بدَأ عبدُ الملك بن مَرْوان في بِناءِ مَسجِد قُبَّةِ الصَّخرَةِ في بيتِ المَقْدِس. وقِيلَ: إنَّ عبدَ الملك بن مَرْوان حين قَرَّرَ بِناءَ قُبَّةٍ عالِيَةٍ تُغَطِّي الصَّخرَةَ رصَد لِبِنائِها خَراجَ مِصْرَ لِسَبْعِ سِنين، وحين أُنْفِقَت هذه الأموالُ على البِناءِ بَقِيَ منها مائةُ ألفِ دِينارٍ، فأَمَر عبدُ الملك بن مَرْوان أن يُصْنَعَ بها صَفائِح ذَهَبيَّة تُكْسَى بها القُبَّةُ مِن الخارجِ.
بدَأ المُختارُ بن أبي عُبيدٍ الثَّقفيُّ بالدَّعوَةِ لابنِ الحَنَفيَّة ظاهرًا؛ ولكنَّه تَبَيَّنَ أنَّه يدعو لِنَفسِه، فقد كَوَّنَ حوله جيشًا قاتَل فيه عُبيدَ الله بن زيادٍ، وكان المُختارُ يُصانِع ابنَ الزُّبير حينًا لِيَتَقَوَّى به على جُيوشِ عبدِ الملك بن مَرْوان، وحصلت مَعركةٌ بين جَيشِه وجَيشِ الشَّام عند نَهْرِ الحازر، قُتِلَ فيها ابنُ زيادٍ، والحُصينُ بن نُميرٍ، وشُرَحْبيل بن زيادٍ، ثمَّ حصل اقْتِتال بين المُختارِ وبين مُصعَبِ بن الزُّبير، والْتَقى الطَرَفان وهُزِمَ المُختارُ وتَراجَع إلى الكوفَةِ، وقُتِلَ فيها وانْتَهت فِتْنَتُه بذلك.
هو حَبْرُ الأُمَّةِ، وهو أحدُ المُكْثِرين مِن الرِّوايَةِ عن النَّبِيِّ صلَّى الله عليه وسلَّم، شَهِدَ مع عَلِيٍّ الجَملَ وصِفِّينَ، وكان والِيًا له على الكوفَة، كُفَّ بَصَرُهُ في آخِرِ عُمُرهِ، وكان في مكَّة ثمَّ انْتَقل إلى الطَّائِف، وتُوفِّي فيها وهو ابنُ واحدٍ وسبعين سنة، ودُفِنَ فيها.
لمَّا امْتَنع عَمرُو بن سعيدِ بن العاصِ على عبدِ الملك خرَج أيضًا قائدٌ مِن قُوَّادِ الضَّواحي في جبلِ اللُّكَّامِ وتَبِعَهُ خَلْقٌ كثيرٌ مِن الجَراجِمَة (نسبة لقبيلة جرجم)، والأَنباطِ (مجموعة من العرب ينتمون إلى نبط بن ‘سماعيل)، وآباقِ عَبيدِ المسلمين، وغَيرِهم، ثمَّ سار إلى لُبنان، فلمَّا فرَغ عبدُ الملك مِن عَمرِو بن سعيدِ أَرسَل إلى هذا الخارِج فبَذَل له كُلَّ جُمُعةٍ ألفَ دِينارٍ، فرَكَن إلى ذلك ولم يُفسِد في البِلادِ، ثمَّ وضَع عليه عبدُ الملك سُحيمَ بن المُهاجِر، فتَلَطَّفَ حتَّى وصَل إليه مُتَنَكِّرًا فأظهَر له مُمالأتَه وذَمَّ عبدَ الملك وشَتَمَه ووَعَدهُ أن يَدُلَّهُ على عَوْراتِه، وما هو خيرٌ له مِن الصُّلْح. فوَثِقَ به. ثمَّ إنَّ سُحيمًا عَطَفَ عليه وعلى أَصحابِه وهم غَارُون غافِلون بجيشٍ مع مَوالي عبدِ الملك وبَنِي أُمَيَّة وجُنْدٍ مِن ثِقاتِ جُنْدِهِ وشُجْعانِهم كان أَعَدَّهم بمكانٍ خَفِيٍّ قريبٍ وأَمَر فنُودِي: مَن أتانا مِن العَبيدِ -يعني الذين كانوا معه- فقَتَل الخارِجَ ومَن أعانَهُ مِن الرُّومِ، وقُتِلَ نَفَرٌ مِن الجَراجِمَة والأنباط، ونادَى المُنادِي بالأمانِ فيمَن لَقِيَ منهم، فتَفَرَّقوا في قُراهُم، وسُدَّ الخَلَلُ، وعاد سُحيمُ بن المُهاجِر إلى عبدِ الملك، ووَفَّى للعَبيدِ.
عَيَّنَ عبدُ الملك بن مَرْوان زُهيرَ بن قيسٍ أَميرًا على أفريقيا، وأَمَدَّهُ بالمالِ والرِّجالِ لِيَتَوَجَّهَ بجيشٍ إلى القَيْروان لاسْتِردادِها، حيث كانت مع الرُّومِ فاسْتَولوا عليها مع كُسَيلةَ البَرْبَريِّ، والْتَقى الطَّرَفان في مَوقِع ممش قُرْبَ القَيْروان، وحصل القِتالُ وانْتَصر زُهيرٌ وقَتَلَ كُسيلَةَ ثمَّ عاد إلى بَرْقَة، فكانت الرُّومُ قد أغارَت عليه بِحَمْلَةٍ بَحْريَّةٍ فقاتَلهُم وكان فيها مَصرعُه رحمه الله.
أقام عبدُ الملك بن مَرْوان بدِمشقَ بعدَ رُجوعِه مِن قِنَّسْرين ما شاء الله أن يُقيمَ، ثمَّ سار يُريدُ قَرْقِيسِيا وبها زُفَرُ بن الحارثِ الكِلابيُّ، وكان عَمرُو بن سعيدٍ مع عبدِ الملك، فلمَّا بلَغ بُطْنانَ حَبيبٍ رجَع عَمرٌو ليلًا ومعه حُميدُ بن حُرَيثٍ الكَلبيُّ، وزُهيرُ بن الأَبْرَدِ الكَلبيُّ، فأَتى دِمشقَ وعليها عبدُ الرَّحمن بن أُمِّ الحكمِ الثَّقفيُّ قد اسْتَخلَفَهُ عبدُ الملكِ، فلمَّا بَلغهُ رُجوعُ عَمرِو بن سعيدٍ هرَب عنها، ودَخلَها عَمرٌو فغَلَب عليها وعلى خَزائِنِه، وهَدَم دارَ ابنِ أُمِّ الحكمِ، واجتمع النَّاسُ إليه فخَطَبهم ونَهاهُم ووَعَدهُم، فأصبح عبدُ الملكِ وقد فَقَدَ عَمرًا، فسَألَ عنه فأُخْبِرَ خَبرُه، فرجَع إلى دِمشقَ فقاتَلهُ أيَّامًا، وكان عَمرٌو إذا أُخْرِج حُميدُ بن حُرَيثٍ على الخيلِ أَخرَج إليه عبدُ الملك سُفيانَ بن الأَبْرَدِ الكَلبيَّ، وإذا أُخْرِج عَمرٌو زُهيرُ بن الأبردِ أَخرَج إليه عبدُ الملك حسَّانَ بن مالكِ بن بَحْدَل. ثمَّ إنَّ عبدَ الملك وعَمرًا اصْطَلحا وكَتَبا بينهما كِتابًا وآمَنَهُ عبدُ الملك، فخرَج عَمرٌو في الخيلِ إلى عبدِ الملك فأَقبَل حتَّى أَوْطَأ فَرَسَهُ أَطْنابَ عبدِ الملكِ فانْقَطَعت وسَقَط السُّرادِق، ثمَّ دخَل على عبدِ الملك فاجْتَمَعا، ودخَل عبدُ الملك دِمشقَ يومَ الخميسِ، فلمَّا كان بعدَ دُخولِ عبدِ الملك بأربعةِ أيَّام أَرسَل إلى عَمرٍو: أنِ ائْتِنِي. فلمَّا كان العِشاءُ لَبِسَ عَمرٌو دِرْعًا ولَبِسَ عليها القُباءَ وتَقَلَّدَ سَيْفَهُ، ودخل عَمرٌو فرَحَّبَ به عبدُ الملك فأَجْلَسَهُ معه على السَّريرِ وجعَل يُحادِثُه طَويلًا، ثمَّ أَوْثَقَهُ وأَمَر بِقَتلِه، ثمَّ تَوَلَّى قَتْلَهُ بِنَفسِه فذَبَحهُ.
لمَّا تَمَكَّنَ عبدُ الملك مِن الشَّام أراد أن يَضُمَّ لها العِراقَ، وقد قِيلَ: إن أَهلَها كاتَبوا عبدَ الملك لِيَسيرَ إليهم، وكانت العِراقُ مع ابنِ الزُّبير وواليها مُصعَبُ أَخوهُ، فسار إليه بِنَفسِه فلمَّا عَلِمَ مُصعبٌ بذلك سار إليه ومعه إبراهيمُ بن الأَشْتَرِ، وكان على المَوصِل والجزيرةِ، فلمَّا حضَر عنده جَعلَه على مُقدِّمَتِه وسار حتَّى نزل باجُمَيرَى، وهي قريبٌ مِن أَوانا، وهي مِن مَسْكِن، فعَسْكَرَ هناك، وسار عبدُ الملك وعلى مُقدِّمتِه أخوه محمَّدُ بن مَرْوان، وخالدُ بن عبدِ الله بن خالدِ بن أُسَيْدٍ، فلمَّا تَدانَى العَسْكرانِ أَرسَل عبدُ الملك إلى مُصعَبٍ رجلًا مِن كَلْبٍ وقال له: أَقْرِئْ ابنَ أُختِك السَّلامَ -وكانت أُمُّ مُصعَبٍ كَلبيَّةً- وقُلْ له يَدَعُ دُعاءَهُ إلى أَخيهِ، وأَدَعُ دُعائي إلى نَفْسي، ويَجْعَل الأمرَ شُورى. فقال له مُصعَبٌ: قُلْ له السَّيفَ بيننا. فقَدَّمَ عبدُ الملك أخاهُ محمَّدًا، وقَدَّمَ مُصعَبٌ إبراهيمَ بن الأشْتَرِ، فالْتَقيا فتَناوَش الفَريقانِ فقُتِلَ صاحِبُ لِواءِ محمَّدٍ، وجعَل مُصعَبٌ يَمُدُّ إبراهيمَ، فأزال محمَّدًا عن مَوقِفِه، فوَجَّهَ عبدُ الملك عبدَ الله بن يَزيدَ إلى أخيهِ محمَّدٍ، فاشْتَدَّ القِتالُ، فقُتِلَ مُسلِم بن عَمرٍو الباهليُّ والدُ قُتيبَة، وهو مِن أصحابِ مُصعَبٍ، وتَقَدَّمَ أهلُ الشَّام فقاتَلهم مُصعَبٌ ثمَّ عرَض عبدُ الملك الأمانَ على مُصعَبٍ فأَبَى وبَقِيَ يُقاتِلُهم، ثمَّ إنَّ كثيرًا خَذلوا مُصعبًا، وقِيلَ: لم يَبْقَ معه سِوى أربعةٍ، وكَثُرَت الجِراحاتُ بمُصْعَب فضَرَبهُ رجلٌ -يُقالُ له: عبيدُ الله بن زيادِ بن ظِبْيان التَّميميُّ- فقَتلَهُ وحمَل رَأسَهُ إلى عبدِ الملك.
كان المُهَلَّب يُحارِب الأزارِقَة، فجَعلَهُ عبدُ المَلِك بن مَرْوان على خَراجِ الأهوازِ ومَعونَتِها، وسَيَّرَ أخاهُ عبدَ العزيز بن عبدِ الله إلى قَتْلِ الخَوارِج، وسَيَّرَ معه مُقاتِلَ بن مِسْمَع، فخَرَجا يَطلُبان الأزارِقَة، فأتت الخَوارِج مِن ناحِيَة كِرْمان إلى دارِ أبجرد، فأَرسَل قَطَرِيُّ بن الفُجاءَةِ المازنيُّ مع صالحِ بن مُخارِق تسعَمائة فارِسٍ، فأقبلَ يَسيرُ بهم حتَّى اسْتَقْبَل عبدَ العزيز وهو يَسيرُ مَهْلًا على غيرِ تَعْبِيَةٍ، فانْهزَم بالنَّاسِ، ونزَل مُقاتِلُ بن مِسْمَع فقاتَل حتَّى قُتِلَ، وانْهزَم عبدُ العزيز إلى رامَهُرْمُز، فأمَرَ عبدُ الملك أن يَسيرَ إليهم المُهَلَّبُ، وكتَبَ إلى بِشْرِ بن مَرْوان أن يَنْفُذَ له خمسةُ آلافِ رجلٍ، وجاءت الأزارِقةُ إلى الأهوازِ، وسار خالدٌ والمُهَلَّبُ وغيرُهم إليهم، وبقوا عِشرين ليلةً ثمَّ زَحَف خالدٌ إليهم بالنَّاسِ، فرأوا أَمْرًا هالَهُم مِن كَثْرَةِ النَّاسِ، فكَثُرَتْ عليهم الخَيْلُ وزَحَفت إليهم، فانْصَرفوا كأنَّهم على حامِيَةٍ وهُم مُوَلُّون لا يَرَوْن طاقةً بِقَتْلِ جَماعةِ النَّاسِ. فأَرسَل خالدٌ داودَ بن قَحْذم في آثارِهم، وانْصَرف خالدٌ إلى البَصْرَة، وسار عبدُ الرَّحمن إلى الرَّيِّ، وأقام المُهَلَّبُ بالأهوازِ، وكتَب خالدٌ إلى عبدِ الملك بذلك، وبعَث بِشْرٌ عَتَّابَ بن وَرْقاء في أربعةِ آلافِ فارِسٍ مِن أهلِ الكوفَةِ، فساروا حتَّى لَحِقوا داودَ فاجتمعوا، ثمَّ اتَّبَعوا الخَوارِجَ حتَّى هَلَكَتْ خُيولُ عامَّتِهم وأصابَهُم الجوعُ والجُهْدُ، ورجَع عامَّةُ الجَيْشَيْنِ مُشاةً إلى الأهوازِ.
سَيَّرَ عبدُ الملك بن مَرْوان الحَجَّاج بن يوسُف الثَّقفيَّ إلى عبدِ الله بن الزُّبير رضي الله عنه، وبعَث معه له أمانًا إنْ هو أطاعَ، فبَقِيَ الحَجَّاج مُدَّةً في الطَّائفِ يَبعَثُ البُعوثَ تُقاتِل ابنَ الزُّبير وتَظْفَرُ عليه. فكتَب الحَجَّاجُ إلى عبدِ الملك يُخبِرُه: بأنَّ ابنَ الزُّبير قد كَلَّ وتَفَرَّق عنه أَصحابُه, ويَسْتَأذِنُه بمُحاصَرةِ الحَرَمِ ثمَّ دُخولِ مكَّة، فأَمَدَّهُ عبدُ الملك بطارِقِ الذي كان يُحاصِر المدينةَ، ولمَّا حَصَرَ الحَجَّاجُ ابنَ الزُّبير نَصَبَ المَنْجَنيقَ على أبي قُبَيْسٍ ورَمَى به الكَعبةَ، وكان عبدُ الملك يُنْكِر ذلك أيَّامَ يَزيدَ بن مُعاوِيَة، ثمَّ أَمَرَ به، وحَجَّ ابنُ عُمَرَ رضِي الله عنهما تلك السَّنةَ فأَرسَل إلى الحَجَّاجِ: أنِ اتَّقِ الله، واكْفُفْ هذه الحِجارةَ عن النَّاسِ؛ فإنَّك في شَهْرٍ حَرامٍ وبَلَدٍ حَرامٍ، وقد قَدِمَت وُفودُ الله مِن أَقطارِ الأرضِ لِيُؤَدُّوا فَريضةَ الله ويَزْدادوا خيرًا، وإنَّ المَنْجنيق قد منعهم عن الطَّوافِ، فاكْفُفْ عن الرَّمْيِ حتَّى يَقْضوا ما يجب عليهم بمكَّة. فبَطَّلَ الرَّمْيَ حتَّى عاد النَّاسُ مِن عَرَفات وطافوا وسَعَوْا، ولم يَمْنَعْ ابنُ الزُّبير الحاجَّ مِن الطَّوافِ والسَّعْيِ، فلمَّا فرَغوا مِن طَوافِ الزَّيارةِ نادَى مُنادِي الحَجَّاجِ: انْصَرِفوا إلى بِلادِكم، فإنَّا نَعودُ بالحِجارَةِ على ابنِ الزُّبيرِ المُلْحِدِ. فأصاب النَّاسَ بعد ذلك مَجاعةٌ شديدةٌ بسَببِ الحِصارِ، فلمَّا كان قُبَيْلَ مَقْتَلِه تَفَرَّقَ النَّاسُ عنه، وخَرجوا إلى الحَجَّاجِ بالأمانِ، خرَج مِن عنده نحو عشرةِ آلاف، وكان ممَّن فارَقَه ابْناهُ حَمزةُ وخُبيبٌ، وأَخَذا لِأَنْفُسِهما أَمانًا، فقال عبدُ الله لابْنِه الزُّبيرِ: خُذْ لِنَفسِك أمانًا كما فعل أَخَواك، فَوَالله إنِّي لأُحِبُّ بَقاءَكُم. فقال: ما كنتُ لِأَرْغَبَ بِنَفسِي عنك. فصَبَر معه فقُتِلَ وقاتَلهم قِتالًا شديدًا، فتَعاوَرُوا عليه فقَتَلوهُ يومَ الثُلاثاءِ مِن جُمادَى الآخِرة وله ثلاثٌ وسبعون سَنةً، وتَوَلَّى قَتْلَهُ رجلٌ مِن مُرادٍ، وحمَل رَأسَهُ إلى الحَجَّاج، وبعَث الحَجَّاجُ بِرَأسِه، ورَأسِ عبدِ الله بن صَفوان، ورَأسِ عُمارةَ بن عَمرِو بن حَزْمٍ إلى المدينةِ، ثمَّ ذهَب بها إلى عبدِ الملك بن مَرْوان، وأخَذ جُثَّتَهُ فصَلَبَها على الثَّنِيَّةِ اليُمْنَى بالحُجُونِ، ثمَّ بعدَ أن أَنْزَلَهُ الحَجَّاجُ عن الخَشبةِ بعَث به إلى أُمِّه، فغَسَّلَتْهُ، فلمَّا أَصابَهُ الماءَ تَقَطَّعَ، فغَسَّلَتْهُ عُضْوًا عُضْوًا فاسْتَمْسَك، وصلَّى عليه أخوه عُروةُ، فَدَفَنَتْهُ.
هي ذاتُ النِّطاقَيْنِ، وهي زَوجةُ الزُّبير، ووالدةُ عبدِ الله بن الزُّبير، وكانت قد شَهِدَت اليَرْموك مع زَوجِها وابْنِها، بَقِيَت في مكَّة بعدَ أن طَلَّقَها الزُّبيرُ في عَهْدِ عُثمان بن عفَّان، وكانت قد عَمِيَت رضي الله عنها وبَلَغت المائةَ سَنةٍ مِن عُمُرِها، وخَبرُها مع الحَجَّاج مشهور بشأنِ ابْنِها عبدِ الله، وقد تُوفِّيت بعدَ مَقْتَلِ ابْنِها بِشَهرين، وكانت مِن آخرِ المُهاجِرات موتًا، فرضِي الله عنها وعن أَبِيها وابْنِها.
هو أميرُ المؤمنين عبدُ اللهِ بنُ الزُّبَير بنِ العوَّام بن خُوَيلد بن أسد بن عبد العُزَّى بن قُصَي بن كلِاب بن مُرَّة: أبو بكر، وأبو خُبَيب القرشيُّ الأَسديُّ المكيُّ، ثم المدنيُّ, أحد الأعلام، كان عبدُ الله أول مولودٍ للمهاجرين بالمدينةِ, وُلِدَ سنة اثنتين، وقيل: السنة الأولى من الهجرة, ولَمَّا بلغ سبع سنين جاء ليبايِعَ النبيَّ صلَّى الله عليه وسلَّم، فتبسَّم النبيُّ صلى الله عليه وسلم حين رآه مُقبِلًا، ثم بايَعَه. له رواية أحاديثَ، وهو من صِغار الصَّحابة، وإن كان كبيرًا في العِلمِ والشَّرفِ والجهادِ والعبادةِ، وقد روى عن أبيه وجَدِّه لأمه الصِّدِّيق، وأمِّه أسماءَ، وخالتِه عائشةَ، وعن عُمَر وعُثمان، وغيرِهم، وحدث عنه: أخوه عُروةُ الفقيهُ، وابناه: عامرٌ وعَبَّاد، وابنُ أخيه: محمد بن عروة، وكان فارسَ قُريشٍ في زمانه، وله مواقِفُ مشهودة. أدرك ابنُ الزبير من حياةِ رسول الله صلى الله عليه وسلم ثمانيةَ أعوام وأربعة أشهر, وكان ملازمًا لبيت رسول الله؛ لكونِه من آله، فكان يتردَّدُ إلى بيت خالته عائشةَ, وفي يوم اليرموك أركب الزبيرُ وَلَده عبد الله فرسًا وهو ابن عشر سنين، ووكل به رجلًا، شَهِدَ يوم الجمَلِ مع خالته، كما شهد فتح المغرب، وغزوَ القُسطنطينية. كان معاوية رضي الله عنه في عهدِه إذا لقي ابنَ الزبير يقول: مرحبًا بابنِ عَمَّةِ رسول الله صلى الله عليه وسلم، وابنِ حواريِّ رسولِ الله، لما توفي يزيدُ بويعُ ابنُ الزبير بالخِلافةِ سنة 64هـ، فحكم الحِجازَ واليمن ومصر والعراق وخراسان، وبعضَ الشام، ولم يستوسق له الأمر، ومن ثم لم يَعُدَّه بعض العلماء في أمراء المؤمنين، وعَدَّ دولتَه زمَنَ فُرقة، فإنَّ مروان غلب على الشامِ ثم مصر، وقام بعد مَصرَعِه ابنُه عبد الملك بن مروان، وحاربَ ابنَ الزُّبير، فلم يزَلْ يحاربه حتى ظَفِر به, فأخذ العراقَ، ثم أرسل الحجَّاجَ إلى مكة وأخذها مِن ابن الزبير بعد أن خذله من كان معه خِذلانًا شديدًا، وجعلوا يتسلَّلون إلى الحَجَّاج، وجعل الحجَّاج يَصيح: أيها الناسُ, علامَ تقتُلون أنفُسَكم? من خرج إلينا فهو آمِنٌ, لكم عهدُ الله وميثاقُه، ورَبِّ هذه البِنيةِ لا أغدِرُ بكم، ولا حاجةَ في دمائكم. قتله الحجَّاجُ ثم صَلَبه، وكان آدم نحيفًا, ليس بالطويلِ, بين عينيه أثرُ السجود, فغسَّلَتْه والدته أسماءُ بنت أبي بكر بعد ما تقَطَّعت أوصاله، فحنَّطَتْه وكفَّنَتْه، وصَلَّت عليه، وجعلت فيه شيئًا حين رأته يتفسَّخُ إذا مسَّتْه, ثم حملته فدفنته بالمدينة في دار صفيةَ أم المؤمنين. قال عروة بن الزبير: لم يكن أحدٌ أحَبَّ إلى عائشة بعد رسول الله من أبي بكرٍ، وبعدَه ابنُ الزبير، وإذا ذُكِرَ ابن الزبير عند ابن عباس، قال: (قارئٌ لكتاب الله, عفيفٌ في الإسلام, أبوه الزُّبَير، وأمُّه أسماء، وجَدُّه أبو بكر، وعَمَّته خديجةُ، وخالته عائشةُ، وجدَّتُه صفية)، وكان عمرُو بن دينار يقول: (ما رأيت مُصليًّا قطُّ أحسَنَ صلاةً من عبد الله بن الزبير، وكان يسمى حمامةَ المسجِدِ).
كان عبدُ الله بن الزُّبير أعاد بِناءَ الكَعبةِ بعدَ أن تَخَرَّبَت في الحِصارِ الأوَّل الذي قادهُ الحُصينُ بن نُميرٍ مِن قِبَلِ يَزيدَ بن مُعاوِيَة على قَواعِدها القديمة، وجعَل لها بَابَيْنِ كما وصَف النَّبِيُّ صلَّى الله عليه وسلَّم، ثمَّ عادَت وتَضَرَّرت الكَعبةُ في الحِصارِ الثَّاني الذي قادهُ الحَجَّاجُ بن يوسُف الذي اسْتَعمل كذلك المَنْجنيقَ، ممَّا أَدَّى إلى هَدْمِ أَجزاءٍ مِن الكَعبةِ، وبعدَ أن قَتَلَ الحَجَّاجُ ابنَ الزُّبير وسَيْطَر على مكَّة كتَب إلى الخليفةِ عبدِ الملك بن مَرْوان: أنَّ ابنَ الزُّبير قد زاد في البيتِ ما ليس فيهِ، وقد أَحدَث فيه بابًا آخرَ، فأمَرَ عبدُ الملك بن مَرْوان الحَجَّاجَ بن يوسُف أن يُعيدَ بِناءَ الكَعبةِ إلى ما كانت عليه في عَهدِ قُريشٍ، وذلك لِعَدمِ عِلْمِ عبدِ الملك بحَديثِ عائشةَ رضي الله عنها في رَغْبَةِ النَّبِيِّ صلَّى الله عليه وسلَّم في إعادةِ بِناءِ الكَعبةِ على قَواعِد إبراهيمَ, فهَدَم الحَجَّاجُ منها سِتَّةَ أَذْرُع وبَناها على أساسِ قُريشٍ، وسَدَّ البابَ الغَربيَّ وسَدَّ ما تحت عَتَبَةِ البابِ الشَّرقيِّ لارتفاعِ أربعةِ أَذْرُع، ووضَع مِصْراعانِ يُغْلِقان البابَ.