نزل التتارُ على البيرة، فجهَّز السلطانُ بيبرس مِن فَورِه الأميرَ بدر الدين الخازندار- ممسك خزانة المال- على البريد؛ ليخرج أربعة آلاف فارس من بلاد الشام، وركبَ السلطان من موضِعِه وساق إلى القلعة، وعيَّنَ الأمير عز الدين إيغان المعروف باسم الموت لتقدمةِ العساكر، فخرجوا من القاهرة جرائدَ- خَيْلٌ لا رَجَّالة فيها- في رابع شهر ربيع الأول، ثم عين الأمير جمال الدين المحمدي، والأمير جمال الدين أيدغدي الحاجي، ومعهما أربعة آلاف أخرى، فبرزوا ثانيَ يوم خروجِ الأمير عز الدين إيغان إلى ظاهر القاهرة، وساروا في عاشِرِه، وفي يوم السبت رابع ربيع الآخر: شرع السلطانُ في السفر، وخرج بنفسه في خامس شهر ربيع الآخر ومعه عساكر كثيرة، فوقع فناءٌ في الدواب هلك منها عددٌ كثير، وصارت الأموالُ مطروحة، والسلطانُ لا يقَصِّرُ في المسير، ونزل السلطانُ غزة في العشرين منه، فورد الخبَرُ بأن العدو نصب على البيرة سبعة عشر منجنيقًا، فكتم ذلك ولم يعلم به سوى الأمير شمس الدين سنقر الرومي والأمير سيف الدين قلاوون فقط، وكتب السلطان للأميرِ إيغان: " متى لم تدركوا قلعةَ البيرة وإلَّا سُقتُ إليها بنفسي جريدة، فساق الأمير إيغان العسكر، ورحل السلطان من غزة، ونزل قريبًا من صيداء، وأتاه قسطلان يافا بتقادم، ونزل السلطانُ بيبني في السادس عشر، فورد البريدُ من دمشق بأن بطاقة الملك المنصور صاحب حماة سقطت بأنَّه وصل إلى البيرة بالعساكر، صحبة الأمير عز الدين إيغان وجماعة الأمراء يوم الاثنين، وأن التتارَ عندما شاهدوهم هربوا، ورموا مجانيقَهم وغرقوا مراكِبَهم، وكان من حين كتابتِها بالبيرة إلى حين وصولها يبني أربعة أيام، ثم توالت كتُبُ الأمراء بالبشارة، فكتب بذلك إلى القاهرة وغيرها، وكتب السلطانُ بعمارة ما خُرِّبَ من البيرة، وحمل آلات القتال والأسلحة إليها من مصر والشام، وأن يُعَبَّأ فيها كل ما يحتاجُ إليه أهلها في الحصار لمدة عشر سنين، وكتب للأمراء ولصاحب حماة بالإقامة على البيرة، حتى ينظف الخندق من الحجارة التي ردَمَها العدوُّ فيه، فكان الأمراءُ ينقلون الحجارة على أكتافهم مدة.
هو الشيخ خضر بن أبي بكر المهراني العدوي وهو شيخ السلطان الظاهر بيبرس، كان حظيًّا عنده مُكرَّمًا لديه، له عنده المكانة الرفيعة، كان السلطان ينزل بنَفسِه إلى زاويته التي بناها له في الحُسَينية، في كل أسبوع مرة أو مرتين، وبنى له عندها جامعًا يخطب فيه للجمعة، وكان يعطيه مالًا كثيرًا، ويطلق له ما أراد، ووقف على زاويته شيئًا كثيرًا جِدًّا، وكان معظَّمًا عند الخاص والعام بسبب حبِّ السلطان وتعظيمه له، وكان يمازِحُه إذا جلس عنده، وكان فيه دينٌ وصلاح. كان صاحب حالٍ ونفس قوية، وكان يتكهَّن كحالِ الكهان، وله مكاشفات يخبر بها الظاهِرُ؛ ولهذا كان السلطانُ يقَرِّبُه، أخبر الظاهر بسلطنَتِه قبل وقوعِها، فلهذا كان يعظِّمُه ويزوره ويُطلِعُه على غوامِضِ أسراره ويستصحِبُه في أسفاره، سأله وهو محاصِرٌ أرسوف: متى تؤخَذُ؟ فعين له اليومَ، فوافق ذلك، وكذلك صفد وقيسارية, ولما عاد إلى الكرك سنة خمس وستين استشاره في قَصدِها، فأشار عليه ألَّا يقصدها ويتوجه إلى مصر، فخالفه وتوجَّه فوقع عند بركة زيزا وانكَسَرَت فَخِذُه, وقال في بعلبك والظاهِرُ على حصن الأكراد: يأخذُه السلطان بعد أربعين يومًا، فوافق ذلك. وقد دخل الشيخ خضر مرة كنيسة القمامة بالمقدس فذَبَحَ قِسِّيسَها بيده، ووهب ما فيها لأصحابِه، وكذلك فعَلَ بالكنيسة التي بالإسكندرية وهي من أعظم كنائِسِهم، نهبها وحوَّلها مسجدًا ومدرسة أنفق عليها أموالًا كثيرةً مِن بيت المال، وسَّماها المدرسة الخضراء، وكذلك فعل بكنيسة اليهود بدمشق، دخلها ونهب ما فيها من الآلات والأمتعة، ومد فيها سماطًا، واتخذها مسجدًا مُدَّةً، ثم سعوا إليه في رَدِّها إليهم وإبقائها عليهم، ثم اتفق في هذه السنة أنه وقعت منه أشياءُ أُنكِرَت عليه وحُوقِقَ عليها عند السلطان الظاهر، فظهر له منه ما أوجب سجنه، كاللُّواط والزِّنا وغيره، وقيل مخالطته لبنات الأمراءِ حتى أصبَحْنَ لا يستَتِرْنَ منه فافتتَنَ بهن ووقع منه القبائِحُ، فأمر السلطان بإعدامِه، فقال له إن بيني وبينك أيامًا قلائل، فسجنه من عام 671هـ إلى هذا العام، فأمر بقَتلِه، وكانت وفاته في هذه السنة، ودُفِنَ بزاويته سامحه الله، وقد كان السلطانُ يحبُّه محبة عظيمة حتى إنه سمى بعض أولاده خضرًا موافقة لاسمه، وإليه تُنسَبُ القبة التي على الجبل غربي الربوة التي يقال لها قبة الشيخ خضر.
لَمَّا عيَّن سليمان باشا صاحب العراق ثويني بن عبد الله رئيسًا للمنتفق وقَدِمَ ثويني البصرةَ، فرح به أهلُ البصرة وما حولها من الأوطان فرحًا شديدًا, وقالوا: هذا الذي سيأخذُ الثأر ويخربُ تلك الديار- التابعة لدولة الدرعيَّة- وأتته منهم القصائِدُ يحضُّونه ويحَرِّضونه ويعجِّلونه بالمسير, وعَمِلَ محمد بن فيروز قصيدةً في التحريض على أتباعِ الدرعية. استنفر ثويني رعاياه وحشد عُربان المنتفق وأهل الزبير والبصرة وجميع عُربان الظفير وبني خالد، بقيادة برَّاك بن عبد المحسن، ونزل مع جموعِه الجهراء 3 أشهر يحشدُ مزيدًا من البوادي والعساكر والمدافِعِ وآلاتِ الحربِ والرَّصاص والبارود والطعام، فاجتمع له ما يعجزُ عنه الحصرُ، وأركب عساكِرَه في السفنِ مِن البصرةِ، وقصد الأحساءَ في قوةٍ هائلة, فلما بلغ الإمام عبد العزيز ذلك أمَّر على أهل الخرج والفرع ووادي الدواسر والأفلاج والوشم وسدير وجبل شمر، فاجتمعوا واستعمَلَ عليهم أميرًا هو محمد بن معيقل، فساروا ونزلوا قريةَ الماء المعروف في الطف من ديار بني خالد، وأمر الإمام عبدُ العزيز عُربانَ مطير وسبيع والعجمان وقحطان والسهول وعُربان نجد أن يحتَشِدوا بأموالهم وأهليهم ويقصدون ديار بني خالد، ثم أمر على ابنِه الأمير سعود أن يسيرَ بقوة من أهل الدرعية وبلاد العارضِ، ونزل سعود بالتنهات الروضة المعروفة عند الدهناء، ثم نزل حفر العتك فأقام عليه شهرًا. أما ثويني فنزل بالطف ثم رحل منه إلى الشباك الماء المعروف في ديرة بني خالد، وبينما ثويني ينصب خيمتَه عدا عليه عبدٌ اسمُه طعيس فطعنه طعنةً أدت إلى قتله في ساعتِها، فلما قُتل ثويني وقع التخاذُلُ والفشلُ في جنودِه والعساكرِ التي جمعها، فارتحلوا منهزمين لا يلوي أحدٌ على أحد، فتبعهم حسن بن مشاري بمن معه يقتُلون ويغنمون إلى قربِ الكويت وحازوا منهم أموالًا عظيمةً من الإبل والغنم والأزواد والأمتاع وجميع المدافِعِ والقنابر، فلمَّا بلغ الأمير سعود مقتلُ ثويني، أقبل من مكانه إليهم وقسَّم الغنائم وعزَل أخماسَها, ثم سار ونزل شمال الأحساءِ، فخرج إليه أهلُها وبايعوه على دين الله والسَّمع والطاعة.
دعا دي فريسينيه رئيس وزراء فرنسا الدولَ الأوربيةَ الكبرى إلى عقدِ مؤتمر للنظَرِ في المسألة المصرية، فلبَّى الدعوةَ كُلٌّ من إنجلترا وألمانيا وروسيا وإيطاليا والنمسا، وأمَّا تركيا فإنها رفَضَت الحضورَ واحتَجَّت على فكرةِ المؤتمر؛ لأنَّ فيه خَرقًا لسيادتها. عُقِدَ المؤتمر يوم 23 يونيو 1882م، وقرر المؤتمر في جِلسته الأولى إرسالَ مذكِّرة إلى الباب العالي يبلغُه نبأ اجتماعه، ويأسَفُ لعدم انعقاده برئاسةِ وزير الخارجية العثمانية، ويُعرِبُ عن أمله في اشتراك تركيا في اجتماعاته المقبلة. وفى الاجتماع الثاني يوم 25 يونيو 1882م وقبل البدء في المداولات أُبرِمَ العهدُ المشهور بميثاق النزاهة Protocole de Desinteressement وهذا نصه: تتعهَّدُ الحكومات التي يوقِّعُ مندوبوها على هذا القرار بأنَّها في كل اتفاق يحصُلُ بشأن تسوية المسألة المصرية لا تبحَثُ عن احتلالِ أيِّ جزءٍ مِن أراضي مصر، ولا الحصول على امتيازٍ خاصٍّ بها، ولا على نَيلِ امتيازٍ تجاريٍّ لرعاياها لا يخوِّلُ لرعايا الحكومات الأخرى، وقد وقَّعه أعضاء المؤتمر جميعًا. وقرَّر المؤتمر في جلسته الثالثة يوم 27 يونيو وقد انضَمَّت إليه تركيا وأضيف إلى نص الوثيقةِ: وجوبُ التدخُّل في مصر لإخماد الثورة، وأن يُعهَدَ إلى تركيا بهذه المهمَّة بأن تُرسِلَ إلى مصر قوةً كافية من الجند لإعادةِ الأمن والنظام إليها، وأخَذَ يتداول في الجلساتِ التالية في شروط هذا التدخُّل وحدوده، ووضع المؤتمَرُ في جلسته السابعة يوم 6 يوليه سنة 1882 قواعِدَ هذا التدخل وهي: أن يحترم الجيشُ الذي ترسِلُه تركيا مركزَ مِصرَ وامتيازاتها التي نالتها بموجِب الفرمانات السابقة والمعاهدات، وأن يخمد الثورة العسكرية ويعيد إلى الخديوي سُلطتَه، ثم يشرع في إصلاحِ النظم العسكرية في مصر، وأن تكونَ مدة إقامة الجيش التركي في مصر ثلاثة شهورٍ إلا إذا طلب الخديويُّ مَدَّها إلى المدة التي تتَّفِقُ عليها الحكومة المصرية مع تركيا والدول الأوروبية العظمى، ويعَيَّن قوَّادُ هذا الجيش بالاتفاق مع الخديوي، وتكون نفقاتُه على حساب مصر ويعَيَّن مقدارها، بالاتفاق مع مصر وتركيا والدول السِّتِّ العظمى الأوربية. وأقرَّت الدول الأوربية هذه القراراتِ ووافقت على تقديمها إلى الحكومة التركية، فأرسلت إليها ولكِنَّها لم تُقِرَّها.
صدر قرارٌ بإنشاء المجمَع العِلميِّ العربي بدمشق، والذي عُرِفَ فيما بعد بـ "مجمع اللغة العربية". وقد نهض المجمَعُ بأمور اللغة في سوريا، وأحياها في دواوين الحكومة، وقام بجَمعِ الكتب والمخطوطات، وقد ضَمَّ المجمَعُ بين صفوفه عددًا من أعيان اللغة في العالم العربي. كانت الدولُ الاستعمارية منذ الوهلة التي يضعُ المستعمِرُ قدمَه في أي بلدٍ يستعمِرُه يبدأ بالتنقيب عن آثار البلد لربطِ سكانه بتاريخهم القومي بدَلَ دينِهم وعقيدتِهم التي يمكِنُ أن يكونَ لها أعظَمُ الأثر في مواجهة مخطَّطاته الاستعمارية؛ لذلك عمل الفرنسيون على تشجيع السوريين من خلال هذا المجمَعِ العلمي على الاهتمام باللغة العربية والآثار التاريخية؛ ففي مجال اللغة أخذ المجمَعُ على نفسه في إصلاحِ اللغة العربية، ووضْعِ ألفاظ للمستحدثات العصرية، وتنقيحِ الكتب، وإحياء المهمِّ مما خلَّفه الأسلاف منها، والتنشيط على التأليف والترجمة، وشراء الكتب، وجلْب كتب بلغة المستعمِر سواء كانت فرنسية أو إنجليزية أو ألمانية، وأما في مجال الآثار فلم تكن عنايةُ المجمع بجمع الآثار للمتحف بأقَلَّ من اهتمامه باللغة. فجمع أُلوفًا ما بين تماثيل حجرية وأوانٍ معدنية وزجاجية وخزفية، ومجاميع نقود ذهبية وفضية ونحاسية، وأسلحة وصفائح حجارة عليها كتابات، وأدواتٌ أخرى مختَلِفة. ومن هذه الآثار ما هو ذو شأنٍ عظيم قد لا يوجَدُ نظيره في كثيرٍ مِن المتاحف، وقد ألَّفَ المجمَعُ من أعضائه لجنتين: لجنة لُغَوية أدبية تبحَثُ في لغة العرب وآدابها وطرُقِ ترقيتها، ولجنة علمية فنية تبحث في توسيعِ دائرة العلوم والفنون في البلاد السورية. وألَّف أيضًا لجنة من المختصِّين في معرفة الآثار، ولجنتين أخيرتين، إحداهما لتتَبُّع الآثار القديمة والبحث عنها خارج دمشق من جهات سورية، وجلْب ما يمكِنُ جلبه منها، فذهبت إلى تدمر وجلبت منها ومن حمص بعضَ القِطَع الحجرية القديمة. وكتبت تقريرًا بشأن الآثار والملاحظات التي رأتها في رحلتها. أما اللجنة الأخرى فلتتبُّعِ الآثار القديمة في دمشق، وكتَبَ المجمَعُ منشورًا باللغتين العربية والفرنسية ضمَّنه ملخَّصًا من أخباره وأعماله في هذه المدة، ووزَّعه على المجامِعِ العلمية ودُورِ الكتب والجامعات وأمَّهات المجلات في أوروبا وأمريكا وغيرهما.
وردت فِكرةُ تقسيم فلسطين إلى دولتين إسلامية ويهودية مع تحديدِ منطقة دولية حول القدس في تقريرِ لجنة پيل الملكية البريطانية عام 1937م، وتقرير لجنة وود هيد من 1938، وصدر هذان التقريران عن لجنتين تم تعيينُهما على يد الحكومة البريطانية لبحثِ قضية فلسطين إثرَ الثورة الفلسطينية الكبرى التي دارت بين السنوات 1933 و1939م. بعد الحربِ العالمية الثانية وإقامة هيئة الأمم المتحدة بديلًا لعصبة الأمم، طالبت الأممُ المتحدة بإعادةِ النظر في صكوكِ الانتداب التي منحَتْها عصبة الأمم للإمبراطوريات الأوروبية، واعتبرت حالةُ الانتداب البريطاني على فلسطين من أكثَرِ القضايا تعقيدًا وأهميةً. وقامت هيئةُ الأمم المتحدة بمحاولة لإيجادِ حَلٍّ للنزاع الإسلامي/ اليهودي القائم على فلسطين، وقامت هيئةُ الأمم بتشكيل لجنة خاصةٍ مَعنيَّة بدراسة حكومة فلسطين المستقبلية بطلبٍ مِن بريطانيا عُرِفَت هذه اللحنة باسم "UNSCOP" والمتألِّفة من دول متعدِّدة باستثناء الدُّوَل دائمة العضوية لضمان الحياد -بزعمهم- في عملية إيجاد حلٍّ للنزاع. قامت اللجنةُ بطرح مشروعَينِ لحَلِّ النزاع، تمثَّل المشروعُ الأولُ بإقامة دولتين مستقلَّتين، وتُدار مدينة القدس من قِبلِ إدارة دولية. وتمثَّل المشروع الثاني في تأسيس فيدرالية تضمُّ كلًّا من الدولتين اليهودية والإسلامية. ومال معظمُ أفراد اللجنة تجاه المشروع الأول والرامي لتأسيس دولتين مستقلَّتين بإطار اقتصادي موحَّد. وقامت هيئة الأمم المتحدة بقَبولِ مشروع اللجنة الدَّاعي للتقسيم مع إجراءِ بعض التعديلات على الحدودِ المشتركةِ بين الدولتين، على أن يسريَ قرار التقسيم في نفسِ اليوم الذي تنسَحِبُ فيه قوات الانتداب البريطاني من فلسطين. أعطى قرار التقسيم 55% من أرض فلسطين للدولة اليهودية، وشملت حصَّةُ اليهود من أرض فلسطين على وسط الشريط البحري (من إسدود إلى حيفا تقريبًا، ما عدا مدينة يافا) وأغلبية مساحة صحراء النَّقب (ما عدا مدينة بئر السبع، وشريط على الحدود المصري). واستند مشروعُ تقسيم الأرض الفلسطينية على أماكنِ تواجد التَّكتُّلات اليهودية بحيث تبقى تلك التكتُّلات داخِلَ حدود الدولة اليهودية.
كان الخلافُ بين عبد الكريم قاسم ذو الميول الشيوعية وعبد السلام عارف أبرَزَ مشاهد الصراع على السلطة بين قادة (الضباط الأحرار)؛ فقد بدأ الخلافُ بينهما من اليوم الأول؛ إذ يعدُّ كل واحدٍ منهما نفسَه أنه هو الذي أنشأ الحركةَ وقادها، فعبد الكريم قاسم رأسُ المنظَّمة ومنه تَصدُرُ الأوامر، وهو الذي يرى نفسَه أنَّه هو المُخطِّط لهذه الثورة، ولا يتِمُّ عمَلٌ دونه، ويرى عبد السلام عارف أنه هو الذي قاد الحركة وخاطر، وتسلَّم الإذاعةَ، وهو أوَّلُ من أذاع نبأ الحركة إلى الرعيَّة، وأعطى التعليماتِ اللازمة للسيطرة على الموقف، وكان عبد السلام يدعو إلى الوَحدةِ العربية الشاملة والانضمام إلى الجمهورية العربية المتَّحِدة، كما أنه كان معجبًا بعبد الناصر؛ ولم يكن قاسم يرى ما يراه عبد السلام، ولَمَّا زار عبد السلام دمشق بعد الثورة بخمسةِ أيام عرض على عبد الناصر الوَحدةَ فلما سأله عن رأي عبد الكريم قاسم قال له: مصيرُه مصيرُ محمد نجيب! ولَمَّا عَلِمَ قاسم بهذا الحوار أسَرَّها في نفسه، ثم قام عبد السلام بجولةٍ في أنحاء العراق وكان يُلقي خُطبًا وينقل للجموع تحيات الرئيس جمال عبد الناصر كأنه رئيس البلاد دون أن يذكُرَ عبد الكريم قاسم زعيم العراق، فأخذ قاسِمٌ في إبعاد عبد السلام عن مركز القيادة في البلاد تدريجيًّا، فألغى منصب عبد السلام كنائب قائد القوات المسلحة بحُجَّةِ أنَّ عددًا من الضباط أصحاب رتب أعلى منه، ثم عزله عن منصب نائب رئيس الوزراء ووزير الداخلية بالوكالة للمصلحة العامة، وفي نفس اليوم أصدر قرارًا بتعيينه سفيرًا للعراق في ألمانيا الغربية، لكِنَّ عبد السلام رفض هذا المنصب وأصرَّ على البقاء في بغداد، وفي 25 جمادى الأولى 1378هـ ألقت الشرطةُ القبض على عبد السلام عارف بتهمة محاولة قتل عبد الكريم قاسم، وأودِعَ السجنَ ثم حُكِمَ عليه بالقتل، لكن قاسم لم يصادق على الحُكمِ وبَقِيَ في السجن إلى أن أفرجَ عنه قاسم في ربيع ثاني 1381هـ وقد أحيل بعضُ أعوان عبد السلام عارف إلى التقاعُدِ والبعض نُقِلوا إلى مراكز غير حسَّاسة، أما الشيوعيون منهم فقد التفُّوا حول قاسم.
هو الحاج سير أحمدو بلو بن الأمير إبراهيم بن فودي: زعيمٌ سياسيٌّ نيجيري شمالي. مفكرٌ إسلاميٌّ سياسي كان من أبرز قادةِ مقاومة الاستعمار الإنجليزي. وُلِدَ سنة 1909م بقرية رابا، وتعلَّم في كُتَّابها سنتين، ثم أخذه أخوه إلى مدينة صكتو؛ لِيُلحِقَه بمدرسةٍ ابتدائية هناك، فدرس فيها القرآنَ الكريم، والحساب، واللغة الإنجليزية، والتاريخ، لكنَّه أبدى أسَفَه حين رأى أنَّ التاريخَ الذي يَدرسُه تاريخ إنجلترا بدلًا من تاريخ بلادِه. كان جادًّا في دراسته ما جعَله بعد خمسِ سنين يتخرَّجُ بتفوق على أقرانه، وفي عام 1926م انتقل إلى كلية المعلِّمين في كاتسينا؛ ليتخرَّج معلِّمًا، فعاد إلى مدرسته الأولى في صكتو ليدرِّسَ بها اللغةَ الإنجليزية، والهندسة، ومبادئ اللغة العربية، وفي عام 1934م عيَّنه السُّلطان رئيسًا لمركز (رابا) مسقط رأسِه بعد وفاة ابن عمِّه، فكان أصغرَ رئيسٍ من بين 45 رئيسًا؛ إذ كان عمره 24 سنةً، فكان أوَّلُ عملٍ أقدَمَ عليه هو مكافحةَ الجهل والأميَّة في قريته، حتى إنه لم يكُنْ فيها مَن يَعرف القراءةَ والكتابةَ سواه، فأنشَأ مدرسةً تولَّى التَّدريسَ فيها بنفسه، فلمَّا تعلَّم عددٌ من أهل القرية القراءة والكتابة فَتح فصولًا أخرى، حتى بُنيت أوَّلُ مدرسةٍ نظاميَّة في القرية. في عام 1938م انتقل أحمد بلو إلى (غسو)، وقد عيَّنه السلطان الحاج أبو بكر تفاوة بيليوا رئيسُ وزراء حكومة اتحاد نيجيريا مُشرفًا على 14 مركزًا في سلطنة صكتو، وبهذا اكتسب بلو مهاراتٍ إدارية. ولما أُعلِنَت الحربُ العالمية الثانية عُيِّن بلو ضابطًا للحرب في صكتو. وفي عام 1948م سافر بلو إلى لندن؛ لدراسة نظُمِ الحكم المحلي، وفي عام 1949م ذهب إلى عاصمة نيجيريا لاجوس لأوَّلِ مرة حين توفي وزير صكتو، وأصبح يمثِّل صكتو، وحين بدأت إجراءاتُ تعديل الدستور النيجيري اجتمع الشماليون في (كدونا)، واختاروا مندوبَين منهم للاشتراك في هذا العمل المهم، وكان أحدهما: أحمدو بلو. وفي عام 1953م تقلَّد وزارتَيْ تطوير المجتمع والحكومة المحلية، وفي أكتوبر 1954م أصبح بلو رئيسًا لوزراء الإقليم الشمالي، وظل في هذا المنصب حتى تم اغتياله رحمه الله.
هو الشيخُ المُحدِّثُ المعمَّر ظَهيرُ الدِّينِ بنُ عبدِ السبحان محمد بَهادُر الأثَريُّ الرَّحماني المُبارَكْفوريُّ، وُلد سنةَ 1920م الموافق لسنةِ 1338 تقريبًا، في حُسين آباد قُربَ مُبارَكْفُورَ بالهندِ. وبدأ دِراستَه الأولى في بَلدتِه، ثم انتقَلَ إلى جامعةِ "فَيض عام" في مدينةِ "مَو" القريبةِ، وانتقَلَ بعدها إلى دارِ العلومِ في ديوبند، ثم انتقَلَ إلى دارِ الحديثِ الرحمانيَّةِ الشهيرةِ في دِهْلي -دلهي-. قرَأَ على جماعةٍ من العُلماءِ، وأجازَ له منهم: المُحدِّثُ أحمَدُ اللهَ الدهلوي، وعُبيدُ اللهِ الرَّحمانيُّ، ولقي جماعةً، وأبرَزُهم المحدِّثُ عبدُ الرحمنِ المُبارَكْفوريُّ. ومن شُيوخِه الذين قرأَ عليهم: عبدُ الرحمنِ المَوِّي النَّحْويُّ، وعبدُ اللهِ شائق الموِّي، ونذير أحمد الأملوي، وأحمد حسام الدين الموِّي. وبعد تَخرُّجِه درَّسَ في دارِ التعليم سنةَ 1942، ثم تنقَّلَ في التدريسِ بين عِدَّةِ مدارسَ في مناطقَ مختلفةٍ، إلى أنِ استقرَّ سنةَ 1958 في جامعةِ دار السلام في عمر آباد، ودرَّس فيها، وكان وَقتَها وكيلًا للجامعةِ، إلى أنْ ترَكَ التدريسَ سنةَ 2005م، مع بقاءِ إفادتِه للأساتذةِ والواردين عليه، ومُشاركتِه في المناسباتِ، وخلالَ ذلك درَّس سُنَنَ أبي داودَ ودرَّس الصحيحَينِ، وتولَّى إمارةَ جمعيةِ أهلِ الحديثِ في ولايةِ تاميل نادو. ونظرًا لجُهدِه ومكانتِه في التدريسِ فقد قامت جمعيةُ أهلِ الحديثِ المَركزيةُ في عُمومِ الهندِ بتكريمِه ضِمنَ كبارِ رجالاتِ أهلِ الحديثِ على مستوى الهندِ، وذلك في مؤتمَرِ أهلِ الحديثِ الثامنِ والعشرينَ لعُمومِ الهندِ في مدينةِ باكورَ، في شهرِ مُحرَّمٍ عامَ 1425 الذي حضَرَه نحوُ مليونِ شخصٍ. وكان صاحبَ أعلى إسنادٍ لصحيحِ مُسلمٍ، بدَأَ ينتشِرُ خَبَرُه عند المهتمِّين بالروايةِ من العرَبِ، وارتحَلَ له جماعةٌ، وحدَّثَ في عدةِ أماكنَ، ومنها: المدينةُ، والرياضُ، والخُبرُ، والدوحةُ، وأمريكا، وغيرُها، وانتشَرَ سنَدُه. وكان الشيخُ على خُلقٍ رفيعٍ، جيِّدَ الحديثِ بالعربيةِ، بقيَ العلَّامةُ يُقرئُ ويُفيدُ في بيتِه وعَبرَ الهاتفِ إلى آخرِ أيامِه، ولا ينقَطِعُ إلا لمرضٍ أو سَفَرٍ، إلى أنِ اشتدَّ به المرَضُ وتوفَّاهُ اللهُ، وقد صُلِّيَ عليه -رحمه الله- في مسجِدِ الجامعةِ، ودُفِن في مقبرةِ عمر آباد.
كان قد حدث من الملك السعيد أشياء أوغرت صدورَ الأمراء عليه، وأصبَحَ خاصية الملك يحظَونَ بما يريدون ويُبعِدونَ من أرادوا حتى كان في السنة الماضيةِ أن أرسل بعض الأمراء إلى سيس للقتال فخرجوا وهم مكرهون، فأما الأمراء فإنهم غَزَوا سيس وقتلوا وسَبَوا، ثم عادوا إلى دمشق ونزلوا بالمرجِ، فخرج الأميرُ كوندك إلى لقائهم على العادة، وأخبرهم مما وقع من الخاصكية في حَقِّهم وحَقِّه من تخوُّفِ الملك منهم، فحَرَّك قَولُه ما عندهم من كوامِنِ الغضب، وتحالفوا على الاتفاق والتعاون، وبعثوا من المرج إلى السلطانِ يُعلِمونَه أنهم مقيمون بالمرج، وأن الأمير كوندك شكى إليهم من لاجين الزيني وهو من أقرَبِ مقربي الملك السعيد شكاوى كثيرة، ولا بد لنا من الكشفِ عنها، وسألوا السلطانَ أن يحضر إليهم حتى يسمعوا كلامَه وكلام كوندك، فلما بلغ السلطانَ ذلك لم يعبأ بقولهم، وكتب إلى من معهم من الأمراءِ الظاهريَّة يأمُرُهم بمفارقة الصالحيَّة ودخول دمشق، فرحلوا مِن فَورِهم ونزلوا على الجورةِ مِن جهة داريا، وأظهروا الخلافَ، ورموا الملكَ السعيد بأنه قد أسرف وأفرطَ في سوء الرأي وأفسد التدبير، فخاف السلطان عند ذلك سوء العاقبة، وبعث إليهم الأميرَ سنقر الأشقر، والأمير سنقر التكريتي الأستادار- المشرف على شؤون بيوت السلطان- ليلطفا بهم ويعملا الحيلة في إحضارِهم، فلم يوافقوا على ذلك، وعادا إلى السلطان فزاد قلقُه، وتردَّدَت الرسل بينه وبين الأمراء، فاقترحوا عليه إبعادَ الخاصكية، فلم يوافق، فرحل الأمراءُ بمن معهم من العساكِرِ إلى مصر وتَبِعَهم الملك السعيد ليلحَقَهم ويتلافى أمرَهم فلم يُدرِكْهم فعاد إلى دمشق وبات بها، ثم سار من دمشق بالعساكر يريد مصرَ فنزل بلبيس في نصف ربيع الأول وكان قد سبقه الأميرُ قلاوون بمن معه إلى القاهرة، ونزلوا تحت الجبل الأحمر، فبلغ ذلك الأمراء الذين بقلعة الجبل، وهم الأمير عز الدين أيبك أمير جانذار والأمير أفطوان الساقي، والأمير بلبان الزربقي، فامتنعوا بها وحَصَّنوها وتقدموا إلى متولي القاهرة فسَدَّ أبوابها فراسَلَهم قلاوون والأمراء في فتحِ أبواب القاهرة ليدخُلَ العسكر إلى بيوتهم ويُبصِروا أولادَهم؛ فإن عهدهم بَعُدَ بهم ونزل الأمير لاجين البركخاي وأيبك الأفرم وأقطون إلى الأمراء لمعرفة الخبر فقَبَضوا عليهم وبعثوا إلى القاهرة ففُتِحَت أبوابها ودخل كلُّ أحد إلى داره وسُجِنَ الثلاثة الأمراء في دار الأمير قلاوون بالقاهرة وزحفوا إلى القلعةِ وحاصروها وأمَّا السلطان فإنه لما نزل بلبيس وبلغه خبَرُ الأمراء خامر عليه من كان معه من عسكَرِ الشام وتركوه في بلبيس وعادوا إلى دمشق وبها الأمير عز الدين أيدمر نائب الشام، فصاروا إليه ولم يبقَ مع السلطان إلا مماليكُه ولم يبق معه من الأمراء الكبار إلا الأميرُ سنقر الأشقر فقط، فسار السلطان من بلبيس ففارقه الأشقر من المطرية وأقام بموضعه، وبلغ الأمراءَ أن السلطان جاء من خَلفِ الجبل الأحمر فركبوا ليحولوا بينه وبين القلعة وكان الضباب كثيرًا فنجا منهم واستتر عن رؤيتِهم وطلع إلى المقَدِّمة، فلما انكشف الضباب بلغ الأمراء أن السلطانَ بالقلعة فعادوا إلى حصارِها وصار السلطان يُشرِفُ من برج الرفرف المطلِّ على الإسطبل ويصيح بهم: يا أمراءُ، أرجِعُ إلى رأيكم ولا أعمَلُ إلا ما تقولونَه، فلم يجبه أحدٌ منهم وأظهروا كتبًا عنه يطلب فيها جماعةً من الفداوية لقَتلِهم وأحاطوا بالقلعة وحصروه، وكان الأميرُ سنجر الحلبي معتَقلًا بالقلعة، فأخرجه السلطانُ وصار معه، فاستمر الحصارُ مدة أسبوع، وكان الذي قام في خلع السلطان جماعةٌ كثيرة من الأمراء وأعيان المفاردة والبحرية، ولما طال الحصار بعث الخليفةُ العباسي الحاكم بأمر الله أحمد، يقول: يا أمراءُ، أيش غرضكم؟ فقالوا: يخلع المَلِكُ السعيد نفسه من الملك ونعطيه الكرك، فأذعن السعيدُ لذلك، وحلف له الأمراء، وحضر الخليفةُ والقضاة والأعيان، وأنزل بالملك السعيد، وأشهد عليه أنَّه لا يَصلُحُ للمُلك، وخلعَ السعيدُ نفسَه، وحلف أنه لا يتطَرَّقُ إلى غير الكرك، ولا يكاتِبُ أحدًا من النواب، ولا يستميلُ أحد من الجند، وسافر من وقته إلى الكرك مع الأمير بيدغان الركني، وذلك في سابع شهر ربيع الآخر، فكانت مدة ملكه من حين وفاة أبيه إلى يوم خلعه سنتين وشهرين وثمانية أيام، فوصل إلى الكرك وتسَلَّمَها في الخامس عشر من جمادى الآخرة، واحتوى على ما فيها من الأموال وكانت شيئًا كثيرًا، ولما تم خلعُ الملك السعيد وسافر إلى الكرك، عرض الأمراءُ السلطنة على الأمير سيف الدين قلاوون الألفي فامتنع، وقال: أنا ما خلعت الملك السعيد طمعًا في السلطنة، والأولى ألا يخرجَ الأمر عن ذرية الملك الظاهر، فاستُحسِنَ ذلك منه؛ لأن الفتنة سكنت فإنَّ الظاهرية كانوا معظم العسكرِ، وكانت القلاعُ بيَدِ نواب الملك السعيد، وقصَدَ قلاوون بهذا القَولِ أن يتحَكَّم حتى يغَيِّرَ النواب ويتمكن مما يريد، فمال الجميعُ إلى قوله وصوبوا رأيه، واستدعوا سلامش بن السلطان الظاهر، واتفقوا أن يكون الأمير قلاوون أتابِكَه، وأن يكون إليه أمرُ العساكر وتدبير الممالك، فحضر سلامش وله من العمر سبع سنين وأشهر، وحلف العسكرُ جميعه على إقامته سلطانًا، وإقامة الأمير قلاوون أتابك العساكر، ولقَّبوه الملك العادل بدر الدين، فاستقَرَّ الأمرُ على ذلك، وأقيم الأمير عز الدين أيبك الأفرم في نيابة السلطنة.
استطاع الأميرُ يلبغا الناصري إزالةَ مُلكِ السلطان برقوق، وكان من أعوانه منطاش الأفضلي ولكن لم يكن ما بينهما صافيًا، فلما كان سادس عشر شعبان أشيعَ في القاهرة بتنكُّر منطاش على الناصري، وانقطع منطاش عن الخدمة، وأظهر أنَّه مريض، ففَطِنَ الناصري بأنه يريد أن يعمل مكيدةً، فلم ينزل لعيادتِه، وبعث إليه الأمير ألطنبغا الجوباني رأس نوبة كبيرًا في يوم الاثنين سادس عشر شعبان ليعودَه في مرضه، فدخل عليه وسَلَّم عليه، وقضى حقَّ العيادة وهَمَّ بالقيام، فقَبَض عليه منطاش وعلى عشرين من مماليكِه، وضرب قرقماس دوادار الأمير الجوباني ضربًا مبَرِّحًا، مات منه بعد أيام، ثم رَكِبَ منطاش حالَ مَسْكِه للجوباني في أصحابِه إلى باب السلسلة، وأخذ جميعَ الخيول التي كانت واقفةً على باب السلسلة، وأراد اقتحامَ الباب ليأخُذَ الناصريَّ على حين غفلة، فلم يتمكَّنْ من ذلك وأُغلقَ الباب، ورمى عليه مماليكُ الناصري من أعلى السور بالنشَّاب والحجارة، فعاد إلى بيته ومعه الخيول، وتلاحقت المماليكُ الأشرفية خشداشيته- زملاء مهنته- والمماليك الظاهرية بمنطاش، فعَظُم بهم أمرُه، وقَوِيَ جأشُه، وانضمت اليلبغاوية على الناصريِّ، وهم يوم ذاك أكابِرُ الأمراء وغالِبُ العسكر المصري، وتجمَّعَت المماليك على منطاش حتى صار في نحو خمسمائة فارس معه، بعدما كان في سبعين فارسًا في أوَّلِ ركوبه، ثم أتاه من العامةِ عالمٌ كبيرٌ، فترامى الفريقان واقتتلا، ونزل الأميرُ حسام الدين حسين بن الكوراني والي القاهرة، والأمير مأمور حاجب الحجاب من عند الناصري، ونودي في الناس بنهب مماليكِ منطاش، والقَبضِ على من قَدَروا عليه منهم، وإحضاره إلى الناصري، فخرج عليهما طائفةٌ من المنطاشية فضربوهما وهزموهما، فعادوا إلى الناصريِّ وسار الوالي إلى القاهرة، وأغلَقَ أبوابها، واشتَدَّت الحرب، ثم أتى منطاش طوائِفُ من مماليك الأمراء والبطالة وغيرهم شيئًا بعد شيءٍ، فحَسُنَ حاله بهم، واشتد بأسُه، وعَظُمَت شوكته بالنسبة لما كان فيه أولًا، لا بالنسبة لحواشي الناصري ومماليكِه، هذا وقد انزعج الناصريُّ وقام بنفسه وهيَّأ أصحابه لقتال منطاش، ونَدَب من أصحابه من أكابر الأمراء جماعةً لقتاله، واستمر القتالُ بينهما، وكل ذلك يزداد أمرُ منطاش بهروب الأمراء الناصرية إليه، حتى إن منطاش أمر فنادى بالقاهرة بالأمان والاطمئنان، وإبطال المكس والدعاء للأمير الكبير منطاش بقبَّة النصر، هذا وقد أخذ أمر الناصري في إدبار، وتوجَّه جماعة كبيرة من أصحابِه إلى منطاش، فلما رأى الناصري عَسكَرَه في قِلَّة، وقد نفر عنه غالبُ أصحابه، بعث بالخليفةِ المتوكل على الله إلى منطاش يسأله في الصلحِ وإخماد الفتنة، فنزل الخليفة إليه وكَلَّمه في ذلك، فقال له منطاش: أنا في طاعة السلطانِ، وهو أستاذي وابن أستاذي، والأمراء إخوتي، وما غريمي إلا الناصري؛ لأنَّه حلف لي وأنا بسيواس ثم بحلب ودمشق أيضًا بأننا نكون شيئًا واحدًا، وأن السلطانَ يحكُمُ في مملكَتِه بما شاء، فلما حصَلَ لنا النصر وصار هو أتابك العساكر، استبَدَّ بالأمر، ومنع السلطانَ من التحكم، وحَجَر عليه، وقَرَّب خشداشيَّتَه اليلبغاوية، وأبعدني أنا وخشداشيتي الأشرفيَّة، ثم ما كفاه ذلك حتى بعثني لقتالِ الفلاحين، وكان الناصريُّ أرسله من جملة الأمراء إلى جهة الشرقية لقتال العربان، لَمَّا عَظُم فساد فلاحيها، ثم قال منطاش: ولم يُعطِني الناصريُّ شيئًا من المال سوى مائة ألف درهم، وأخذ لنفسِه أحسَنَ الإقطاعاتِ، وأعطاني أضعفها، والإقطاعُ الذي قرره لي يعمل في السنة ستمائة ألف درهم، واللهِ ما أرجع عنه حتى أقتُلَه أو يقتُلَني، ويتسلطن ويستبِدَّ بالأمر من غير شريكٍ، فأخذ الخليفةُ يلاطِفُه، فلم يرجع له وقام الخليفة من عنده وهو مُصَمِّمٌ على مقالته، وطلع إلى الناصري وأعاد عليه الجوابَ، فعند ذلك ركب الناصري بسائِرِ مماليكه وأصحابه، ونزل بجمعٍ كبير لقتال منطاش، وصَفَّ عساكِرَه تجاه باب السلسلة، وبرز إليه منطاش أيضًا بأصحابِه، وتصادما واقتتلا قتالًا شديدًا، وثَبَت كُلٌّ من الطائفتين ثباتًا عظيمًا، حتى انكسر الناصري وأصحابُه، وطلع إلى باب السلسلة، وندم الناصري على خَلعِ الملك الظاهر برقوق وحَبْسِه؛ لَمَّا عَلِمَ أن الأمر خرج من اليلبغاوية وصار في الأشرفية حيث لا ينفعه الندم، وأما منطاش فركب بمن معه بعد أن انهزم الناصري عدة مرات وترَكَه أكثَرُ أمرائه، وطلع إلى الإسطبل السلطاني ومَلَكَه، ووقع النهب فيه، فأخذوا من الخيل والقماش شيئًا كثيرًا، وتفَرَّق الزعر والعامة إلى بيوت المنهزمين، فنَهَبوا وأخذوا ما قدروا عليه، ومنعهم الناسُ من عدة مواضع، وبات منطاش بالإسطبل، وأصبح من الغدِ، وهو يوم الخميس تاسع عشر شعبان، وطلع إلى السلطان الملك المنصور حاجي، وأعلمه بأنَّه في طاعته، وأنَّه هو أحقُّ بخدمتِه؛ لكونِه من جملة المماليك الذين لأبيه الأشرَفِ شعبان، وأنه يمتَثِلُ مَرسومَه فيما يأمُرُه به، وأنه يريدُ بما فعله عمارةَ بيت الملك الأشرف، فسُرَّ المنصور بذلك هو وجماعة الأشرفية؛ فإنهم كانوا في غاية ما يكون من الضِّيقِ مع اليلبغاوية من مُدَّة سنين.
أول من بدأ بالعصيان على السلطان هو تغري برمش الذي استطاع أن يستحوذ على حلب وأعلن عصيانه، فقام السلطان بإنابة غيره على حلب، وبعث بعض الأمراء لتولية الأمراء النواب الجدد، وكانت الأخبار تَرِدُ أن نائب دمشق الأمير إينال الجكمي أيضًا يريد الخروج عن الطاعة، لكن أمره لم يتحقق إلى أن كان يوم الاثنين تاسع رمضان، كان جميع أمراء دمشق وسائر المباشرين بين يدي الأمير إينال، وقد اطمأنَّ كل أحد بأن ملك الأمراء مستمِرٌّ على الطاعة، فما هو إلا أن استقر في مجلسه أشار بالقبض على أعيان أمراء دمشق، فأغلق الباب وقبض على جميع الأمراء والمباشرين، فلما سمع السلطان هذا الخبر اضطرب وتشوش غاية التشويش، وجمع الأمراء واستشارهم في أمر إينال وتغري برمش، فأشار الجميع بسفره، وانفضَّ الموكبُ على أن السلطان يسافر لقتالهما، ثم في يوم الأربعاء ورد الخبر على السلطان أن الأمير قطج أتابك حلب وصل أيضًا إلى حماة، وأن تغري برمش أخذ مدينة عينتاب وقلعتها، وأن عدة من قَبَض عليه الأمير إينال الجكمي من أمراء دمشق تسعة عشر أميرًا، ثم ورد على السلطان كتابُ الأمير فارس نائب قلعة دمشق بأن الأمير إينال الجكمي أمر فنُوديَ بدمشق بالأمان والاطمئنان والدعاء للسلطان الملك العزيز يوسف، ثم في يوم الأربعاء الخامس والعشرين عيَّن السلطان للسفر من أمراء الألوف اثنين، ومن أمراء العشرات عشرة، ثم ورد الخبر على السلطان من الأمير طوغان العثماني نائب القدس بأن إينال الجكمي أطلق الأمراء الذين قبض عليهم قبل تاريخه، وحَلَّفهم للملك العزيز يوسف، ولكن نفرت القلوب بذلك عن إينال الجكمي، وأول من نفر عنه تغري برمش نائب حلب، وقال في نفسه عن إينال: هذا في الحقيقة ليس بخارج عن الطاعة، وإنما قصد بالإشاعة عنه أنه عاصٍ حتى أقدم عليه ويقبض عليَّ تقربًا لخاطر السلطان جقمق، ومن يومئذ أخذ أمر إينال الجكمي في الاضمحلال قليلًا، واستخَفَّ كُلُّ أحد عَقْلَه وتعجَّب من سوء تدبيره، وكاد أخوه سودون العجمي أن يموت قهرًا لَمَّا بلغه عن أخيه إينال ذلك، وهو يوم ذاك من جملة أمراء العشرات بالديار المصرية، ثم ورد الخبر بانكسار تغري برمش وهروبه من حلب إلى الرملة، ثم ورد الخبر على السلطان بأن إينال الجكمي برز بمخيَّمِه من مدينة دمشق إلى ظاهرها، فلما كان يوم الخميس ثالث شوال، عزم هو على الخروج من المدينة بنفسه إلى مخيمه؛ ليسير بمن معه إلى نحو الديار المصرية، فبينما هو في ذلك ركب عليه الأمير قاني باي الأبوبكري الناصري البهلوان أتابك دمشق، وكان ممن وافق الجكمي على العصيان وحسَّن له ذلك ثم تركه ومال إلى جهة السلطان، وركب معه الأمير برسباي الناصري حاجب الحجاب بدمشق، وجميع أمراء دمشق وعساكرها، ولم يبقَ مع إينال من أعيان أمراء دمشق إلا جماعة يسيرة، فلما بلغ إينال الجكمي ركوب هؤلاء عليه، مال عليهم وقاتلهم، فلم يثبتوا له وانهزموا أقبح هزيمة، ثم تراجعوا فحمل عليهم فانكسروا وتمزقوا شذر مذر، ثم إن العسكر المصري وصل إلى الشام وتصادم مع العسكر الشامي بقيادة إينال، وحصلت بينهم وقائع كانت بدايتها بانهزام العسكر المصري ثم تخلى عن إينال أصحابه ومدوا أيديهم إلى النهب في أطلاب النواب لما انهزموا أمام العسكر الشامي، وبقي إينال في أناس قليلة، فحطَّ بهم على العسكر المصري، فثبتوا له وقاتلوه ساعة، وقد تفرقت عنه أصحابه بسبب النهب، فلم يجد مساعدًا، فانهزم بعد أن قتِل من الفريقين جماعة كبيرة جدًّا، فلما أصبح العسكر يوم الخميس ثاني ذي القعدة ورد الخبر عليهم من دمشق بالقبض على إينال الجكمي من قرية حرستا من عمل دمشق ثم في يوم الأحد ثاني عشر ذي القعدة كُتِبَ بقتل إينال الجكمي بسَجنِه بقلعة دمشق، بعد تقريره على أمواله وذخائره، وبقتل جماعة من أصحابه ممن قُبِضَ عليه في الوقعة، وكان قتله بقلعة دمشق في ليلة الاثنين عشرين ذي القعدة، ثم قَدِمَ الخبر على السلطان بأن العساكر توجهت من دمشق في الحادي عشر ذي القعدة إلى حلب؛ لقتال تغري برمش، هذا وأهل حلب يد واحدة على قتاله، ثم إن العسكر المصري بمن معه من العسكر الشامي لما ساروا من دمشق إلى جهة حلب وافاهم الأمير قاني باي محمزاوي وغيره وصاروا جمعًا واحدًا، فلقيهم تغري برمش بجموعه التي كانت معه قريبًا من حماة، في يوم الجمعة السابع عشر ذي القعدة، وقد صفَّ عساكره من التركمان وغيرهم، حتى ملؤوا الفضاء، فلما وقع بصر عسكره على العساكر السلطانية أخذوا في الانهزام من غير مصافَّة، بل حدث بعض التناوش من صغار الطائفتين، فولوا الأدبارَ ومدت العساكر السلطانية أيديها إلى عساكر تغري برمش، فغنموا منهم غنائم لا تُحصى كثرة، ونُهِبَ جميع وطاق تغري برمش وماله، وانهزم هو في جماعة يسيرة من خواصه إلى جهة التركمان الصوجية، ثم قبضوا عليه بعد ذلك، وكُتِبَ بقتل تغري برمش بعد عقوبته ليقِرَّ على أمواله، فعوقِبَ، فأقر على شيء من ماله، نحو الخمسين ألف دينار؛ ثم أُنزِلَ ونودي عليه تحت قلعة حلب، ثم ضُرِبَت عنُقُه.
تطورت الأحداث في بلاد الأندلس، وأصبح اهتمام الإسبان هو توحيد أراضيهم، وانتزاع ما تبقى للمسلمين بها خصوصًا بعدما خضع الإسبان لسلطة واحدة بعد زواج إيزابيلا الكاثوليكية المتعصبة ملكة قشتالة من فرديناند ملك أراغوان، وبعد هلاك الدون جويان الثاني ملك أراغون، وتولَّى مكانه ابنه فرديناند الكاثوليكي، ضمَّ أراغون وبلنسية وصقلية وميورقة إلى قشتالة، وبينما كانت الممالك النصرانية تتَّحد في تلك الأقطار، كانت المملكة الإسلامية الوحيدة في الأندلس تزداد فتقًا على فتق؛ ليقضيَ الله أمرًا كان مفعولًا! اندفعت الممالك الإسبانية المتحدة قبيل سقوط غرناطة في تصفية الوجود الإسلامي في كل إسبانيا، حتى يفرغوا أنفسَهم ويركزوا اهتمامهم على المملكة الإسلامية الوحيدة في غرناطة، وفرضت إسبانيا أقسى الإجراءات التعسُّفية على المسلمين في محاولة لتنصيرهم وتضييق الخناق عليهم حتى يرحلوا عن بلاد الأندلس؛ نتيجة لذلك وقبل سقوط غرناطة لجأ المورسكيون-وهم الأقلية المسلمة التي بقيت في الأراضي الإسبانية بعد انتزاع حكمها من المسلمين- إلى القيام بثورات وانتفاضات في أغلب المدن الإسبانية، والتي يوجد بها أقلية مسلمة، وأُخمِدَت تلك الثورات بدون رحمة ولا شفقة من قبل السلطات الإسبانية التي اتخذت وسيلة لتعميق الكره والحقد للمسلمين، ومن جهة أخرى كان من الطبيعي أن يرنو المورسكيون بأنظارهم إلى ملوك المسلمين في المشرق والمغرب لإنقاذهم، وتكررت دعوات وفودهم ورسائلهم إليهم للعمل على إنقاذهم مما يعانوه من ظلم، وخاصة من قبل رجال الكنيسة ودواوين التحقيق (محاكم التفتيش) التي عاثت في الأرض فسادًا وأحلت لنفسها كل أنواع العقوبات وتسليطها عليهم، وكانت أخبار الأندلس قد وصلت إلى المشرق فارتج لها العالم الإسلامي، وبعث الملك الأشرف قايتباي بوفود إلى البابا وملوك النصرانية يذكِّرُهم بأن النصارى الذين هم تحت حمايته يتمتعون بالحرية، في حين أن أبناء دينه في المدن الإسبانية يعانون أشد أنواع الظلم، وقد هدد باتباع سياسة التنكيل والقصاص تجاه رعايا المسيحيين، إذا لم يكفَّ ملك قشتالة وأراغون عن هذا الاعتداء وترحيل المسلمين عن أراضيهم وعدم التعرض لهم، ورد ما أخذ من أراضيهم، ولم يستجيب البابا والملكان الكاثوليكيان لهذا التهديد من قبل الملك الأشرف قايتباي، ومارسوا خطتهم في تصفية الوجود الإسلامي في الأندلس، وجُدِّدت رسائل الاستنجاد لدى السلطان العثماني بايزيد الثاني بن محمد الفاتح، فوصلته رسالةٌ منهم يذكرون فيها آلامَهم ومعاناتهم ويسألونه الخلاص، ومما كتبه بعض أهل الجزيرة بعد استيلاء الكفر على المدن الأندلسية للسلطان بايزيد خان الثاني ما نصه بعد سطر الافتتاح: الحضرة العلمية، وصل الله سعادتها وأعلى كلمتها ومهد أقطارها وأعز أنصارها وأذل عداتها، حضرة مولانا وعمدة ديننا ودنيانا، السلطان الملك الناصر ناصر الدين والدنيا، سلطان الإسلام والمسلمين، قامع أعداء الله الكافرين، كهف الإسلام وناصر دين نبينا محمَّد صلى الله عليه وسلم، محيي العدل ومنصف المظلوم ممن ظلم ملك العرب والعجم والترك والديلم، ظِل الله في أرضه، القائم بسنته وفرضه، ملك البرين وسلطان البحرين حامي الذمار وقامع الكفار، مولانا وعمدتنا مولانا بايزيد، لا زال ملكه موفور الأنصار مخلد المآثر والآثار مشهور المعالي والفخار، مستأثرا من الحسنات بما يضاعف الله الأجر الجزيل في الدار الآخرة والثناء الجميل، والنصر في هذه الدار، ولا بَرِحت عزماته العلية مختصة بفضائل الجهاد مجردة من أعداء الدين من بأسها ما يروي صدور السمر والصفاح وألسنة السلاح باذلة نفائس الذخائر في المواطن التي تألف فيها الأخيار مفارقة الأرواح للأجساد، سالكة سبيل السابقين الفائزين برضا الله وطاعته يوم يقوم الأشهاد:
سلام كريم دائم متجدد
أخص به مولاي خير خليفة
سلام على مولاي ذي المجد والعلا
ومن ألبس الكفار ثوب المذلة
سلام على من وسع الله ملكه
وأيده بالنصر في كل وجهة
سلام على مولاي من دار ملكه
قسنطينة أكرم بها من مدينة
سلام على من زين الله ملك
بنجد وأترك من أهل الرعاية
سلام عليكم شرف الله قدركم
وزادكم ملكا على كل ملة....
وكان السلطان بايزيد يعاني من العوائق التي تمنعه من إرسال المجاهدين، بالإضافة إلى مشكلة النزاع على العرش مع أخيه الأمير جم، وما أثار ذلك من مشاكل مع البابوية في روما وبعض الدول الأوربية، ومع ذلك قام السلطان بايزيد بتقديم المساعدة وتهادن مع السلطان قايتباي لتوحيد الجهود من أجل مساعدة غرناطة ووقَّعا اتفاقًا بموجبه يرسل السلطان بايزيد أسطولًا على سواحل صقلية باعتبارها تابعة لمملكة إسبانيا، وأن يجهز السلطان المملوكي قايتباي حملات أخرى من ناحية أفريقيا، وبالفعل أرسل السلطان بايزيد أسطولًا عثمانيًّا تحول إلى الشواطئ الإسبانية، وقد أعطى قيادته إلى كمال رايس الذي أدخل الفزع والخوف والرعب في الأساطيل النصرانية في أواخر القرن الخامس عشر الميلادي، كما شجع السلطان بايزيد المجاهدين في البحر بإبداء اهتمامِه وعطفه عليهم، وكان المجاهدون العثمانيون قد بدؤوا في التحرك لنجدة إخوانهم المسلمين، وفي نفس الوقت كانوا يغنمون الكثير من الغنائم السهلة الحصول من النصارى، كذلك وصل عددٌ كبير من هؤلاء المجاهدين المسلمين أثناء تشييد الأسطول العثماني، ودخلوا في خدمته بعد ذلك أخذ العثمانيون يستخدمون قوتهم البحرية الجديدة في غرب البحر المتوسط بتشجيع من هؤلاء المجاهدين، وهذا الذي كان في وُسع السلطان بايزيد الثاني فعلُه.
لمَّا بلغَ رسولُ الله صلَّى اللهُ عليه وسلَّم خَمسًا وعِشرين سنةً وليس له بمكَّةَ اسمٌ إلا "الأمينُ"؛ لِمَا تكامَلَ فيه من خِصال الخير، قال له عمُّه أبو طالِبٍ: "يا ابنَ أخي، أنا رجلٌ لا مالَ لي، وقد اشتَدَّ الزَّمانُ علينا، وألَحَّت علينا سِنونَ مُنكَرةٌ، وليس لنا مادَّةٌ ولا تجارةٌ، وهذه عيرُ قومِك قد حَضَرَ خروجُها إلى الشامِ، وخديجةُ بِنتُ خوَيلدٍ تبعَثُ رِجالًا من قومِك في عيرانِها، فيتَّجِرون لها في مالِها، ويُصيبون مَنافِعَ، فلو جِئتَها فوَضَعْتَ نفسَك عليها لأسرَعَت إليك، وفَضَّلَتْكَ على غيرِك، لِمَا يبلُغُها عنك من طهارَتِك، وإن كنتُ لَأكرَهُ أن تأتيَ الشامَ، وأخافُ عليك من يهودَ، ولكن لا نَجِدُ من ذلك بُدًّا".
وكانتْ خديجةُ بِنتُ خوَيلدٍ امرأةً تاجرةً ذاتَ شرفٍ ومالٍ كثيرٍ وتجارةٍ تبعَثُ بها إلى الشَّامِ، فتكونُ عِيرُها كعامَّةِ عِيرِ قُرَيشٍ، وكانت تستأجِرُ الرِّجالَ وتدفَعُ إليهمُ المالَ مُضاربةً، وبلغ خَديجةَ ما كان من صِدقِ حديثِ النبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم وعِظَمِ أمانَتِه، وكرمِ أخلاقِه، فأرسلَتْه في تجارَتِها، فخَرَج مع غُلامِها مَيسَرةَ حتى قدِمَ الشامَ، وجعل عُمومَتُه يوصون به أهلَ العيرِ حتى قدِمَ الشامَ، فنَزَلَا في سوقِ بُصرَى في ظلِّ شجرةٍ قريبًا من صَومعةِ راهِبٍ يُقال له: نِسْطُورَا، فاطَّلَع الرَّاهبُ إلى مَيسَرةَ -وكان يعرِفُه-؛ فقال: "يا مَيسَرةُ، مَن هذا الذي نزَل تحتَ هذه الشجرةِ؟"، فقال مَيسَرةُ: "رجلٌ من قريش من أهلِ الحرمِ". فقال له الرَّاهبُ: "ما نَزَل تحتَ هذه الشجرةِ إلا نبيٌّ".
ثم باع رسول الله صلَّى اللهُ عليه وسلَّم سِلعتَه -يعني: تِجارَتَه- التي خَرَج بها، واشترى ما أراد أن يشتريَ، ثم أقبل قافِلًا إلى مكةَ ومعه مَيسَرةُ؛ فلما قدِمَ مكةَ على خديجةَ بمالِها باعت ما جاء به بأضعَفَ أو قريبًا، وحدَّثها مَيسَرةُ عن قَولِ الراهبِ، وما رَأى من شأنِ النبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، فعَرَضَت نَفسَها عليه رَضي اللهُ عنها، وكانتْ أوسَطَ نساءِ قُريشٍ نَسَبًا وأعظمَهُنَّ شَرَفًا، وأكثَرَهُنَّ مالًا، فلمَّا قالت ذلك لرسولِ الله صلَّى اللهُ عليه وسلَّم ذَكَر ذلك لأعمامِه، فخرج معه عمُّه حمزةُ حتى دَخَل على خويلِدِ بنِ أسَدٍ فخَطَبها إليه، فتزوَّجها النبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، وكانتْ أوَّلَ امرأةٍ تزوَّجَها، ولم يتزوَّج عليها غيرَها حتى ماتت رَضي اللهُ عنها.
في أواخِرِ السنةِ السَّادسةِ من النُّبوَّةِ أسلم حَمزةُ بنُ عبد المطلب رَضي اللهُ عنه. وسببُ إسلامِه: أنَّ أبا جَهلٍ مرَّ برسولِ الله صلَّى اللهُ عليه وسلَّم يومًا عند الصَّفا، فآذاه ونال منه، ورسولُ الله صلَّى اللهُ عليه وسلَّم ساكِتٌ لا يُكلِّمُه، ثم ضَرَبه أبو جَهلٍ بحَجَرٍ في رأسِه فشَجَّه حتى نَزَف منه الدَّمُ، ثم انصَرَف عنه إلى نادي قُرَيشٍ عند الكعبةِ فجَلَس معهم، وكانت مولاةٌ لعَبدِ الله بنِ جُدعانَ في مَسكَنٍ لها على الصَّفا ترى ذلك، وأقبل حَمزةُ من القَنْصِ مُتَوَشِّحًا قَوسَه، فأخبَرَتْه المَولاةُ بما رأتْ من أبي جَهلٍ، فغَضِب حَمزةُ وخرَج يسعى، لم يقِفْ لأحدٍ، مُعِدًّا لأبي جهلٍ إذا لَقيَه أن يوقِعَ به، فلمَّا دَخَل المسجِدَ قام على رأسِه وقال له: "تَشتُمُ ابنَ أخي وأنا على دِينِه!"، ثم ضَرَبه بالقَوسِ فشَجَّه شجَّةً مُنكرةً، فثار رجالٌ من بني مخزومٍ -حيِّ أبي جهلٍ- وثار بنو هاشمٍ -حيِّ حمزةَ- فقال أبو جهلٍ: "دَعوا أبا عِمارةَ! فإنِّي سَبَبتُ ابنَ أخيه سبًّا قبيحًا".
وقال ابنُ إسحاقَ: "ثم رَجَع حمزةُ إلى بيتِه فأتاه الشَّيطانُ فقال: أنت سيِّدُ قُريشٍ اتبعْتَ هذا الصابِئَ، وتركتَ دينَ آبائك، لَلموتُ خيرٌ لك ممَّا صنعتَ. فأقبلَ حَمزةُ على نفسِه وقال: "ما صنعتُ؟! اللَّهمَّ إن كان رُشدًا فاجعَلْ تَصديقَه في قلبي، وإلَّا فاجعَل لي ممَّا وَقعتُ فيه مَخرجًا"، فبات بلَيلةٍ لم يَبِتْ بِمِثلها مِن وَسوسةِ الشَّيطانِ، حتَّى أصبَحَ فغَدا على رسولِ الله صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، فقال: "يا بن أخي، إنِّي قد وَقعتُ في أمرٍ ولا أعرِفُ المَخرجَ منه، وإقامةُ مِثلي على ما لا أدري ما هو، أرُشْدٌ أم هو غَيٌّ شَديدٌ؟ فحدِّثني حديثًا؛ فقدِ اشتَهيتُ يا بنَ أخي أن تُحدِّثَني، فأقبل رسولُ الله صلَّى اللهُ عليه وسلَّم فذكَّره ووَعَظه، وخوَّفَه وبَشَّرَه، فألقَى اللهُ في قلبِه الإيمانَ بما قال رسولُ الله صلَّى اللهُ عليه وسلَّم. فقال: "أشهَدُ أنَّك الصَّادِقُ شهادةَ الصِّدقِ، فأظهِرْ يا بن أخي دينَكَ، فواللهِ ما أُحِبُّ أنَّ لي ما أظلَّتْه السماءُ وأنِّي على ديني الأوَّلِ"؛ فكان إسلامُ حمزةَ رَضي اللهُ عنه أوَّلَ الأمرِ أنَفةَ رجلٍ أبَى أن يُهانَ مَولاهُ، ثم شَرَح اللهُ صدرَهُ، فاسْتمَسْكَ بالعُروةِ الوُثقى، واعتَزَّ به المُسلِمون أيَّما اعتِزازٍ!