لم يَزِدْ أبو بكرٍ الصِّدِّيقُ رضِي الله عنه في عَهدِه بالمسجدِ النَّبوِيِّ الشَّريف لانشغالِه بحُروبِ الرِّدَّةِ، ولكن في عَهدِ عُمَر بن الخطَّاب رضِي الله عنه ضاق المسجدُ بالمُصلِّين لِكثرَةِ النَّاسِ، فقام عُمَر بِشِراءِ الدُّورِ التي حولَ المسجدِ النَّبوِيِّ الشَّريف وأَدخَلها ضِمْنَ المسجدِ، وكانت تَوْسِعَتُه مِن الجِهَةِ الشَّماليَّة والجَنوبيَّة والغَربيَّة. فقد زاد مِن ناحِيَةِ الغَربِ عشرين ذِراعًا، ومِن الجِهَةِ الجَنوبيَّة "القِبْلَة" عشرة أَذْرُع، ومِن الجِهَةِ الشَّماليَّة ثلاثين ذِراعًا. ولم يَزِدْ مِن جِهَةِ الشَّرقِ لِوُجودِ حُجُراتِ أُمَّهات المؤمنين رضِي الله عنهم أجمعين. فأصبح طولُ المسجدِ 140 ذِراعًا مِن الشَّمال إلى الجنوب، و120 ذِراعًا مِن الشَّرق إلى الغَرب. وكان بِناءُ عُمَر كبِناءِ النَّبيِّ صلَّى الله عليه وسلَّم، فكانت جُدْرانُه مِن اللَّبِن وأَعمِدَتُه مِن جُذوعِ النَّخيل، وسَقْفُه مِن الجَريدِ بِارتِفاع 11 ذِراعًا، وقد فَرَشَهُ بالحَصْباءِ، والتي أُحْضِرت مِن العَقيقِ. وجعَل له سُتْرَةً بِارتِفاع ذِراعين أو ثلاثة، وتُقَدَّرُ هذه الزِّيادة بحوالي 3300 ذِراعًا مُرَبَّعًا، وجعَل للمَسجِد 6 أبواب: اثنين مِن الجِهَةِ الشَّرقيَّة، واثنين مِن الجِهَةِ الغَربيَّة، واثنين مِن الجِهَة الشَّماليَّة.
في عام 1982م وبعَد ظُهْر 4 حزيران، علا أزيزُ الطائرات الإسرائيليةِ، وارتفَعَ دُخَان الحرائقِ والدمارِ إثْرَ غاراتٍ عنيفةٍ مُتواصلةٍ على بيروتَ، بدأَت بتدميرِ "المدينة الرياضية"، وامتدَّت لِتَشملَ مناطقَ الفاكهاني، والجامعة العربية، ومُحيطَهما، غارات مُتتاليةٌ لم يَسبِقْ أن شهِدَ مِثلَها اللُّبنانيون، وساد الذُّعر العاصمةَ، ونزَح أهالي تلك المناطق، والمناطق القريبةِ والمحيطة بها باتِّجاه مناطقَ ظنُّوا أنها أكثرُ أمنًا؛ لشِدَّة عُنْف الغارات، لم يَخطِرْ لهم أنَّ هذا الكابوس سيَستمرُّ طويلًا. وكانت ذَريعةُ إعلان بَدْء الغزْو الإسرائيلي للُبنان مُحاولةَ اغتيالٍ تعرَّض لها السفيرُ الإسرائيلي في لندن "شلومو أرجوف"، التي أعلَنَت جَماعة أبو نضال المنشقَّة عن ياسر عرفات، مَسؤوليَّتها عن تَنفيذها. وكان مُراقِبو الأمم المتحِدة وقُوات الطوارئِ الدولية يَرْصدون التحرُّكاتِ "الإسرائيلية"، ويتوقَّعون عمليةَ الغزْو في أيَّةِ لحظةٍ منذ شباط العام 1981، وبعدَ يومينِ مِن محاوَلة اغتيال السفيرِ "الإسرائيلي" في لندن، والتي قِيل: إن الموسادَ الإسرائيلي هو الذي دبَّرها؛ لِتكونَ ذريعةً لإعلان الغزْو، نفذَّت "إسرائيل" عُدْوانها تحت عُنوان: "عملية إصبع الجليلِ" أو "السلام للجليل"، فاحتلَّت ثُلث الأراضي اللُّبنانية، ولم يَنفَعْ في رَدْعِها قرارُ مجلس الأمن الدولي (508) الداعي إلى وَقفِ إطلاق النارِ.
كان مِن آثارِ هِجرتِه صلى الله عليه وسلم وأصحابِه إلى المدينةِ تلك المُؤاخاةُ التي حَدثت بين المُهاجرين والأنصارِ رضي الله عنهم، حتَّى كان يَرِثُ بعضُهم بعضًا في أوَّلِ الأمرِ. فعنِ ابنِ عبَّاسٍ رضِي الله عنهما: {وَلِكُلٍّ جَعَلْنَا مَوَالِيَ} قال: «وَرَثَةً»: {وَالَّذِينَ عَاقَدَتْ أَيْمَانُكُمْ} قال: " كان المُهاجِرون لمَّا قَدِموا المدينةَ يَرِثُ المُهاجِرُ الأنصاريَّ دون ذَوِي رَحِمِهِ؛ لِلأُخُوَّةِ التي آخى النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم بينهم، فلمَّا نزلت: {{وَلِكُلٍّ جَعَلْنَا مَوَالِيَ} نسَختْ". ثمَّ قال: {وَالَّذِينَ عَاقَدَتْ أَيْمَانُكُمْ} «إلَّا النَّصرَ، والرِّفادَةَ، والنَّصيحةَ، وقد ذهب الميراثُ، ويوصي له».
وعن أنسٍ قال: لمَّا قَدِمَ النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم المدينةَ أتاهُ المُهاجرون فقالوا: يا رسولَ الله، ما رَأينا قومًا أَبْذَلَ مِن كثيرٍ، ولا أحسنَ مُواساةً مِن قليلٍ مِن قومٍ نزلنا بين أَظهُرهِم، لقد كَفَوْنا المُؤنَةَ وأشرَكونا في المَهْنَإِ حتَّى لقد خُفْنا أن يَذهبوا بالأجرِ كُلِّهِ. فقال النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم: «لا ما دَعَوتُم الله لهم، وأَثْنَيْتُم عليهِم».
وقال عبدُ الرَّحمنِ بنُ عَوفٍ رضي الله عنه: لمَّا قَدِمْنا المدينةَ آخى رسولُ الله صلى الله عليه وسلم بيني وبين سعدِ بنِ الرَّبيعِ، فقال سعدُ بنُ الرَّبيعِ: إنِّي أَكثرُ الأنصارِ مالًا، فَأَقْسِمُ لك نِصفَ مالي، وانْظُرْ أيَّ زَوجتيَّ هَوِيتَ نَزلتُ لك عنها، فإذا حَلَّتْ تَزوَّجتَها. قال: فقال له عبدُ الرَّحمنِ: لا حاجةَ لي في ذلك، هل مِن سوقٍ فيه تِجارةٌ؟ قال: سوقُ قَيْنُقاعٍ. قال: فغَدا إليه عبدُ الرَّحمنِ، فأتى بأَقِطٍ وسَمْنٍ، قال: ثمَّ تابع الغُدُوَّ، فما لَبِثَ أن جاء عبدُ الرَّحمنِ عليه أثرُ صُفْرَةٍ، فقال رسولُ الله صلى الله عليه وسلم: «تَزوَّجتَ؟». قال: نعم. قال: «ومَن؟»، قال: امرأةً مِنَ الأنصارِ. قال: «كَم سُقْتَ؟»، قال: زِنَةَ نَواةٍ مِن ذَهبٍ -أو نَواةً مِن ذَهبٍ- فقال له النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم: «أَوْلِمْ ولو بِشاةٍ».
بعد أن ترددت الرسل بين الملك الكامل صاحب مصر وفردريك الثاني ملك ألمانيا انتهوا على صلح عشر سنوات يسلم الكامل بيت المقدس للصليبيين نكاية بإخوانه في الشام بسبب خلاف بينه وبينهم, وجاء في بنود الاتفاق الذي عرف باتفاق يافا: 1/ أن ملك الفرنج يأخذ القدس من المسلمين، ويبقيها على ما هي من الخراب، ولا يجدد سورها. 2/ أن يكون سائر قرى القدس للمسلمين، لا حكم فيها للفرنج. 3/ أن الحرم بما حواه من الصخرة والمسجد الأقصى يكون بأيدي المسلمين، لا يدخله الفرنج إلا للزيارة فقط، ويتولاه والٍ من المسلمين، ويقيمون فيه شعار الإسلام من الأذان والصلاة. 4/ أن تكون القرى التي فيها بين عكا وبين يافا، وبين القدس، بأيدي الفرنج، دون ما عداها من قرى القدس. ثم في 22 ربيع الأول من هذه السنة، ( 18فبراير 1229 م) تسلم الفرنج بيت المقدس صلحًا، ولما تسلم الفرنج البيت المقدس، استعظم المسلمون ذلك وأكبروه واستقبحوا ما فعله الكامل، ووجدوا له من الوهن والتألم ما لا يمكن وصفه. وقد ذكر سبط ابن الجوزي ردة الفعل على تسليم الكامل بيت المقدس للصليبيين بقوله: "قامت القيامة في جميع بلاد الإسلام، واشتدت العظائم، بحيث أقيمت المآتم، وأشار علي الملك الناصر داود بن الملك المعظم أن أجلس بجامع دمشق، وأذكر ما جرى على البيت المقدس، فما أمكنني مخالفته، ورأيت من جملة الديانة الحمية للإسلام موافقته، فجلست بجامع دمشق، وحضر الناصر داود، على باب مشهد علي، وكان يومًا مشهورًا، لم يتخلف من أهل دمشق أحد, وقد انقطعت عن البيت المقدس وفود الزائرين، فيا وحشة المجاورين، كم كان لهم في تلك الأماكن من ركعة، وكم خرت لهم على تلك المساكن من دمعة، والله لو صارت عيونهم عيونًا لما وفت، ولو تقطعت قلوبهم أسفًا لما شفت، أحسن الله عزاء المؤمنين، يا خجلة ملوك المسلمين لمثل هذه الحادثة تسكب العبرات، لمثلها تنقطع القلوب من الزفرات، لمثلها تعظم الحسرات"
هو الخليفةُ عثمان الثاني بن أحمد الأول بن محمد الثالث بن مراد الثالث بن سليم الثاني بن سليمان القانوني بن سليم الأول بن بايزيد الثاني بن محمد الفاتح بن مراد الثاني بن محمد الأول جلبي بن بايزيد الأول بن مراد الأول بن أورخان غازي بن عثمان بن أرطغرل. وُلِد بإستانبول سنة 1013 ولَمَّا توفي والده أحمد الأول سنة 1026لم يرشِّحْه للخلافة لصِغرِ سِنِّه، ورشح أخاه مصطفى الأول، لكنه لم يلبث على سرير الملك إلا ثلاثة أشهر؛ حيث عزلَه في أول سنة 1027 أربابُ الغايات، وفي مقدمتهم المفتي وآغا السراي، وساعدهم الانكشارية على ذلك لتوزيع الهبات عليهم عند تولية كل ملكٍ جديدٍ، وأقاموا مكانه السلطان عثمان الثاني, وفي بداية حكمه أمر بإطلاق قنصل فرنسا وأرسل مندوبًا لملك فرنسا يعتذر عما حصل من الإهانة لسفيره, وعندما تدخَّلت بولونيا في شؤون إمارة البغدان لمساعدة جراسياني الذي عُزل بناءً على مساعي أمير ترنسلفانيا، اتخذ السلطان عثمان هذا التدخُّلَ سببًا في إشهار الحرب على مملكة بولونيا وتحقيق أمنيتِه، وهي فتح هذه المملكة وجعْلها فاصلًا بين أملاك الدولة ومملكة روسيا التي ابتدأت في الظهور، وقبل الشروع في الحرب أصدر أمرًا بتقليل اختصاصات المفتي ونزْع ما كان له من السلطةِ في تعيين وعزل الموظفين، وجعل وظيفتَه قاصرة على الإفتاء، حتى يأمن شَرَّ دسائسه التي ربما تكون سببًا في عزله، كما كانت سبب عَزلِ سلَفِه، لكن أتى الأمرُ على الضدِّ بما كان يؤمِّل, وبعد أن أتمَّ هذه التمهيدات الداخلية سيَّرَ الجيوش والكتائب لمحاربة مملكة بولونيا، فلما طالت الحربُ طلبت الانكشارية منه الكَفَّ عن الحرب, فحَنِق السلطان على الانكشارية من طلَبِهم الراحة وخلودهم إلى الكسل وإلزامه على الصلح مع بولونيا، فعزم على التخلُّص من هذه الفئة الباغية، ولأجل الاستعداد لتنفيذ هذا الأمر الخطير أمر بحشدِ جيوش جديدة في ولايات آسيا، واهتمَّ بتدريبها وتنظيمها، وشرع فعلًا في تنفيذ هدفه، وعلمت الانكشارية بذلك فهاجوا وماجوا وتذمَّروا واتفقوا على عزل السلطان، وتم لهم ذلك في 9 رجب من هذه السنة ثم قتلوه. بعد أن حكم أربع سنوات وأربعة أشهر, وأعادوا مكانه السلطان مصطفى الأول المخلوع سابقًا!
لمَّا فتَح أبو عُبيدةَ الجابِيَةَ مِن أعمالِ دِمشقَ وقِنَّسرينَ وحاصَر أهلَ مَسجدِ إيليا -أي بيت المَقدِس- فأَبَوْا أن يَفتَحوا له، وسَألوه أن يُرْسِلَ إلى صاحِبِه عُمَرَ لِيَقْدُمَ فيكون هو الذي يَتوَلَّى مُصالحَتَهُم، فكتَب بذلك إلى عُمَرَ فاسْتخلفَ علِيَّ بن أبي طالبٍ على المدينةِ, ثمَّ قَدِمَ للشَّامِ, وكتَب إلى أُمراءِ الأجنادِ أن يُوافُوه بالجابِيَةِ ليومٍ سَمَّاهُ لهم في المُجَرَّدَةِ، ويَستخلِفوا على أعمالِهم، وكان أوَّلَ مَن لَقِيَهُ فيها أبو عُبيدةَ, فلمَّا دخَل الجابِيَةَ قال له رجلٌ مِن اليَهودِ: يا أميرَ المؤمنين، إنَّك لا تَرجِع إلى بِلادِك حتَّى يفتحَ الله عليك إيلياء. فبينما عُمَر مُعسكرٌ بالجابِيَةِ فزَع النَّاسُ إلى السِّلاحِ، فقال: ما شَأنُكم؟ فقالوا: ألا ترى إلى الخيلِ والسُّيوفِ؟ فنظَر فإذا جَمْعٌ يلمعون بالسُّيوفِ. فقال عُمَرُ: مُسْتَأْمِنَةً فلا تُراعُوا، فأَمِّنُوهُم. وإذا أهلُ إيلياء، فصالَحهُم على الجِزيةِ, وعلى أن لا يَهْدِمَ كَنائِسَها، ولا يُجْلِيَ رُهْبانَها، ففَتَحوها له، وبَنَى بها مَسجِدًا، وأقام أيَّامًا ثمَّ رجَع إلى المدينةِ.
فتَحَها المسلمونَ في ولاية أبي عبد الله محمد بن أحمد بن محمد بن الأغلب أبو الغرانيق، غزاها خَلفٌ الخادم مولى زيادة الله بن إبراهيم، وخَلفٌ هو المعروفُ ببناء المساجدِ والقناطر، فحاصرها ومات وهو محاصِرٌ لها، فكَتَبوا إلى أبي عبد الله بوفاته، فكتب أبو عبد الله إلى عامِلِه بجزيرة صقليَّة، وهو محمَّد بن خفاجة، أن يبعَثَ إليهم واليًا، فبعث إليهم سوادةَ بن محمد، ففتحوا حصنَ مالطة، وظَفِروا بمَلِكها عمروس أسيرًا، فهَدَّموا حِصنَها وغَنِموا وسَبَوا ما عَجَزوا عن حَملِه، وحُملَ لأحمد بن عمر بن عبد الله بن الأغلب - الذي عَمِلَ من أجل فتح مالطة- من كنائِسِ مالطة ما بنى به قصرَه الذي بسوسةَ داخلًا في البحر، والمَسلَك إليه على قنطرة. وبقيت بعد ذلك جزيرةُ مالطة خَرِبةً غيرَ آهِلةٍ، وإنما كان يدخلُها النشَّاؤون للسُّفُن؛ فإنَّ العودَ فيها أمكَنُ ما يكونُ، والصيادونَ للحوتِ لكَثرتِه في سواحِلِها وطِيبه، والشائرونَ للعَسَلِ؛ فإنه أكثَرُ شَيءٍ هناك.
لَمَّا نزل الفرنسيون بالإسكندرية أخذوا محمد كريم الذي كان بيده أمرُ الديوان والجمارك ومصادرات التجار خصوصًا من الإفرنج في الإسكندرية، فحبسوه وطالبوه بالمال وضيَّقوا عليه في المركب، ولَما حضروا إلى مصر وطلعوا إلى قصر مراد بيك، وفيها اطَّلعوا على أخبار محمد كريم وتعَرَّفوا على اجتهاده في حربِهم وتهوين أمرِهم وتنقيصِهم، فاشتد غيظُهم عليه فأرسلوا وأحضروه إلى مصر وحبَسوه، ولم تنفع الشفاعات فيه أبدًا، ثم إنهم طالبوه بقَدرٍ معين من المال كبير يَعجِز عنه وأمهلوه اثنتي عشرة ساعة فقط لإحضاره وإلَّا كان حتفُه، فسأل الناس والمشايخ، وكان يقول: اشتروني يا مسلمين! ولكن كان كلٌّ مشغول بنفسه يترقَّبُ ما يحُلُّ به، فانقضت المهلة ولَمَّا يجمعْ ما طلب منه، فأركبوه على حمار يتقدَّمهم طبل يضربون عليه حتى وصلوا به إلى الرميلة وكتَّفوه وربطوه مشبوحًا وضربوا عليه بالبنادق كعادتهم في القتل، ثم قطعوا رأسَه ورفعوه على نبوت وطافوا به يقولون: هذا جزاء من يخالف الفرنسيين، ثم إنَّ أتباعه أخذوا رأسَه ودفنوه مع جثته، وكان ذلك في يوم الخميس الخامس عشر من ربيع الأول لهذا العام!!
كانت اللجنةُ المَلَكية البريطانية (لجنة بيل الملكية) سنة 1356هـ / 1937م قد أصدرت بعد دراسةٍ عدَّةَ توصياتٍ؛ منها: تقسيم فلسطين حيث أوصت اللجنة بقيام كيانٍ صهيوني في فلسطين بناءً على أحلام اليهود، وإعطائهم نصف فلسطين؛ لتكون دولتهم مستقلة تمامًا، مع وضع القدس وما حولها تحتَ الانتدابِ البريطاني؛ لأنها مدينة مقدسة لدى كافة الأديان، ورفضَ العرَبُ هذا القرار، واليهود كذلك رفضوه لأنهم لا يريدون نصفَ فلسطين فقط، بل يريدونها كلها!! ثم حاولت بريطانيا تشكيلَ لجنة فنية، هي لجنة وود هيد؛ لدراسة مشروع التقسيم، إلى أن تراجَعَت بريطانيا عن المشروعِ بسبب مقاطعة الطرفين للَّجنة، ونادت بدلًا عنه بضرورة إقامة سلام بين العرب واليهود، ثمَّ رُفِعَ أمر القضية الفلسطينية إلى عُصبة الأمم في حينها التي شَكَّلت هي الأخرى لجنةً لتحقيقٍ شاملٍ، والتي لم تقَدِّم تقريرها إلا للأمم المتحدة في آب 1947م واشتمل على مشروعين: الأول وهو مشروع الأكثرية، ويوصي بتقسيم فلسطين إلى دولتين عربية ويهودية، مع وحدة اقتصادية بينهما، والثاني: مشروع الأقلية ويوصي بقيامِ دولةٍ عربية يهودية اتحادية مستقلَّة، تكون مدينةُ القدسِ عاصمةً لها، وتبَنَّت الجمعية العمومية للأمم المتحدة مشروعَ الأغلبية، وأوصت بتقسيم فلسطين، كما أوصت بإنهاء الانتداب البريطاني، ورفض قرارَ التقسيمِ كُلُّ الدول العربية والإسلامية.
ضرَبَت إسرائيلُ المفاعِلَ النَّووي الذي أقامته فَرنسا على بُعْد عشرةِ أميالٍ ونصف الميل جنوب شَرق بغدادَ، واشتَرَكت في العمليةِ 8 طائرات (فالكون - ف16) مُقاتِلة وقاذِفة، في بطْنِ كلٍّ منها 900 كيلو جرام قنابل ثَقيلة، مُوجَّهة بأشعَّة اللِّيزر، تُغطِّيها 8 طائراتٍ أُخرى (إيجل - ف15) مُزَّودة بصواريخ جو - جو، مِن طُراز «سبارو» و«سسايدوندر»، وبها خزاناتُ وَقودٍ إضافية، وأجهزةُ تَشويشٍ إلكتُرونية.. وقد عبَرت الطائراتُ خليجَ العقبةِ على عُلُوٍّ منخفضٍ.. وبعْدَ 1200 ميل قطعَتْها الطائراتُ بسُرعةِ 600 عقدةٍ، وصلَت إلى الهدفِ في الساعة السادسةِ و25 دقيقة بالتوقيتِ المحلِّي.. وفي ذلك التوقيتِ ارتفَعَت مَجموعةُ القاذفاتِ لِتُفْرِغَ ما في أحشائها مِن قنابلَ فوق قُبة المفاعل النَّووي الضخمةِ التي تقَعُ في ضاحية «التوثية» القريبة مِن بغدادَ، والتي تَحوطُها تِلالٌ صغيرةٌ وأشجارُ نَخيلٍ مُثمرةٌ.. استغرَقَت العمليةُ 3 دقائقَ، ثم انسحَبَت بعدها الطائراتُ بزاويةٍ تجعَلُها تَتلافى صواريخَ سام السُّوفيتية.. وتريَّثَت الطائراتُ قليلًا لِتَلتقِطَ صورًا جويةً للذِّكرى والعِبرةِ.. وقد أصدَرَت إسرائيلُ بيانًا أكَّدت فيه نَجاح التدميرِ بلا خسائرَ بشريةٍ من الجانبينِ.. ويُذكَر أن يومَ تنفيذَ العملية كان يومَ إجازةِ الخُبراء الأجانبِ، وعددُهم مائةُ خَبيرٍ.
قامت القواتُ والميليشيات الصربيةُ والكُرواتيةُ بعمليات وَحشيةٍ ضدَّ مُسلِمي البوسنة والهرسك وكوسوفو، باسم التطهير العِرقي، حيث اجتاحَ الصربُ أراضيَ البوسنة ومدنَها؛ لتنفيذ خُطتهم، للاستيلاء على أراضي هذه الجمهورية، وطرد المسلِمينَ منها، حتى تكون خالصةً فقطْ للصربِ، ومن أجْل ذلك ارتكَبَ الصربيونَ صُنوفًا من أبشعِ الجرائمِ التي لم يشهَدْ لها تاريخُ أوروبا مثيلًا منَ القتلِ والظلم، والدمار، والاغتصاب، فقَتَلوا أكثَرَ من 300 ألفِ شخصٍ من مسلِمي البوسنة، وطَرَدوا وشرَّدوا أكثَرَ من ثلاثةِ ملايينِ مسلمٍ، هَرَبوا إلى دول مجاوِرةٍ في النمسا، والمجر، وكرواتيا، وسلوفينيا، وألمانيا، تاركينَ أراضيَهم وأموالَهم وأهاليَهم، كما هَدَموا بالمدافع والطائرات الكثيرَ من مدنِ المسلمين وقُراهم، مُستهدِفين إزالةَ كلِّ الآثار والمعالم التاريخية، التي تُثبِتُ الهُويَّةَ الإسلامية لهذه البلاد وأهلها عبرَ التاريخ، فهَدَموا المساجدَ، وحَرَقوا عددًا من المكتبات، منها مكتبةُ سيراييفو التي كانت تضمُّ مخطوطاتٍ تاريخيةٍ ترجِعُ إلى العهد العثماني، ومكتبة خسرو بك، والتي تحوي أكثر من 9000 مخطوطةٍ إسلاميةٍ، إضافةً إلى 3000 وثيقةٍ تركيةٍ، وأكثَرَ من 10.000 كتابٍ.
وفوقَ كلِّ ذلك مارست الحكومةُ الكرواتيةُ ضُغوطًا على مئاتِ الآلاف من اللاجِئين المسلِمين، لكي يُهاجِروا منها إلى بُلدانٍ إسلاميةٍ مثلِ باكستانَ وماليزيا، كما منَعَ الصِّربُ قوافلَ الإغاثة من دُخولها، ومن دخول كوسوفو.
هو السُّلطانُ علاء الدين خوارزم شاه محمد بن تكش بن إيل أرسلان بن آتسز بن محمد بن نوشتكين. نسبه ينتهي إلى إيلتكين أحد مماليك السلطان ألب أرسلان بن جغر بيك السلجوقي. أباد ملوك العالم، ودانت له الممالك واستولى على الأقاليم. كان صبورًا على التعب وإدمان السير، غير متنَعِّم ولا مقبل على اللذات، إنما نهمتُه في المُلك وتدبيره وحِفظِه وحِفظِ رعيَّتِه. كان فاضِلًا، عالِمًا بالفقه والأصول، وغيرهما. وكان مكرمًا للعلماء محبًّا لهم، محسنًا إليهم، يحب مناظرتَهم بين يديه. ويُعظِّم أهل الدين ويتبَرَّك بهم. أفنى ملوك خراسان، وما وراء النهر، وقتل صاحب سمرقند، وأخلى البلاد من الملوك- ولم يبقَ لها من يحميها- واستقلَّ بها، فكان ذلك سببًا لهلاكه, فلما نزل خوارزم شاه محمد همذان، كاتب الوزير مؤيد الدين محمد بن القمي نائب وزير الخليفة عساكرَ خوارزم شاه، ووعدهم بالبلاد، فاتفقوا مع الخطا على قتل علاء الدين، وبعث القميُّ إليهم بالأموال والخيول سرًّا، فكان ذلك سببًا لوهنه، وعَلِمَ بذلك، فسار من همذان إلى خراسان ونزل مرو، فصادف في طريقه الخيول والهدايا والكُتُب إلى الخطا، وكان معه منهم سبعون ألفًا، فلم يمكنه الرجوعُ لفساد عسكره. وكان خالُه من أمراء الخطا، وقد حلَّفوه أن لا يطلع خوارزم شاه على ما دبروا عليه، فجاء إليه في الليل، وكتب في يده صورة الحال، ووقف بإزائه، فنظر إلى السطورِ وفَهِمَها، وهو يقول: خُذْ لنفسِك، فالساعةَ تُقتَلُ، فقام وخرج من تحت ذيل الخيمةِ، ومعه ولداه جلال الدين والآخر، فركب، وسار بهما، ثم دخل الخطا والعساكر إلى خيمته، فلم يجدوه، فنهبوا الخزائن والخيول، فيقال: إنه كان في خزائنه عشرة آلاف ألف دينار وألف حمل قماش أطلس وغيره. وكانت خيله عشرين ألف فرس وبغل، وله عشرة آلاف مملوك. فهرب ورَكِب في مركب صغير إلى جزيرة فيها قلعة ليتحصَّن بها، فأدركه الأجَلُ، فدفن على ساحل البحر، وهرب ولداه، وتفرقت الممالك بعده، وأخذت التتار البلاد, وقيل بعد فراغ جنكيزخان من سمرقند أرسل وراء خوارزم شاه، وكانوا عشرين ألفا فساروا وراءه فأدركوه وبينهم وبينه نهر جيحون وهو آمن بسببه، فلم يجدوا سفنًا فعملوا لهم أحواضًا يحملون عليها الأسلحة ويُرسِل أحدهم فرسه ويأخذ بذنَبِها فتجرُّه الفرس بالماء وهو يجر الحوضَ الذي فيه سلاحُه، حتى صاروا كلُّهم في الجانب الآخر، فلم يشعُرْ بهم خوارزم شاه إلا وقد خالطوه، فهرب منهم إلى نيسابور ثم منها إلى غيرها وهم في أثره لا يمهلونه يجمع لهم فصار كلما أتى بلدًا ليجتمع فيه عساكره له يدركونه فيهرب منهم، حتى ركب في بحر طبرستان وسار إلى قلعة في جزيرة فيه، فكانت فيها وفاته، وقيل إنه لا يعرف بعد ركوبه في البحر ما كان من أمره بل ذهب فلا يدرى أين ذهب، ولا إلى أي مفر هرب، وملكت التتار حواصله فوجدوا في خزانته ما لا يحصى، وقبل وفاة علاء الدين خوارزم شاه أوصى لابنه جلال الدين منكبرتي بالسلطة.
هو الإمامُ العَلَّامة الحافِظُ الأوحَدُ، شَيخُ الإسلامِ القاضي أبو الفَضلِ عِياضُ بنُ موسى بنِ عِياضِ بنِ عَمرِو بنِ موسى بن عياض بن محمد بن موسى بن عِياض اليحصبي الأندلسي، ثمَّ السبتي، المالكيُّ، قاضي سبتة. أحدُ مشايخ العُلَماءِ المالكيَّة، أصلُه من الأندلُسِ انتَقَلَ جَدُّه عَمرٌو مِن الأندلُسِ إلى مدينة فاس، ثمَّ مِن فاس إلى سبتة, ووُلِدَ القاضي عياض بسبتة في النِّصفِ مِن شعبان سنة 476, لم يَحمِل القاضي العِلمَ في الحداثة، وأوَّلُ شَيءٍ أخذه عن الحافِظِ أبي علي الغساني إجازةً مُجَرَّدة، وكان يُمكِنُه السَّماعُ منه. بدأ بطلب العلمِ في الثانية والعشرين مِن عُمُرِه, ثمَّ رحل إلى الأندلس سنة 503، فاستبحَرَ مِن العُلومِ، وجمَعَ وألَّف، وسارت بتصانيفِه الرُّكبانُ، واشتُهِرَ اسمُه في الآفاقِ، حتى أصبح إمامَ وَقتِه في الحديثِ وعُلومِه، والفِقهِ واللُّغةِ والأدَبِ، وأيَّامِ الناس، وله مُصَنَّفات كثيرةٌ مُفيدةٌ شاهِدةٌ على إمامتِه، منها: الشَّفا بتعريف حقوق المصطفى، وشَرحُ مُسلِم، ومشارِقُ الأنوار، وشَرحُ حديث أم زرع، وغير ذلك، وله شِعرٌ حَسَنٌ. قال خلف بن بشكوال تلميذُه: "هو مِن أهلِ العِلمِ والتفَنُّنِ والذَّكاءِ والفَهمِ، استُقضِيَ بسبتةَ مُدَّةً طويلةً، حُمِدَت سِيرتُه فيها، ثمَّ نُقِلَ عنها إلى قضاءِ غِرناطة سنة 532، فلم يُطَوِّلْ بها، وقَدِمَ علينا قُرطُبةَ، فأخَذْنا عنه". قال الفقيهُ محمد بن حماده السبتي: "جلس القاضي للمُناظرة وله نحوٌ مِن ثمان وعشرين سنة، ووَلِيَ القضاءَ وله خمس وثلاثون سنة، كان هيِّنًا مِن غَيرِ ضَعفٍ، صُلبًا في الحَقِّ، تفَقَّه على أبي عبدِ الله التميمي، وصَحِبَ أبا إسحاق بن جعفر الفقيه، ولم يكُنْ أحَدٌ بسبتة في عَصرِه أكثَرَ تواليفَ مِن تواليفِه" ذكره الذهبي بقوله: "تواليفُه نَفيسةٌ، وأجَلُّها وأشرَفُها كِتابُ (الشَّفا) لولا ما قد حشاه بالأحاديثِ المُفتَعَلةِ عَمَلَ إمامٍ لا نَقْدَ له في فَنِّ الحديثِ ولا ذَوْقَ، واللهُ يُثيبُه على حُسنِ قَصْدِه، وينفَعُ بـ (شِفائِه) وقد فَعَل، وكذا فيه من التأويلاتِ البَعيدةِ ألوانًا، ونبيُّنا صَلَواتُ الله عليه وسلامُه غَنِيٌّ بمِدحةِ التَّنزيلِ عن الأحاديثِ، وبما تواتَرَ مِن الأخبارِ عن الآحادِ، وبالآحادِ النَّظيفةِ الأسانيدِ عن الواهياتِ، فلماذا يا قومِ نتشَبَّعُ بالموضوعاتِ؟ فيتطَرَّق إلينا مقالُ ذَوي الغِلِّ والحَسَدِ، ولكِنْ مَن لا يعلَمُ مَعذورٌ، فعليك يا أخي بكتاب (دلائل النبوة) للبَيهقيِّ؛ فإنَّه شِفاءٌ لِما في الصُّدور، وهُدًى ونُور" مات بمراكش يومَ الجُمُعةِ في جمادى الآخرةِ، وقيل في رمضانَ، بمدينة سبتة, ودُفِنَ بباب إيلان داخِلَ المَدينةِ.
كعبُ بنُ الأَشرفِ رجلٌ مِن طَيِّءٍ وأمُّهُ مِن يَهودِ بني النَّضيرِ. كان شاعرًا يَهجو النَّبيَّ صلى الله عليه وسلم وأصحابَه ويُحرِّضُ عليهم ويُؤذيهِم، فلمَّا كانت وقعةُ بدرٍ كُبِتَ وذُلَّ وقال: بطنُ الأرضِ خيرٌ مِن ظَهرِها اليومَ. فخرج حتَّى قَدِمَ مكَّةَ فبَكى قَتلى قُريشٍ وحَرَّضهُم بالشِّعرِ، قال جابرُ بنُ عبدِ الله: قال: رسولُ الله صلى الله عليه وسلم: «مَن لِكعبِ بنِ الأَشرفِ؟ فإنَّه قد آذى الله ورسولَهُ». فقال محمَّدُ بنُ مَسلمةَ: يا رسولَ الله، أَتُحِبُّ أن أَقتُلَهُ؟ قال: «نعم». قال: ائْذَنْ لي فَلْأَقُلْ. قال: «قُلْ». فأَتاهُ فقال له، وذَكَر ما بينهما، وقال: إنَّ هذا الرَّجلَ قد أراد صَدقةً وقد عَنَّانا. فلمَّا سمِعَه قال: وأيضًا والله لَتَمَلُّنَّهُ. قال: إنَّا قد اتَّبعناهُ الآنَ، ونَكرهُ أن نَدعَهُ حتَّى ننظُرَ إلى أيِّ شيءٍ يَصيرُ أَمرُهُ. قال: وقد أردتُ أن تُسلِّفَني سَلفًا. قال: فما تَرْهَنُني؟ قال: ما تريدُ؟ قال: تَرهَنُني نِساءَكُم. قال: أنت أَجملُ العربِ، أَنَرهنُك نِساءَنا! قال له: تَرهَنُوني أولادَكُم. قال: يُسَبُّ ابنُ أَحدِنا، فيُقالُ: رُهِنَ في وَسَقَينِ مِن تمرٍ، ولكنْ نَرهَنُك اللَّأْمَةَ -يعني السِّلاحَ- قال: فنعم. وواعَدهُ أن يَأتِيَهُ بالحارثِ، وأبي عَبْسِ بنِ جَبْرٍ، وعبَّادِ بنِ بِشْرٍ، قال: فجاءوا فَدَعَوْهُ ليلًا فنزل إليهِم، قال سُفيانُ: قال غيرُ عَمرٍو: قالت له امرأتُه: إنِّي لأَسمَعُ صوتًا كأنَّه صوتُ دَمٍ. قال: إنَّما هذا محمَّدُ بنُ مَسلمةَ، ورَضيعُهُ، وأبو نائِلَةَ، إنَّ الكريمَ لو دُعِيَ إلى طَعنَةٍ ليلًا لأَجابَ. قال محمَّدٌ: إنِّي إذا جاء فسَوف أَمُدُّ يَدي إلى رأسِهِ، فإذا اسْتمكَنتُ منه فَدُونَكُم. قال: فلمَّا نزل نزل وهو مُتوَشِّحٌ، فقالوا: نَجِدُ منك ريحَ الطِّيبِ. قال: نعم تَحْتِي فُلانةُ هي أَعطرُ نِساءِ العربِ. قال: فتأذنُ لي أن أَشُمَّ منه، قال: نَعم فَشُمَّ. فتناوَل فَشَمَّ، ثمَّ قال: أَتأذنُ لي أن أَعودَ، قال: فاسْتمكَنَ مِن رأسِهِ، ثمَّ قال: دُونَكُم. قال: فقَتلوهُ". (....ثمَّ أَتَوْا النَّبيَّ صلى الله عليه وسلم فأَخبَروهُ).
هو أبو محمَّد الحَجَّاجُ بن يُوسُف الثَّقَفي، قائِدٌ أُمَوِيٌّ، داهِيَة، سَفَّاك، خَطِيب، وُلِدَ وَنَشأَ في الطَّائِف، وانْتَقَل إلى الشَّام فلَحِقَ بِرَوْحِ بن زِنْباع نائِب عبدِ الملك بن مَرْوان فكان في عِدادِ شُرْطَتِه، ثمَّ ما زال يَظهَر حتَّى قَلَّدَهُ عبدُ الملك أَمْرَ عَسْكَرِهِ, ثمَّ أَصبَح والِيًا على العِراق مِن قِبَل عبدِ الملك بن مَرْوان، أَصلَح البِلادَ في العِراق واعْتَنَى بها، وازْدَهَرَت في عَصرِه التِّجارَة والصِّناعَة، وكان مَعروفًا بالظُّلْمِ، وسَفْكِ الدِّماء، وانْتِقاص السَّلَف، وتَعَدِّي حُرُماتِ الله بأَدْنَى شُبْهَة، وقد أَطْبَقَ أَهلُ العِلْم بالتَّارِيخ والسِّيَر على أَنَّه كان مِن أَشَدِّ النَّاس ظُلْمًا، وأَسْرَعِهم للدَّمِ الحَرامِ سَفْكًا، ولم يَحفَظ حُرْمَةَ رَسولِ الله صلَّى الله عليه وسلَّم في أَصحابِه، ولا وَصِيَّتَه في أَهلِ العِلْم والفَضْل والصَّلاح مِن أَتْباعِ أَصحابِه. وكان جَبَّارًا عَنيدًا. قالت أَسماءُ بِنتُ أبي بَكْرٍ رضي الله عنها للحَجَّاجِ: إنَّ رَسولَ الله صلَّى الله عليه وسلَّم حَدَّثَنا «أنَّ في ثَقِيفٍ كَذَّابًا ومُبِيرًا». فأمَّا الكَذَّابُ فقد رَأَيْناهُ -تَعْنِي المُخْتار- وأمَّا المُبِيرُ فأَنت هو. والمُبِيرُ: المُهْلِك، الذي يُسْرِف في إِهْلاكِ النَّاس. نَشأَ الحَجَّاجُ شابًّا لَبِيبًا فَصيحًا بَليغًا حافِظًا للقُرآن، وكان يُكْثِر تِلاوَةَ القُرآن، ويَتَجَنَّب المَحارِم، ولم يَشْتَهِر عنه شَيءٌ مِن التَّلَطُّخ بالفُروج، وإن كان مُتَسَرِّعًا في سَفْكِ الدِّماءِ، كان فيه سَماحَةً بإعطاءِ المالِ لِأَهلِ القُرآن، فكان يُعطي على القُرآن كَثيرًا، ولمَّا مات لم يَتْرُك فيما قِيلَ إلَّا ثلاثمائة دِرْهَم. بَلَغَ ما قَتَل الحَجَّاجُ صَبْرًا مائة ألف وعشرين ألف، قال عنه الذهبي: "نَسُبُّهُ ولا نُحِبُّه؛ بل نُبْغِضُه في الله؛ فإنَّ ذلك مِن أَوْثَقِ عُرَى الإيمان, وله حَسَنات مَغْمورة في بَحْرِ ذُنوبِه، وأَمْرُهُ إلى الله. وله تَوْحِيد في الجُمْلَة، ونُظَراء مِن ظَلَمَةِ الجَبابِرَة والأُمَراء" لمَّا حَضَرتُه الوَفاةُ اسْتَخْلَف على الصَّلاةِ ابنَه عبدَ الله، واسْتَخْلَف على حَربِ الكوفَة والبَصْرَة يَزيدَ بن أبي كَبْشَة، وعلى خَراجِهِما يَزيدَ بن أبي مُسلِم، فأَقَرَّهُما الوَليدُ بعدَ مَوتِه، ولم يُغَيِّر أَحَدًا مِن عُمَّالِ الحَجَّاج.