بعث ملك البرتغال منويل من دار ملكه أشبونة قوةً بحرية للاستيلاء على بعض ثغور المغرب، فألجأهم هيجان البحر وموجه إلى ساحل البريجة فيما بين آزمور وتيط، وكانت البريجة بناء متخذًا هنالك للحراسة ونحوها، وكان يسمى برج الشيخ، فنزلت طائفةٌ منهم إلى البر فتطوفوا بالبريجة وما حولها، وأعجبهم المكان فعزموا على المقام به وشرعوا في إدارة السور على قطعة من الأرض، فنذر بهم أهل تلك البلاد من المسلمين وتسابقوا إليهم على الصعب والذَّلول، ففر النصارى إلى البريجة وتحصنوا بها، وأفسد المسلمون كل ما كانوا عملوه في تلك الأيام وأحجروهم بحصنهم، ووضعوا عليهم الرَّصَد إلى أن فتَرَ عزمهم وأيِسوا من نجاح سعيهم، فعاد جُلُّهم أو كلهم إلى أشبونة. وقد خططوا للعودة إلى هذا الموضع لاحقًا.
تعرَّضت الولايات الأمريكية لسلسلة من الهجمات في 11 سبتمبر عامَ 2001م، وتركَّزت في كلٍّ من واشنطنَ، ونيويوركَ وبنسلفانيا، وبدأت هذه الهجماتُ باصطدام طائرتَينِ من طراز بوينج، بمركز التجارة العالمي -أعْلى مَبْنى في العالم- بحي مانهاتن بولاية نيويورك الأمريكية، حيث اصطدمت كلُّ طائرةٍ ببرجٍ، ممَّا أدَّى إلى سقوط البُرجين، حتى سُوِّيَا بالأرض، بعد أن اشتَعَلا بالنار لفترة قليلةٍ، كما تعرَّض مَقَرُّ وزارة الدفاعِ الأمريكيةِ (البِنتاجون) في واشنطنَ لهجمةٍ أيضًا في جزءٍ منه، وقُتِلَ في الهجمات 3062 شخصًا، تَبَنَّى رئيس تنظيم القاعدة أسامة بن لادن هذه العملياتِ، فقامت الولايات الأمريكية بملاحَقة تنظيمِ القاعدة، للقبضِ على أسامة بن لادن، وأدى ذلك إلى غزو أفغانستانَ.
لمَّا نزَل عُتبةُ بن غَزْوان الخُرَيْبَةَ -مَسالِح الفُرْسِ قَريبة مِن الأُبُلَّةِ- كتب إِلى عُمَر بن الخطَّاب يُعلِمه نُزولَه إيَّاها، وأنَّه لابُدَّ للمسلمين مِن مَنزلٍ يَشْتُون به إذا شَتَوْا، ويَكْنِسون فيه إذا انصرفوا مِن غَزوِهم، فكتب إليه: اجْمَع أصحابَك في مَوضِع واحد وليَكُنْ قريبًا مِن الماء والرَّعْي، واكْتُبْ إِلىَّ بصِفَتِه. فكتب: إليه إنِّي وجدتُ أرضًا كثيرةَ القَصَبَةِ -أي كثيرةَ الحَصَبَةِ- في طَرْفِ البَرِّ إِلى الرِّيفِ، ودونَها مَناقِعُ ماءٍ فيها قَصْباءُ. فلمَّا قرَأ الكِتابَ قال: هذه أرضٌ نَضِرَةٌ، قَريبةٌ مِن المَشارِب والمَراعي والمُحْتَطَب، وكتَب إليه: أن أَنْزِلْها النَّاسَ. فأنزلهم إيَّاها، فكان عُتبةُ هو أوَّل مَن مَصَّرَ البَصْرةَ.
لمَّا وَلِيَ عُمَرُ بن عبدِ العزيز الخِلافَةَ اسْتَعمَل على الأَندَلُس السَّمْحَ بن مالِك الخَوْلاني خَلَفًا للحُرِّ بن عبدِ الرَّحمن الثَّقَفي لِمَا رَأَى مِن أَمانَتِه ودِيانَتِه, وأَمَره أن يُمَيِّز أَرضَها، ويُخرِج منها ما كان عَنْوَةً ويَأخُذ منها الخُمُسَ، ويَكتُب إليه بِصِفَة الأَندَلُس. فقَدِمَها السَّمْحُ، وفَعَل ما أَمَره عُمَرُ، وعَهِدَ إليه بإجْلاءِ المسلمين مِن الأَندَلُس خَشيَةً مِنه على أَرواحِهم، إلَّا أنَّ السَّمْح حين نَزَل الأَندَلُس واطَّلَع على أَحوالِها، طَمْأَنَ الخَليفةَ إلى قُوَّةِ حالِ المسلمين في الأَندَلُس. أَصلَح السَّمْحُ قَنْطَرَةَ قُرْطُبة على نَهرِ الوادي الكَبير, ونَظَّمَ البِلادَ ثمَّ تَوَجَّه لِفَتْحِ ما وَراءَ جِبالِ البرانس، ودَخَل فَرنسا واسْتُشْهِدَ فيها بعدَ مَعركَة تولوز عام 102هـ.
مع انهيار الاتِّحادِ السُّوفييتي السابق بدايةَ عام 1990م انتهزتِ المُنظَّمة الصُّهيونيَّة العالميَّة، والوكالة اليهودية الفُرصةَ لتحشيدِ قوافِلِ الهجرة الاستيطانيَّة التوسُّعيَّة اليهوديَّة الصُّهيونية إلى فلسطين. وبدأت أرقام هِجرة اليهود السُّوفييت تتراكَمُ باتجاه فلسطين المُحتلَّة، وقد وصَلَ خلال الفترة (1990-2000م) نحو مليون يهوديٍّ، وساهمت الهجرةُ بأكثر من (67%) من إجمالي الزيادة السُّكانيَّة اليهوديَّة على أرض فِلَسطينَ خلال الفترة المذكورة. إلا أن الهِجرة التَّهويديَّة إلى فلسطين بدأت تقلُّ تدريجيًّا، خاصَّة في ظِلِّ انطلاقةِ الانتفاضة الفلسطينية. فوصَلَ منهم 140 ألفًا حتى نهاية السبعينيات، ثم بعد سُقوط الاتحاد السُّوفييتي سنة 1991م فُتح فيضان الهجرة، فوصَلَ 700 ألف يهوديٍّ روسيٍّ، وهم يُشكِّلون أكبَرَ نِسبةٍ عِرقيةٍ.
اشتَدَّ القتال بين الفرنج والمسلمين برًّا وبحرًا، وقد اجتمع من الفرنج والمسلمين ما لا يعلم عددهم إلا الله، هذا والرسُل تتردد من عند الفرنج في طلب الصلحِ بشروط: منها أخذ القدس وعسقلان وطبرية، وجبلة واللاذقية، وسائر ما فتحه السلطان صلاحُ الدين من بلاد الساحل، فأجابهم الملوك إلى ذلك، ما خلا الكرك والشوبك، فأبى الفرنجُ، وقالوا: لا نسَلِّم دمياط حتى تسلِّموا ذلك كله فرضي الكامل، فامتنع الفرنج، وقالوا: لا بد أن تعطونا خمسمائة ألف دينار، لنعمر بها ما خربتم من أسوار القدس، مع أخْذِ ما ذكر من البلاد، وأخذ الكرك والشوبك أيضًا، فاضطر المسلمون إلى قتالهم ومصابرتِهم، وعبَرَ جماعة من المسلمين في بحر المحلة إلى الأرض التي عليها معسكر الفرنج، وفتحوا مكانًا عظيمًا في النيل، وكان وقتَ قوة زيادة النيل، والفرنج لا معرفةَ لهم بحال أرض مصر، ولا بأمر النيل، فلم يشعر الفرنج إلا والماء قد غرق أكثر الأرض التي هم عليها، وصار حائلًا بينهم وبين دمياط، وأصبحوا وليس لهم جهة يسلكونها، سوى جهةٍ واحدة ضيقة، فأمر السلطانُ في الحال بنصب الجسور وعبَرَت العساكر الإسلامية عليها، وملكت الطريق التي تسلكها الفرنجُ إلى دمياط، فانحصروا من سائر الجهات، وقَدَّر الله سبحانه بوصول فرقةٍ عظيمة في البحر للفرنج، وحولها عدةُ حراقات تحميها، وسائرها مشحونة بالميرة والسلاح، وسائر ما يحتاج إليه، فأوقع بها شواني الإسلام، وكانت بينهما حربٌ، أنزل الله فيها نصره على المسلمين، فظَفِروا بها وبما معها من الحراقات، ففتَّ ذلك في عضد الفرنج، وألقِيَ في قلوبهم الرعب والذلة، بعدما كانوا في غاية الاستظهار والعنت على المسلمين، وعلموا أنهم مأخوذون لا محالة، فأجمعوا أمرهم على مناهضة المسلمين؛ ظنًّا منهم أنهم يصلون إلى دمياط، فخَرَّبوا خيامهم ومجانيقَهم، وعزموا على أن يحطموا حطمةً واحدة، فلم يجدوا إلى ذلك سبيلًا، لكثرةِ الوحل والمياه التي قد ركبت الأرضَ مِن حولهم، فعجزوا عن الإقامة لقلَّةِ الأزواد عندهم، ولاذوا إلى طلَبِ الصلحِ، وبعثوا يسألون الملك الكامل وأخويه الأشرف والمعظم الأمانَ لأنفُسِهم، وأنهم يسلِّمونَ دمياط بغير عوض، فاقتضى رأيُ الملك الكامل إجابتهم، هذا وقد ضجرت عساكر المسلمين، وملت من طول الحرب، فإنها مقيمة في محاربة الفرنج ثلاث سنين وأشهرًا، وما زال الكامل قائمًا في تأمين الفرنج إلى أن وافقه بقيَّة الملوك على أن يبعث الفرنجُ برهائن من ملوكِهم لا من أمرائهم إلى أن يسَلِّموا دمياط فطلب الفرنجُ أن يكون ابن الملك الكامل عندهم رهينةً، إلى أن تعود إليهم رهائنُهم، فتقَرَّر الأمر على ذلك، وحلف كل من ملوك المسلمين والفرنج، في سابع شهر رجب، وبعث الفرنج بعشرين ملكًا من ملوكهم رهنًا، منهم يوحنا صاحب عكا، ونائب البابا، وبعث الملك الكامل إليهم بابنه الملك الصالح نجم الدين أيوب، وله من العمر يومئذ خمس عشرة سنة، ومعه جماعة من خواصه، وعندما قدم ملوك الفرنج جلس لهم الملك الكامل مجلسًا عظيمًا، ووقف الملوكُ من إخوته وأهل بيته بين يديه، في يوم الأربعاء التاسع عشر من شهر رجب، فهال الفرنج ما شاهدوا من تلك العظمة وبهاء ذلك الناموس، وقدمت قسوس الفرنج ورهبانهم إلى دمياط، ليسَلِّموها إلى المسلمين، فتسَلَّمها المسلمون في يوم الأربعاء التاسع عشر من شهر رجب، فلما تسلمها المسلمون قدم في ذلك اليوم من الفرنج نجدة عظيمة، يقال أنها ألف مركب، فعُدَّ تأخُّرُهم إلى ما بعد تسليمِها من الفرنج صنعًا جميلًا من الله سبحانه، وشاهد المسلمون عندما تسلموا دمياط من تحصين الفرنج لها ما لا يمكِن أخذُها بقوة البتة، وبعث السلطان بمن كان عنده في الرهن من الفرنج، وقَدِمَ الملك الصالح ومن كان معه، وتقررت الهدنة بين الفرنج وبين المسلمين مدة ثماني سنين، على أن كلًّا من الفريقين يطلق ما عنده من الأسرى، وحلف السلطان وإخوته وحلف ملوك الفرنج على ذلك، وتفرَّق من كان قد حضر للقتال، فكانت مدة استيلاء الفرنج على دمياط سنة واحدة وعشرة أشهر وأربعة وعشرين يومًا، ثم دخل الملك الكامل إلى دمياط بعساكره وأهله، وكان لدخوله مسرة عظيمة وابتهاج زائد، ثم سار الفرنج إلى بلادهم وعاد السلطان إلى قلعة الجبل في يوم الجمعة ثاني عشر شهر رمضان، ودخل الوزير الصاحب صفي الدين عبد الله بن علي بن شكر في البحر، وأطلق من كان بمصر من الأسرى، وكان فيهم من أُسِرَ من الأيام الصلاحية، وأطلق الفرنج من كان في بلادهم من أسرى المسلمين.
عَمِلَ السلطانُ عبد الحميد على كَسبِ الشعوب الإسلامية عن طريقِ الاهتمامِ بكلِّ مؤسَّساتها الشرعيَّة والعِلميَّة، والتبَرُّع لها بالأموالِ والمِنَح، ورَصد المبالغ الطائلة لإصلاحِ الحَرَمين، وترميمِ المساجِدِ وزَخرفتها، وأخذ السلطانُ يستميل إليه مسلمي العربِ بكلِّ الوسائِلِ، فكوَّن له من العَرَبِ حرسًا خاصًّا، وعيَّنَ بعضَ الموالين له منهم في وظائِفَ كبرى، وأبدى السلطان عبد الحميد اهتمامًا بالغًا بإنشاءِ الخطوطِ الحديديةِ في مختَلِفِ أنحاءِ الدولة العثمانية، مُستهدفًا من ورائها تحقيقَ ثلاثةِ أغراضٍ:
1- ربطُ أجزاءِ الدولة المتباعدةِ مع بعضٍ؛ ممَّا يساعِدُ على نجاح فكرةِ الوَحدةِ العُثمانية، والجامعة الإسلامية، والسيطرة الكاملة على الولاياتِ التي تتطلَّبُ تقويةَ قَبضةِ الدولة عليها.
2- إجبارُ تلك الولاياتِ على الاندماجِ في الدولةِ والخضوعِ للقوانينِ العَسكرية التي تنُصُّ على وجوبِ الاشتراكِ في الدفاعِ عن الخلافةِ بتقديمِ المالِ والرِّجال.
3- تسهيلُ مُهمَّةِ الدفاع عن الدولة في أيَّةِ جبهةٍ من الجبهاتِ التي تتعرَّضُ للعدوانِ؛ لأنَّ مَدَّ الخطوطِ الحديديَّةِ سيُساعِدُ على سرعةِ توزيع القواتِ العثمانية وإيصالِها إلى الجبهاتِ.
وكانت سكةُ حديد الحجاز من أهمِّ الخطوط الحديدية التي أُنشِئت في عهدِ السلطان عبد الحميد؛ ففي سنة 1900م بدأ بتشييدِ خطٍّ حديدي من دمشق إلى المدينة؛ للاستعاضة به عن طريق القوافِلِ الذي كان يستغرِقُ من المسافرين حوالي أربعين يومًا، وطريقِ البحرِ الذي يستغرقُ حوالي اثنى عشر يومًا من ساحلِ الشامِ إلى الحجاز، وكان يستغرِقُ من المسافرين أربعة أو خمسة أيام على الأكثَرِ، ولم يكن الغَرَضُ من إنشاء هذا الخطِّ مجرَّدَ خدمة حجَّاج بيت الله الحرام وتسهيل وصولهم إلى مكَّة والمدينة، وإنما كان السلطان عبد الحميد يرمي من ورائِه أيضًا إلى أهدافٍ سياسيةٍ وعسكريةٍ؛ فمن الناحية السياسية خَلَق المشروعُ في أنحاء العالم الإسلامي حماسةً دينيةً كبيرةً؛ إذ نشر السلطانُ على المسلمين في كافة أنحاء الأرضِ بيانًا يناشِدُهم فيه المساهمةَ بالتبَرُّع لإنشاء هذا الخط، وقد افتتح السلطانُ عبد الحميد قائمةَ التبرعات بمبلغ (خمسين ألفًا ذهبًا عثمانيًّا من جيبه الخاصِّ) وتقَرَّر دفع (مائة ألف) ذهب عثماني من صندوق المنافع، وأُسِّست الجمعيَّاتُ الخيرية، وتسابق المسلمون من كلِّ جهةٍ للإعانة على إنشائِها بالأنفُسِ والأموالِ، ورغم احتياجِ المشروع لبعض الفنِّيين الأجانب في إقامة الجسور والأنفاق، فإنَّهم لم يُستخدَموا إلا إذا اشتَدَّت الحاجة إليهم، مع العلمِ بأنَّ الأجانب لم يشتركوا إطلاقًا في المشروع، ابتداءً من محطةِ الأخضر -على بعد 760 كليو مترًا جنوب دمشق- وحتى نهايةِ المشروع؛ ذلك لأنَّ لجنة المشروع استغنت عنهم واستبدلت بهم فنيين مصريين. وبلغ عدد العمال غير المَهَرة عام 1907م (7500) عاملًا. وبلغ إجمالي تكاليف المشروع (4.283.000) ليرة عثمانية. وتم إنشاءُ المشروع في زمنٍ وتكاليف أقلَّ مما لو تعمله الشركات الأجنبية في أراضي الدولةِ العثمانية، وفي أغسطس سنة 1908م وصل الخطُّ الحديدي إلى المدينة المنورة، وكان مفروضًا أن يتِمَّ مَدُّه بعد ذلك إلى مكةَ، لكنْ حدث أن توقَّف العملُ فيه؛ لأنَّ شريف مكة -وهو الحسين بن علي- خشِيَ على سُلطاته في الحجاز من بطشِ الدولة العثمانية، فنهض لعرقلةِ مَدِّ المشروع إلى مكَّةَ، وكانت مقَرَّ إمارتِه وقوَّته. فبقيت نهايةُ الخط عند المدينة المنورة، حتى إذا قامت الحرب العالمية الأولى عَمِلَ الإنجليزُ بالتحالف مع القوات العربية التي انضَمَّت إليهم بقيادة فيصل ابن الشريف حسين بن علي على تخريبِ سكةِ حديد الحجاز، وكان أوَّلُ قطار قد وصل إلى محطة سكة الحديد في المدينة المنورة من دمشق الشام يوم 22 (أغسطس) 1908م، وكان بمثابة تحقيقِ حُلمٍ مِن الأحلام بالنسبة لمئات الملايين من المسلمين في أنحاء العالم كافة؛ فقد اختصر القِطارُ في رحلته التي استغرَقَت ثلاثة أيام، وقطع فيها 814 ميلًا مشقَّاتِ رحلةٍ كانت تستغرق في السابق أكثَرَ من خمسة أسابيعَ، ويسَّرت على المسلمين القيامِ بأداء فريضة الحَجِّ.
سَيِّدةُ نِساءِ العالمين في زمانِها، بنتُ سَيِّدِ الخَلْقِ رسولِ الله صلَّى الله عليه وسلَّم أبي القاسم محمَّد بن عبدِ الله بن عبدِ المُطَّلِب بن هاشم بن عبدِ مَناف القُرشيَّة الهاشِميَّة وأمّ الحَسَنَيْنِ. أمّها خديجةُ بنتُ خويلدٍ، وُلِدَتْ قبلَ البعثة بقليلٍ، وتَزوَّجها علِيُّ بن أبي طالبٍ بعدَ بدرٍ، وقِيلَ: بعدَ أُحُدٍ, فوَلدَت له الحسنَ والحُسينَ ومُحسنًا وأمَّ كُلثومٍ وزَينبَ. وهي أصغرُ بناتِ النَّبيّ صلَّى الله عليه وسلَّم، كانت مِن أحبِّ النَّاس إلى رسولِ الله صلَّى الله عليه وسلَّم، ومَناقِبُها غَزيرة، وكانت صابرة دَيِّنَة خَيِّرَة صَيِّنَة قانِعة شاكِرة لله تُوفِّيت بعدَ النَّبيّ صلَّى الله عليه وسلَّم بخَمسة أَشهُر أو نحوها، وهي أوَّل أهلِ النَّبيّ صلَّى الله عليه وسلَّم لُحوقًا به. وأَوْصَتْ في وَفاتِها أن تُغَطَّى، فكانت أوَّل امرأة يُغَطَّى نَعْشُها في الإسلامِ، غَسَّلَها زَوجُها علِيٌّ وأسماءُ بنتُ عُمَيْسٍ وقد كانت تحت أبي بكر رضي الله عنهم، وصَلَّى عليها علِيٌّ، وقِيلَ: العبَّاس، وأَوْصَت أن تُدْفَنَ ليلًا، ففُعل ذلك بها، ونزَل في قبرِها علِيٌّ والعَبَّاسُ، والفَضلُ بن العَبَّاس. انقطع نَسْلُ رسولِ الله صلَّى الله عليه وسلَّم إلَّا منها رضِي الله عنها.
هو أبو المسك كافورُ بنُ عبد الله الإخشيديُّ، كان يلقَّبُ بالأستاذ، كان عبدًا نوبيًّا اشتراه السُّلطانُ أبو بكر محمد بن طغج الإخشيد بثمانيةَ عشرَ دينارًا سنة 312 بمصرَ مِن محمود بن وهب بن عبَّاس، وأعتقه ورَقى به حتى صار أتابِكَ- أي مربي- وَلَدَيه، فكان من كبارِ قُوَّادِه، وكان قد تمَلَّكَ أمرَ مِصرَ في ولايةِ أبي القاسِمِ الإخشيدي، فكانت زمامُ الأمور بيَدِه هو لا بيَدِ أميرِ مِصرَ الإخشيدي، ثمَّ لَمَّا مات أبو القاسِمِ وخَلَفَه أخوه عليٌّ أيضًا بَقِيَ الحالُ لكافور كما هو، ثمَّ لَمَّا مات عليٌّ استقَلَّ كافور بالمملكة وأشيرَ عليه بإقامةِ الدَّعوةِ لوَلَدِ أبي الحَسَن عليِّ بنِ الإخشيد، فاحتَجَّ بصِغَرِ سِنِّه، وكان وزيرُه أبا الفَضلِ جعفرَ بنَ الفرات. فتولَّى كافور إمرةَ مِصرَ لِمُدَّة سنتين، إلى أن توفِّيَ في القاهرةِ عن 65 عامًا، وقيل إنَّه حُمِلَ إلى القدس ودُفِنَ فيها، وقد كان يرغَبُ في أهلِ الخيرِ ويُعَظِّمُهم، وكان أسودَ اللَّونِ شديدَ السَّوادِ, شهمًا كريمًا حسَنَ السياسة، ثمَّ بعد وفاته تولَّى أحمد بن علي الإخشيد الأمرَ، وكانت مدَّة تحكُّم كافور اثنتين وعشرين سنةً منها سنتان وثلاثة أشهر استقلالًا.
سببُ ذلك أنَّ طغرلبك طلَبَ مِن إبراهيم ينال أن يُسَلِّمَ إليه مدينة همذان والقلاعَ التي بيده من بلدِ الجبل، فامتنَعَ مِن ذلك، واتَّهَم وزيرَه أبا عليٍّ بالسعيِ بينهما في الفَسادِ، فقَبَض عليه، وأمَرَ به فضُرِبَ بين يديه، وسَمَل إحدى عينيه، وقطَعَ شَفَتَيه، فسار إلى طغرلبك، وجمع جمعًا مِن عَسكَرِه، والتقيا، وكان بين العسكرين قتالٌ شديدٌ انهزم ينال وعاد مُنهَزِمًا، فسار طغرلبك في أثَرِه، فملك قلاعَه وبلادَه جَميعَها، وتحصَّنَ إبراهيمُ ينال بقلعة سرماج، وامتنع على أخيه، فحَصَره طغرلبك فيها، وكانت عساكِرُه قد بلغت مِئَة ألف من أنواع العَسكَر، وقاتَلَه، فملكها في أربعةِ أيام، وهي من أحصَنِ القلاع وأمنَعِها، واستنزل ينال منها مَقهورًا، وأرسل إلى نصر الدَّولة بن مروان يطلُبُ منه إقامةَ الخُطبة له في بلاده، فأطاعه وخطَبَ له في سائر ديار بكر، وراسل مَلِكُ الرومِ طغرلبك، وأرسل إليه هديَّةً عظيمةً، وطلب منه المُعاهَدة، فأجابه إلى ذلك، وعَمَروا مسجِدَ القُسْطنطينيَّة، وأقاموا فيه الصَّلاةَ والخطبة لطغرلبك، ودان حينئذٍ النَّاسُ كُلُّهم له، وعَظُمَ شأنُه وتمكَّن مُلكُه وثبت، ولَمَّا نزل ينال إلى طغرلبك أكرَمَه وأحسن إليه، وردَّ عليه كثيرًا ممَّا أخذ منه، وخيَّرَه بين أن يُقطِعَه بلادًا يسير إليها، وبين أن يقيمَ معه، فاختار المقامَ معه.
كان هذا النَّصرانيُّ من أهل السويداء قد شَهِدَ عليه جماعةٌ أنَّه سَبَّ النبيَّ صلى الله عليه وسلم، وقد استجار هذا النصرانيُّ بعساف بن أحمد بن حجي أمير آل مري، فاجتمع شيخُ الإسلام تقي الدين ابنِ تيميَّة، والشيخ زين الدين الفارقي شيخُ دار الحديث، فدخلا على الأميرِ عزِّ الدين أيبك الحموي نائبِ السَّلطنة فكَلَّماه في أمرِه فأجابهما إلى ذلك، وأرسل ليُحضِرَه فخرجَا من عنده ومعهما خلقٌ كثيرٌ من الناس، فرأى الناسُ عسَّافًا حين قَدِمَ ومعه الرجلُ فسَبُّوه وشَتَموه، فقال عساف: هو خيرٌ منكم- يعني النصرانيَّ- فرجمَهما الناسُ بالحجارة، وأصابت عسَّافًا ووقعت خبطةٌ قويَّةٌ، فأرسل النائِبُ فطلب الشيخينِ ابنَ تيميَّةَ والفارقيَّ فضرَبَهما بينَ يديه، ورسَمَ عليهما في العذراويَّة، وقَدِمَ النصرانيُّ فأسلَمَ وعُقِدَ مجلسٌ بسَبَبِه، وأثبت بينه وبين الشهودِ عداوةً، فحُقِنَ دمُه، ثم استدعى بالشيخينِ فأرضاهما وأطلقَهما، ولحقَ النصرانيُّ بعد ذلك ببلادِ الحجاز، ثم في السنة التالية اتفق قتلُ عَسَّاف قريبًا من مدينة رسولِ اللهِ صلَّى الله عليه وسلَّم، قتَلَه ابنُ أخيه هنالك، وصَنَّف الشيخُ تقي الدين ابن تيميَّةَ بسَبَبِ هذه الواقعةِ كتابَه المشهورَ (الصارمُ المسلول على شاتِمِ الرَّسول).
رسم السلطانُ المَلِكُ الأشرف شعبان صاحِبُ مصر بإسقاط ما على الحَجِّ مِن المكوسِ بمكَّةَ في سائِرِ ما يُحمَلُ إليها من المتاجر، سوى الكارم- الأحجار الكريمة- وتجَّار الهند وتجار العراق، وأسقط المكسَ المتعَلِّق بالمأكولات، وكان المَكسُ يؤخذ من المأكولات بمكَّةَ مد حب جدي، على كل حمل من التمر اللبان الذي يصل إلى مكة، وثلاثة دنانير مسعوديَّة على كلِّ حِملِ تمر محشي يصِلُ إلى مكة، وستة مسعودية على كلِّ شاة يصل إليها، وسُدس وثمن ما يباعُ بمكَّةَ مِن السَّمن والعسل والخُضَر؛ وذلك أنه يحصى ثمنها مسعودية، فإذا عُرِفَ أخذ على كل خمسة دنانير دينار مسعودية، ويؤخذ -أيضًا- دينار مسعودية من ثمن سلة التمر إذا بيعت بالسوق من الثمار الذي باعها ليعيش منها، والمأخوذُ على التمر أولًا مِن جالبه إلى مكة، ويؤخَذُ شَيءٌ مما يباع في السوق من غيرِ ما ذكرناه، وكان الناس يقاسونَ شِدَّةً، فأزال الله تعالى جميعَ هذا بأمرِ السُّلطانِ الأشرف شعبان صاحِبِ مِصرَ، بتنبيه بعضِ أهل الخير له على ذلك، وعَوَّضَ صاحب مكَّةَ عن ذلك ثمانية وستين ألف درهم من بيت المال المعمور بالقاهرة، وألفَ أردب قمح، وقُدِّرَ ذلك في ديوان السلطان الأشرف، وأمضى ذلك الولاةُ بالديار المصرية فيما بعد.
هو الأمير سيف الدين أزبك بن عبد الله السيفي قاني باي، أحد أمراء العشرات ورأس نوبة، المعروف بجُحا، أصله من مماليك نوروز الحافظي، وبقى عنده كتابيًّا، فأخذه بعد موته الأمير قاني باي المحمدي نائب دمشق وأعتقه، ثم اتصل بعد موت قاني باي بخدمة السلطان الملك المؤيد شيخ، وصار في دولته خاصكيًّا، ثم صار رأس نوبة الجمدارية- حَمَلة ملابس السلطان- في دولة السلطان الأشرف برسباي، ثم أمَّرَه الأشرفُ عشرةً وجعله من جملة رؤوس النوب، ودام على ذلك إلى أن توفِّيَ الملك الأشرف برسباي، فسافر أزبك إلى البلاد الشامية بسلطنة الملك العزيز يوسف، فلمَّا أن عاد أزبك إلى القاهرة كان كافأ الملك الظاهر جقمق على ما فعله معه من الخيرِ بأنَّه لما أن عصى الأتابك قرقماس الشعباني وافقه أزبك، وقاتل الملك الظاهِر جقمق وانهزم قرقماس واختفى، ثم ظفِرَ به، فعندما ظفر بقرقماس وقبَض على أزبك أيضًا، وحبسه بثغر الإسكندرية ثم نقله إلى حبس صفد، فاستمر محبوسًا إلى أن توفي في حدود الخمسين وثمانمائة تقريبًا بالقلعة بصفد، وهو في الكهولية, وكان عنده مروءة وكرم، مع خِفة روح ومُجون ودعابة، ولهذا سمِّيَ جحا، مع إسراف على نفسِه.
وُلِدَ محمد علي كِلاي في 17 يناير 1942م في مدينةِ لويفيل بولايةِ كنتاكي، مِن عائلةٍ أمريكيَّةٍ سوداءَ مِن الطبَقةِ المتوسِّطةِ، واعتنَقَ الإسلامَ في عامِ 1964م، وكان اسمُه قبلَ إسلامِه (كاسيوس مارسيلوس كلاي جونيور) فغيَّرَه إلى مُحمَّد علي، واختار الانتماءَ في بادئِ أمرِه إلى جماعةِ أمَّةِ الإسلامِ، ولم يستمرَّ انضمامُه إليهم طويلًا؛ إذ كان يختلِفُ مع الكثيرِ مِن أفكارِهم، فاعتنَقَ الإسلامَ السُّنِّيَّ، ثم أنشأ أعمالَه الخيريَّةَ والدَّعَويَّة مُحاولًا تصحيحَ الصُّورة الخاطئة التي رسَخَت في أذهانِ الغَربِ عن الإسلامِ والمُسلمين، ورفض أنْ يَخدمَ في جيشِ الولاياتِ المُتَّحِدة في حربِه على فيتنام عامَ 1966م، وعَدَّ نفسَه مُعارِضًا للحَربِ، معلِّلًا بأنَّ هذه الحربَ ضِدُّ تعاليم القرآنِ. فاز كلاي ببطولةِ العالَم للوزنِ الثقيلِ ثلاثَ مرَّاتٍ على مدى عشرينَ عامًا، وأصيبَ في عامِ 1984 بداءِ باركنسون (الشلل الرَّعاشي). وفي عامِ 1999 تُوِّجَ بلقب "رياضيِّ القَرنِ". وفي عامِ 2005 مُنِحَ وسامَ الحرِّيَّة الرئاسيَّ -وهو أرفَعُ وسامٍ مَدَنيٍّ في الولاياتِ المُتَّحِدة الأمريكية- وقد تُوفِّيَ مُحمَّد علي -رحِمَه الله- في مستشفى فينيكس بولايةِ أريزونا عن عمرٍ ناهَزَ 74 عامًا. ودُفِنَ في مَسقطِ رأسِه؛ في مدينةِ لويفيل بولايةِ كنتاكي الأمريكيَّةِ.
كان السلطان الأشرف برسباي قد تجهز للسفر إلى جهة آمد من هذه السنة، وسبب ذلك أن قرا يلك مَلِك آمد أظهر أولًا أنه يريد الطاعة لَمَّا كان ابنه هابيل في قبضة السلطان من أيام تملُّك الرها، ثم لما مات هابيل بالطاعون لم يعُدْ قرا يلك يُلقي بالًا للسلطان، بل عدا على ملطية وغيرها من البلاد، وأحرق وأفسد، وكان السلطان في السنوات الماضية يُشيعُ أنه يريد السفر لقتاله؛ لعل قرا يلك يُرعَب منه فيطلب الصلح، ولكنه لم يفعَلْ، فعزم في هذه السنة على السفر فسافر إلى آمد، ثم وصل كتاب السلطان من الرها، مؤرخًا بالثامن عشر ذي القعدة، يتضمَّنُ أنه رحل عن آمد بعدما أقام على حصارها خمسة وثلاثين يومًا، حتى طلب قرا يلك الصلح، فصُولحَ، ورحل العسكر في الثالث عشر ذي القعدة، وكان من خبرهم أن سار السلطان بعساكره من الرها وعليهم الأسلحة وآلة الحرب، إلى أن نزل إلى آمد في يوم الخميس ثامن شوال، وقبل نزول السلطان عليها صَفَّ عساكره عدة صفوف، ووراءهم الثقل والخدم، حتى ملؤوا الفضاء طولًا وعرضًا، وقد هال أهل آمد ما رأوه من كثرة العساكر وتلك الهيئة المزعجة؛ لكثرة ما اجتمع على السلطان من العساكر المصرية والنواب بالبلاد الشامية وأمراء التركمان والعربان، وكان قرا يلك قبل أن يخرج من مدينة آمد أمر أن يُطلَق الماءُ على أراضي آمد من خارج البلد من دجلة، ففعلوا ذلك فارتطمت خيول كثير من العسكر بالماء والطين، فلم يكترث أحد بذلك، ومشى العسكر صفًّا واحدًا، ولم يكن لآمد قلعة بل سور المدينة لا غير، إلا أنه في غاية الحسن من إحكام بنيانه؛ فلهذا يصعب حصارها ويبعد أخذها عَنوةً، فوقف العسكر حول آمد ساعة، ثم مال السلطان بفرسه إلى جهة بالقرب من مدينة آمد، ونزل به في مخيمه، وأمر الناس بالنزول في منازلهم، وأمرهم بعدم قتال أهل آمد، ونزل الجميعُ بالقرب من آمد، كالحلقة عليها، غير أنهم على بعد منها، بحيث إنه لا يلحقهم الرمي من السور، ونزل السلطان بمخيمه وقد ثبت عنده رحيل قرا يلك من آمد، وأنه ترك أحد أولاده بها، فأقام بمخيَّمه إلى صبيحة يوم السبت عاشر شوال، فركب وزحف بعساكره على مدينة آمد بعد أن كلَّمهم السلطان في تسليمها قبل ذلك، وتردَّدت الرسل بينه وبينهم، فأبى من بها من الإذعان لطاعة السلطان وتسليم المدينة إلا بإذن قرا يلك، ولما زحف السلطان على المدينة اقتحمت عساكر السلطان خندق آمد، وقاتلوا من بها قتالًا شديدًا، حتى أشرف القوم على الظفر وأخْذ المدينة، ورُدِم غالب خندق مدينة آمد بالحجارة والأخشاب، وبينما الناس في أشدِّ ما هم فيه من القتال، أخذ السلطانُ في مقت المماليك وتوبيخهم، وصار كلما جُرِحَ واحد من عساكره وأُتي له به يزدريه ويهزأُ به، وينسب القوم للتراخي في القتال، ثم لبس هو سلاحه بالكامل، وأراد أن يقتحم المدينة بنفسه حتى أعاقه عن ذلك أعيان أمرائه، وهو يتكلم بكلام معناه أن عساكره تتهاون في قتال أهل آمد، فلا زالت الأمراء به، حتى خلع عن رأسه خوذته ولبس تخفيفة على العادة، واستمرَّ القرقل عليه، إلى أن ترضَّاه الأمراء، وخلع قرقله، وسَئِمَت الناس من القتال، هذا مع ما بلغهم من غضب السلطان، بعد أن لم يُبقوا ممكِنًا في القتال، وقد أثخنت جراحات الأمراء والمماليك من عِظَم القتال، كل ذلك والسلطان ساخِطٌ عليهم بغير حق، فعند ذلك فتر عزم القوم عن القتال من يومئذ، ولما انقضى القتال وتوجه كل واحد إلى مخيمه، وهو غير راض في الباطن، وجد أهل آمد راحة كبيرة بعودة القوم عنهم، وأخذوا في تقوية أبراج المدينة وسورها، بعد أن كان أمرهم قد تلاشى؛ مما دهمهم من شدة قتال مَن لا قِبَلَ لهم بقتاله، ونزل السلطان بمخيمه، وندب الأمراء والعساكر للزحف، على هيئة ركوبهم يوم السبت، في يوم الثلاثاء، وهو أيضًا في حال غضبه، وقد اجتهد مماليك السلطان وأمراؤه في القتال، وجُرِح الغالب منهم، فكان آخر كلام السلطان للأمراء: إن العساكر تركب صحبة الأمراء في يوم الثلاثاء، وتزحف على المدينة، ويكون الذي يركب مع الأمراء للزحف المماليك القرانيص، وأنا ومماليكي الأجلاب نكون خلفهم، وقامت قيامةُ القوم، وتنكَّرت القلوب على السلطان في الباطن، وتطاولت أعناقُ أمرائه إلى الوثوب عليه، وبلغ السلطان عن الأمراء والمماليك نوع من الممالأة على الفتك به، فاضطرب أمره وصار يحاور المدينة، وهو في الحقيقة محصور من احتراسه من أمرائه ومماليكه، وأخذ في الندم على سفره، وفتر عزمه عن أخذ المدينة في الباطن، وضَعُف عن تدبير القتال، هذا والقتال مستمر في كل يوم، بل في كل ساعة، بين العسكر السلطاني وبين أهل آمد، وقُتِلَ خلائق من الطائفتين كثيرة، وصار السلطان يضايق أهل آمد بكل ما وصلت قدرتُه إليه، هذا وقد قَوِيَ أمرهم واشتد بأسهم لما بلغهم من اختلاف عساكر السلطان، وبينما السلطان فيما هو فيه قَدِمَ عليه الأمير دولات شاه الكردي صاحب أكل من ديار بكر، فأكرمه السلطان وخلع عليه، ثم لما بلغ الأشرف أحمد ابن الملك العادل سليمان صاحب حصن كيفا قدوم السلطان الملك الأشرف إلى آمد، خرج من الحصن في قليل من عسكره في أوائل ذي القعدة يريد القدوم على السلطان، فاعترضه في مسيره جماعة من أعوان قرا يلك على حين غفلة، وقاتلوه إلى أن قُتِلَ الملك الأشرف من سهم أصابه، وانهزم بقيةُ من كان معه وانتهبوا، فقدم جماعةٌ منهم على السلطان الأشرف، وعَرَّفوه بقتل الملك الأشرف صاحب الحصن، فعَظُم عليه ذلك إلى الغاية، ومن هذا اليوم أخذ السلطان في أسباب الرحيل عن آمد، غيرَ أنه صار يترقب حركة يرحل بها؛ لتكونَ لرحيله مندوحةٌ، ثم ندب السلطان جماعة كبيرة من التركمان والعربان من عسكره لتتبع قتلة الملك الأشرف صاحب الحصن، ولما ندب السلطان الجماعة المذكورة لتتبُّع قتلة الملك الأشرف وغيره، خرجوا إلى جهة من الجهات فوافوا جماعة كبيرة من أمراء قرا يلك وقاتلوهم حتى هزموهم، وأسَروا منهم جماعة كبيرة من أمراء قرا يلك وفرسانه، وأتوا بهم إلى السلطان، وهم نيِّف على عشرين نفسًا، فأمر السلطان بقيدهم فقُيِّدوا، ثم توجهوا ثانيًا فوافقوا جماعة أخرى فقاتلوهم أيضًا وأسروا منهم نحو الثلاثين، ومن جملتهم قرا محمد أحد أعيان أمراء قرا يلك، فأحضر السلطان قرا محمد وهدده بالتوسيط إن لم يُسَلِّم له آمد، فأخذوا قرا محمد ومرُّوا إلى تحت سور المدينة، فكلَّمهم قرا محمد في تسليم المدينة، فلم يلتفتوا إليه، فأخذوه وعادوا، وأصبح السلطان فوسَطَ منهم تحت سور آمد عشرين رجلًا، من جملتهم قرا محمد، ثم بلغ السلطان أن قرا يلك نزل من قلعة أرقنين بجماعة من عساكره يريد أن يكبس على السلطان في الليل، أو يتوجه بهم إلى حلب، فندب السلطانُ جماعة من الأمراء والمماليك في عمل اليزك بالنوبة، في كل ليلة لحفظ العساكر، ثم رسم السلطان للأمير جارقطلو نائب الشام بالتوجُّه لقرا يلك بقلعة أرقنين، وندب معه جماعة من النواب والأمراء والعساكر المصرية، فخرجوا من الوطاق السلطاني في الليل بجموع كثيرة، وجدُّوا في السير حتى وافوا قرا يلك وهو بمخيمه تحت قلعة أرقنين بين الظهر والعصر، وكان غالب العسكر قد تخلَّف، فتقدم بعض العسكر السلطاني من التركمان والعربان، واقتتلوا مع القرا يلكية قتالًا جيدًا إلى أن كانت الكسرة في العسكر السلطاني، وقُتِل جماعة كثيرة من التركمان والعربان وأمراء دمشق وغيرهم، كل ذلك وسنجق السلطان إلى الآن لم يَصِل، وأما جارقطلو فإنه لما قَوِيَ الحر عليه نزل على نهر بالقرب من أرقنين ليروي خيوله منه، وصار الرائد يرد عليه بأن القوم قد التقوا مع عساكر قرا يلك، وهم في قلة وقد عزموا على القتال، فلم يلتفت إلى ذلك وسار على هيئته، فتركه بعض عساكره وساروا حتى لحقوا بمن تقدَّمهم وقاتلوا القرا يلكية، ثم تراجع القومُ وكرُّوا على القرا يلكية وهزموهم أقبح هزيمة، وتعلَّق قرا يلك بقلعة أرقنين وتحصَّن بها، ونُهِبت عساكره وتمزقوا كل ممزق، هذا والسلطان مجتهد في عماره قلعة من الخشب تجاه أبراج، ومكاحل النفط ترمي في كل يوم بالمدافع، والمجانيق منصوبة يُرمى بها، وأيضًا على الأبراج، وأهل آمد في أسوأ ما يكون من الحال، هذا مع عدم التفات السلطان لحصار آمد الالتفات الكلي؛ لشغل خاطره من جهة اختلاف عساكره، وهو بتلك البلاد بين يدي عدوِّه، وقد تورط في الإقامة على حصار آمد، والشروع ملزم، وطالت إقامته على آمد بعساكره نحو خمسة وثلاثين يومًا، وقد ضاق الحالُ أيضًا على أهل آمد، فعند ذلك ترددت الرسل بين السلطان وبين قرا يلك في الصلح، وكان قرا يلك هو البادئ في ذلك، حتى تم وانتظم الصلح بينهما على أن قرا يلك يُقَبِّل الأرض للسلطان، ويَخطُب باسمه في بلاده ويَضرِبَ السكةَ على الدينار والدرهم باسمه، فأجاب إلى ذلك، فأرسل إليه السلطان القاضيَ شرف الدين الأشقر نائب كاتب السر، فتوجَّه إليه القاضي شرف الدين بالخِلَع والفرس الذي جهزه السلطان إليه بقُماش ذهب، ونحو ثلاثين قطعة من القماش السكندري، ولما بلغ قرا يلك مجيءُ القاضي شرف الدين نزل من قلعة أرقنين بمخيمه، ولقي القاضي شرف الدين وسَلَّم عليه، ثمَّ قام وقَبَّل الأرض، فألبسه القاضي شرف الدين الخِلعة، ثم قُدِّمَ له الفرس صحبة الأوجاقي، فقام إليه، فأمره القاضي شرف الدين بتقبيل حافرِ الفرس، فامتنع من ذلك قليلًا، ثم أجاب بعد أن قال: واللهِ، إن هذه عادة تعيسة، أو معنى ذلك, ثم أخذ في الكلام مع القاضي شرف الدين، فأخذ القاضي شرف الدين يعظه ويحذره مخالفة السلطان وسوء عاقبة ذلك، وعاد القاضي شرف الدين إلى السلطان، وفي الحال أخَذَ السلطان في أسباب الرحيل، ورحل في ليلة الخميس ثالث عشر ذي القعدة في النصف الثاني من الليل من غير ترتيب ولا تطليب، ولا تعبية، ورحلت العساكر من آمد كالمنهزمين، لا يلوي أحد على أحد، بل صار كل واحد يسير على رأيه، وعند رحيل القوم أطلق الغلمان النيران في الزروع المحصودة برسم عليق خيول الأجناد، فإنه كان كل جندي من الأجناد صار أمام خيمته جرن كبير مما يحصُدُه غلامه، ويأتيه به من زروع آمد، فلما انطلق النار في هذه الأجران، انطبق الوطاق بالدخان إلى الجو، حتى صار الرجل لا ينظر إلى الرجل الذي بجانبه، ورحل الناس على هذه الهيئة مسرعين، مخافة أن يسير السلطان ويتركهم غنيمةً لأهل آمد!