لمَّا قُتِلَ ابنُ الزُّبير واجتَمَع المسلمون على عبدِ الملك بن مَرْوان جَهَّزَ جيشًا كبيرًا واستَعْمل عليهم وعلى أفريقيا حسَّانَ بن النُّعمان الغَسَّانيَّ وسَيَّرَهُم إليها، فلم يَدخُلْ أفريقيا قَطُّ جَيشٌ مِثلُه، فلمَّا وَرَدَ القَيْروان تَجَهَّزَ منها وسار إلى قَرْطاجَنَّة، وكان صاحبُها أعظمَ مُلوكِ أفريقيا، ولم يكُن المسلمون قَطُّ حارَبوها، فلمَّا وصَل إليها رأى بها مِن الرُّومِ والبَرْبَر مالا يُحْصَى كَثْرةً، فقَتَلهم وحَصَرهُم، وقَتَلَ منهم كثيرًا، فلمَّا رأوا ذلك اجتَمَع رأيُهم على الهَربِ، فرَكِبُوا في مَراكِبِهم وسار بعضُهم إلى صِقِلِّيَّة، وبعضُهم إلى الأندلُس، ودخَلَها حَسَّانُ بالسَّيفِ فسَبَى ونَهَبَ وقَتَلَهم قَتلًا ذَريعًا، وأَرسَل الجُيوشَ فيما حَولَها، فأَسرَعوا إليه خَوفًا، فأَمَرَهم فهَدَموا مِن قَرْطاجَنَّة ما قَدَروا عليه، ثمَّ بَلَغَهُ أنَّ الرُّومَ والبَرْبَر قد أجمعوا له في شَطْفُورَة وبَنْزَرْت، وهما مَدِينتان، فسار إليهم وقاتَلَهم ولَقِيَ منهم شِدَّةً وقُوَّةً، فصَبَر لهم المسلمون، فانْهَزَمت الرُّومُ، وكَثُرَ القَتْلُ فيهم، واسْتَولوا على بِلادِهم، ولم يَترُكْ حَسَّانُ مَوضِعًا مِن بِلادِهِم إلَّا وَطِئَهُ، وخافَهُ أهلُ أفريقيا خَوفًا شَديدًا، ولجأ المُنْهَزِمون مِن الرُّومِ إلى مَدينةِ باجَة فتَحَصَّنوا بها، وتَحَصَّن البَرْبَر بمدينةِ بُونَة، فعاد حَسَّانُ إلى القَيْروان لأنَّ الجِراحَ قد كَثُرَت في أصحابِه، فأقام بها حتَّى صَحُّوا. وبعدَ ضَرْبِ الرُّومِ الْتَفَت حَسَّانُ إلى زَعامَةِ البَرْبَر، فقال: دُلُّونِي على أَعظمِ مَن بَقِيَ مِن مُلوكِ أفريقيا؟ فدَلُّوه على امْرأةٍ تَملِكُ البَرْبَر وتُعرَف بالكاهِنَة، والْتَقى حَسَّانُ بن النُّعمان بالكاهِنَة عند نَهْرٍ يُدْعَى نِينِي أو مِسْكِيانَة على مَرحلَةٍ مِن باغاي ومَجَّانَة، فانْتَصَرت الكاهِنَةُ وقُتِلَ مِن المسلمين خَلْقٌ كثيرٌ، وانْسَحَب حَسَّانُ إلى قابِس. وقامت الكاهِنَةُ بالهَيْمَنَةِ على المغربِ كُلِّهِ بعدَ حَسَّان، وقالت: إنَّ العربَ إنَّما يَطلُبون مِن أفريقيا المدائنَ والذَّهَبَ والفِضَّةَ، ونحن إنَّما نُريدُ منها المَزارِعَ والمَراعي، فلا نَرى لكم إلَّا خَرابَ بِلادِ أفريقيا كُلِّها. حتَّى ييأسَ منها العربُ فلا يكونُ لهم رُجوعٌ إليها إلى آخِر الدَّهْرِ, واسْتَجاب لها قَومُها مِن جُراوَة الذين كان يَغْلُب عليهم الطَّابعُ البَدَويُّ، فذهبوا إلى كُلِّ ناحِيَة يَقطَعون الشَّجرَ، ويَهدِمون الحُصونَ, فكانت أفريقيا مِن طرابلس إلى طَنْجَة ظِلًّا وقُرَىً مُتَّصِلة فأَخْرَجت جَميعَ ذلك، وقد أَضَرَّ هذا التَّخريبُ بالبرانس والأفارِقةِ حتَّى أَلجأَهُم إلى الفِرارِ وطَلَبِ المُساعدَةِ، وخرَج يَومئذٍ مِن النَّصارى والأفارِقة خَلْقٌ كثيرٌ مُسْتَغِيثين ممَّا نزَل بهم مِن الكاهِنَة، فيتَفَرَّقوا على الأندلُس وسائرِ الجُزُرِ البَحْريَّة, ومَلَكَت الكاهِنَةُ أفريقيا، وأَساءَت السِّيرةَ في أَهلِها وظَلَمَتْهُم.
في صَفَر مِن هذه السنة وصَلَ المَلِك مسعود إلى بلْخ من غزنة، فجمع أصحابَه، ولقِيَ إسماعيلَ شاه مَلِكَ خوارزم، وقاتله، ودامت الحربُ بينهما مُدَّةَ شَهر، وانهزم إسماعيلُ، والتجأ إلى طغرلبك وأخيه داود السلجقيَّة، ثم سار مسعودُ بن سبكتكين من بلخ بنفسِه، وقصد سرخس، فتجَنَّب الغزُّ لقاءه، وعدلوا إلى المُراوغة والمُخاتلة، وأظهر الغُزُّ العزمَ على دخول المفازة التي بين مروٍ وخوارزمَ، فبينما عساكِرُ مسعودٍ تَتْبَعُهم وتَطلُبُهم إذ لَقُوا طائفةً منهم، فقاتلوهم وظَفِروا بهم وقتلوا منهم، ثمَّ إنه واقعهم بنفسه في شعبان من هذه السنة وقعةً استظهَرَ فيها عليهم، فأبعدوا عنه، ثم عاودوا القُربَ منه بنواحي مرو، فواقعوهم وقعةً أخرى قُتِلَ مِن الغز التركمان فيها نحوُ ألف وخمسمِئَة قتيل، وهرب الباقون فدخلوا البرِّيَّة التي يحتَمون بها، وثار أهلُ نيسابور بمن عندهم منهم، فقَتَلوا بعضًا، وانهزم الباقونَ إلى أصحابِهم بالبرِّيَّة وعدل مسعودٌ إلى هراة؛ ليتأهَّبَ في العساكِرِ للمسير خلْفَهم وطَلَبِهم أينما كانوا، فعاد طغرلبك إلى الأطرافِ النائية عن مسعود، فنهَبَها وأثخنَ فيها، فحينئذ سار مسعودٌ يَطلُبُه، فلما قاربَه انزاح طغرلبك من بينِ يديه إلى أستوا وأقام بها، وكان الزمانُ شِتاءً، ظنًّا منه أنَّ الثَّلجَ والبردَ يَمنَعُ عنه، فطلبه مسعودٌ إليها، ففارقه طغرلبك وسلك الطريقَ على طوس، واحتمى بجبالٍ منيعة، ومضايقَ صَعبةِ المسلك، فسَيَّرَ مسعود في طلبه وزيرَه أحمد بن محمد بن عبد الصمد في عساكِرَ كثيرة، فطوى المراحِلَ إليه جريدةً- الجريدة: خَيْلٌ لا رَجَّالةَ فيها-, فواقعوهم الغُزُّ وانتصروا على الوزير وعسكَرِه، واستأمن من أصحابِه جماعةً كثيرةً، ورأى الوزيرُ الطلَبَ له من كل جانبٍ، فعاود دخولَ المفازة إلى خوارزمَ وأوغل فيها، فلمَّا فارق الغز خراسان قصد مسعود جبلًا مِن جبال طوس منيعًا لا يُرام، وكان أهلُ الجبل قد وافقوا الغُزَّ وأفسدوا معهم، فلمَّا فارق الغزُّ تلك البلاد تحصَّنَ هؤلاء بجَبَلِهم ثقةً منهم بحصانتِه وامتناعه، فسرى مسعود إليهم جريدةً، فلم يَرُعْهم إلَّا وقد خالطهم، فتركوا أهلَهم وأموالَهم وصَعِدوا إلى قِمَّة الجبَلِ واعتَصَموا بها وامتَنَعوا، وغَنِمَ عسكَرُ مسعود أموالَهم وما ادَّخَروه. ثمَّ أمر مسعودٌ أصحابَه أن يزحَفوا إليهم في قمَّة الجبل، وباشَرَ هو القتالَ بنَفسِه، فزحَفَ النَّاسُ إليهم، وقاتلوهم قتالًا لم يَرَوا مثله، وكان الزمانُ شتاءً، والثلجُ على الجبلِ كثيرًا، فهلك من العسكر في مخارمِ الجَبَلِ وشِعابِه كثيرٌ، ثمَّ إنهم ظَفِروا بعسكر طغرلبك وأكثَروا فيهم القتلَ والأسرَ، وفرَغوا منهم، وأراحوا المسلمينَ مِن شَرِّهم. ثمَّ سار مسعود إلى نيسابور في جمادى الأولى سنة 431، ليريحَ ويستريحَ، وينتظِرَ الربيعَ ليسيرَ خَلْفَ الغز، ويطلُبَهم في المفاوزِ التي احتَمَوا بها.
هو الكاتبُ المؤرِّخُ الصاحبُ محيى الدين عبد الله بن رشيد الدين عبد الظاهر بن نشوان بن عبد الظاهر السّعدىُّ الموقَّعُ كاتب الإنشاء بالديار المصريَّة، وكان من أبرع المؤرِّخين الذين ظهروا في مطالِعِ دولة المماليك البحريَّة، وكان إلى جانب كونِه مؤرِّخًا، كاتبًا صاحِبَ قَلمٍ بليغٍ أهَّلَه لأن يحتلَّ مكانةً مرموقة في الصفِّ الأوَّل من كتَّاب العربيَّة. ولد بالقاهرة في 9 محرم 620هـ (12 من فبراير 1223م) بدأ حياته بحفظ القرآنِ مِثلَ أقرانه من طلبةِ العلم، وتردَّدَ على حلقات الفُقَهاءِ والمحدثين, وامتَدَّت ثقافته لتشمل الأدبَ والتاريخ والأخبار، وهو ما مكَّنَه من الالتحاق بديوانِ الإنشاء على عهدِ الأيوبيِّينَ، الذي كان يضُمُّ فحولَ الكتَّاب البارعين، ولم يبدأ نجم ابن عبد الظاهر في التألُّق والظهورِ إلَّا في عهد السلطان الظاهر بيبرس، حين عَهِدَ إليه بعَمَلِ شَجرةِ نَسَب للخليفة الحاكِمِ بأمر الله أحمد العباسي، الذي اختاره بيبرس خليفةً للمسلمين في محاولةٍ منه لإحياء الخلافة العباسيَّة في القاهرةِ بعد أن سقَطَت في بغداد سنة 656هـ ( 1257م)، ثم توثَّقَت صلتُه بالظاهر بيبرس حتى صار موضِعَ ثِقتِه، فعندما أرسلَ إليه الملك المغولي بركة خان يطلُبُ عَقدَ حِلفٍ مع بيبرس كتَبَ ابن عبد الظاهر صيغةَ الكِتاب، وقرأه على السلطانِ بحضور الأمراء، كما كتب تفويضَ الظاهر بيبرس بولايةِ العهدِ إلى ولَدِه الملك السعيدِ بركة خان. واحتفَظَ ابن عبد الظاهر بمكانتِه أيضًا في عهد السلطان قلاوون الذي حكم مصرَ بعد الظاهِرِ بيبرس وولَدَيه، وكتب له تفويضَ السَّلطَنة بولايةِ العَهدِ إلى ابنه علاء الدين علي، ثم لابنه الملك الأشرف خليل قلاوون. وقد أشاد ببلاغتِه معاصِروه وشهدوا له بالتقدُّم في صناعةِ الكِتابة والأدب؛ فقد وصفه القلقشندي بأنَّه وأبناءه بيتُ الفصاحة ورؤوسُ البلاغة، وقال عنه ابن تغري بردي: بأنَّه من ساداتِ الكُتَّاب ورؤسائِهم وفُضَلائِهم, وهو صاحِبُ النَّظمِ الرَّائقِ والنَّثر الفائق, ولَمَّا وضع ابن عبد الظاهر مؤلَّفاته التاريخيَّةَ ضَمَّنَها عددًا كبيرًا من الوثائق التي كتبها، وصاغ أحداثَ عَصرِه ووقائعه وصوَّرَ أبطالَه ومعاركَه، وترك ابن عبد الظاهر عددًا من المؤلَّفات التاريخيَّة والأدبيَّة وصل إلينا كثيرٌ منها مثل: الروض الزاهر في سيرة الملك الظاهر، وهذه السيرة كتبها المؤلِّفُ في حياة السلطانِ، وتشريف الأيام والعصور بسيرة السلطان الملك المنصور، وهي سيرةٌ للمنصور قلاوون، والروضة البهيَّة الزاهرة في خطط المُعِزِّية القاهرة. وقد امتدَّت الحياة بابن عبد الظاهر حتى تجاوز السبعينَ مِن عمره قضى معظمَها قريبًا من الأحداث التي شَهِدَتها مصرُ والشام فسَجَّلَها في كتبه. تُوفي في القاهرة في 4 من شهر رجب من هذه السنة, ودفن بالقرافة بتُربتِه التي أنشأها.
اضطربت أحوال الدولة المرينية بفاس وتسلَّط بها اليهود, بعد تعيين السلطان عبد الحق هارون اليهودي رئيسًا لدولته كما عين عددًا منهم في حكومته، وكانوا قد أظهروا الإسلام, فاجتمع رؤساءُ فاس عند خطيب القرويين الفقيه أبي فارس عبد العزيز بن موسى الورياكلي وكانت له صلابة في الحقِّ وجَلادة عليه بحيث يلقي نفسَه في العظائم ولا يبالي، وقالوا له: ألا ترى إلى ما نحن فيه من الذلَّة والصغار وتحكُّم اليهود في المسلمين والعبث بهم حتى بلغ حالهم إلى ما سمعت، فأثر كلامهم فيه, وللحينِ أغراهم بالفتك باليهودِ وخلع طاعة السلطانِ عبد الحق وبيعة الشريفِ أبي عبد الله الحفيد، فأجابوه إلى ذلك واستدعوا الشريف الحفيد فبايعوه والتفَّت عليه خاصَّتُهم وعامَّتهم وتولى كِبْرَ ذلك أهل حومة القلقليين منهم ثم تقدم الورياكلي بهم إلى فاس الجديد فصمدوا إلى حارة اليهود فقتلوهم واستلبوهم واصطلموا نعمَتَهم واقتسموا أموالهم، وكان السلطان عبد الحق يومئذ غائبًا في حركة له ببعض النواحي, وقيل إن السلطان عبد الحق خرج بجيشه إلى جهة القبائل الهبطية وترك اليهودي يقبض من أهل فاس المغارم فشَدَّ عليهم حتى قبض على امرأةٍ شريفة وأوجعها ضربًا وحكى ما تقدَّمَ فاتصل بعبد الحق خبَرُ خلعه فانفضَّ مُسرعًا إلى فاس واضطرب عليه أمر الجند ففسدت نيَّاتُهم وتنكَّرت وجوهُهم، وصار في كل منزلة تنفض عنه طائفة منهم فأيقن بالنكبةِ وعاين أسبابَ المنية، ولما قَرُب من فاس استشار هارون اليهوديَّ فيما نزل به فقال اليهودي له: لا تَقدَم على فاس لغَلَيان قِدرِ الفتنة بها، وإنما يكون قدومنا على مكناسة الزيتون؛ لأنها بلدنا وبها قوَّادنا وشيعتنا، وحينئذ يظهر لنا ما يكون، فما استتمَّ اليهودي كلامه حتى انتظمه بالرمحِ رجلٌ من بني مرين يقال له تيان، وعبد الحق ينظر، وقال: وما زلنا في تحكم اليهود واتِّباعِ رأيهم والعمل بإشارتِهم، ثم تعاورت اليهوديَّ الرماحُ من كل جانب وخرَّ صريعًا، ثم قالوا للسلطان عبد الحق: تقدم أمامَنا إلى فاس؛ فليس لك اليوم اختيار في نفسِك، فأسلم نفسه وانتُهِبت محلَّتَه وفيئَت أموالُه وحلَّت به الإهانة وجاؤوا به إلى أن بلغوا عين القوادس خارج فاس الجديد، فاتصل الخبر بأهل فاس وسلطانهم الحفيد، فخرج إلى عبد الحق وأركبه على بغل بالبردعة، وانتزع منه خاتم المُلك وأدخله البلد في يومٍ مشهود حضره جمعٌ كبير من أهل المغرب، وأجمعوا على ذمه، وشكروا الله على أخذِه، ثم جُنِّب إلى مصرعه، فضُربت عنقه صبيحة يوم الجمعة السابع والعشرين رمضان من هذه السنة, ودفن ببعض مساجد البلد الجديد ثم أُخرج بعد سنة ونُقِل إلى القلعة، فدفن بها وانقرضت بمَهلِكِه دولةُ بني عبد الحق من المغرب.
هو الخديوي محمد توفيق بن إسماعيل بن إبراهيم بن محمد علي باشا، حاكِمُ مصرَ والسودان، وحفيدُ محمد علي باشا، وكان قد تسلَّم الحُكمَ سنة 1296هـ - 1879م، بعد أن أجبَرَ الإنجليز والفرنسيون أباه الخديوي إسماعيل على تَركِ مَنصِبِه، وذلك عندما حاول استدراكَ ما فاته، وبعد أن أغرق البلادَ في ديونٍ أجنبيةٍ ضَخمةٍ مَهَّدت السبيلَ للأوروبيِّين التدخُّلَ في شئون البلاد، حاول إسماعيلُ التصَدِّيَ للنفوذ الأجنبي، فأجبروه على تركِ مَنصِبِه لأكبر أبنائه توفيق. منذ تولِّي توفيق الحُكمَ عَلِمَ أن بقاءَه مرهون برضا الأجانبِ عليه خاصةً إنجلترا وفرنسا، وعَلِمَ السلطان عبد الحميد الثاني ذلك منه، فحاول تضييقَ سُلُطاتِه والمزايا التي كانت ممنوحةً لأبيه إسماعيل مِن قَبلُ، ولكنَّ إنجلترا وفرنسا أفشَلَتا خطة السلطان عبد الحميد، ليس عطفًا على الخديوي توفيق، ولكِنْ منعًا لزيادةِ نفوذ عبد الحميد الذي سيعَطِّل مشروعات الأجانب في احتلالِ مصر. وقد وقَعَت عِدَّةُ أحداث خطيرة في عهد الخديوي توفيق نتيجةَ اتِّباعه لسياسة الولاءِ الكامِلِ للإنجليز والاستبدادِ المُطلَق على المصريِّين، فصار بذلك أسوأَ الحُكَّام في تاريخِ مِصرَ الحديثِ؛ حيث أدَّت هذه السياسة لاستقالةِ الوزارة الوطنية التي يمثِّلُها «شريف باشا» وتعيين وزارة موالية للإنجليز برئاسة النصراني الأرمني «نوبار باشا» ثم َّنصرانيٍّ آخر، وهذه الوزارةُ الموالية للأجانب عَمِلَت على زيادة التدخُّل الأجنبي في البلادِ تحت ستار سدادِ الديون، وأقدَمَت وزارةُ رياض باشا على بيعِ حِصَّة مصر في قناة السويس لإنجلترا. أثارت هذه السياسةُ نِقمةَ الشَّعبِ والجيش، وعَمَد رياض باشا ووزيرُ حربيته عثمان رفقي على تأخيرِ ترقيةِ الضبَّاط الوطنيين وكُلُّهم مُسلمون، وبدا أنَّه مخَطَّط خارجي لإضعافِ الجيشِ المصري، فقامت ثورةُ أحمد عرابي الشهيرة سنة 1298هـ -1881م، وعَزَلت وزارة رياض باشا، ووقعت أحداثٌ خطيرة قام الإنجليزُ بتدبيرها لاستثارة الوطنيين خاصَّةً أحمد عرابي الذي أصبح وزيرًا للحربيَّة في الوزارة الجديدة، وحاول رئيسُ الوزارة شريف باشا إقناعَ أحمد عرابي أن إنجلترا وفرنسا تستدرجُ مِصرَ للصدام؛ ليكون ذلك مبررًا لاحتلالِ البلَدِ، فلم يُفلِحْ فاستقال، ولم يفهَمْ عُرابي ما يخطِّطُ له الإنجليزُ، وأقدم على استثارة إنجلترا بتقويةِ دفاعات الإسكندريَّةِ، فقَصَفت إنجلترا ميناءَ الإسكندرية والمدينة، وأعلن الخديوي عزلَ عرابي، فخلع عرابي طاعَتَه، واستثار الشعبَ المصريَّ للدفاع عن البلاد، ولكَنَّه هُزِمَ في معركة التل الكبير سنة 1299هـ - 1882م، ووقعت مِصرُ أسيرةَ الاحتلال الإنجليزي. وقد توفِّيَ الخديوي توفيق في 6 رجب سنة 1309هـ - 8 يناير 1892م.
عنِ البَراءِ بنِ عازبٍ رضِي الله عنهما قال: "لمَّا قَدِمَ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم المدينةَ صلَّى نحوَ بيتِ المَقدسِ سِتَّةَ عشرَ أو سَبعةَ عشرَ شهرًا، وكان يُحِبُّ أن يُوَجَّهَ إلى الكعبةِ، فأنزل الله تعالى: {قَدْ نَرَى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّمَاءِ فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضَاهَا} [البقرة: 144]، فَوُجِّهَ نحوَ الكعبةِ، وصلَّى معه رجلٌ العصرَ، ثمَّ خرج فمَرَّ على قومٍ مِنَ الأنصارِ فقال: هو يَشْهَدُ أنَّه صلَّى مع النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم، وأنَّه قد وُجِّهَ إلى الكعبةِ، فانحرفوا وهُم ركوعٌ في صلاةِ العصرِ.
فتَح المسلمون بقِيادةِ خالدِ بن الوَليد بلدَةَ أَمْغِيشِيا، وكانت مِصْرًا كالحِيرَةِ، وقِيلَ: اسمها منيشيا، وهي تقعُ على نهرِ الفُراتِ، ولم يقع بأَمْغِيشِيا قِتالٌ، وإنَّما هجرها أهلُها بعدَ هزيمةِ الفُرْس في أُلَّيْس، فدخَلها المسلمون فاتحين، وأصابوا فيها ما لم يُصيبوا مِثلَه لأنَّ أهلَها أَعجَلَهُم المسلمون أن يَنقُلوا أموالَهم وأثاثَهم وكِراعَهم وغيرَ ذلك، بلَغ سهمُ الفارسِ ألفا وخمسمائة، سِوى النَّفْلِ الذي نَفَلَهُ أهلُ البَلاءِ, وأَرسَل إلى أبي بكرٍ بالفَتحِ والغَنائمِ والسَّبْيِ، وأَخْرَب أَمْغِيشِيا. فلمَّا بلغ ذلك أبا بكرٍ قال: عجَز النِّساءُ أن يَلِدْنَ مِثلَ خالدٍ.
ولَّى المعتمِدُ على الله وَلَدَه جعفرًا العهدَ من بعدِه، وسماه المفوِّضَ إلى الله، وولاه المغرِبَ، وضمَّ إليه موسى بن بغا ولايةَ إفريقية ومصر والشام والجزيرة والموصل وأرمينية وطريق خراسان وغير ذلك، وجعل الأمرَ مِن بعد ولَدِه لأبي أحمد المتوكِّل، ولَقَّبَه الموفَّق بالله، وولاه المشرِقَ وضم إليه مسرورًا البلخي وولَّاه بغداد والسواد والكوفة وطريق مكة والمدينة واليمن وكسكر وكور دجلة والأهواز وفارس وأصبهان والكرخ والدينور والري وزنجان والسند، وكتب بذلك مكاتباتٍ وقُرِئَت بالآفاق، وعَلَّقَ منها نُسخةً بالكعبة.
أفسد الأكرادُ والعرَبُ بأرض المَوصِل وطريقِ خُراسان، وكان عبدُ الله بن حَمدان يتولَّى الجميعَ وهو ببغداد، وابنُه ناصر الدولة بالموصِل، فكتب إليه أبوه يأمُرُه بجمع الرجال، والانحدارِ إلى تكريت، ففعل وسارَ إليها، فوصل إليها في رمضانَ، واجتمعَ بأبيه، وأحضر العَرَب، وطالبهم بما أحدثوا في عمَلِه بعد أن قتَلَ منهم، ونكَّلَ ببعضهم، فردُّوا على الناس شيئًا كثيرًا، ورحل بهم إلى شَهرزور، فوطئَ الأكراد الجلالية فقاتلهم، وانضاف إليهم غيرُهم، فاشتدَّت شَوكتُهم، ثمَّ إنَّهم انقادوا إليه لَمَّا رأوا قوَّته، وكفُّوا عن الفساد والشرِّ.
هو القائِمُ بأمرِ الله الفاطميُّ العُبَيدي أبو القاسم محمد نزارا بن عبيد الله المهدي صاحب إفريقيَّة، بايع له والِدُه عُبيد الله بولاية العهد بإفريقيَّة وجَهَّزه أبوه لضَمِّ مِصرَ مرتين، لكنَّه لم يُفلِحْ في ضَمِّها. وبعد وفاةِ القائمِ قام بالأمرِ بعده ابنُه إسماعيلُ، وتلقَّب بالمنصور بالله، وكتم موتَه؛ خوفًا أن يعلمَ بذلك أبو يزيد، وهو بالقربِ منه على سوسة، وأبقى الأمورَ على حالها، ولم يتسَمَّ بالخليفة، ولم يغيِّر السِّكَّة، ولا الخُطبة، ولا البنودَ، وبقي على ذلك إلى أن فرغ من أمرِ أبي يزيد، فلمَّا فرغ منه أظهَرَ موتَه، وتسمَّى بالخلافةِ.
قام أهلُ صور بالثَّورةِ على الحاكِمِ الفاطميِّ لَمَّا لَحِقَهم مِن جُندِه المغاربة البَربرِ الظُّلمُ والجَورُ، وأخذ الحريم من الحَمَّامات والطُّرُق, فقام أهلُ صور عليهم, بعد أن استنجَدوا بالإمبراطورِ البيزنطيِّ باسيل الثاني، فأمَدَّهم بأسطول. فقتلوا المغاربةَ البَربرَ، فأرسل جيشُ ابنِ الصمصامة جيشًا مِن مصر بقيادةِ أبي عبد الله الحسن بن ناصر ومعه ياقوت الخادِمُ, كما أرسل الحاكِمُ أسطولًا إلى طرابلسَ، فحاصر الجيشُ مدينةَ صور واشتبَكَ أسطولُ الحاكِمُ بالأسطولِ البِيزنطيِّ في معركةٍ عنيفةٍ كانت نتيجتُها هزيمةَ البيزنطيِّينِ والقضاءَ على ثورةِ أهلِ صورٍ.
استتابَ القادِرُ باللهِ الخَليفةُ فُقَهاءَ المُعتَزِلةِ، فأظهروا الرُّجوعَ وتبَرَّؤوا من الاعتزالِ والرَّفضِ والمقالاتِ المُخالِفةِ للإسلام، وأُخِذَت خطوطُهم بذلك، وأنَّهم متى خالفوا أحلَّ فيهم مِن النَّكالِ والعُقوبةِ ما يَتَّعِظُ به أمثالُهم. قال ابن كثير: "وامتَثَل محمودُ بنُ سبكتكين أمْرَ أميرِ المؤمنينَ في ذلك، واستَنَّ بسُنَّتِه في أعمالِه التي استخلَفَه عليها مِن بلادِ خُراسان وغيرها، في قَتلِ المُعتَزِلةِ والرَّافِضةِ، والإسماعيليَّةِ والقرامِطة، والجَهميَّة والمُشَبِّهة، وصَلَبَهم وحبَسَهم ونفاهم، وأمَرَ بلَعْنِهم على المنابِرِ، وأبعَدَ جَميعَ طوائِفِ أهلِ البِدَعِ، ونفاهم عن ديارِهم، وصار ذلك سُنَّةً في الإسلامِ"
كان القاضي أبو عبدِ الله القضاعي قد تَوَجَّه من عند المُستَنصِر حاكم مصر العُبيدي برِسالةٍ إلى مُتَمَلِّكِ الرُّومِ، فقَدِمَ وهو بالقُسطنطينيَّة رَسولُ السُّلطانِ طُغرلبك بن سلجوق يَلتَمِس من المَلِكَة تيودورا أن تُمَكِّنَ رَسولَه مِن الصَّلاةِ في جامعِ قُسطنطينيَّة، فأَذِنَت له في ذلك؛ فدَخلَ إليه وصَلَّى به، وخَطَبَ للخَليفةِ القائمِ بأَمرِ الله العبَّاسي. فبَعَثَ القَضاعيُّ بذلك إلى المُستنصِر، فأحاط المُستنصِر بما في بِيعَةِ قُمامَة وأَخذَهُ، وأَخرجَ البِطْرَكَ منها إلى دارِ مُفرَدَةٍ؛ وأَغلقَ أَبوابَ كنائِس مصر والشام، وطالَب الرُّهبانَ بالجِزيَةِ لأَربعِ سِنين، وزاد على النَّصارى في الجِزيَة. وكان هذا ابتداءُ فَسادِ ما بين الرُّومِ والمِصريِّين.
كانت بلنسية قد سقطت بيد النصراني إلكمبيادور بعد حصرها عام 487، وطلب أهلُها في حينها النزولَ بالأمان، فنقض الفرنجُ الأمانَ فورَ دُخولِهم وقتلوا وحرقوا، وبَقِيَت بيَدِهم إلى هذا العام؛ حيث قام المرابطون بحصارها بقيادة محمد بن تاشفين ومعه القائد المزدلي اللمتوني، ثم في فترة الحصار هلك إلكمبيادور وتولَّت زوجته شيمانه الدفاعَ عن المدينة، ولكِنَّ الحصار الذي دام سبعة أشهر اضطرها لتسليم المدينة؛ حيث انتشر الجوعُ وبدأ الموتُ، فخرجت من المدينة بعد أن أمرت بحرق المدينة بكاملها إظهارًا لخُبثِها وحنقِها على المسلمين، فدخلها المرابطون فوجدوها دمارًا.
لما فرغ صلاح الدين من أمر آمد سار إلى الشام، وقصَدَ تلَّ خالد، وهي من أعمالِ حلب، فحصرها ورماها بالمنجنيقِ، فنزل أهلُها وطلبوا الأمانَ فأمَّنَهم، ثم سار منها إلى عين تاب فحصرها وبها ناصر الدين محمد، وهو أخو الشيخ إسماعيل الذي كان خازنَ نور الدين محمود بن زنكي وصاحبَه، وكان قد سلَّمَها إليه نور الدين، فبَقِيَت معه إلى الآن. فلما نازله صلاح الدين أرسل إليه يطلُبُ أن يُقِرَّ الحِصنَ بيده ويَنزِلَ إلى خدمته ويكون تحت حُكمِه وطاعته، فأجابه صلاح الدين إلى ذلك، وحلَفَ له عليه، فنزل إليه، وسار في خدمتِه.