في ليلةِ أوَّلِ المحَرَّم أخرَجَ مَن في الجُبِّ مِن الأمراء، وقد كان اعتقَلَهم قبل ذلك لأمورٍ رآها منهم، ومنهم من اعتُقِلَ قبل هذا وأُطلِقَ ثمَّ اعتُقِلَ ثانيًا، وهم سنقر الأشقر وجرمك والهاروني وبكتوت وبيبرس وطقصوا ولاجين، وأمر بخَنقِهم أمامَ السلطان، فخُنِقوا بأجمعِهم حتى ماتوا، وتولى خنقَ لاجين الأميرُ قرا سنقر، فلمَّا وضع الوتَرَ في عنقِه انقطع، فقال: "يا خوند، مالي ذنب إلا حميي طقصوا وقد هلك، وأنا أطَلِّقُ ابنته، وكان قرا سنقر له به عناية، فتلطَّف به ولم يعجَلْ عليه، لما أراد الله من أن لاجين يقتُلُ الأشرفَ ويَملِكُ مَوضِعَه، وانتظر أن تقَعَ به شفاعة، فشفَعَ الأمير بدر الدين بيدرا في لاجين، وساعَدَه مَن حضر من الأمراء، فعفا عنه ظنًّا أنه لا يعيشُ!
وقع حِلفُ الفُضولِ في الشَّهرِ الحرامِ, تَداعتْ إليهِ قبائلُ من قُريشٍ, بَنو هاشمٍ، وبَنو المطَّلبِ، وأسدُ بنُ عبدِ العُزَّى، وزُهْرَةُ بنُ كِلابٍ، وتَيْمُ بنُ مُرَّةَ، فاجتمعوا في دارِ عبدِ الله بنِ جُدْعانَ التَّيميِّ؛ لِسِنِّه وشَرفِه، فتعاقدوا وتعاهدوا على ألَّا يجدوا بمكَّة مظلومًا من أهلِها وغيرِهم من سائرِ النَّاس إلَّا قاموا معه، وكانوا على مَن ظلمهُ حتَّى تُرَدَّ عَليهِ مَظلمتُه، وشهِد هذا الحِلفَ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم وقال عنه: (لقد شَهِدتُ في دارِ عبدِ الله بنِ جُدْعانَ حِلفًا ما أحبُّ أنَّ لي بهِ حُمْرَ النَّعَمِ، ولو أُدْعى بهِ في الإسلامِ لأَجبتُ). وهذا الحِلفُ تُنافي رُوحهُ الحَميَّة الجاهليَّة التي كانت العصبيَّة تُثيرها، ويُقال في سببِ هذا الحِلفِ: إنَّ رجلًا من زُبَيْد قَدِم مكَّةَ ببِضاعةٍ، واشتراها منه العاصُ بنُ وائلٍ السَّهميُّ، وحَبس عنه حقَّه، فاستعدى عليهِ الأَحلافَ عبدَ الدَّارِ ومَخزومًا، وجُمَحًا, وسَهْمًا وعَدِيًّا فلم يَكترِثوا له، فَعَلَا جبلَ أبي قُبَيْسٍ، ونادى بأشعارٍ يصِف فيها ظلامتَه رافعًا صوتَه، فمشى في ذلك الزُّبيرُ بنُ عبدِ المطَّلب، وقال: ما لهذا مَتْرَكٌ. حتَّى اجتمعوا فعقدوا الحِلفَ الذي عُرف بحِلفِ الفُضولِ, ثمَّ قاموا إلى العاصِ بنِ وائلٍ فانتزعوا منه حَقَّ الزُّبيديِّ. وسببُ تَسميتِه بهذا الاسمِ: أنَّ ثلاثةً من قبيلةِ جُرْهُمَ هُم: الفضلُ بنُ فَضالةَ، والفضلُ بنُ وَداعةَ، والفضلُ بنُ الحارثِ؛ قد عقدوا قديمًا نظيرًا لهذه المُعاهدةِ، فلمَّا أَشبهَ فعلُ القُريشيِّين فعلَ هؤلاء الجُرهُميِّين الأُوَلِ المُسَمَّوْنَ جميعًا بالفضلِ سُمِّيَ الحِلفُ: حِلفُ الفُضولِ.
هو الإمام، الفقيه الحافِظٌ، عالم الوقت، أبو عثمان ويقال: أبو عبد الرحمن ربيعةُ بنُ أبي عبد الرحمن فروخ القرشي، التيمي مولاهم، المشهور بربيعة الرأي، من موالي آل المنكدر. أحد أئمة الاجتهاد ومن أوعية العلم. أدرك جماعة من الصحابة رضي الله عنهم, وروى عن أنسِ بن مالكٍ، وعن كثير من التابعين، كان بصيرًا بالرأي، حتى لُقِّبَ بهذا اللقب، عليه تفقَّه الإمام مالك، كان صاحِبَ الفتوى في المدينة، وكان صاحِبَ اجتهادٍ، كريمًا عابدًا، أقدمه السفاح الأنبار ليوليه القضاء, فتوفِّي فيها, وقيل توفي بالمدينة, وطلبه المنصورُ للقضاءِ. قال الإمام مالكٌ: ذهَبَت حلاوةُ الفِقهِ منذ مات ربيعةُ، قال: الشافعي، حدثنا سفيان: كنا إذا رأينا طالبا للحديث يغشى ثلاثة ضحكنا منه: ربيعة، ومحمد بن أبي بكر بن حزم، وجعفر بن محمد؛ لأنهم كانوا لا يتقنون الحديث.
بعد أن استطاع البرتغاليون إغلاق البحر الأحمر بوجه التجارة العربية أرادوا السيطرة على الخليج العربي، وكان أول همهم جزيرة هرمز لمركزها الهام، فبدأت الحملة على الخليج العربي فهاجموا السفن العربية، فأحرقوا في رأس الحد قوارب الصيد، ثم توجهوا إلى قلهات، ومنها إلى قريات التي أبدت مقاومة بطولية، لكن البرتغاليون قتلوهم دون رحمة، فلم يتركوا طفلًا ولا امرأة ولا رجلًا إلا قتلوه، ثم هاجموا مسقط، ذات الموقع المهم فضربوها بالمدافع وأحرقوا أبنيتها ومساجدها وجميع السفن التي كانت راسية على الميناء، مع ما رافق هذا من قتل وانتهاك للحرمات وأُطلق العِنان للجنود البرتغاليين ليسيحوا في مسقط فسادًا، فلم يتركوا أحدًا إلا قتلوه كعادتهم لا طفلًا ولا امرأة، ثم دمروا المدينة بأكملها وأحرقوها، ثم انطلقوا إلى طول الساحل العماني حتى وصلوا إلى خورفكان التي حصل لها ما حصل لسابقتها، ثم إلى رأس مسندم ثم وصلوا هرمز.
في هذه السَّنَةِ مَلَكَ تَميمُ بنُ المُعِزِّ مَدينةَ قابس، وأَخرَجَ منها أَخاهُ عَمْرًا, وسَببُ ذلك أنه كان بها إنسانٌ يُقال له قاضي بن إبراهيمَ بن بلمونه فماتَ، فوَلَّى أَهلُها عليهم عَمرَو بنَ المُعِزِّ، فأَساءَ السِّيرَةَ، وكان قاضي بن إبراهيمَ عاصِيًا على تَميمٍ، وتَميمٌ يُعرِض عنه، فعَصَى عَمرٌو على أَخيهِ كقاضي بن إبراهيم، فأَخرجَ تَميمٌ العَساكِرَ إلى أَخيهِ عَمرٍو لِيَأخُذَ المَدينةَ منه، فقال بَعضُ أَصحابِه: يا مَولانا لمَّا كان فيها قاضي تَوانَيتَ عنه وتَركتَهُ، فلمَّا وَلِيَها أَخوكَ جَرَرتَ إليه العَساكِرَ! فقال: لمَّا كان فيها غُلامٌ مِن عَبيدِنا كان زَوالُه سَهلًا علينا، وأمَّا اليومَ، وابنُ المُعِزِّ بالمَهدِيَّةِ، وابنُ المُعِزِّ بقابس، فهذا ما لا يُمكِن السُّكوتُ عليه.
هو أبو الحسَنِ عليُّ بن الخليفة الناصر لدين الله أحمد بن المستضيء بأمر الله، وهو الأصغر، وكان يلقَّب الملك المعظم، وكان أحبَّ ولدي الخليفة إليه، وقد رشَّحه لولاية العهد بعده، وعزَلَ ولده الأكبر عن ولاية العهدِ؛ لأجل أبي الحسن علي, وكان كريمًا كثير الصدقة والمعروف، حَسَن السيرة، محبوبًا إلى الخاص والعام، وكان سببُ موتِه أنَّه أصابه إسهالٌ فتوفِّيَ، وحَزِنَ عليه الخليفةُ حُزنًا لم يُسمَعْ بمثله، حتى إنه انقطع، ثم أُخرجَ نهارًا، ومشى جميعُ الناس بين يدي تابوتِه إلى تربة جدَّتِه عند قبر معروف الكرخي، فدُفِنَ عندها، ولما أُدخِل التابوت أُغلِقَت الأبواب، وسُمِعَ الصراخ العظيم من داخل التربة، فقيل إن ذلك صوتُ الخليفة, وأمَّا العامة ببغداد فإنَّهم وجدوا عليه وجدًا شديدًا، ودامت المناحات عليه في أقطار بغداد ليلًا ونهارًا، ولم تبق امرأةٌ إلَّا وأظهرت الحزن، وما سُمِعَ ببغداد مثل ذلك في قديمِ الزمانِ وحديثه. وتَرَك أبو الحسن ولدينِ أحدهما المؤيَّد أبو عبد الله الحسين، والموفَّق أبو الفضل يحيى.
كان الحاكِمُ بأمرِ اللهِ العُبَيديُّ حالُه مُضطربةٌ في الجَورِ والعَدلِ، والإخافةِ والأمنِ، والنُّسُك والبِدعة, ومذهَبُه في الرَّفضِ مَعروفٌ. ولقد كان مضطرِبًا فيه، فكان يَأذَنُ في صلاةِ التَّراويحِ ثمَّ ينهي عنها، وكان يرى بعِلمِ النُّجومِ ويُؤثِرُه، ويُنقَلُ عنه أنَّه منع النِّساءَ مِن التصرُّفِ في الأسواقِ، ومنَعَ مِن أكلِ الملوخيَّا. ورُفِعَ إليه أنَّ جماعةً مِن الرَّوافِضِ تعرَّضوا لأهلِ السنَّةِ في التراويحِ بالرَّجمِ، وفي الجنائِزِ، فكتب في ذلك سجِلًّا قُرِئَ على المِنبَرِ بمِصرَ في رمضان، ورَدَ فيه: أمَّا بعدُ، فإنَّ أميرَ المؤمنينَ يتلو عليكم آيةً مِن كِتابِ اللهِ المُبينِ: {لَا إكْرَاهَ فِي الدِّينِ} مضى أمسُ بما فيه، وأتى اليومُ بما يَقتَضيه. معاشِرَ المُسلِمينَ نحنُ الأئِمَّة، وأنتم الأمَّة. لا يحِلُّ قَتلُ مَن شَهِدَ الشَّهادَتينِ ولا يحلُّ عروةً بين اثنين تجمَعُها هذه الأخوَّة، عصم اللهُ بها من عَصَم، وحرَّم لها ما حرَّم، مِن كُلِّ مُحرًّمٍ مِن دمٍ ومالٍ ومَنكَحٍ، الصَّلاحُ والأصلَحُ بين الناسِ أصلَحُ، والفَسادُ والإفسادُ مِن العبَّادِ يُستقبَحُ. يُطوى ما كان فيما مضى فلا يُنشَر، ويُعرَض عَمَّا انقضى فلا يُذكَر. ولا يُقبَلُ على ما مرَّ وأدبَر من إجراءِ الأمورِ على ما كانت عليه في الأيَّام الخاليةِ؛ أيَّامَ آبائِنا الأئمَّة المُهتَدين. سلامُ الله عليهم أجمعين، يصومُ الصَّائِمونَ على حِسابِهم ويُفطِرون، ولا يُعارضُ أهل الرُّؤية فيما هم عليه صائِمون ويُفطِرون، وصلاةُ الخمسين للذين بما جاءهم فيها يُصَلُّون، وصلاةُ الضحى وصلاة التراويح لا مانِعَ لهم منها ولا هم عنها يُدفَعون، ويُخَمِّسُ في التكبير على الجنائِزِ المُخَمِّسون، ولا يُمنَعُ مِن التربيع عليها المُرَبِّعون؛ يُؤذِّنُ بحيَّ على خيرِ العَمَلِ المُؤذِّنون، ولا يُؤذَى مَن بها لا يُؤَذِّنون؛ لا يُسَبُّ أحَدٌ مِن السَّلَف، ولا يُحتَسَب على الواصِفِ فيهم بما يَصِف، والحالِفُ منهم بما حلف؛ لكُلِّ مُسلمٍ مُجتَهِدٍ في دينه اجتهادٌ، وفي يوم عيد الغديرِ مُنِعَ النَّاسُ مِن عَمَلِه". ودَرَسَت كنائِسُ كانت بطريقِ المكس وكنيسة بحارة الرُّوم من القاهرةِ ونُهِبَ ما فيها، وقُتِلَ في هذه الليلة كثيرٌ مِن الخَدَم والصَّقالبة والكُتَّاب، بعد أن قُطِعَت أيديهم بالسَّاطورِ على خشبةٍ مِن وسط الذِّراعِ.
افتَتَح المسلمون وعليهم جُنادةُ بن أبي أُمَيَّة "جَزيرةَ رُودِس" فأقام بها طائفةٌ مِن المسلمين، كانت أشدَّ شيءٍ على الكُفَّار، يَعتَرِضون لهم في البَحرِ ويَقطَعون سَبيلَهم، وكان مُعاوِيَة يَدِرُّ عليهم الأرزاقَ والأُعْطِيات الجَزيلةَ، وكانوا على حَذَرٍ شَديدٍ مِن الفِرنْج، يَبِيتون في حِصْنٍ عَظيمٍ فيه حَوائِجُهم ودَوابُّهُم وحَواصِلُهم، ولهم نَواطِير على البَحرِ يُنذِرونَهُم إن قَدِمَ عَدُوٌّ أو كادَهُم أَحَدٌ، وما زالوا كذلك حتَّى كانت خِلافَة يَزيدَ بن مُعاوِيَة بعدَ أبيهِ، فحَوَّلَهم مِن تلك الجزيرةِ، وقد كانت للمسلمين بها أَموالٌ كثيرةٌ وزِراعاتٌ غَزيرةٌ.
تَراسَل أَهلُ قِنِّسرين مع أَهلِ حِمص وتَزمَّروا واجْتَمَعوا على أبي محمَّد السُّفياني، وهو أبو محمَّد زِيادُ بن عبدِ الله بن يَزيد بن مُعاوِيَة بن أبي سُفيان، فبايَعوه بالخِلافَة، وقام معه نحو مِن أربعين ألفًا فقَصَدهم عبدُ الله بن عَلِيٍّ فالْتقَوا بمَرْج الأخرم، فاقْتَتَلوا مع مُقدِّمَة السُّفياني وعليها أبو الوَرْدِ فاقْتَتَلوا قِتالًا شَديدًا وهَزَموا عبدَ الصَّمد وقُتِلَ مِن الفَريقين أُلوف، فتَقدَّم إليهم عبدُ الله بن عَلِيٍّ ومعه حُميدُ بن قَحْطَبَة فاقْتَتَلوا قِتالًا شديدًا جِدًّا، وجَعَل أصحابُ عبدِ الله يَفِرُّون وهو ثابتٌ هو وحُميد. وما زال حتَّى هُزِمَ أَصحابُ أبي الورد، وثَبت أبو الورد في خَمسمائة فارسٍ مِن أَهلِ بَيتِه وقَومِه، فقُتِلوا جميعًا وهَرَب أبو محمَّد السُّفياني ومَن معه حتَّى لَحِقوا بتَدمُر، وآمنَ عبدُ الله أَهلَ قِنِّسرين وسَوَّدوا وبايَعوه ورَجَعوا إلى الطَّاعة، ثمَّ كَرَّ عبدُ الله راجِعًا إلى دِمَشق وقد بَلغَه ما صَنَعوا، فلمَّا دَنا منها تَفرَّقوا عنها ولم يكُن منهم قِتالٌ فأَمَّنَهم ودَخَلوا في الطَّاعَة. وأمَّا أبو محمَّد السُّفياني فإنَّه ما زال مُضَيَّعًا ومُشَتَّتًا حتَّى لَحِقَ بأَرضِ الحِجاز فقاتَلَه نائِبُ أبي جَعفَر المَنصور في أيَّامِ المنصورِ فقَتلَه وبَعَث بِرَأسهِ وبِابْنَيْنِ له أَخذَهُما أَسِيرَيْنِ فأطْلَقَهُما المنصورُ في أيَّامِه.
تُوفيَ الشيخُ صالحُ بنُ عبدِ الرحمنِ الأطرمُ عضوُ هيئة كبار العلماء، وأستاذُ الدراسات العُليا في قسمِ الفقهِ بكلية الشريعة بجامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية بالرياضِ، إثْرَ مرضٍ مُزمنٍ لازَمَه سنواتٍ عدةً، والشيخُ حصَلَ على الدكتوراه من المعهد العالي للقضاء، وكان يتولَّى تدريسَ مادة الفقه المقارَن بجامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية بالرياضِ، بالإضافةِ إلى تدريسه لطلبة مرحلتَيِ الماجستير والدكتوراه في الكليةِ ذاتِها، وفي المعهد العالي للقضاءِ بالرياضِ، والشيخُ الأطرمُ من مواليد الزلفي، وقد التحَقَ منذ وقتٍ مبكرٍ بحلقاتِ العلماء، حيث تلقَّى العلم على يدِ نُخبةٍ من كبار علماء المملكةِ، وعلى رأسهم فضيلةُ العلَّامةُ الشيخُ محمدُ بن إبراهيم رحمه اللهُ، والشيخُ ابنُ بازٍ، ومن أبرز تلاميذه: الشيخُ عبدُ العزيزِ بنُ عبدِ اللهِ آلَ الشيخ (مفتي عام المملكة)، وفضيلةُ الدكتور عبد الكريم بن عبد الله الخضير، وغيرُهما.
غزا العبَّاسُ بن محمد بن علي بن عبد الله بن عباس الصائفةَ مع صالحِ بنِ علي وعيسى بن علي، وبنوا ما أخربه الرومُ مِن ملطية، ثم غزَوا الصائفةَ من درب الحدثِ، فتوغلوا في أرض الروم، وغزا مع صالحٍ أختاه أم عيسى ولبابة بنتا علي، وكانتا نذَرَتا إن زال مُلكُ بني أميَّة أن تجاهِدا في سبيل الله، وغزا من درب ملطية جعفرُ بن حنظلة المرهاني، وفي هذه السَّنة كان الفداءُ بين المنصور وملك الروم، فاستفدى المنصورُ أسرى قاليقلا وغيرَهم من الروم، وبناها وعمَرها، وردَّ إليها وندب إليها جندًا من أهلِ الجزيرة وغيرهم، فأقاموا بها وحَمَوها
هو المؤيَّدُ إبراهيمُ بن جعفر المتوكِّل على الله، أحدُ وُلاةِ العهد الثلاثة بعد الخليفةِ المتوكِّل: وهم المنتصر بالله، والمعتَزُّ بالله، والمؤيَّد، تمَّ خَلْعُه من ولاية العهد مرتين؛ الأولى: في عهد أخيه المنتصِر؛ حيث قام بخلعِه مع المعتز بضَغطٍ من قادة الأتراك, والثانية: على يد أخيه المعتزِّ بالله؛ حيث تمَّ إجبارُه على خَلعِ نَفسِه من ولاية العهدِ، ومن ثمَّ تمَّ قتلُه في ظروف غامضة, وكانت امرأةٌ من نساء الأتراك قد جاءت إلى محمَّد بن راشد المغربي فأخبَرَته أنَّ الأتراك يريدون إخراج إبراهيمَ المؤيَّد من الحبس، وركب محمد بن راشد إلى المعتز فأعلَمَه ذلك، فدعا بموسى بن بغا فسأله فأنكر، وقال: يا أمير المؤمنين إنما أرادوا أن يُخرِجوا أبا أحمد بن المتوكِّل لأُنسِهم به، وأما المؤيَّد فلا، فلما كان يومُ الخميس لثمانٍ بَقِين من رجبٍ دعا المعتزُّ القضاةَ والفقهاء والشهودَ والوجوه، فأُخرِجَ إليهم إبراهيمُ المؤيَّد ميتًا لا أثر به ولا جُرحَ، وحُمِلَ إلى أمه على حمارٍ، وحُمِلَ معه كفَنٌ وحَنوطٌ، وأُمِرَ بدَفنِه، وحول أبو أحمد إلى الحجرة التي كان فيها المؤيَّد، فيقال غُطِّي على أنفِه فمات، وقيل: أُقعِدَ في الثلج ووُضِعَ على رأسه، وقيل في سبب موتِه أشياء أخرى.
الإمام العلامة البحر شيخ الحنابلة: أبو الوفاء علي بن عقيل بن محمد بن عقيل بن عبد الله البغدادي، الظفري، الحنبلي، المتكلم، صاحب التصانيف، شيخ الحنابلة في زمانه. ولد سنة 431 هـ, وكان يسكن الظفرية -محلة كبيرة بشرقي بغداد- ومسجده بها مشهور. كان إمامًا مُبرزًا في كثير من العلوم، خارق الذكاء قوي الحجة واللسان، اشتغل أول أمره بمذهب المعتزلة واتُّهِم بالانحراف عن مذهب السنة حتى أراد الحنابلة قَتْلَه، ثم أظهر توبته وأعلنها وأشهد عليها وكُتب في ذلك مجلسٌ شهده كبار الفقهاء. قال الذهبي: "أخذ ابن عقيل علم العقليات عن شيخَي الاعتزال أبي علي بن الوليد، وأبي القاسم بن التبان؛ صاحبي أبي الحسين البصري، فانحرف عن السنة، وكان يتوقد ذكاءً، وكان بحر معارف، وكنز فضائل، لم يكن له في زمانه نظير على بدعته". قال أبو طاهر السِّلَفي: "ما رأت عيني مثل أبي الوفاء ابن عقيل الفقيه؛ ما كان أحدٌ يقدر أن يتكلم معه؛ لغزارة علمه، وحسن إيراده، وبلاغة كلامه، وقوة حجته، تكلم يومًا مع شيخنا الكيا أبي الحسن، فقال له الكيا: هذا ليس مذهبك. فقال: أكون مثل أبي علي الجبَّائي، وفلان وفلان لا أعلم شيئًا؟! أنا لي اجتهاد متى ما طالبني خصم بالحجة، كان عندي ما أدفع به عن نفسي وأقوم له بحجتي. فقال الكيا: كذاك الظنُّ بك". قال ابن الجوزي: "جرت فتنة لأجل أبي الوفاء ابن عقيل، وكان أصحابنا قد نقموا عليه تردُّدَه إلى أبي علي بن الوليد؛ لأجل أشياء كان يقولها، وكان في ابن عقيل فطنة وذكاء، فأحب الاطلاع على كل مذهب يقصد ابن الوليد، وقرأ عليه شيئًا من الكلام في السر، وكان ربما تأوَّل بعض أخبار الصفات، فإذا أُنكِر عليه ذلك حاول عنه، واتَّفق أنه مَرِض فأعطى رجلًا ممن كان يلوذ به -يقال له: معالي الحائك- بعض كتبه، وقال له: إن متُّ فأحرِقْها بعدي، فاطلع عليها ذلك الرجل، فرأى فيها ما يدل على تعظيم المعتزلة والترحُّم على الحلاج، وكان قد صنَّف في مدح الحلاج جزءًا في زمان شبابه، وذلك الجزء عندي بخطه، تأوَّل فيه أقواله وأفعاله وفسَّر أسراره، واعتذر له، فمضى ذلك الحائك فأطلع على ذلك الشريف أبا جعفر وغيره، فاشتد ذلك على أصحابنا، وراموا الإيقاعَ به، فاختفى ثم التجأ إلى باب المراتب، ولم يزل في الأمر يختبط إلى أن آل إلى الصلاح في سنة خمس وستين وأربعمائة". وفي يوم الحادي عشر من محرم حضر أبو الوفاء ابن عقيل الديوان ومعه جماعة من الحنابلة واصطلحوا، وكانت نسخة ما كتبه ابن عقيل بخطه ونسب إلى توبته: "بسم الله الرحمن الرحيم، يقول علي بن عقيل بن محمد: إني أبرأ إلى الله تعالى من مذاهب المبتدعة والاعتزال وغيره، ومن صُحبة أربابه، وتعظيم أصحابه، والترحم على أسلافهم، والتكثر بأخلافهم، وما كنت علَّقتُه ووُجد خطي به من مذاهبهم وضلالاتهم فأنا تائب إلى الله تعالى من كتابته، وأنه لا تحل كتابته ولا قراءته ولا اعتقاده". قال ابن عقيل: "عصمني الله في شبابي بأنواع من العصمة، وقصَرَ محبتي على العلم، وما خالطت لعَّابًا قط، ولا عاشرتُ إلا أمثالي من طلبة العلم، وأنا في عشر الثمانين أجِدُ من الحرص على العلم أشدَّ مما كنت أجده وأنا ابن عشرين، وبلغت لاثنتي عشرة سنة، وأنا اليوم لا أرى نقصًا في الخاطر والفكر والحفظ، وحِدَّة النظر بالعين لرؤية الأهِلَّة الخفية إلا أن القوة ضعيفة". برع في الفقه والأصول، وله مصنفات أشهرها: كتاب الفنون، ولكن قيل: إنه لم يتمَّه. ولو تمَّ لأغنى عن كل المؤلفات! وله الرد على الأشاعرة في مسألة الحرف والصوت، وله الواضح في أصول الفقه، والفصول في الفقه الحنبلي، وغيرها. توفي بُكرةَ الجمعة ثاني عشر جمادى الأولى في بغداد عن 82 عامًا. وكان الجمع في الصلاة عليه يفوت الإحصاء؛ "قال ابن ناصر شيخنا: حزرتهم بثلاثمائة ألف. قال المبارك بن كامل: صُلِّي على شيخنا بجامع القصر، فأمَّهم ابن شافع، وكان الجمع ما لا يحصى، وحُمل إلى جامع المنصور، فصُلِّي عليه، وجرت فتنة وتجارحوا، ونال الشيخ تقطيعُ كفنه، ودُفن قريبًا من الإمام أحمد, وقال ابن الجوزي أيضًا فيه: هو فريد فنه، وإمام عصره، كان حسَنَ الصورة، ظاهِرَ المحاسن".
لمَّا بلغَ رسولُ الله صلَّى اللهُ عليه وسلَّم أربعَ عشرةَ سنةً أو خمسَ عشرةَ سنةً هاجت حربُ الفِجارِ بين قُريشٍ ومَن معها مِن كِنانةَ وبين قَيسِ عَيلانَ، وهو من أعظمِ أيَّامِ العربِ، وكان الذي أهاجَها: أنَّ عُروةَ الرَّحَّالَ بنَ عتبة بن ربيعةَ أجارَ لَطيمةً للنُّعمانِ بن المنذرِ، فقال له البَرَّاضُ بنُ قيسٍ -أحدُ بني ضَمْرةَ بنِ بكرِ بنِ عبدِ مناةَ بنِ كنانةَ-: أتُجيرُها على كِنانةَ؟! قال: نعم، وعلى الخَلقِ. فخَرَجَ عُروةُ الرَّحَّالُ وخَرَج البَرَّاضُ يَطلُبُ غَفْلَتَه حتى إذا كان بِتَيْمَنَ ذي ظِلالٍ بالعاليةِ غَفَلَ عُروةُ؛ فوَثَب عليه البَرَّاضُ فقَتَله في الشَّهرِ الحَرامِ؛ فلذلك سُمِّي الفِجارَ؛ فأتى آتٍ قُريشًا فقال: إنَّ البَّرَّاضَ قد قَتَل عُروةَ وهو في الشَّهرِ الحَرامِ بعُكاظٍ، فارتَحَلوا وهوازِنُ لا تشعُرُ، ثم بلغهمُ الخبرُ فاتَّبَعوهم فأدركوهم قبل أن يدخلوا الحرمَ، فاقتتلوا حتى جاء الليلُ ودخلوا الحرمَ فأمسَكَت عنهم هوازِنُ ثم الْتَقَوا بعد هذا اليومِ أيَّامًا عديدةً والقومُ يتساندون، وعلى كلِّ قَبيلٍ من قُريشٍ وكِنانةَ رئيسٌ منهم، وعلى كل قَبيلٍ من قيسٍ رئيسٌ منهم. وشَهِد رسولُ الله صلَّى اللهُ عليه وسلَّم بعضَ أيَّامِهم، وهو يومُ النَّخلةِ، وكان لرسولِ الله صلَّى اللهُ عليه وسلَّم يومئذٍ أربعَ عشرةَ سنةً. ويُقالُ: عِشرون سَنةً.
وبعد مُنصَرَفِهم منه في ذي القِعدةِ كان حِلفُ الفُضولِ، وسببُه: أنَّ رجلًا من زَبيدٍ من أهلِ اليمن باع سلعةً من العاصِ بن وائلٍ السَّهميِّ فمَطَله بالثَّمنِ؛ فصَعِدَ أبا قُبَيسٍ وصاح وذَكَر ظِلامَتَه. فعَقَدت قُريشٌ حِلفَ الفُضولِ لنُصرةِ المظلوم، وقد شَهِد النبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم هذا الحِلفَ معهم.
هو الشيخُ الإمامُ العلَّامة المحَدِّث، إمامُ اللغة رضي الدين أبو الفضائل الحسن بن محمد بن الحسن بن حيدر علي المعروف بالصاغاني، القرشي، العدوي، العمري، الصاغاني الأصل، الهندي اللهوري المولد، البغدادي الوفاة، المكي المدفن، الفقيه الحنفي، صاحب التصانيف. أحد أئمَّة اللغة في القرن السابع الهجري, وكان إليه المنتهى في معرفة اللِّسانِ العربي. وُلِدَ في لاهور بالهند في صفر سنة 577, ونشأ بغزنة من بلاد السند وقدم بغداد، ثم ذهب رسولًا من الخليفة إلى ملك الهند أكثر من مرة، ورحل إلى اليمن، وتوفي ودفن في بغداد بدارِه بالحريم الطاهري، وكان قد أوصى أن يُدفَنَ بمكة، فنُقِلَ إليها ودفن بها. له عدة مؤلَّفات لُغوية، من أشهرها: "العُباب الزاخر" وهو معجم كبير، و"التكملة والذيل والصلة" و"تاج اللغة" و"صحاح العربية".