وصل رسولٌ إلى شهاب الدين الغوري من عند مُقَدَّم الإسماعيليَّة بخراسان برسالةٍ أنكَرَها، فأمر علاء الدين محمد بن أبي علي متولي بلاد الغور بالمسيرِ في عساكر إليهم ومحاصرةِ بلادهم، فسار في عساكر كثيرةٍ إلى قهستان، وسَمِعَ به صاحب زوزن، فقصده وصار معه وفارق خدمةَ خوارزم شاه، ونزل علاء الدين على مدينة قاين، وهي للإسماعيليَّة، وحَصَرها، وضَيَّق على أهلها، ووصل خَبَرُ قتل شهاب الدين، فصالح أهلَها على ستين ألف دينار ركنية، ورحل عنهم، وقَصَد حصن كاخك فأخذه وقتل المقاتِلة، وسَبى الذريَّة، ورحل إلى هراة ومنها إلى فيروزكوه.
استنجد محمَّدُ الرابع بن إسماعيل مَلِكُ غرناطة بأبي الحَسَنِ علي بن عثمان مَلِك بني مرين لاستردادِ ثَغرِ جبل طارق من الأسبان الذين استولوا عليه سنة 709 فاستجاب أبو الحسَنِ لهذه الدعوة وأرسل جَيشًا بقيادةِ ابنه أبي مالك، فحصَلَت معركةٌ بَحَريَّةٌ أمام جبل طارق هُزِمَ فيها القشتاليون واستسلمت حاميةُ الجبل فاسترَدَّها المسلمون من الأسبان، ثم بعد فترة تم اغتيال محمد الرابع بن إسماعيل بتحريضٍ من مُنافِسيه في المُلكِ، فتَمَّ استخلاف أخيه أبي الحَجَّاج يوسف الأول بن أبي الوليد إسماعيل، وهو فتى في السادسة عشرة من عُمُرِه.
قَدِمَ دمشقَ عليُّ بن الحسن بن أبي الفضل بن جعفر بن محمد بن كثير الحلبي الرافضيُّ، وأقام بها سنواتٍ، فاتفق أنَّه شَقَّ الصفوف والناسُ في صلاةِ جنازةٍ بالجامِعِ الأمويِّ وهو يلعَنُ ويسُبُّ من ظَلَم آلَ مُحمَّدٍ، فانتَهَره عمادُ الدين ابنُ كثيرٍ، وأغرى به العامَّةَ، وقال: إنَّ هذا يسُبُّ الصحابةَ، فحملوه إلى القاضي تقي الدين السبكي فاعترف بسَبِّ أبي بكر وعمر، فعَقَدوا له مجلسًا، فحكَم نائِبُ المالكي بضَربِ عُنُقِه بعد أن كُرِّرَت عليه التوبةُ ثلاثةَ أيامٍ، فأصَرَّ فضُرِبَت عُنُقُه بسوق الخيلِ وحَرَق العوامُّ جَسَده
بعد أن طرد العثمانيون ملكَ النمسا فرديناند من المجَر؛ لتدخله في أمورِها وحصارِهم لفيينا سنة936. عاد ملك النمسا بجيشه هذا العام ودخل بودابست، لكنه لم يستطع أن يستوليَ عليها؛ بسبب مقاومة الحامية العثمانية فيها، فلما سار الخليفةُ سليمان بجيشه نحو المجر ليُخرج منها ملك النمسا طلب الملك فرديناند من الخليفة الصلحَ فوافق عليه وعلى الرجوع بجيشه, وذلك لِما بلغه من قوة استعدادات شارلكان الدفاعية، وأنَّ سفنًا بحرية تابعة لشارلكان والبابا احتلَّت بعض المواقع في شبه جزيرة المورة اليونانية التابعة للدولة العثمانية؛ لذلك آثر الخليفة سليمان أن يوقِعَ المعاهدة مع النمسا.
استطاع الهولنديون أصحابُ شركة الهند الشرقية الهولندية أن يدخُلوا الخليج العربي عن طريقِ تحالُفِهم مع الإنكليز، ثم إن الهولنديين أرادوا التوغُّلَ بتجارتهم وأطماعِهم أكثَرَ من ذلك، فاستطاعوا الظهورَ في البصرة بعد أن عرفوا أنَّ التجارةَ فيها رابحةٌ، فمدُّوا نشاطَهم إلى العراق، وأرسلوا سفُنَهم إلى البصرة، واستطاعوا أن يأخذوا السوقَ من الإنكليز وخاصة بوجود الامتيازات الممنوحة لهم من قِبَل علي باشا من أسرة آفراسياب، ووصل أمرُ الهولنديين في البصرةِ إلى أن أصبحوا يمنَعون الإنكليز والبرتغاليين من الوصولِ إلى البصرة بالقوة، حتى انسحبت مضطرةً شركةُ الهند الشرقية الإنكليزية تاركةً الساحةَ أمام الهولنديين الذين أصبحوا هم المسيطرين على البصرةِ تجاريًّا وعسكريًّا.
حاولت روسيا أن تعقد مع تركيا عهدًا مقتضاه استقلالُ القرم وأن تستولي روسيا على قلعة كرتس وبناء قلعة في مدخل بحر أزوف، وأن تكون الملاحةُ حرَّةً لروسيا في جميع موانئ الدولة التركية في البحر الأسود، وأن يكون لتلك الدولةِ حَقُّ حماية المسيحيين الأرثوذكس في تركيا، فرفضت تركيا هذا الشرطَ الأخير، فعاد الجفاء بين الدولتين على ما كان عليه، فتقدَّم الصدر الأعظم محسن زاده باشا وانتصر على الروسِ بجوار بزارجق ووارنة، وصَدَّهم أيضًا علي باشا الداغستاني أمام روسجق، ودحرهم عثمان باشا دحورًا عظيمًا، وقتل منهم تسعة آلاف وأسرَ الجنرال وينين، وقُتل الجنرال واسمان من جرحٍ أصابه.
اقتحمتْ مجموعةٌ من مُقاتلي الإنقاذِ (الجَناح العَسْكري للجَبْهة الوطنيَّة لإنقاذِ ليبيا) مُعَسكَرَ باب العزيزيةِ في طرابلس، وقد اشتبكتْ هذه المجموعةُ مع قُوَّات ليبيَّةٍ وأجنبيةٍ تحرُسُ المُعَسكَرَ لفترةٍ تراوحتْ بين خَمسِ وسَبعِ ساعاتٍ استُخدمت فيها كافَّةُ الأسلحة، وقد قُتل جميعُ الذين اشتركوا في العملية من المُقاتِلينَ وعددُهم ثمانية، ولم يتمكَّنْ بعض الموجودين في المُعَسكَرِ من الفَرار عبر أحد المخابئ السِّريَّةِ، إلا بعدما تدخَّلت قُوَّات مُدرَّعة، وحَرَس أجنبيٌّ، وعلى الأخصِّ الألمانُ الشرقيُّون، وسقط في هذه المعركة من الجانب الآخر عددٌ يتراوح بين 100 و120 شخصًا ما بين قَتيلٍ وجَريحٍ، وقد انضمَّ عددٌ من الجُنود الليبيِّينَ إلى جانِبِ المُقاتِلينَ.
بالتَّعاوُنِ مع مليشياتِ الحيِّ النُّصَيريِّ في بعل محسن في طرابلس، أقدمتِ القُوَّاتُ السُّوريَّةُ على حِصارِ ودكِّ مدينةِ طرابلس عاصمةِ أهل السُّنَّة في شمال لبنان. وكانت قد ارتكبتْ مَجزرةً في مُخيَّماتِ بيروت قبل ذلك بأُسبوعٍ، وعلى مَدارِ 20 يومًا ذكرتْ وِكالاتُ الأنباءِ: أنَّ أكثَرَ من مِليونِ صاروخٍ وقذيفةٍ دمَّرت أكثَرَ من نِصف مباني المدينةِ وجعلتْها معزولةً عن العالَمِ، وساهمتِ القُوَّاتُ اللُّبنانية الكتائبيَّةُ النَّصْرانيَّةُ في الحِصارِ، ومَنعِ الوَقودِ والدَّقيقِ عن طرابلس، وقد قُتِل في هذه المجزرةِ عِدَّةُ آلافٍ، وفرَّ من المدينة أكثرُ من 300 ألف نسمةٍ، وحُلَّت الأحزابُ الإسلامية، وتمَّ توقيعُ الاتفاقِ على نَزعِ سِلاحِها بواسطةِ إيرانَ.
أخذت أوضاعُ الرئيس التُّونسيُّ الحبيب بورقيبة تزداد سُوءًا جِسميًّا ونفسيًّا، حتى أثَّر ذلك على قراراته الرئاسية، وتقدَّمت به السِّنُّ حتى فقد الرصانة في تسيير الحُكم كما فقَدَ المنطقَ، وأخذ تأثيرُ الحاشية يَظهر على القرارات السياسيَّة، فقام في 16 ربيع الأول 1408هـ / 7 تشرين الثاني 1987م الوزيرُ الأوَّل زين العابدين بن علي بتنحيةِ الرئيس الحبيب بورقيبة وتسلَّم السُّلطة، وأخذ بإزالة العَهدِ الماضي، فأزال التماثيلَ التي ملأتِ الشَّوارعَ للحبيب بورقيبة، وأخرَجَ كثيرًا من قادة التيَّار الإسلامي من المُعتقلات، ولكنَّه لم يلبث على هذا طويلًا؛ إذ رجع، فسار على نفس الطريق الذي سار عليه سَلَفُهُ.
إعلانُ اختتام مفاوضات الهيئة الحكومية الدولية المعنيَّة بالتنمية (IGAD) بشأن السلام في السودان من قِبَل حكومة السودان والجيش الشعبي/الحركة الشعبية لتحرير السودان، جيجيري، نيروبي، 19 نوفمبر 2004م، وينصُّ اتفاقُ نيفاشا بكينيا الذي وقَّعَتْه حكومةُ الخرطوم مع قرنق في 9 يناير/ كانون الثاني 2003م على وضع حدٍّ للحرب الأهلية التي دارت في جنوب السودانِ أكثرَ من 20 عامًا، وعلى أنْ تُشكَّل حكومةٌ انتقاليةٌ لمدة ست سنوات، يُخصَّص 52% من حقائبها لحزب البشير وطه، و28% للحركة الشعبية التي يتزعمها قرنق، و14% للفصائل الشمالية، و6% للفصائل الجنوبية.
الإمامُ، الحافظُ، المُجَوِّدُ، المُقرِئُ، الحاذِقُ، عَالِمُ الأندلُس، أبو عَمرٍو عُثمانُ بن سَعيدِ بن عُثمان الدَّاني، المعروف بابنِ الصَّيْرَفِيِّ، وبأبي عَمرٍو الدَّاني، مالِكي المَذهَب، وُلِدَ سنة 371هـ بدأ بِطَلَبِ العِلمِ في قُرطبة سَنةَ 386هـ, ثم رَحلَ إلى المَشرِق وسَمِعَ الحَديثَ في القَيروان ومصر، وهو أَحدُ الأَئِمَّة في عِلمِ القُرآن رِواياتِه، وقِراءاتِه، وتَفسيرِه، ومَعانِيه، وطُرُقِه، وإعرابِه، وإليه انتهى عِلمُ القِراءات وإتقانُ القُرآن، وجَمعَ في ذلك كُلِّهِ تَواليفَ حِسانًا مُفيدةً، وله مَعرِفَة بالحَديثِ وطُرُقِه، وأسماء رِجالِه ونَقَلَتِهِ، وكان حَسَنَ الخَطِّ، جَيِّدَ الضَّبطِ، مِن أهلِ الذَّكاءِ والحِفظِ، والتَّفنُّنِ في العِلمِ، دَيِّنًا فاضِلًا، وَرِعًا مُجابَ الدَّعوةِ. لم يكُن في عَصرِه ولا بَعدَ عَصرِه أحدٌ يُضاهيهِ في حِفظهِ وتَحقيقِه، وكان يقول: "ما رأيتُ شَيئًا قط إلا كَتبتُه، ولا كَتبتُه إلا وحَفِظتُه، ولا حَفِظتُه فنَسيتُه". وكان يُسألُ عن المَسأَلةِ مما يَتعلَّق بالآثارِ وكلامِ السَّلفِ، فيُورِدها بجميعِ ما فيها مُسنَدَةً من شُيوخِه إلى قائلِها. وله مُؤلَّفاتٌ تُعتَبر هي المرجِعُ في القِراءات مثل: ((التَّيسير في القِراءاتِ السَّبْعِ))، و((المقنع في رَسْمِ المصاحِف)) و((المُحكَم في نَقْطِ المصاحِف)) و((الاهتداء في الوقفِ والابتداء)) وغيرها، قال الذهبي: " كان بين أبي عَمرٍو الدَّاني، وبين أبي محمد بن حَزمٍ وَحشَةٌ ومُنافرَةٌ شَديدةٌ، أَفضَت بهما إلى التَّهاجي، وهذا مَذمومٌ مِن الأَقرانِ، مَوفورُ الوُجودِ، نَسألُ اللهَ الصَّفحَ, وأبو عَمرٍو أَقْوَمُ قِيلًا، وأَتْبَعُ للسُّنَّةِ، ولكنَّ أبا مُحمدٍ أَوسعُ دَائِرةً في العُلومِ، بَلغَت تَواليفُ أبي عَمرٍو مائةً وعِشرين كِتابًا". تُوفِّي في الأَندلُس عن 73 عامًا. ودُفِنَ ليومِه بعدَ العَصرِ بِمَقبرةٍ دانِيَةٍ، ومَشى سُلطانُ البَلدِ أمامَ نَعشِه، وشَيَّعَهُ خَلْقٌ عَظيمٌ.
هو نَصرُ الدَّولةِ أحمدُ بن مَروان الكُردي، صاحبُ دِيارِ بِكرٍ، ولَقَبُه القادرُ بالله نَصرُ الدولةِ، واستَولى على الأُمورِ ببِلادهِ استِيلاءً تامًّا، وعَمَّرَ الثُّغورَ وضَبطَها، وتَنَعَّم تَنَعُّمًا لم يُسمَع بمِثلِه عن أَحدٍ مِن أَهلِ زَمانِه، ومَلَكَ خمسمائة سُرِّيَّةٍ سوى تَوابعهنَّ، وخمسمائة خادم، وكان في مَجلسِه من الآلاتِ ما تَزيدُ قَيمتُه على مائتي ألف دينارٍ، وتَزوَّج من بناتِ المُلوكِ جُملةً، وأَرسلَ طبَّاخين إلى الدِّيارِ المِصريَّة، وغَرِمَ على إرسالِهم جُملةً وافرةً حتى تَعلَّموا الطَّبْخَ من هناك، وأَرسلَ إلى السُّلطانِ طُغرلبك هَدايا عظيمةً، مِن جُملتِها الجَبلُ الياقوتُ الذي كان لِبَنِي بُويه، اشتَراهُ مِن المَلِكِ العزيزِ أبي منصورِ بن جَلالِ الدَّولةِ، وأَرسلَ معه مائةَ ألف دينارٍ سوى ذلك، ووَزَرَ له أبو القاسمِ بن المغربي، وفَخرُ الدَّولةِ بن جَهيرٍ، ورَخُصَت الأَسعارُ في أَيَّامِه، وتَظاهَر النَّاسُ بالأموالِ، ووَفدَ إليه الشُّعراءُ، وأَقامَ عندَه العُلماءُ والزُّهَّادُ. قال ابنُ خلكان: "قال ابنُ الأزرقِ في تاريخِه: إنَّه لم يُصادِر أحدًا مِن رَعِيَّتِه سوى رَجُلٍ واحدٍ، ولم تَفُتْهُ صلاةُ الفَجرِ مع كَثرةِ مُباشرَتِه للَّذاتِ، وكان له ثلاثمائة وسِتُّون حَظِيَّةً، يَبيتُ عند كُلِّ واحدةٍ لَيلةً في السَّنَةِ، وخَلَّفَ أَولادًا كَثيرةً"، ولم يَزل على ذلك إلى أن تُوفِّي في التاسع والعشرين من شَوَّال من هذه السَّنةِ. تُوفِّي نَصرُ الدَّولةِ عن عُمُرِ نَيِّفٍ وثمانين سَنةٍ، وإمارتُه اثنتين وخمسين سَنةً. ولمَّا مات اتَّفقَ وَزيرُه فَخرُ الدولةِ بن جَهيرٍ وابنُه نَصرُ، فرَتَّبَ نَصرًا في المُلْكِ بعدَ أَبيهِ، وجَرى بينه وبين أَخيهِ سَعيدٍ حُروبٌ شَديدةٌ كان الظَّفَرُ في آخرِها لنَصرٍ، فاستَقرَّ في الإمارةِ بميافارقين وغيرِها، ومَلَكَ أَخوهُ سَعيدٌ آمد.
اشتدَّ الغلاء بأنطاكية وحلب؛ لأن الزرع عرق ولحقه هواء عند إدراكه فأتلفه، وهرب الفلاحون للخوف، واستدعى أهل حلب ابن قراجا من حمص، فرتب الأمور بها، وحصنها، وسار إلى حلب، ونزل في القصر خوفًا من إيلغازي لِما كان بينهما. وخرج أتابك طغتكين من دمشق إلى حمص، ونهب أعمالها وشعثها، وأقام عليها مدة، وعاد إلى دمشق لحركة الفرنج. وخرجت قافلة من حلب إلى دمشق فيها تجار وغيرهم، وحملوا ذخائرهم وأموالهم لما قد أشرف عليه أهل حلب. فلما وصلوا إلى القبة نزل الفرنج إليه، وأخذوا منهم المكس، ثم عادوا وقبضوهم وما معهم بأسرهم، ورفعوهم إلى القبة، وحملوا الرجال والنساء بعد ذلك إلى أفامية، ومعرة النعمان، وحبسوهم ليُقِروا عليهم مالًا؛ فراسلهم أبو المعالي بن الملحى ورغَّبهم في البقاء على الهدنة وألَّا ينقضوا العهد، وحمل إلى صاحب أنطاكية مالًا وهدية، فردَّ عليهم الأحمال والأثقال وغير ذلك، ولم يُعدَم منه شيء. وقَوِيَ طمع الفرنج في حلب؛ لعدم نجدتها، وضعفها، وغدروا ونقضوا الهدنة، فأغاروا على حلب، وأخذوا مالًا لا يحصيه إلا الله، فراسل أهل حلب أتابك طغتكين، فوعدهم بالإنجاد، فكسره جوسلين وعساكر الفرنج، وراسلوا صاحب الموصل وكان أمره مضطربًا بعد عوده من بغداد. ونزل الفرنج بعد عودهم من كسرة أتابك على عزاز، وضايقوها، وأشرفت حلب على الأخذ، وانقطعت قلوب أهلها؛ إذ لم يكن بقي لحلب معونة إلا من عزاز وبلدها وبقية بلد حلب في أيدي الفرنج، والشرقي خراب مجدب، والقوت في حلب قليل جدًّا، ومكوك الحنطة بدينار، وكان إذ ذاك لا يبلغ نصف مكوك بمكوك حلب الآن، وما سوى ذلك مناسب له.
لما فرغ عماد الدين زنكي من أمرِ البلاد الشامية، حلب وأعمالها، وما ملكه، وقرَّر قواعده؛ عاد إلى الموصل، وديار الجزيرة؛ ليستريح عسكره، ثم أمرهم بالتجهُّز للغَزاة، فتجهزوا وأعدُّوا واستعدوا، وعاد إلى الشام وقَصَد حلب، فقَوِيَ عَزمُه على قصد حصن الأثارب ومحاصرته؛ لشدة ضرره على المسلمين، وهذا الحصن بين حلب وبين أنطاكية، وكان مَن به من الفرنج يقاسمون حلب على جميع أعمالها الغربية، وكان أهل البلد معهم في ضرٍّ شديد وضيق كل يوم؛ قد أغاروا عليهم، ونهبوا أموالهم. فلما رأى زنكي هذه الحالَ صَمَّم العزمَ على حصر هذا الحصن، فسار إليه ونازله، فلما علمَ الفرنج بذلك جمعوا فارِسَهم وراجِلَهم، وعلموا أن هذه وقعة لها ما بعدها، فحشدوا وجمعوا ولم يتركوا من طاقتهم شيئًا إلا استنفدوه، فلما فرغوا من أمرهم ساروا نحوه، ثم ترك عماد الدين الحصن وتقدم إليهم، فالتقوا واصطفُّوا للقتال، وصبر كلُّ فريق لخصمه، واشتدَّ الأمر بينهم، ثم إن الله تعالى أنزل نصره على المسلمين فظفروا، وانهزم الفرنج أقبحَ هزيمة، ووقع كثيرٌ من فرسانهم في الأَسْر، وقُتِل منهم خلق كثير، فلما فرغ المسلمون من ظَفَرِهم عادوا إلى الحصن فتسلَّموه عَنوةً، وقتلوا وأسروا كل من فيه، وأخربه عماد الدين، وجعله دكًّا، ثم سار منه إلى قلعة حارم، وهي بالقرب من أنطاكية، فحصرها، وهي أيضًا للفرنج، فبذل له أهلها نصف دخل بلد حارم وهادنوه، فأجابهم إلى ذلك،وعاد عنهم وقد استقوى المسلمون بتلك الأعمال؛ قال ابن الأثير تعليقًا على انتصارات زنكي في حصن الأثارب وقلعة حارم: "وضعفت قُوى الكافرين، وعلموا أن البلاد قد جاءها ما لم يكن لهم في حساب، وصار قصاراهم حِفظَ ما بأيديهم بعد أن كانوا قد طَمِعوا في ملك الجميع".
إن الناصر داودَ صاحب الكرك لما ضاقت به الأمورُ استخلف ابنَه الملكَ المعظم شرفَ الدين عيسى، وأخذ معه جواهِرَه، وسار في البر إلى حَلَب مستجيرًا بالملك الناصرِ يوسف بن الملك العزيز فأنزله وأكرَمَه وسيَّرَ النَّاصِرَ بجواهره إلى الخليفةِ المستعصم بالله؛ لتكون عنده وديعة، فقبض الخليفةُ ذلك، وسير إليه الخطَّ بقبضه وأراد الناصرُ بذلك أن يكون الجوهَرُ في مأمن، فإذا احتاج إليه طلَبَه، وكانت قيمتُه ما ينيِّف على مائة ألف دينار، فحنق ولدا الناصرِ وهما الملك الظاهر شادي والملك الأمجد حسن على أبيهما، لكونِه قَدَّمَ عليهما المعظَّم، وقبضا على المعظَّم، واستوليا على الكرك وأقام الملكُ الظاهر شادي- وهو أسنُّ إخوتِه- بالكرك وسار الملك الأمجدُ حَسَن إلى الملك الصالح نجم الدين، فوصل إلى العسكرِ بالمنصورة، يوم السبت لتسعٍ مَضَين من جمادى الآخرة، وبَشَّره بأنه هو وأخوه الظاهر أخذا الكرك له، فأكرمه السلطانُ، وأعطاه مالًا كثيرًا، وسيَّرَ الطواشي بدر الدين الصوابي إلى الكرك نائبًا بها وبالشوبك، فتسَلَّمَها بدر الدين، وسيَّرَ أولاد الناصر داود جميعهم، وأخويه الملك القاهر عبد الملك، والملك المغيث عبد العزيز، ونساءهم وعيالاتهم كُلَّها، إلى المعسكر بالمنصورة، فأقطعهم السلطانُ إقطاعًا جليلًا، ورتَّب لهم الرواتَب، وأنزل أولادَ الناصر في الجانب الغربيِّ قُبالة المنصورة، وكان استيلاءُ نائب السلطان على الكرك يوم الاثنين، لاثنتي عشرة بَقِيَت من جمادى الآخرة، وسُرَّ السلطان بأخذ الكرك سرورًا عظيمًا، وأمَرَ فزينت القاهرة ومصر، وضُرِبَت البشائر بالقلعتين، وجهَّزَ السلطان إلى الكرك ألف ألف دينار مصرية، وجواهر وذخائر وأسلحة، وشيئًا كثيرًا مما يعِزُّ عليه.