد قيل لي إنَّك ستقولُ مثل هذا، وليس إلى رفعِ الضَّربِ عنك سبيل"، ثم قُطِعَت يداه ورجلاه وحُزَّ رأسُه وأُحرِقَت جُثَّتُه، وألقيَ رمادُها في دجلة، ونُصِبَ الرَّأسُ يومين ببغداد على الجسرِ، ثم حُمِلَ إلى خراسان وطِيفَ به في تلك النواحي، وجعل أصحابُه يَعِدون أنفُسَهم برجوعِه إليهم بعد ثلاثين يومًا، وزعم بعضُهم: "أنه رأى الحلَّاجَ مِن آخر ذلك اليوم وهو راكبٌ على حمارٍ في طريق النهروان، فقال: لعلَّك من هؤلاء النفَرِ الذين ظنُّوا أني أنا هو المضروبُ المقتولُ، إنِّي لستُ به، وإنَّما ألقِيَ شَبَهي على رجلٍ ففُعِلَ به ما رأيتَهم، وكانوا بجَهلِهم يقولون: إنَّما قتل عدوٌّ مِن أعداء الحلَّاج، فذُكِرَ هذا لبعض عُلَماء ذلك الزمان، فقال: إن كان هذا الرائي صادقًا، فقد تبدَّى له شيطانٌ على صورةِ الحَلَّاجِ؛ ليُضِلَّ الناسَ به، كما ضَلَّت فرقةُ النَّصارى بالمصلوبِ". ونودي ببغدادَ أنْ لا تُشتَرَى كتبُ الحلَّاج ولا تباع، وكان قتلُه يوم الثلاثاء لسِتٍّ بَقِينَ مِن ذي القَعدة من سنة تسعٍ وثلاثمائة ببغداد.
هو الأمير أبو مسلم عبد الرحمن بن مسلم بن عثمان بن يسار، بن شذوس بن جودرن من ولد بزرجمهر بن البختكان الخراساني الفارسي صاحب الدعوة، وهازم جيوش الدولة الأموية، والقائم بإنشاء الدولة العباسية. وقيل كان اسمه إبراهيم بن عثمان بن يسار غيره بطلب من الإمام إبراهيم بن محمد لمزيد من التخفي. قال الذهبي: "كان أبو مسلم من أكبر الملوك في الإسلام، كان ذا شأن عجيب، ونبأ غريب، من رجل يذهب على حمار بإكاف من الشام حتى يدخل خراسان، ثم يملك خراسان بعد تسعة أعوام، ويعود بكتائب أمثال الجبال، ويقلب دولة، ويقيم دولة أخرى! كان قصيرا، أسمرا، جميلا، حلوا، نقي البشرة، أحور العين، عريض الجبهة، حسن اللحية، طويل الشعر، طويل الظهر، خافض الصوت، فصيحا بالعربية وبالفارسية، حلو المنطق، وكان لا يكاد يقطب في شيء من أحواله، تأتيه الفتوحات العظام، فلا يظهر عليه أثر السرور، وتنزل به الفادحة الشديدة، فلا يرى مكتئبا, وكان إذا غضب، لم يستفزه الغضب, وكان لا يأتي النساء في العام إلا مرة واحدة، يشير إلى شرف نفسه وتشاغلها بأعباء الملك". كان مولده بأصبهان سنة 100, وضعته أمه يتيما فنشأ عند عيسى بن معقل، فلما ترعرع اختلف مع ولده إلى المكتب، فخرج أديباً لبيباً يشار إليه من صغره, وكان راوية للشعر، عارفا بالأمور، لم ير ضاحكا ولا مازحا إلا في وقته. كان بدء أمر أبي مسلم أنه قدم الكوفة جماعة من نقباء العباسيين، فصادفوا أبا مسلم، فأعجبهم عقله ومعرفته وكلامه وأدبه، ومال هو إليهم ثم عرف أمرهم وأنهم دعاة، ثم خرج معهم إلى مكة، فأهدوه للإمام إبراهيم بن محمد، فأُعجب به وبمنطقه وعقله وأدبه، وقال لهم: هذا عضلة من العضل. وأقام أبو مسلم عند الإمام إبراهيم يخدمه حضراً وسفراً. ثم إن النقباء عادوا إلى الإمام إبراهيم وسألوه رجلاً يقوم بأمر خراسان، فقال: إني قد جربت هذا الأصبهاني وعرفت ظاهره وباطنه فوجدته حجر الأرض، ثم دعا أبا مسلم وكان عمره ثمان عشر سنة وقلده الأمر وأرسله إلى خراسان, فأخذ يدعو الناس إلى رجل من بني هاشم وأقام على ذلك سنين, وبعد مقتل الإمام إبراهيم بن علي صار أبو مسلم يدعو الناس إلى أبي العباس عبد الله بن محمد الملقب السفاح. حتى مكن للعباسيين وقضى على الأمويين في الشرق وكان سفاكا للدماء قال ابن خلكان: "قتل أبو مسلم في دولته ستمائة ألف صبراً. قيل لعبد الله بن المبارك: أبو مسلم خير أو الحجاج قال: لا أقول إن أبا مسلم خيراً من أحد، ولكن الحجاج كان شراً منه", وقال الذهبي: "كان أبو مسلم سفاكا للدماء، يزيد على الحجاج في ذلك، وهو أول من سن للعباسيين لبس السواد, وكان بلاء عظيما على عرب خراسان، فإنه أبادهم بحد السيف". قال أحمد بن سيار: حدثنا الحسن بن رشيد العنبري، سمعت يزيد النحوي يقول: "أتاني إبراهيم بن إسماعيل الصائغ، فقال لي: ما ترى ما يعمل هذا الطاغية، إن الناس معه في سعة، غيرنا أهل العلم؟ قلت: لو علمت أنه يصنع بي إحدى الخصلتين لفعلت، إن أمرت ونهيت يقيل أو يقتل، ولكني أخاف أن يبسط علينا العذاب، وأنا شيخ كبير، لا صبر لي على السياط. فقال الصائغ: لكني لا أنتهي عنه. فذهب، فدخل عليه، فأمره ونهاه، فقتله" وكان أبو مسلم يجتمع قبل أن يعلن بدعوة العباسيين بإبراهيم الصائغ، ويعده بإقامة الحق, فلما ظهر وبسط يده، دخل عليه، فوعظه فقتله". لما خشي المنصور من خطر أبي مسلم على دولته قرر التخلص منه, وكان المنصورُ قد غضِبَ عليه لعدَّةِ أمورٍ؛ منها: أنَّه تقدَّمَ عليه في الحجِّ، وأكثَرَ مِن النفقةِ حتى قيل فيه ما قيل، ثم إنَّه خافه بعد أن صار أمرُه في خراسان قويًّا، فبعد أن هزمَ أبو مسلم جيش عبد الله بن علي، أمَرَه المنصور بالعودةِ إليه فأبى، فاحتال له أنَّه يوليه الشامَ ومصرَ فأبى عليه كلَّ ذلك، وأرسل له رسلًا وكُتُبًا، كلُّ ذلك وهو يأبى الرجوعَ؛ حيثُ شعر أنَّ هناك مكيدةً، ومن ذلك أن المنصور كاتب أبا مسلم ليقدم عليه، فكتب إليه أبو مسلم: "إنه لم يبق لك عدو إلا أمكنك الله منه، وقد كنا نروي عن ملوك آل ساسان: إن أخوف ما يكون الوزراء إذا سكنت الدهماء، فنحن نافرون من قربك، حريصون على الوفاء بعهدك ما وفيت، فإن أرضاك ذلك، فأنا كأحسن عبيدك، وإن أبيت نقضت ما أبرمت من عهدك، ضنا بنفسي، والسلام" فرد عليه الجواب يطمئنه ويمنيه، وكان المنصور داهية وقته، ثمَّ لَمَّا جاءه الخبَرُ أن المنصورَ سيقاتِلُه بنفسه إن أبى الرجوعَ إليه، عاد، وقيل: إنَّه قيل له أن يقتُلَ المنصور قبل أن يقتُلَه، لكنَّ المنصور احتال عليه وأمرَ بعضَهم بالاختباءِ وراء الستورِ، فإذا صفق بيده انقضُّوا عليه، فدعاه المنصور على غدائِه وعاتبه على أفعالِه، وكل ذلك يعتذِرُ أبو مسلم ويقَبِّلُ يدَه، ولكنه لم يرضَ عنه حتى صفق بيدِه، فخرجوا وقتلوه، فكانت تلك نهايةَ أبي مسلم الخراساني، الذي كان له الأثَرُ الكبيرُ في توطيدِ دعائمِ الدَّعوة العباسيَّة. قتله المنصور وله من العمر سبع وثلاثون سنة. قال الذهبي: " فرحنا بمصير الأمر إلى بني العباس، ولكن والله ساءنا ما جرى؛ لما جرى من سيول الدماء، والسبي، والنهب فإنا لله وإنا إليه راجعون فالدولة الظالمة مع الأمن وحقن الدماء، ولا دولة عادلة تنتهك دونها المحارم، وأنى لها العدل؟ بل أتت دولة أعجمية خراسانية جبارة، ما أشبه الليلة بالبارحة " وقال: "وقد كان بعض الزنادقة، والطغام من التناسخية، اعتقدوا أن الباري سبحانه وتعالى حل في أبي مسلم الخراساني المقتول، عندما رأوا من تجبره، واستيلائه على الممالك، وسفكه للدماء، فأخبار هذا الطاغية يطول شرحها". لما قُتل أبو مسلم الخرساني، خرج بخراسان سنباذ للطلب بثأر أبي مسلم، وكان سنباذ مجوسيا، فغلب على نيسابور والري، وظفر بخزائن أبي مسلم، واستفحل أمره, فجهز المنصور لحربه جمهور بن مرار العجلي، في عشرة آلاف فارس، فانهزم سنباذ، وقتل من عسكره نحو من ستين ألفا، وعامتهم كانوا من أهل الجبال، فسبيت ذراريهم، ثم قتل سنباذ بأرض طبرستان.
في شهر جمادى الأولى كانت الفتنة الكبيرة بمدينة تعز من بلاد اليمن؛ وذلك أن الملك المنصور عبد الله بن أحمد لما توفي في جمادى الأولى السنة الفائتة، أقيم بعده أخوه الملك الأشرف إسماعيل بن أحمد الناصر بن الملك الأشرف إسماعيل بن عباس، فتغيَّرت عليه نيات الجند كافةً؛ من أجل وزيره شرف الدين إسماعيل بن عبد الله بن عبد الرحمن بن عمر العلوي، نسبةً إلى علي بن بولان العكي؛ فإنه أخَّر صرف جوامكهم -مخصَّصاتهم- ومرتَّباتهم، واشتد عليهم، وعنف بهم، فنفرت منه القلوب، وكثُرت حُسَّاده؛ لاستبداده على السلطان، وانفراده بالتصرف دونه، وكان يليه في الرتبة الأمير شمس الدين علي بن الحسام، ثم القاضي نور الدين علي المحالبي مشد -ضابط- الاستيفاء، فلما اشتد الأمر على العسكر وكثرت إهانة الوزير لهم، واطِّراحه جانبهم، ضاقت عليهم الأحوال حتى كادوا أن يموتوا جوعًا، فاتفق تجهيز خزانة من عدن، وبرز الأمر بتوجه طائفة من العبيد والأتراك لنقلِها، فسألوا أن يُنفَق فيهم أربعة دراهم لكلٍّ منهم يرتفق بها، فامتنع الوزير ابن العلوي من ذلك، وقال: ليمضوا غصبًا إن كان لهم غرضٌ في الخدمة، وحين وصول الخزانة يكون خير، وإلا ففَسَح الله لهم، فما للدهر بهم حاجة، والسلطان غني عنهم، فهيج هذا القول حفائِظَهم، وتحالف العبيد والترك على الفتك بالوزير، وإثارة فتنة، فبلغ الخبر السلطان، فأعلم الوزير، فقال: ما يسووا شيئًا، بل نشنق كل عشرة في موضع، وهم أعجَزُ من ذلك، فلما كان يوم الخميس تاسع جمادى الآخرة هذا قبيل المغرب، هجم جماعةٌ من العبيد والترك دار العدل بتعز، وافترقوا أربع فرق؛ فرقة دخلت من باب الدار، وفرقة دخلت من باب السر، وفرقة وقفت تحت الدار، وفرقة أخذت بجانب آخر، فخرج إليهم الأمير سنقر أمير جندار، فهبروه بالسيوف حتى هلك، وقتلوا معه علي المحالبي مشد المشدين، وعدة رجال، ثم طلعوا إلى الأشرف -وقد اختفى بين نسائه وتزيَّا بزيهن- فأخذوه ومضوا إلى الوزير ابن العلوي، فقال لهم: ما لكم في قتلي فائدة؟ أنا أنفق على العسكر نفقة شهرين، فمضوا إلى الأمير شمس الدين علي بن الحسام بن لاجين، فقبضوا عليه، وقد اختفى، وسجنوا الأشرف وأمَّه وحظيَّته في طبقة المماليك، ووكلوا به، وسجنوا ابن العلوي الوزير وابن الحسام قريبًا من الأشرف، ووكلوا بهما، وقد قيدوا الجميع، وصار كبير هذه الفتنة برقوق من جماعة الترك، فصعد هو في جماعة ليُخرِجَ الظاهر يحيى بن الأشرف إسماعيل بن عباس من مدينة ثعبات بتعز، فامتنع أمير البلد من الفتح ليلًا، وبعث الظاهر إلى برقوق بأن يتمهَّل إلى الصبح، فنزل برقوق ونادى في البلد بالأمان والاطمئنان والبيع والشراء، والأخذ والعطاء، وأن السلطان هو الملك الظاهر يحيى بن الأشرف، هذا وقد نهب العسكر عند دخولهم دار العدل جميعَ ما في دار السلطان، وأفحَشوا في نهبهم، فسلبوا الحريم ما عليهن، وانتهكوا ما حرَّم الله، ولم يَدَعوا في الدار ما قيمتُه الدرهم الواحد، وأخذوا حتى الحُصُر، وامتلأت الدار وقت الهجمة بالعبيد والترك والعامة، فلما أصبح يوم الجمعة عاشره اجتمع بدار العدل الترك والعبيد، وطلبوا بني زياد وبني السنبلي والخدم، وسائر أمراء الدولة والأعيان، فلما تكامل جمعهم ووقع بينهم الكلام فيمن يقيموه، قال بنو زياد: ما تمَّ غير يحيى، فاطلَعوا له هذه الساعة، فقام الأمير زين الدين جياش الكاملي والأمير برقوق، وطلعا إلى مدينة ثعبات في جماعة من الخدام والأجناد، فإذا الأبوابُ مغلقة، وصاحوا بصاحب البلد حتى فتح لهم، ودخلوا إلى القصر، فسلموا على الظاهر يحيى بالسلطنة وسألوه أن ينزل معهم إلى دار العدل، فقال: حتى يصل العسكر أجمع، ففكُّوا القيد مِن رِجلَيه، وطلبوا العسكرَ بأسرِهم، فطلعوا بأجمعهم، وأطلعوا معهم بعشرة جنائب من الإسطبل السلطاني في عدة بغال، فتقدَّم الترك والعبيد وقالوا للظاهر: لا نبايعك حتى تحلفَ لنا أنَّه لا يحدث علينا منك سوءٌ بسبب هذه الفعلة، ولا ما سبقَ قبلها،، فحلف لهم ولجميع العسكر، وهم يعيدون عليه الأيمانَ، ويتوثَّقون منه، وذلك بحضرة قاضي القضاة موفق الدين علي بن الناشري، ثم حلفوا له على ما يحبُّ ويختار، فلما انقضى الحلف، وتكامل العسكر، ركب ونزل إلى دار العدل في أهبة السلطنة، فدخلها بعد صلاة الجمعة، فكان يومًا مشهودًا، وعندما استقر بالدار أمر بإرسال ابن أخيه الأشرف إسماعيل إلى ثعبات، فطلعوا به، وقيدوه بالقيد الذي كان الظاهر يحيى مُقيَّدًا به، وسجنوه بالدار التي كان مَسجونًا بها، ثم حُمل بعد أيام إلى الدملوه، ومعه أمه وجاريته، وأنعم السلطان الملك الظاهر يحيى على أخيه الملك الأفضل عباس بما كان له، وخلع عليه وجعله نائب السلطة كما كان في أول دولة الناصر، وخمدت الفتنة، وكان الذي حرَّك هذا الأمر بني زياد، فقام أحمد بن محمد بن زياد الكاملي بأعباء هذه الفتنة، لحنقه على الوزير ابن العلوي؛ فإنه كان قد مالأ على قتل أخيه جياش، وخذل عن الأخذ بثأره وصار يمتَهِنُ بني زياد، ثم ألزم الوزير ابن العلوي وابن الحسام بحمل المال، وعُصِرا على كِعابهما وأصداغهما، ورُبطا من تحت إبطهما، وعُلِّقا منكسَينِ، وضُرِبا بالشيب والعصا، وهما يوردان المال، فأُخِذَ من ابن العلوي -ما بين نقد وعروضٍ- ثمانون ألف دينار، ومن ابن الحسام ثلاثون ألف دينار، وظهر من السلطان نبل وكرم وشهامة ومهابة، بحيث خافه العسكر بأجمعهم؛ فإن له قوة وشجاعة، حتى إن قوسه يعجز من عندهم من الترك عن جَرِّه، وبهذه الحادثة اختَلَّ مُلكُ بني رسول.
هو أبو عُبادةَ الوليدُ بنُ عبيدِ بنِ يحيى الطائي البُحتري المنبجي القحطاني، صاحِبُ الديوان المعروف، شاعرٌ كبيرٌ يقال لِشعِرِه سلاسِلُ الذَّهَبِ، كان أحدَ أشعَرِ أهلِ عَصرِه، وُلِدَ بمَنبج إحدى قرى حلب عام 206ه وهو أحدُ الثلاثة الذين كانوا أشعَرَ أبناءِ عَصرِهم: هو، والمتنَبِّي، وأبو تمَّام، قيل إنَّ أبا تمام لَمَّا سمع شِعرَه قال: نُعِيَت إليَّ نَفسي، رحلَ البُحتري إلى العراق متكسِّبًا بشِعرِه، فكان يمدحُ ويهجو على حسَبِ ذلك، اتُّهِم بالبخلِ وقِلَّة الوفاء؛ بسبب ذلك التقلُّبِ بالمديح والهجاء، أمَّا شِعرُه فغلب عليه الوصفُ وسُهولةُ التراكيبِ، مع براعةٍ في الوصف والخيال، اعتزل في آخِرِ أيامِه في مدينة مولده منبج، حتى مات فيها عن 78 عامًا.
أمَرَ الخليفةُ القادِرُ بالله بالبيعةِ لِوَلَدِه أبي الفَضلِ بولايةِ العَهدِ، وأحضَرَ حُجَّاجَ خُراسان وأعلَمَهم ذلك، وكان سبَبُ هذه البيعةِ أنَّ رَجُلًا يقال له عبدُ الله بن عثمان الواثقيُّ من ولَدِ الواثِقِ بالله أحدِ الخُلَفاء السَّابقين، كان مِن أهلِ نصيبينَ، ذهَبَ إلى بعضِ الأطرافِ من بلادِ التُّركِ، وادَّعى أنَّ القادِرَ بالله جعَلَه وليَّ العَهدِ مِن بَعدِه، فخَطَبوا له هنالك، فلمَّا بلغ القادِرَ أمرُه عَظُمَ عليه، فبَعَث يتطَلَّبُه فهرب في البلادِ وتمَزَّق، ثم أخذه محمودُ بن سبكتكين فسَجَنَه في قلعةٍ إلى أن مات؛ لهذا بادر القادِرُ إلى هذه البيعةِ, فبايع لِوَلدِه أبي الفَضلِ بولاية العهد, ولقَّبَه الغالِبَ باللهِ، وكان عُمرُه حينئذ ثماني سنين وشهورًا.
قام الإنجليزُ بتقسيمِ البنغال إلى قِسمَين غربي وشرقي، وذلك على أساسٍ دينيٍّ بين المسلمين والهندوس، وعارض الهندوس هذا التقسيمَ؛ إذ فقدوا حسَبَ رأيهم السيطرةَ على ولاية مهمةٍ، وعَمَّهم الحزن وأضربوا واجتَمَعوا عند صَنمِهم كالي، إله التدمير -حسب عقليَّتِهم- وتعاهدوا على مقاطعةِ البضائعِ الإنجليزية، وطالب المسلِمون في العام التالي بإجراءِ انتخاباتٍ منفصلة، وتَرْك الانتخابات المشتركة، وذهب وفدٌ منهم لمقابلة نائبِ الملك في مقرِّه الصيفي في سيملا، وقد سُرَّ المسلمون بتقسيم البنغال، إلَّا أن الأمرَ لم يدُمْ طويلًا؛ ففي عام 1329هـ / 1911م أُلغي هذا التقسيمُ على لسان الملك جورج في حفلةِ تتويجه إمبراطورًا في مدينة دلهي؛ ليبقى المسلمون تحت سيطرةِ الهندوس ونفوذِهم.
أبو عبد الله محمد بن عبدالله بن تومرت المصمودي، الهرغي، الخارج بالمغرب. لقَّبه أتباعه بالمهدي، وهو زعيم الموحِّدين ومؤسس دولتهم، قال الذهبي عنه: "المدعي أنه علوي حَسَني، وأنه الإمام المعصوم المهدي، محمد بن عبد الله بن عبد الرحمن بن هود بن خالد بن تمام بن عدنان بن صفوان بن جابر بن يحيى بن رباح بن يسار بن العباس بن محمد بن الحسن بن الإمام علي بن أبي طالب. رحل من السوس الأقصى شابًّا إلى المشرق، فحجَّ وتفقَّه، وحصَّل أطرافًا من العلم، وكان أمَّارًا بالمعروف نهَّاءً عن المنكر، قويَّ النفس، زعرًا شُجاعًا، مَهيبًا قوالًا بالحق، عمَّالًا على المُلك، غاويًا في الرياسة والظهور، ذا هيبة ووقار، وجلالة ومعاملة وتألُّه، انتفع به خلق، واهتدوا في الجملة، وملكوا المدائن، وقهروا الملوك. أخذ عن: الكيا الهراسي، وأبي حامد الغزالي، وأبي بكر الطرطوشي، وجاور سنةً. وكان لهِجًا بعلم الكلام، خائضًا في مزالِّ الأقدام، ألَّف عقيدة لقَّبها (بالمرشدة) فيها توحيد وخير بانحراف، فحمل عليها أتباعه، وسمَّاهم الموحِّدين، ونبز مَن خالف (المرشدة) بالتجسيم، وأباح دمه -نعوذ بالله من الغي والهوى- وكان خَشِن العيشِ فقيرًا، قانعا باليسير، مقتصرًا على زي الفقر، لا لذة له في مأكل ولا منكح،ولا مال، ولا في شيءٍ غير رياسة الأمر، حتى لقي الله تعالى. لكنه دخل -والله- في الدماء لنيل الرياسة المُرْدِية. وكان غرامُه في إزالة المنكر والصدع بالحق، وكان يتبسَّم إلى من لقيه. وله فصاحةٌ في العربية والبربرية، وكان يُؤذى ويُضرَب ويَصبِر، فقَدِمَ المهدية وعليها يحيى بن باديس، فنزل بمسجد مُعلَّق، فمتى رأى منكرًا أو خمرًا كسَّر وبدَّد، فالتفَّ عليه جماعة، واشتغلوا عليه، فطلبه ابنُ باديس، فلما رأى حاله وسمع كلامه، سأله الدعاء، فقال: أصلحك اللهُ لرعيتك. وسار إلى بجاية، فبقي ينكر كعادته، فنُفي، فذهب إلى قرية ملالة، فوقع بها بعبد المؤمن وكان أمرد عاقلًا، فقال: يا شابُّ، ما اسمك؟ قال: عبد المؤمن. قال: الله أكبر، أنت طلبتي، فأين مقصدك؟ قال: طلب العلم. قال: قد وجدتَ العِلمَ والشرف، اصحَبْني. ونظر في حِليتِه، فوافقت ما عنده, وكان في صحبته الفقيه عبد الله الونشريسي، وكان جميلًا نحويًّا، فاتفقا على أن يُخفيَ عِلمَه وفصاحته، ويتظاهرَ بالجَهلِ واللَّكنِ مدةً، ثم يجعَلَ إظهار نفسه معجزةً، ففعل ذلك، ثم عمد إلى ستة من أجلاد أتباعه، وسار بهم إلى مراكش، وهي لابن تاشفين، فأخذوا في الإنكار، فخوَّفوا المَلِك منهم، لكنه لم يسمع منهم لما رأى فيه الديانة", حدثت بينه وبين المرابطين معارك، وكان على مقربة من مراكش، وقد مرض ابن تومرت بعد هذه الوقعة وتوفي في مدينة تينملل من بلاد السوس، وكان مرشحه للخلافة بعده عبد المؤمن.
هو مصطفى كمال أتاتورك الملقَّب بالغازي؛ رئيس الجهورية التركية، وكلمة أتاتورك، تعني: أبو الأتراك، وهو الذى أسقط الخلافةَ الإسلاميةَ سنة 1343ه / 1924م. ولِدَ مصطفى كمال عام 1296هـ في مدينة سالونيك اليونانية وكانت تابعة للدولة العثمانية، من أمٍّ تدعى زبيدة، ونُسِبَ في بداية الأمر إلى زوج أمه علي رضا الذي لم يلبث أن توفِّي، ولم يتجاوز ربيبُه مصطفى الثامنةَ من العمر، وكانت زبيدة مُستهترة، وتمكَّنَت من تأمين زوجٍ لها، فغَضِبَ ولدها مصطفى منها، وترك البيتَ وذهب إلى بيت أخت علي رضا زوج أمه السابق، ودرس في المدارس الحربية في سالونيك، ومناستر، ثم التحق بالكلية الحربية في استانبول وتخرَّج منها، ثم تخرَّج من كلية الأركان برتبة رائد عام 1333هـ، وألَّف جمعية الوطن والحرية في الشام مع بعض المنفيِّين إليها، وكان يتدرَّبُ في لواء الفرسان، وعندما تمَّ تدريبُه عُيِّنَ في يافا غيرَ أنَّه هرب إلى مصر، ومنها انتقل بحرًا إلى سالونيك، واستطاع أن يجد وسيلةً لتعيينه هناك عن طريق الارتباطات التي أصبحت له، وعَمِلَ لجمعيته التي لم تلبَثْ أن انضمَّت إلى جمعية الاتحاد والترقي، ولم يستطِع البروزَ والظهور فيها؛ لأن أعضاءها لم يحترموه؛ لاستهتاره بالقِيَمِ، وانقطاعه إلى الأماكن الموبوءة من حانات، ومحلات للفجور؛ لذا فقد حقد عليهم أيضًا، ويبدو أنه كان على صلةٍ بجهة لها إمكاناتُها ولها نفوذها توجِّهُه وتحميه وترسُم له وتمَنِّيه وتعِدُه بأعلى منصب، أرسله أنور باشا وزير الحربية إلى طرابلس للقضاءِ على ثورة هناك، لكنه هرب من ليبيا، ثم أُرسِلَ ملحَقًا إلى بلغاريا قضى أيامَه في الخمور والمجون، ولَمَّا اندلعت الحرب العالمية الأولى كان يشتركُ حسب الحاجة تحت إمرة أحد القادة الألمان. وبعد الحرب وتوقيع هدنة مودروس بدأ الإنجليزُ في تهيئة مصطفى كمال لإسقاط الخلافة العثمانية، وإقامة دولة تركيا العلمانية الحديثة، وقد نجحَت في صناعته حتى كان كمال أشَدَّ عداء للإسلام والمسلمين من اليهودِ والنصارى! وفَعَل في تركيا مالم تفعَلْه جيوشُهم مجتمعةً، فما إن تولَّى رئاسة الجمهورية التركية حتى شَنَّ حربًا لا هوادةَ فيها على الإسلام والمسلمين، وفرض إجراءاتِ عَلْمَنة تركيا وفَصْلِها عن الإسلام والمسلمين بقوَّة النظام والسلاح؛ فقد كان هذا الديكتاتور مثلًا فريدًا في القسوة والتنكيل والأنانية المدمِّرة. لقد تجلَّت سياسة أتاتورك العلمانية في برنامج حزبه (حزب الشعب الجمهوري) لعام 1349هـ مرة، وعام 1355هـ مرة ثانية، والتي نصَّ عليها الدستور التركي، وهي المبادئُ الستة التي رُسِمَت بشكل ستة أسهُمٍ على علَمِ الحِزبِ، وهي: القومية، الجمهورية، الشعبية، العَلْمانية، الثورة، سلطة الدولة. هلك مصطفى كمال في 18 رمضان 10 نوفمبر 1938م بعد أن أُصيبَ قبل وفاته بسنين بمرضٍ عضال في الكلية لم يُعرَفْ كُنهُه. وكان يتعرَّضُ لآلام مبَرِّحة مزمنة لا تطاق، كانت السببَ في إدمانه على شربِ الخمر؛ مما أدى إلى إصابته بتليف الكبد، والتهاب في أعصابه الطرفية، وتعرُّضه لحالات من الكآبة والانطواء. ولما توفي دُفِنَ بعد تسعة أيام من وفاته بعد أن أمضى أكثَرَ من خمس عشرة سنة في الحكم. ثم جرت الانتخاباتُ وانتُخِبَ عصمت إينونو رئيسًا للجمهورية؛ فهو ثاني رئيس للجمهورية التركية الحديثة.