هو السُّلطانُ المَلِكُ المنصور علي ابن الأشرف شعبان بن حسين الناصر بن المنصور قلاوون. مَرِضَ السلطان المنصور ولزم الفراش، حتى مات بين الظُّهرِ والعصر من يوم الأحد الثالث والعشرين صفر، ودفن من ليلته بعد عشاء الآخرة في تربةِ جَدَّتِه لأبيه خوند بركة بالقُبَّة التي بمدرستها بالتبانة، وكان الذي تولَّى تجهيزه وتغسيلَه ودَفْنَه الأميرَ قطلوبغا الكوكائي، وكانت مُدَّة سلطنته على ديار مصر خمس سنين وثلاثة أشهر وعشرين يومًا، ومات وعُمُرُه اثنتا عشرة سنة، ولم يكن في سلطنته سوى مجرَّد الاسم فقط، وإنما كان أمرُ المملكة في أيام سلطنته إلى قرطاي أولًا ثم إلى برقوق آخِرًا، وهو كالآلة معهم لصِغَرِ سنه ولغَلَبَتِهم عليه، وتسَلْطَنَ مِن بعده أخوه أمير حاج ابن الملك الأشرف شعبان بن حسين، ولم يَقدِرْ برقوق- مع ما كان عليه من العظمة- أن يتسلطَنَ، وتلَقَّبَ بالمَلِك الصالح، ولما تمَّ أمرُ الملك الصالح هذ،ا ألبسوه خِلعةَ السلطنة، وركب من باب الستارة بأُبَّهة الملك، وبرقوقٌ والأمراءُ مُشاةٌ بين يديه، إلى أن نزل إلى الإيوان بقلعة الجبل، وجلس على كرسيِّ المُلك، وقَبَّلَت الأمراءُ الأرض بين يديه، ثم مُدَّ السِّماطُ وأكَلَت الأمراء، ثم قام السلطانُ الملك الصالح ودخل القصر، وخلع على الخليفةِ المتوكِّلِ على اللهِ خِلعةً جميلة، ونودي بالقاهرةِ ومصر بالأمانِ والدعاء للملك الصالح حاجي، وخلع السُّلطانُ على الأتابك برقوق، واستقر على عادته أتابكَ العساكِرِ ومُدَبِّرَ الممالك؛ لصغر سن السلطان، وكان سن السلطان يوم تسلطن نحو تسع سنين تخمينًا.
هو الشَّيخُ الإمامُ العالم شهابُ الدين أبو العباس أحمد بن حمدان بن أحمد بن عبد الواحد بن عبد الغني بن محمد بن أحمد بن سالم بن داود الأذرعي الشافعي، نزيلُ حَلَب، وُلِدَ سنة 707، وتفَقَّه بدمشق قليلًا، وناب في بعض النواحي في الحُكمِ بها، ثم تحوَّل إلى حلب فقَطَنَها، وناب في الحُكم بها، ثم ترك وأقبَلَ على الاشتغال والتصنيف والفتوى والتدريس، وجمع الكتبَ حتى اجتمع عنده منها ما لم يحصُلْ عند غيره، وظَفِرَ من النقولِ ما لم يحصُلْ لأهل عصره، وذلك بيِّنٌ في تصانيفه، وتعَقَّب "المهمات" للإسنوي بقدر حَجمِها، والذي بيَّضَه منها إلى النكاح في أربع مجلداتٍ، وهو ثَبْتٌ في النقل وسَطٌ في التصرفات، قاصِرٌ في غير الفقهِ، وأجاز له القاسم بن عساكر والحجَّار وغيرهما، وسمع من الكمال بن عبد وطائفة، وجمع له شهاب الدين بن حجي مشيخة، وتفقه بشيوخ عصره ومهر في الفن، وكان اشتغالُه على كِبَر، وكان عديمَ النَّظِير، فقيهًا عالِمًا، وسأل السبكي أسئلةً شهيرة اسمها الحلبية، وصنف شرحين على المنهاج، وجمع على الروضة كتابًا سماه التوسط والفتح بين الروضة والشرح، أكثَرَ فيه من النقولاتِ المفيدة، وانتهت إليه رئاسةُ العلم بحلب، مات بها في نصف جمادى الآخرة عن نيف وسبعين سنة بعد أن حصل له عَرَجٌ وقليلُ صَمَمٍ وضَعفُ بَصَر، وله شِعرٌ، فمنه ما حكاه ابنه عبد الرحمن عنه.
سار الأميرُ يلبغا الناصري نائِبُ حلب بعسكر حلب إلى إلبيرة، يريدُ تعدية الفرات، فجاءه الخبر بعصيانِ الأمير علاء الدين ألطنبغا السلطاني نائب الأبلستين، وأنه لم يحلِفْ للسلطان برقوق واستولى على قلعةِ درندة وطلع إليها، وأمسك بعض أمرائِها، وأطلع إليها ذخيرة وميرة، فركب العسكَرُ الذي بالمدينة عليه، وأمسكوا رجالَه، فطلب الأمان منهم، وفَرَّ مِن القلعة إلى الأبلستين، فكتب إليه الأميرُ يلبغا الناصري يهَدِّدُه ويُخيفه، فلم يَرجِعْه إليه، ومَرَّ هاربًا على وجههِ إلى بلاد التتر، فعاد الأمير يلبغا إلى حلب.
هو السُّلطانُ المَلِكُ المعِزُّ حسين بن أويس ابن الشيخ حسن بن حسين بن آقبغا بن أيلكان، المنعوت بالشيخ حسين، سلطان بغداد وتبريز وما والاهما، وكان سبط القان أرغون بن بوسعيد ملك التتار، ولِيَ سلطنة بغداد في حياة أبيه؛ لأنَّ والده أويسًا كان رأى منامًا يدُلُّ على موته في يومٍ مُعَيَّن، فاعتزل المُلْكَ وسَلْطَنَ ولَدَه هذا، ودام الشيخُ حسين هذا في الملك إلى أن قتَلَه أخوه السلطان أحمد بن أويس وملك بغداد بإشارة الشيخ خجا الكجحاني في هذه السنة، ولقد كانت العراقُ في أيامه مطمئنَّةً معمورة إلى أن مَلَكَها أخوه أحمد بعده، فاضطربت أحوالُها إلى أن قُتِلَ، ثمَّ مَلَكَها قرا يوسف وأولادُه، فكان خراب العراق على أيديهم، وبالجملةِ فكان الشيخ حسين شَهمًا شُجاعًا حَسَن السياسة, وهو آخِرُ ملوك بغداد والعراق من المغول.
تأخَّرَ الصِّربُ والبلغار في دفع الجزية، ويبدو أنَّ ذلك عن اتفاق بينهم، فتوجَّهَت الجيوش العثمانية إلى بلادِهم، ففتحت بعضَ المدن الصربية التي تقع اليومَ جنوبي يوغسلافيا، كما حاصرت عاصمة البلغار صوفيا، وفتحتها بعد حصار دام ثلاث سنواتٍ، فكان في هذه السَّنةِ الفَرَجُ بفَتحِها، كما فُتِحَت مدينة سلانيك المدينة اليونانية المشهورة والواقعة على بحر إيجه.
حاوَلَ بَعضُ الأمراء القضاءَ على برقوق وقَتْلَه، لكنَّه استطاع أن يقبِضَ عليهم ويسجِنَهم، ولكنه استمَرَّ بعد مَسْك هؤلاء في تخوف عظيم، واحترز على نفسه من مماليكِه وغيرِهم غايةَ الاحتراز، فأشار عليه بعد ذلك أعيانُ خشداشيته- زملاء مهنته- وأصحابه مثل أيتمش البجاسي، وألطنبغا الجوباني أمير مجلس، وقردم الحسني، وجركس الخليلي ويونس النوروزي الدوادار وغيرهم أن يتسلطَنَ ويحتَجِبَ عن الناس ويستريح ويُريحَ مِن هذا الذي هو فيه من الاحترازِ مِن قيامه وقعودِه، فجَبُنَ عن الوثوب على السلطنةِ وخاف عاقبةَ ذلك، فاستحَثَّه الأمراء، فاعتذر بأنه يهابُ قُدَماءَ الأمراء بالديار المصرية والبلاد الشامية، فركِبَ سودون الفخري الشيخوني حاجِبُ الحُجَّاب ودارَ على الأمراء سرًّا حتى استرضاهم، وما زال بهم حتى كلَّموا برقوقًا في ذلك وهَوَّنوا عليه الأمرَ وضَمِنوا له أصحابَهم من أعيان النواب والأمراء بالبلاد الشامية، وساعدهم في ذلك موتُ الأمير آقتمر عبد الغني؛ فإنَّه كان من أكابر الأمراء، وكان برقوقٌ يجلس في الموكِبِ تحتَه لِقِدَم هِجرتِه، وكذلك بموتِ الأمير أيدمر الشمسي؛ فإنه كان أيضًا من أقران اقتمر عبد الغني، فماتا في سنة واحدة، فعند ذلك طابت نفسُه وأجاب، وصار يقَدِّمُ رِجلًا ويؤخر أخرى، حتى كان يوم الأربعاء تاسع عشر شهر رمضان من هذه السنة طلع الأمير قطلوبغا الكوكائي أمير سلاح وألطنبغا المعلم رأس نوبة إلى السلطان الملك الصالح أمير حاج فأخذاه من قاعة الدهيشة وأدخلاه إلى أهلِه بالدور السلطانيَّة، وأخذا منه النمجاة- سيف خاص بالملك أو السلطان- وأحضراها إلى الأتابك برقوقٍ العثماني، وقام بقيَّةُ الأمراء من أصحابه على الفور وأحضروا الخليفةَ والقُضاة وسَلْطَنوه، وخُلِعَ الملك الصالح من السلطنة، فكانت مُدَّة سلطنته على الديار المصرية سنة واحدة وسبعة أشهر تنقُصُ أربعة أيام، على أنَه لم يكن له في السلطنة من الأمر والنهي لا كثيرٌ ولا قليل، أما السلطان المَلِكُ الظاهر فهو أبو سعيدٍ سَيفُ الدين برقوق بن آنص العثماني اليلبغاوي الشركسي، القائم بدولة الشراكسة بالدِّيارِ المصرية، وهو السلطان الخامس والعشرون من ملوك الترك بالديار المصرية، والثاني من الشراكِسة، إن كان المَلِكُ المظَفَّر بيبرس الجشنكير شركسيًّا؛ فقد قيل إن أصله تركي، وعليه فبرقوق هذا هو الأول من ملوك الشراكسة، وهو الأصحُّ، جلس على تخت الملك في وقت الظهر من يوم الأربعاء تاسع عشر شهر رمضان بعد أن اجتمع الخليفةُ المتوكل على الله أبو عبد الله محمد والقضاة وشيخُ الإسلام سراج الذين عمر البلقيني، وخطب الخليفة المتوكل على الله خطبة بليغة، ثم بايعه على السَّلطنةِ وقَلَّدَه أمورَ المملكة، ثم بايعه من بعدِه القضاة والأمراء، ثم أُفيضَ على برقوق خِلعة السلطنة، وهي سوداء خليفتية على العادة، وأشار السراجُ البلقيني أن يكون لَقَبُه الملك الظاهر؛ فإنَّه وقت الظهيرة والظهور، وقد ظهر هذا الأمرُ بعد أن كان خافيًا، فتلَقَّبَ بالملك الظاهر، وبه يبدأُ عهد المماليك البُرجية وينتهي عهدُ المماليك البحريَّة، ويُذكَرُ أن أصله من بلاد الشركس، ثمَّ أُخِذَ من بلاده وبِيعَ بمدينة قرم، فاشتراه خواجا عثمان بن مسافر وجلبه إلى مصر فاشتراه منه الأتابك يلبغا العمري الخاصكي الناصري في حدود سنة 764 وقبلها بيسير وأعتَقَه وجعله من جملة مماليكِه، واستمَرَّ أمره حتى صار أتابكَ العساكِرِ.
والشراكسة شعب مسلم موطنه الأصلي مرتفعات القوقاز بين البحر الأسود وبحر قزوين.
في شَهرِ جمادى الأولى اتَّفَق بناحية برما من الغربية أنَّ طائفة من مُسلِمةِ النصارى، صَنَعوا عُرسًا جمعوا فيه عِدَّةً من أرباب الملاهي، فلما صَعِدَ المؤذن ليسَبِّحَ الله تعالى في الليل على العادة، سَبُّوه وأهانوه، ثم صَعِدوا إليه وأنزلوه، بعدما ضربوه، فثار خطيب الجامِعِ بهم؛ ليُخَلِّصَه منهم، فأوسعوه سبًّا ولعنًا وهَمُّوا بقتله وقَتْلِ من معه، فقَدِمَ إلى القاهرة في طائفة، وشكَوا أمرهم إلى الأمير سودن النائب، فبعث بهم إلى الأمير جركس الخليلي؛ من أجل أن ناحية برما من جملة إقطاعه، فلم يَقبَلْ أقوالهم، وسَجَن عِدَّةً منهم، فمضى من بَقِيَ منهم إلى أعيان الناس، كالبلقيني وأمثاله، وتوجَّهَ الحافظ المعتمد ناصر الدين محمد فيق إلى الخليلي، وأغلَظَ عليه حتى أفرج عمَّن سَجَنَه، فغضب كثيرٌ من أهل برما واستغاثوا بالسلطانِ، فأنكر على الخليلي ما وقع منه، وبعث الأميرَ أبدكار الحاجِبَ للكشف عما جرى في برما، فتبين له قُبحُ سيرة المسألة فحمَلَهم معه إلى السلطان، فأمر بهم وبغُرَمائِهم أن يتحاكموا إلى قاضي القضاة المالكية، فادعى عليهم بقوادِحَ، وأُقيمَت البَيِّنات بها فسجَنَهم، واتفق أن الخليلي وقعت في شونة قصب له نارٌ أحرقتها كلها، وفيها جملة من المال، وحدث به وَرَمٌ في رجله، اشتد ألمه فلم يزل به حتى مات؛ وذلك عقوبة له لمساعدةِ أهل الزندقة!
في أوَّلِ شَهرِ رَجَب من هذه السنة طلع الأميرُ صلاح الدين محمد بن محمد بن تنكز نائب الشام إلى السلطانِ ونقل له عن الخليفة المتوكل على الله أبي عبد الله محمد أنَّه اتفق مع الأمير قرط بن عمر التركماني المعزول عن الكشوفيَّة ومع إبراهيم بن قطلوقتمر العلائي أمير جاندار ومع جماعةٍ من الأكراد والتركمان، وهم نحو من ثمانمائة فارس، أنَّهم يَثِبون على السلطان إذا نزل من القَلعةِ إلى الميدان في يوم السَّبتِ لِلَّعِبِ بالكرة يقتلونَه ويمكنون الخليفةَ مِن الأمرِ والاستبدادِ بالمُلكِ، فحَلَّف السلطانُ ابن تنكز على صِحَّة ما نقل، فحلف له، وطلب أن يحاقِقَهم على ذلك، فبعث السلطانُ إلى الخليفة وإلى قرط وإلى إبراهيم بن قطلقتمر، فأحضرهم وطلب سودون النائب وحَدَّثه بما سمع، فأخذ سودون ينكِرُ ذلك ويستبعد وقوعَه منهم، فأمر السلطان بالثلاثة فحضروا بين يديه وذكر لهم ما نُقِلَ عنهم فأنكروا إلا قرط، فإنه خاف من تهديد السلطان، فقال: الخليفةُ طَلَبني وقال: هؤلاء ظَلَمةٌ وقد استولوا على هذا المُلكِ بغير رضائي، وإني لم أقلِّدْ بَرقوقًا السلطنةَ إلَّا غصبًا، وقد أخذ أموال الناسِ بالباطل، وطلب مني أن أقومَ معه وأنصُرَ الحَقَّ، فأجبْتُه إلى ذلك ووعدتُه بالمساعدة، وأن أجمع له ثمانمائة واحد من الأكراد والتركمان وأقوم بأمره، فقال السلطان للخليفة: ما قولُك في هذا؟ فقال: ليس لِما قاله صحة، فسأل إبراهيم بن قطلقتمر عن ذلك، فقال: ما كنت حاضرًا هذا الاتِّفاق، لكِنَّ الخليفة طلبني إلى بيته بجزيرة الفيل وأعلمني بهذا الكلامِ وقال لي: إن هذا مصلحةٌ، ورغَّبني في موافقته والقيام لله تعالى ونُصرة الحق، فأنكر الخليفةُ ما قاله إبراهيم أيضًا، وصار إبراهيمُ يذكُرُ له أمارات والخليفةُ يَحلِفُ أن هذا الكلام ليس له صِحَّة، فاشتَدَّ حَنَق الملك الظاهر وسَلَّ السيف ليضرَبَ عنق الخليفة، فقام سودون النائب وحال بينه وبين الخليفةِ، وما زال به حتى سكَنَ بعضُ غضبه، فأمر الملك الظاهِرُ بقرط وإبراهيم يسفرا، واستدعى القضاة ليُفتُوه بقتل الخليفة، فلم يُفتُوه بقتله، وقاموا عنه، فأخذ برقوق الخليفةَ وسَجَنَه بموضع في قلعة الجبل وهو مقَيَّد، وسَمَرَ قرط وإبراهيم وشُهِرَا في القاهرة ومصر، ثم أُوقِفا تحت القلعة بعد العصر، فنزل الأمير أيدكار الحاجب وسار بهما ليوسَّطا خارج باب المحروق من القاهرة، فابتدأ بقرط فوُسِّط، وقبل أن يُوسَّط إبراهيم جاءت عدَّةٌ من المماليك بأن الأمراء شَفَعوا في إبراهيم، ففُكَّت مساميره وسُجِنَ بخزانة شمائل، وطَلَب السلطانُ زكريا وعمر ابني إبراهيم عم المتوكل، فوقع اختيارُه على عمر بن الخليفة المستعصم بالله أبي إسحاق إبراهيم بن المستمسك بالله أبي عبد الله محمد بن الإمام الحاكم بأمر الله أبي العباس أحمد بن الحسن بن أبي بكر بن أبي علي إسحاق ابن علي القبي، فولَّاه الخلافة، وخلع عليه، فتلقَّبَ بالواثق بالله، ثم في يوم الثلاثاء تاسع ذي القعدة أفرج السلطانُ عن الخليفة المتوكل على الله، ونُقِلَ من سجنه بالبرج إلى دار بالقلعةِ وأحضَرَ إليه عيالَه.
سار الأميرُ يلبغا الناصري نائب حلب من حلب بالعسكر للقاءِ الفرنج، وقد وردت شوانيهم في البَحرِ لِقَصدِ إياس، ونزوله بالعمق لقربه من البحر، فورد عليه كِتابُ نائب اللاذقية بوصول الفرنج إلى بيروت، وأنهم نزلوا إلى البر، وملكوا بعض أبراجِها، فأدركهم العسكرُ الشامي في طائفةٍ مِن رجَّالة الأكراد، وقاتلوهم، فأيَّدَ الله المسلمين، حتَى قتلوا من الفرنج نحو خمسمائة رجل، وانهزم باقيهم إلى مراكبهم، وساروا وعادت العساكِرُ إلى الشام.
كُتِبَ بتَجريدِ عَسكَرِ دمشق وطرابلس وحماة وحلب، ونواب الثغور وتركمان الطاعة وأكرادها، إلى جهة التركمان العصاة بالبلاد السيسية، كالصارم بن رمضان نائب أدنه وبني أوزر، وابن برناص من طائفة الأجقية؛ لمقاتلتهم على تعديهم طريقَهم، وقطْعِهم الطرقات، ونهْبِهم حُجَّاج الروم، ولاتفاقهم مع الأمير علاء الدين علي بك بن قرمان صاحب لارندة على اقتلاع بلاد سيس، فتأهَّبت العساكِرُ لذلك ووافت حلب، فتقَدَّمها الأميرُ يلبغا الناصري نائب حلب، وركب من حَلَب في ثاني ذي القعدة يريد العُمقَ، وكتب إلى بني أوزر وبقية التركمان العصاة، ينذرهم ويحذرهم التخَلُّفَ عن الحضور إلى الطاعة، ويخَوِّفهم بأس العساكر، وإنَّهم إن أذعنوا وأطاعوا كانوا آمنينَ على أنفُسِهم وأموالِهم، ومن تخَلَّف كان غنيمةً للعساكرِ، وسار حتى نزل تحتَ عُقبة بغِراسٍ، فعرض العساكِرَ، وتَرَك الثِّقلَ وتوجَّه مُخِفًّا، وجاوز عقبةَ بغراس، وترك بها نائبي عينتاب وبغراس بخيَّالتهما ورجالهما؛ حِفظًا للدربند إلى أن تصل العساكِرُ الشاميَّة، ثم ركب في الثلث الأول من ليلة الأحد الخامس عشر وسار مجِدًّا، فوصل المصيصة عصرَ نهار الأحد فوجد الأميرين قد ملكا الجسرَ بعد أنْ هدم التركمانُ بَعضَه، وقطعوا منه جانبًا لا يمنع الاجتيازَ، وتوقَّدَت بينهم نارُ الحرب، وعَدت العساكر نهر جاهان إلى جانِبِ بلاد سيس، واقتَفَوا آثار من كان بالمصيصة من التركمان، فأدركوا بعض البيوت فانتهبوها، فتعلق الرِّجالُ بشعف الجبال، ثم حضرت قصاد التركمان على اختلاف طوائفِهم يسألون الأمان، فأجاب الأميرُ يلبغا الناصري سؤالَهم، وكتب لهم أمانًا، ولما أحس الصارمُ بن رمضان بالعساكر، ترك أذنة وفَرَّ إلى الجبال التي لا تُسلَك، ووصلت الأطلابُ والثقل إلى المصيصة في السابع عشر، فقَدِمَ من الغد الثامن عشر قاصد الأمير طَشبغا العزي نائب سيس بخبر وصول ابن رمضان إلى أطراف البلاد السيسية، وأنه ركب في أثَرِه ومعه طائفةٌ من التركمان القرمانيين، فأدركوا بيوتَه فانتهبوها، وأمسكوا أولادَه وحريمه ونجا بنفسه، ولَحِقَ بالتركمان البياضية مستجيرًا بهم، فأجمعت الآراءُ على التوجه بالعساكر إلى جهتهم وإمساكِه، فقَدِمَ الخبر من نائب سيس في آخر النهار بأنه استمَرَّ في طلب ابن رمضان إلى أن أدركه وأمسَكَه، وأمسك معه أخاه قرا محمد وأولاده وأمه وجماعته وعاد إلى سيس، فسُرَّت العساكر بذلك سرورًا زائدًا، ورحلت في التاسع عشر تريد سيس، وأحاطت بطائفةٍ من التراكمين اليراكية، فانتهبت كثيرًا من خيل ومتاع وأثاث، ثم أمنوهم بسؤالهم ذلك وتفَرَّقت جموع التركمان بالجبال، ومرت العساكر إلى جهة سيس، وأُحضِرَ ابنُ رمضان وأخوه قرا محمد ومن أُمسِك معهما، فوُسِّطوا، وعاد العسكرُ يريد المصيصة، وركبَ الأمير يلبغا الناصري بعسكرِ حلب وسَلَبِهم جَبلًا يُسَمَّى صاروجا شام، وهو مكانٌ ضَيِّقٌ حَرَجٌ وَعْرٌ به جبالٌ شوامخ وأودية عِظام، مُغَلَّقة بالأشجار والمياه والأوحال، وبه دربندات خطرة، لا يكادُ الراجل يسلُكُه، فكيف بالفارِسِ وفَرَسِه الموفرين حملًا باللَّبوس؟! وإذا هم بطائفةٍ مِن التركمان اليراكية، فجرى بينهم القتال الشديد، فقُتِلَ بين الفريقين جماعةٌ، وفُقِدَ الأمير يلبغا الناصري وجماعة من أمراء حلب، وإذا بهم قد تاهوا في تلك الأودية، ثم تراجع الناسُ وقد فُقِدَ منهم طائفة، ووصل الخبر بأن التركمان قد أحاطوا بدربند باب الملك، فالتجؤوا إلى مدينة إياس، ثم قَدِمَ يلبغا الناصري إلى إياس بعد انقطاع خبره، فتباشروا بقدومِه، وأقاموا عليها أيامًا ثم رحلوا، فلقيهم التركمان في جمع كبير، فكانت بينهم وقعةٌ لم يمُرَّ لهم مثلُها، قُتِلَ فيها خلق كثير، وانجَلَت عن كسرة التركمان بعد ما أبلى فيها الناصريُّ بلاء عظيمًا، وارتحل العسكرُ يوم عيد الأضحى إلى جهة بإياس، فما ضُرِبَت خيامهم بها حتى أحاط بهم التركمان وأنفذوا فرقةً منهم إلى باب الملك، فوقَفوا على دربندة ومنعوا عنهم الميرة، فعَزَّت الأقوات عند العسكر، وجاعت الخيولُ، وكَثُرَ الخوف وأشرفوا على الهلاك، إلَّا أن الله تداركهم بخَفِيِّ لُطفِه؛ فقَدِمَ عليهم الخبر بوصول الأمير سودن المظفري حاجِبِ الحجَّاب بحلب في عِدَّة من الأمراء، وقد استخدم من أهل حَلَبٍ ألفَ راجلٍ من شبان بانقوسا، ودفعوا لكل واحد منهم مائة درهم، وخرج العُلَماء والصلحاء وغالِبُ الناس، وقد بلغهم ما نزل بالعسكر، ونودي بالنفيرِ العام، فتَبِعَهم كثير من الرجَّالة والخيَّالة والأكراد ببلد القصير والجبل الأقرع وغيره من أعمال حلب، فقام بمؤنتهم الحاجِبُ ومن معه من الأمراء، وهجموا على باب الملك، فمَلَكوه وقتلوا طائفةً ممن كان به من التركمان، وهزموا بقيَّتَهم، ففرح العسكرُ بذلك فرحًا كبيرًا، وساروا إلى باب الملك حتى جاوزوا دربنده ونزلوا بغراس، ثم رحلوا إلى أنطاكية وقدموا حلب، فكانت سفرةً شديدةَ المشقةِ؛ بُلُوا فيها من كثرةِ تتابع الأمطار الغزيرة، وتوالي هبوب الرياح العاصفة، وكثرة الخوف، ومقاساة آلام الجوع- ما لا يمكِنُ وَصفُه.
هو الشَّيخُ الإمام العالم المقرئُ عماد الدين أبو الفداء إسماعيل بن محمد بن بردس بن نصر بن بردس بن رسلان البعلبكي الحنبلي. ولِدَ ببعلبك سنة720، ودرس على والده، وأبي الفتح اليونيني، وسَمِعَ جمعًا من مُسنِدِي عصره، وحَدَّث عنهم، واشتهر باختصارِه لجملة من الكتب ونَظْمها. له بُغية الأريب في اختصار التهذيب، أكمل مسودته في المحرم سنة 779 وهو اختصار ليس فيه إضافات تُذكَر، ولم يحذف من رجال التهذيب أحدًا، لكنه حذف بعض أنساب المشهورين، وذكر الجرح والتعديل مختصرًا، كما حذف الأسانيدَ.
نظَّمَ القائِدُ الوزير تيمور طاش باشا فِرَق الخيَّالة العثمانيين المسمَّاة سياهيه أو سياه- على نظام جديد، واختار أن تكون أعلامهم باللون الأحمر الذي لا يزال شعارَ الدَّولة التركية حتى الآن، وأقطع كلَّ نَفَرٍ منهم جزءًا من الأرض يزرعه أصحابه الأصليون مسيحيين كانوا أو مسلمين في مقابلة دَفعِ جُعْلْ مُعَيَّن لصاحب الإقطاع، وذلك بشرط أن يسكنَ الجنديُّ في أرضه وقت السلمِ ويستَعِدَّ للحرب عند الاقتضاءِ على نفقَتِه، وأن يُقَدِّمَ أيضًا جنديًّا آخر معه، وكان كل إقطاع لم يتجاوزْ إيراده السنوي عشرين ألف غرش، يسمى تيمار، وما زاد إيراده على ذلك يسمى زعامت، وكانت هذه الإقطاعات لا يرثها إلَّا الذكور من الأعقابِ، وإذا انقرضت الذرية من الذكور ترجِعُ إلى الحكومة، وهي تُقطِعُها إلى جندي آخر بنفس هذه الشروط
خُلِعَ السُّلطانُ أبو العباس أحمد المستنصر بن إبراهيم بن أبي الحسن المريني مَلِكُ المغرب صاحب فاس ونُفي إلى غرناطة، وبُويع بدلًا منه أبو فارس موسى بن أبي عنان المتوكل على الله، وكان مقيمًا بالأندلس، وتولى الوزير مسعود بن ماساي الأمورَ.
قام أميرُ دولة القرمان علاءُ الدين وبعضُ الأمراء المستقلين بحَربِ الدَّولةِ العثمانية فأرسل لهم مرادٌ الأول جيشًا انتصر عليهم في سهل قونية، وأخذ الأميرَ علاء الدين أسيرًا، غير أنَّ ابنته زوجةَ السلطان قد توسطت له فأطلَقَ سَراحَه وأبقى له إمارتَه، ولكنه فرض عليه دفع مبلغٍ من المال سنويًّا.