كانت قريةٌ بحوران- وهي خاص لنائب الشام وهم حلبية يمن، ويقال لهم بنو لبسة وبنو ناشي- وهي حصينة منيعة يضوي إليها كلُّ مُفسدٍ وقاطع ومارق، ولجأ إليهم أحَدُ شياطين رويمن العشير، وهو عمر المعروف بالدنيط، فأعدوا عددًا كثيرة ونهبوا ليغنَموا العشير، وفي هذا الحين بدَرَهم والي الولاة المعروف بشنكل منكل، فجاء إليهم ليرُدَّهم ويهديهم، وطلب الوالي منهم تسليمَ عمر الدنيط، فأبوا عليه وراموا مقاتلَتَه، وهم جمع كثير وجَمٌّ غفير، فتأخَّرَ عنهم وكتب إلى نائب السلطنة ليمُدَّه بجيشٍ عونًا له عليهم وعلى أمثالهم، فجهَّزَ له جماعة من أمراء الطبلخانات والعشراوات ومائة من جند الحلقة الرماة، فلمَّا بغَتَهم في بلدهم تجمَّعوا لقتال العسكر ورموه بالحجارة والمقاليع، وحَجَزوا بينهم وبين البلد، فعند ذلك رمَتْهم الأتراك بالنبال من كل جانب، فقتلوا منهم فوق المائة، فَفَرُّوا على أعقابهم، وأَسَر منهم والي الولاة نحوًا من ستين رجلًا، وأمر بقطع رؤوس القتلى وتعليقها في أعناق هؤلاء الأَسرى، ونُهِبَت بيوت الفلَّاحين كلهم، وسُلِّمَت إلى مماليك نائب السلطنة، لم يفقَدْ منها ما يساوي ثلاثمائة درهم، وكرَّ راجِعًا إلى بصرى وشيوخ العشيرات معه، فأخبر ابن الأمير صلاح الدين ابن خاص ترك، وكان من جملةِ أمراء الطبلخانات الذين قاتلوهم بمبسوط ما يخصُّه، وأنه كان إذا أعيا بعض تلك الأسرى من الجرحى أمر المشاعلي بذبحِه وتعليق رأسِه على بقية الأسرى، وفعل هذا بهم غيرَ مَرَّة حتى إنه قطع رأس شاب منهم وعَلَّقَ رأسه على أبيه، شيخٍ كبير، حتى قَدِمَ بهم بصرى، فشنكل طائفة من أولئك المأسورين، وشنكل آخرين، وقتل الآخرين وحبس بعضهم في القلعة، وعلَّق الرؤوسَ على أخشابٍ نَصَبها حول قلعة بصرى، فحصل بذلك تنكيلٌ شديد لم يقع مثلُه في هذا الأوان بأهل حوران، وهذا كلُّه سُلِّطَ عليهم بما كسَبَت أيديهم، وما ربُّك بظَلَّامٍ للعبيدِ!
وقعَ مَطَرٌ عظيمٌ في أوَّلِ هذا الشَّهرِ بمصر، وهو شهرُ فبراير، وثلجٌ عظيمٌ، فرَوِيَت البساتينُ التي كانت لها عن الماءِ عِدَّةُ شهور، ولا يحصلُ لأحدٍ مِن الناس سَقيٌ إلا بكلفة عظيمة ومشقَّة، ومبلغ كثير، حتى كاد الناسُ يقتتلون عليه بالأيدي والدبابيس وغير ذلك من البَذلِ الكثير، وذلك في شهورِ ديسمبر والثاني، وأول فبراير؛ وذلك لقِلَّةِ مياه الأنهار وضَعفِها، وكذلك بلادُ حوران أكثَرُهم يروون من أماكنَ بعيدة في هذه الشهور، ثمَّ مَنَّ الله تعالى فجَرَت الأوديةُ وكَثُرت الأمطارُ والثلوج، وغَزُرت الأنهار, وتوالت الأمطارُ، فكأنه حصل السيلُ في هذه السَّنةِ مِن كانون إلى فبراير.
هو الغازي بك شُجاعُ الدين والدنيا السلطانُ أورخان خان بن عثمان بن أرطغرل بن سليمان ثاني سلاطين بني عثمان، وُلِدَ في مدينة سُكود عاصمة إمارة والده سنة 687 هـ الموافق (1281م) ولِيَ سنة 726 بعد وفاةِ والده السلطان عثمان أوَّلِ ملوك بني عثمان، وكانت ولايةُ أورخان في أيام السلطان حسن بن محمد بن قلاوون صاحِبِ مصر، كان أورخان شديدًا على الكفَّارِ ففاق والِدَه في الجهاد، وفتح البلاد فافتتح قلاعًا كثيرة وحصونًا منيعة، وفتح بروسة –بورصة- وجعلها مقَرَّ سَلطَنَتِه, شهد عهدُه توسُّعَ الإمارة العثمانيَّة، وضَمَّ جميع أراضي الدولة البيزنطيَّة في آسيا الصُغرى لحُكمِه, وأُنشئ في عهده جيشُ الإنكشارية الذي كانت نواتُه أبناء الأَسْرى, توفِّيَ أورخان عن عمر 81 سنة ودُفِنَ في مدينة بورصة في تربة والده عثمان، وامتَدَّ حُكمُه خمسًا وثلاثين سنة, وكان أولًا في ولاية عهده ابنُه سليمان، ولكنه توفي عام 760 في غاليبولي ودُفِنَ فيها، وقد حزن عليه والده حزنًا شديدًا، ثم أصبح في ولاية العهد ابنُه مراد الأول الذي ولد عام 726 فلما توفي أورخان تولى هو من بَعدِه، وكان له من العمر ستًّا وثلاثين سنة.
بعد وفاة أورخان وتولِّي ابنِه مراد الأول أراد أميرُ القرمان في أنقرة علاءُ الدين خليل بن محمود أن يستَغِلَّ هذه الفرصة ظنًّا منه أنَّه يقضي على العثمانيِّينَ فاستنهضَ هِمَمَ الأمراء المستقِلِّينَ في آسيا الصغرى للقتال، وعَمِلَ على تجميعهم، غيرَ أنَّه تفاجأ بجيش مراد الأول الحاكِمِ الجديدِ، وهي محيطةٌ بمدينة أنقرة، ودخلها فاتحًا، فاضطر علاءُ الدين لِعَقدِ الصلح معه وتنازل عن أنقرة، واعترف السلطانُ مراد بالأميرِ علاء الدين أميرًا على بقية أملاك دولةِ القرمان، وتزوَّجَ مراد من ابنةِ علاء الدين.
هو الحافِظُ الفقيه أبو سعيد صلاح الدين العلائي خليل بن كيكلدي الدمشقي سِبطُ البرهان الذهبي الحافظ. مولِدُه سنة 694، حَفِظَ القرآن والسنة والنحو وغير ذلك، وسَمِعَ الكثير، وهو معدود في الأذكياء، ودَرَّس وأفتى وناظر، وكان مدَّة مقامه مدرسًا بالمدرسة الصلاحية بالقدس وشيخًا بدار الحديث السكرية ثلاثين سنة، وقد صَنَّف وألف وجمع وخَرَّج، وكانت له يدٌ طولى بمعرفة العالي والنازل، وتخريج الأجزاء والفوائد، وله مشاركةٌ قوية في الفقه واللغة والعربية والأدب، وله عدة مصنفات وقَفَها على الخانقاه السمساطية بدمشق، ومن مصنفاته: جامع التحصيل في أحكام المراسيل، وتحقيق منيف الرتبة لمن ثبت له شريف الصحبة، والنقد الصحيح لما اعترض عليه من أحاديث المصابيح، والتنبيهات المجملة على المواضع المشكلة، وتلقيح المفهوم في تنقيح صيغ العموم، وتحقيق المراد في أن النهي يقتضي الفساد، وجزء في تصحيح حديث القلتين والكلام على أسانيده، وإجمال الإصابة في أقوال الصحابة، وغيرها. توفي بالقدس الشريف ليلة الاثنين ثالث المحرم، وصلِّيَ عليه من الغدِ بالمسجد الأقصى بعد صلاة الظهر، ودُفِن بمقبرة نائب الرحبة، وله من العُمرِ ست وستون سنة.
في مُستَهَلِّ جمادى الآخرة رَكِبَ الأميرُ سَيفُ الدين بيدمر نائب حلب لقصد غزو بلاد سيس في جيش، وفي يوم الاثنين سابع عشر جاء الأمير تاج الدين جبريل مِن عند الأميرِ سيف الدين بيدمر نائب حلب، وقد فتحَ بلدين من بلاد سيس، وهما طرسوس وأذنة، وأرسل مفاتيحَهما صحبة الأمير تاج الدين جبريل إلى السلطان، ثم افتتح حصونًا أخرى كثيرةً في أسرع مدة، وأيسَرِ كُلفة، وخطب القاضي ناصرُ الدين كاتِبُ السر خطبةً بليغة حسنة، وقد حُمِلَت أبواب كنيسة أذنة إلى الديار المصريَّة في المراكِبِ، وهذه هي أبوابُ الناصريَّة التي بالسَّفحِ، كان قد أخذها سيس عام قازان، وذلك في سنة 699، فاستنقذت في هذه السنةِ.
وصل تقليدُ الأمير سيف الدين بيدمر بنيابة دمشق، ورُسِمَ له أن يركَبَ في طائفةٍ مِن جيش حَلَب ويقصد الأميرَ خيار بن مهنا ليُحضِرَه إلى خدمة السلطان، وكذلك رُسِمَ لنائب حماة وحمص أن يكونا عونًا للأمير سيف الدين بيدمر في ذلك، فلمَّا كان يومُ الجمعة رابِعَ هذا الشهر التَقَوا مع خيار عند سلمية، فكانت بينهم مناوشات، فأحاط الأعرابُ بسيف الدين بيدمر ومَن معه من الترك من كل جانبٍ؛ وذلك لكثرة العرب وكانوا نحو الثمانمائة، وكانت التركُ مِن حماة وحمص وحلب مائةً وخمسين، فرَمَوا الأعراب بالنشَّاب فقتلوا منهم طائفةً كثيرةً، ولم يُقتَلْ من الترك سوى رجلٍ واحد، رماه بعضُ الترك ظانًّا أنه من العرب بناشجٍ فقَتَله، ثم حجز بينهم الليل، وخرجت التركُ مِن الدائرة، ونُهِبَت أموالٌ من الترك ومِن العَرَب، وجرت فتنةٌ وجُرِّدَت أمراء عدة مِن دمشق لتدارُكِ الحال، وأقام نائِبُ السلطنة هناك ينتَظِرُ ورودهم، وقَدِمَ الأمير عمر الملقب بمصمع بن موسى بن مهنا من الديار المصرية أميرًا على الأعراب وفي صُحبَتِه الأمير بدر الدين بن جماز أميرانِ على الأعراب، فنزل مصمع بالقَصرِ الأبلق، ونزل الأميرُ رملة بالتوزية على عادته ثم توجَّها إلى ناحية خيار بن مهنا بمن معهما من عرب الطاعةِ مِمَّن أضيف إليهم من تجريدة دمشق ومَن يكون معهم من جيش حماة وحمص؛ لتحصيل الأمير خيار، وإحضاره إلى الخدمة الشريفةِ.
هو جمالُ الدين أبو محمَّدٍ عبدُ اللهِ بنُ يوسُفَ بنِ أحمد بن هشام الأنصاري الحنبلي النحويُّ. وُلِدَ وتوفِّيَ بمصر, كان بارعًا في عدة علوم، لا سيما العربية؛ فإنه كان فارِسَها ومالِكَ زِمامِها، وعُدَّ مِن كبار أئمَّةِ النحو، وله فيه الأبحاث العجيبة، والنكات الغريبة، والأنظار الدقيقة، حتى قيل عنه: أنحى مِن سيبويه, وهو صاحِبُ الشَّرحِ على ألفية ابن مالك في النحو، المسمى أوضح المسالك إلى ألفية ابن مالك، وشرح أيضًا البردة، وشرح بانت سعاد، وكتاب المغني، وله شذور الذهب في معرفة كلام العرب، وله قَطْر الندى وبَلُّ الصَّدى، والإعراب وقواعد الإعراب، وغير ذلك، وكان أولًا حنفيًّا ثم استقَرَّ حنبليًّا وتنَزَّل في دروس الحنابلة. توفِّيَ في ليلة الخامس من ذي القعدة، ومات عن بضعٍ وخمسين سنة، ودفن بعد صلاة الجمعة بمقابر الصوفيَّة خارج باب النصر من القاهرة.
فتح العُثمانيون في هذه السنة مدينةَ أدرنة بعد أن حاصَروها، فسَلَّمَها القائِدُ الرومي بعد أن يَئِسَ من المقاومةِ، فنقل مراد الأوَّلُ عاصِمَتَه إليها لتكونَ على مقربة من أوروبا، وليكون الهجومُ على القُسطنطينية من جهة الغربِ، وكانت العاصمة قبل ذلك هي مدينة بورصة، وبَقِيَت هذه المدينة أدرنة عاصِمةً للعثمانيين حتى تمَّ فَتْح القسطنطينية عام 857هـ كما تمَّ الاستيلاءُ على مدُن أوروبية أخرى مثل فيلبه قاعدة بلاد الرومللي الشرقي جنوبي بلغاريا اليوم.
كان زوالُ مُلكِه في ليلة الأربعاء تاسع جمادى الأولى، وذلك أنَّه بلغه وهو بمنزِلِه بكوم برا أنَّ الأمير يلبغا الخاصكي يريدُ قَتْلَه، وأنه لا يدخُلُ إلى الخدمة إلَّا وهو لابِسٌ آلةَ الحَربِ مِن تحت ثيابِه فاستدعى به، وهو مع حريمه في خَلوةٍ، وأمر فنُزِعَت عنه ثيابُه كُلُّها، ثمَّ كُتِّفَت يداه، فشَفَعت فيه إحدى حظايا السلطان، حتى خَلَّى عنه وخلع عليه، واعتذر إليه بأنَّه بلغه عنه أنه لا يدخُلُ إلا بالسلاحِ مخفي في ثيابِه، فخرج إلى مخيَّمِه وقد اشتَدَّ حَنَقُه، فلم يمضِ سوى ثلاثة أيام وبلغ السلطانَ أن يلبغا قد خامر وأظهر العِصيانَ، وألبس مماليكَه آلةَ الحرب، فبادر للركوبِ في طائفةٍ مِن مماليكه ليكبِسَه على بغتة، ويأخُذَه من مخيمه، فسبق ذلك إلى يلبغا من الطواشي بشير الجمدار، فركب بمماليكِه مِن فَورِه بالسلاح يوم الاثنين ثامن جمادى الأولى بعد العصر، ولقي السلطانَ وهو سائِرٌ إليه، وتوافقا حتى غَرَبت الشمس، فحَمَل يلبغا بمن معه يريد السُّلطانَ فانهزم مِن غير قتال، ومعه الأميرُ عِزُّ الدين أيدمر الدوادار، فتفَرَّقَت مماليكه في كلِّ جِهةٍ، وتمادى السلطانُ في هزيمتِه إلى شاطىء النيل، وركِبَ هو وأيدمر فقط في بعضِ المراكب، وترك ركوبَ الحرَّاقة السلطانية، وصَعِدَ قلعة الجبل، وألبَسَ مَن بها من المماليك، فلم يجِدْ في الإسطبل خيولًا لهم، فاضطرب ونزل من القلعةِ ومعه أيْدَمُر وقد تنكَّرا ليسيرا إلى الشامِ فعَرَفَهما بعضُ المماليك، فأنكر حالهما، وأخذهما ومضى بهما إلى بيت الأمير شرف الدين موسى بن المازْكَشي، فآواهما هذا وقد مضى يلبغا وقت هزيمةِ السلطان في إثره فلم يظفَرْ به، فركب الحراقة ومنع أن يعدى مركِبٌ بأحد من المماليك السلطانيَّة إلى بر مصر، وعدَّى بأصحابه في الليل إلى البر، فلَقِيَه الأمير ناصر الدين محمد بن المحسني، والأمير قشتمر المنصوري في عدة وافرة، فحاربهما وهزَمَهما، وتقَدَّمَ فهزم طائفةً بعد طائفة، ثم وجد الأميرَ أسنبغا ابن البوبكري في عِدَّة وافرة فقاتله قريبًا من قنطرة قديدار قتالًا كبيرًا، جرح فيه أسنبغا وانهزم من كان معه، ومضى يلبغا حتى وقف تحت القلعة، فبلغه نزولُ السلطان وأيدمر منكسرينِ، وبينما هو مفكِّرٌ فيما يفعله، إذ أتاه قاصِدُ ابن الأزْكَشي وأخبَرَه بأن السلطان وأيدمر عنده، فسار بعسكَرِه إلى بيت ابن الأزْكَشي بالحُسَينية، وأحاط به، وأخذ السلطانَ والأمير أيدمر ومضى بهما إلى داره، قُرْبَ جبل الكبش فحَبَسَهما بها، ووكَلَ بهما من يثِقُ به، ثم عاد إلى القلعة وقد امتنع بها طائفةٌ مِن مماليك السلطان، ورَمَوه بالنشاب، فأعلمهم بأنه قد قبض على السلطانِ وسَجَنَه في داره، فانحَلَّت عزائِمُهم، وفتحوا باب القلعة، فصَعِدَ يلبغا ومن معه إليها وملكها وأقام في السلطنةِ محمَّدَ بن المظفر حاجي بن محمد بن قلاوون ولَقَّبَه بالمنصور، وكان عمره أربعة عشر عامًا، ولم يُوقَفْ للسلطان حسن على خبر، فقيل إنه عاقبه عقوبةً شديدة حتى مات ودفنه في مصبطة كان يركَبُ عليها من داره بالكبش، وقيل دفنه بكيمان مضر وأَخفى قبره، فكان عمره دون الثلاثين سنة، منها مدة سلطنته هذه الثانية ست سنين وسبعة أشهر وسبعة أيام، وأمَّا السلطان الجديد المنصور فإنه استدعى الخليفةَ وقُضاة القضاة، وأحضر المنصور ففَوَّضَ الخليفة إليه أمورَ الرعيَّة، وركب والكافَّةُ بين يديه من باب الدار إلى الإيوان، حتى جلس على تخت الملك، وحَلَف له الأمراء على العادة، وهو لابِسٌ الثوب الخليفتي، وذلك في يوم الأربعاء تاسِعَ جمادى الأولى، ولُقِّب بالملك المنصور صلاح الدين، وهو أوَّلُ من تسلطن من أولاد أولاد الملك الناصر محمد، فقام الأمير يلبغا بتدبير الدولة، ولم يبقَ للمنصور سوى الاسم، والأميرُ قَشتمر المنصوري نائِبُ السلطنة، ودُقَّت البشائر، ونودي بالقاهرة ومِصرَ بسَلطنةِ الملك المنصور، وكُتِبَ إلى الأعمال بذلك، فسارت البريدية.
خرج الأميرُ بَيدمر نائِبُ الشام عن الطاعة، وبموافقةِ جماعةٍ مِن الأمراء له على ذلك، منهم أسَنْدَمر أخو يَلبغا اليحياوي، والأمير مَنجَك وجماعة، وأنه قام لأخذ ثأر السُّلطانِ حسن، وأفتاه جماعةٌ من الفقهاء بجواز قتال قاتِلِه الذي تغَلَّب على المُلك- يعني الأمير يَلْبُغا- ومنع البريدَ أن يمُرَّ مِن الشام، وجَهَّزَ الأمير مَنجَك والأمير أَسَندَمُر الزيني في عسكَرٍ إلى غزة، فحاربوا نائِبَها ومَلَكوها، فنصب الأميرُ يَلبُغا السَنْجقَ السلطاني، وتقَدَّمَ إلى الأمراء بالتجهيز للسفر، وأخرج الأميرَ قَشَتمر نائب السلطة إلى جهة الصعيد في عسكَرس ليحفظ تلك الجِهةَ في مُدَّة الغيبة بالشام، وأُقيم الأمير شرف الدين موسى بن الأزْكَشي نائب الغيبة، وخَرَجت طلابُ الأمراء شيئًا بعد شيءٍ، وركب السلطانُ في أول شهر رمضانَ مِن قلعة الجبل، ونزل خارِجَ القاهرة، ثم رحل وصحبته الخليفةُ والأمراء، وتاج الدين محمد بن إسحاق المناوي قاضى العسكر، وسراج الدين عمر الندى قاضي العسكر، فرحل الأميرُ منجَك بمن معه من غَزَّة، عائدًا إلى دمشق، فنزل بها السلطانُ بعساكره وجلس الأميرُ يلبغا لعَرضِ العسكر، ثم ساروا جميعًا إلى دمشق، وخيَّموا بظاهرها، فخرج إليهم أكثَرُ أمراء دمشق وعسكَرُها راغبين في الطاعة، حتى لم يبقَ مِن الأمراء مع بيدمر سوى مَنجَك وأسندمر- وقد امتنعوا بالقلعة- فترددت القضاةُ بين الفريقين في الصُّلحِ حتى تقرر، وحَلَف لهم الأميرُ يَلُبغا على ذلك، فاطمأنُّوا إليه ونزلوا من القلعة، فركبَ السلطانُ بعساكره صبحَ يوم الاثنين تاسع عشرين شهر رمضان، ودخَلَ إلى دمشق وقبض على الأمير بيدمر والأمير منجك والأمير أسندمر، وقُيِّدوا، فأنكر ذلك جمال الدين يوسف بن محمد المرداوي الحنبلي قاضي دمشق، وصار إلى الأمير يَلْبُغا، وقال له: لم يقع الصلحُ على هذا فاعتذر بأنَّه ما قصد إلا إقامةَ حُرمةِ السلطان، ووعد بالإفراجِ عنهم، فلما انصرف بعث بهم إلى الإسكندريَّة، فسُجِنوا بها، وصَعِدَ السلطان إلى قلعة دمشق، وسكَنَها، واستبد الأميرُ يَلْبُغا بتدبير الأمورِ في الشام، على عادتِه في مصر، واستقَرَّ الأمير علاء الدين أمير علي نائب الشام عوضًا عن الأمير بَيدمر، واستقر الأميرُ قطْلُوبُغا الأحمدي رأس نوبة في نيابة حلب عوضًا عن الأمير أحمد بن القَشتمري، ثم سار السلطانُ بعساكره من دمشق في يوم الأحد، فلمَّا قرب من القاهرة دُقَّت البشائر بقلعة الجبل، وزُيِّنَت القاهرة ومصر زينة عظيمة، وصعد إلى قلعته في يوم الاثنين عشرين شوال، وفيه قدم الأمير قَشْتَمُر النائبُ مِن الوجه القبلي.
اتَّفَق الأميرُ حُسين بن محمد بن قلاوون مع الطواشي جوهر الزمردي نائِبِ مُقَدَّم المماليك على أن يُلبِسَ المماليكَ السُّلطانية آلةَ الحرب ويتسَلْطَن، وكان السفيرُ بينهما نصرَ السليماني أحَدَ طواشية الأمير حسين، فوشَى بذلك إلى الأمراء، وكان السلطانُ بالشام، فبادر الأميرُ أَيْدَمُر الشمسي نائب الغيبة والأمير موسى بن الأزْكَشي وقبضا على جوهر ونصر وسُجِنا بخزانة شمايل بالقاهرة، فلمَّا قَدِمَ السلطان والأمير يلبغا سُمِّرا وشُهِرا، ثم نُفِيَا إلى قوص في ذي القعدة.
كان أبو سالم إبراهيمُ المريني منفيًّا في الأندلس، ثم عاد وتمَلَّك بعد أن خَلَع ابن أخيه محمد السعيد الذي جلس بعد اغتيالِ أبيه، ثمَّ في هذه السنة قام الوزيرُ عمر بن عبد الله الفودودي بخلع السلطانِ أبي سالم إبراهيم وقَتَله وولِيَ السلطنة تاشفين بن أبي الحسن علي أخي السلطان المخلوع، وكان تاشفين موسوسًا مختل العقل، ولم يرضَ بنو مرين عما فعله الوزيرُ فخلعوا تاشفين وأتوا بابنِ أخٍ له يدعى محمد الثاني بن أبي الحسن علي المريني فبايعوه وولوه المُلك ولَقَّبوه المنتصر.
استقَرَّ الأميرُ أَسندمر الطازي في نيابة ملطيَّة فأكثر من الغارات على بلاد الروم، وأسَرَهم وقتَلَهم، فبعث إليه الأمير محمد بن أَرتَنَا صاحِبُ قيصرية الروم عسكرًا مع ابن دُلغَادر، فكبَسَه وهو يتصَيَّد فقاتله قتالًا شديدًا، ونجا بنَفسِه إلى ملطية، فكتب السلطانُ والأمير يلبُغا بخروج عساكِرِ دمشق وطرابلس وحماة وحلب بآلات الحرب والحصار، صحبة الأمير قطْلُوبغا نائب حلب، فخرج من دمشق خمسةُ آلاف فارس، ومن بقيَّة البلاد الشامية سبعة آلاف فارس، وتوجَّه نائب حلب في اثني عشر ألفًا ومعه المجانيق والنقابون، وجميع ما يُحتاج إليه، فشَنُّوا الغاراتِ على بلاد الروم، ثم عادوا بغير طائلٍ!
هو الخليفةُ المُعتَضِد بالله أبو الفتح، واسمُه أبو بكر بن المستكفي بالله أبي الربيع سليمان بن الحاكم بأمر الله أبي العباس أحمد بن الحسن بن أبي بكر بن أبي علي بن الحسن بن الخليفة الراشد بن المسترشد، توفِّيَ يوم الثلاثاء عاشر جمادى الأولى ومدة خلافتِه عشرة أعوام، وعهد إلى ابنه محمد قبل وفاته بقليل، فاستدعي أبو عبد الله محمد ابن الخليفة المعتضد بالله أبي بكر، في يوم الخميس ثاني عشر جمادى الأولى إلى قلعة الجبل، وجلس مع السلطانِ بالقصر، وقد حضر الأمراءُ فأقيمَ في الخلافةِ بعد وفاة أبيه، ولقِّبَ بالمتوكل على الله، وخُلِعَ عليه، وفُوِّضَ له نظَرُ المشهَدِ النَّفيسي؛ ليستعينَ بما يُحمَلُ إليه من النُّذورِ على حالِه، وركِبَ إلى منزله، وهنَّأَه الناسُ بالخلافةِ.