لَمَّا بلغ نور الدين محمودًا وفاةُ أخيه قطب الدين مودود، صاحِبِ الموصل، ومُلك ولده سيف الدين غازي الموصِلَ والبلاد التي كانت لأبيه، بعد وفاته، وقيام فخر الدين عبد المسيح بالأمرِ معه، وتحكُّمه عليه؛ أنِفَ لذلك وكَبِرَ لديه وعَظُمَ عليه، وكان يُبغِضُ فخر الدين؛ لما يبلغه عنه من خشونةِ سياسته، فقال: أنا أولى بتدبير أولاد أخي ومُلكِهم، وسار عند انقضاء العزاء جريدة في قلة من العسكر، وعبر الفرات، عند قلعة جعبر، مُستهَلَّ المحَرَّم، وقصد الرقةَ فحصَرَها وأخذها، ثم سار إلى الخابور فمَلَكَه جميعه، وملك نصيبين وأقام فيها يجمَعُ العساكر، فأتاه بها نور الدين محمد بن قرا أرسلان بن داود، صاحِبُ حصن كيفا، وكثُرَ جمعه، وكان قد ترك أكثر عساكره في الشام لحفظ ثغوره، فلما اجتمعت العساكر سار إلى سنجار فحصرها، ونصب عليها المجانيقَ وملَكَها، وسَلَّمَها إلى عماد الدين ابن أخيه قطب الدين، وكان قد جاءته كتُبُ الأمراء الذين بالموصل سرًّا، يبذلون له الطاعةَ، ويَحُثونه على الوصول إليهم، فسار إلى الموصل، وكان سيفُ الدين غازي وفخر الدين قد سيَّرا عز الدين مسعود بن قطب الدين إلى أتابك شمس الدين إيلدكز، صاحب همذان وبلد الجبل، وأذربيجان، وأصفهان، والري وتلك البلاد، يستنجده على عمه نور الدين محمود، فأرسل إيلدكز رسولًا إلى نور الدين ينهاه عن التعرُّضِ للموصل، ويقول له: إن هذه البلاد للسُّلطان، فلا تقصِدْها، فلم يلتفت إليه، فأقام نور الدين على الموصِل، فعزم مَن بها من الأمراء على مجاهرةِ فخر الدين عبد المسيح بالعِصيان، وتسليم البلد إلى نور الدين، فعلم ذلك، فأرسل فخر الدين إلى نور الدين بتسليمِ البلَدِ إليه على أن يُقِرَّه بيد سيف الدين، ويطلُب لنفسه الأمان ولماله، فأجابه إلى ذلك، وشرطَ أنَّ فخر الدين يأخذُه معه إلى الشام، ويعطيه عنده إقطاعًا يُرضيه، فتسَلَّم البلد ثالث عشر جمادى الأولى، ودخل القلعةَ من باب السر؛ لأنه لما بلغه عصيان عبد المسيح عليه، حلف ألَّا يدخلها إلا من أحصن موضع فيها، ولَمَّا ملكها أطلقَ ما بها من المكوس وغيرها من أبواب المظالمِ، وكذلك فعل بنصيبين وسنجار والخابور، وهكذا كان جميعُ بلاده من الشام ومصر، واستناب في قلعة الموصل خصيًّا له اسمه كمشتكين، ولقَّبَه سعد الدين، وأمر سيف الدين ألَّا ينفرد عنه بقليل من الأمور ولا بكثير، وحَكَّمَه في البلاد وأقطع مدينة سنجار لعماد الدين بن أخيه قطب الدين، وكان مقام نور الدين بالموصل أربعة وعشرين يومًا، واستصحب معه فخر الدين عبد المسيح، وغيَّرَ اسمه فسماه عبد الله، وأقطعه إقطاعًا كبيرًا.
حضر ابنُ أخت ملك النوبة واسمه مشكد متظلمًا من داود ملك النوبة، فجَرَّد السلطانُ الظاهر بيبرس معه الأميرَ آقسنقر الفارقاني، ومعه من العسكَرِ وأجناد الولاة والعربان، والزرَّاقون والرُّماة والحراريقُ والزردخاناه-خزانة السلاح- فخرج مشكد في مستهل شعبان حتى تجاوز أسوان، وقاتل خالَه الملك داود ومن معه من السودان، فقاتلوه على النجب، وهَزَمَهم وأسر منهم كثيرًا، وبعث الأميرُ آقسنقر الأميرَ عزَّ الدين الأفرم، فأغار على قلعة الدقم، وقَتَل وسبى، ثم توجه الأمير سنقر في أثَرِه يقتل ويأسر حتى وصل إلى جزيرة ميكاليل وهي رأس جنادل النوبة، فقتل وأسر، وأقَرَّ الأميرُ آقسنقر قمر الدولة صاحب الجبل وبيده نصفُ بلاد النوبة على ما بيده، ثم واقَعَ الملك داود حتى أفنى معظَمَ رجاله قتلًا وأسرًا، وفر داود بنفسه في البحر وأُسِرَ أخوه شنكو، فساق العسكر خَلفَه ثلاثة أيام، والسيفُ يعمل فيمن هناك حتى دخلوا كلُّهم في الطاعة، وأُسِرَت أم الملك داود وأخته، وأقيم مشكد في المملكة، وأُلبِسَ التاج وأُجلِسَ في مكان داود، وقُرِّرَت عليه القطعة في كل سنة، وهي ثلاثة فيلة، وثلاث زرافات، وخمس فهود إناث، ومائة صهب جياد، ومائة من الأبقار الجياد منتخبة, وقرر أن تكون البلادُ مشاطرة، نصفُها للسلطان ونصفُها لعمارة البلاد وحفظِها، وأن تكون بلادُ العلى وبلاد الجبل للسلطان، وهي قدر ربع بلاد النوبة لقُربِها من أسوان، وأن يحمِلَ القُطن والتمر مع الحقوق الجاري بها العادةُ من القديم، وعرض عليهم الإسلامَ أو الجزية أو القَتلَ، فاختاروا الجزيةَ، وأن يقومَ كُلٌّ منهم بدينار عينًا في كلِّ سنةٍ، وعُمِلَت نسخة يمين بهذه الشروط، وحلف عليها مشكد وأكابِرُ النوبة، وعملت أيضًا نسخةٌ للرغبة بأنهم يطيعون نائِبَ السلطان ما دام طائعًا له، ويقومون بدينارٍ عن كلِّ بالغٍ، وخُرِّبَت كنيسة سرس، التي كان يزعم داود أنَّها تحدِّثُه بما يريده، وأخَذَ ما فيها من الصُّلبان الذَّهَب وغيرها، فجاءت مبلغ أربعة آلاف وستمائة وأربعين دينارًا ونصف، وبلغت الأواني الفِضَّة ثمانية آلاف وستمائة وستين دينارًا، وكان داودُ قد عَمَرَها على أكتاف المسلمين الذين أسَرَهم من عيذاب وأسوان، وقرر على أقارب داود حمل ما خلفه من رقيقٍ وقماشٍ إلى السلطان، وأُطلِقَت الأسرى الذين كانوا بالنوبة من أهل عيذاب وأسوان، ورُدُّوا إلى أوطانهم، ومن العسكرِ مِن الرقيق شيئًا كثيرًا، حتى بِيعَ كُلُّ رأس بثلاثة دراهم، وفضَل بعد القتل والبيع عشرة آلاف نفس، وأقام العسكر، بمدينة دنقلة سبعة عشر يومًا، وعادوا إلى القاهرة في خامس ذي الحجة بالأسرى والغنائم، فرسَمَ السلطان للصاحب بهاء الدين بن حنا أن يستخدم عمالًا على ما يستخرج من النوبة من الخَراجِ والجزية بدنقلة وأعمالا، فعمل لذلك ديوان.
كان محمد المتوكل على الله بعد هزيمته من عمِّه عبد الملك قد اتصل بمَلِك البرتغال سبستيان، واتَّفق معه على أن يُعينَه على طرد عمِّه من حكم المغرب، وأن يتنازلَ له مقابل ذلك عن جميع شواطئ المغرب، فقَبِلَ سبستيان ذلك العرض المغربي، انتقل المتوكِّل إلى سبتة، وأقام بها أربعة شهور، ومنها اتَّجه إلى طنجة في انتظار سبستيان على رأس القوات العسكرية، وفي أثناء استعدادات الدول الأوروبية- وخاصة البرتغال- للوثوب على المغرب، وإخضاعه بالكامل، حيث استطاع سبستيان أن يحشد من النصارى عشرات الألوف من الإسبان والبرتغاليين والطليان والألمان، وجهَّز هذه الألوف بكافة الأسلحة الممكِنة في زمنه، وجهَّز ألف مركب لتحمِلَ هؤلاء الجنود نحو المغرب، وأقلُّ ما قيل في عددهم ثمانون ألف مقاتل! بينما كان المغاربة بقيادة السلطان أبي مروان عبد الملك السعدي وتَعداد جيشه أربعون ألف مجاهد يملكون تفوقًا في الخيل، ومدافِعُهم أربعة وثلاثون مِدفعًا فقط، وكانت معنوياتهم مرتفعةً جدًّا, وقد أرسل العثمانيون لهم مُدرَّبين وأسلحة متنوعة، مشفوعة بفيلق عسكري, فقامت معركة بين الطرفين صباح الاثنين 30 جمادى الآخرة من هذه السنة تسمى معركة وادي المخازن، أو ما يعرف بمعركة الملوك الثلاثة، والتي تُسمَّى في كتب التاريخ معركة القصر الكبير، استمرت ما يزيد على الأربع ساعات، كتب الله فيها النصر للإسلام والمسلمين، وقد قُتِلَ في المعركة مَلِكُ السعديين عبد الملك أبو مروان، والملك المخلوع ابن أخيه محمد الثاني المتوكل على الله، والملك سبستيان ملك البرتغال، وقد وصَفَ بعض مؤرخي البرتغال نتائجَ المعركة بقوله: كان مخبوءًا لنا في مستقبل الأعصار العصرُ الذي لو وصفتُه لقلتُ: هو العصرُ النحسُ البالِغُ النحوسةِ، الذي انتهت فيه مدَّةُ الصولة والظفر والنجاح، وانقَضَت فيه أيامُ العناية من البرتغال، وانطفأ مصباحُهم بين الأجناس، وزال رونقُهم، وذهبت النخوةُ والقوة منهم، وخلفها الفشلُ الذريع، وانقطع الرجاء واضمحلَّ إبَّان الغنى والربح، وذلك هو العصر الذي هلك فيه سبستيان في القصر الكبير في بلاد المغرب, وكان من أهم أسباب هذه المعارك رغبةُ البرتغاليين أن يمحو عن أنفسهم العار والخزي الذي لحقهم بسبب ضربات المغاربة الموفَّقة، والتي جعلتهم ينسحبون من آسفي وأزمور وآصيلا وغيرها في زمن يوحنا الثالث (1521-1557م)، كما أراد مَلِكُ البرتغال الجديد سبستيان بن يوحنا أن يخوض حربًا مقدَّسة ضِدَّ المسلمين حتى يعلوَ شأنه بين ملوك أوروبا، وزاد من غروره ما حقَّقه البرتغاليون من اكتشافات جغرافية جديدة أراد أن يستفيد منها من أجل تطويق العالم الإسلامي، يدفعُه في ذلك حِقدُه على الإسلام وأهلِه عمومًا، وعلى المغرب خصوصًا، فجمع بين الحقدِ الصليبي والعقليَّة الاستعمارية التي ترى أنَّ يدها مُطلقةٌ في كل أرض مسلمة تعجِزُ عن حماية نفسِها من أي خطر خارجي.
استغَلَّ الشاه عباس الصفوي انشغالَ الدولة العثمانية بالثورات الداخلية والحروب مع أوربا، بالإضافة للضعف الذي دبَّ فيها، فباشر في تخليصِ عراق العجم, واسترجع شمالَ العراق وتبريز ووان، واستطاع أن يحتلَّ بغداد والأماكن المقدَّسة الشيعية في النجف وكربلاء والكوفة، وكانت الجيوشُ العثمانية أضعفَ من أن تقاوم الجيوشَ الصفوية، فاضطر السلطان العثماني أحمد الأول أن يعقِدَ صلحًا مع الصفويين في عام 1013هـ استرجع فيه الصفويون كلَّ المناطق التي كان قد ضَمَّها السلطان سليمان القانوني، بما في ذلك بغداد، وكان هذا بداية التراجع للدولة العثمانية. وقد زارها الشاه عباس الصفوي وسَطَ مظاهر الإجلال والتقديس، وقد أورد بعضُ المؤرخين أنه قضى عشرة أيام في زيارته للنجف؛ حيث قام بنفسِه بخدمة الحُجَّاج في ذلك المكان، كما يذكرون أيضًا أنَّه إمعانًا في إعلان تمسُّكِه بالمذهب الشيعي وولائِه للرفض، وعلى الرغمِ من تعصُّبه الشديد للمذهب الشيعي إلَّا أنه رفع أيدي رجال الدينِ عن التدخُّل في شئون الحكم والسياسة، ومارس نوعًا من السلطة المُطلَقة في حكم البلاد، وقد أنزل الشاه عباس الصفوي أقسى أنواعِ العقاب بالسنَّة الذين يعتبرهم أعداءً للدولة، فإما أن يُقتَلوا أو تُسمَل عيونُهم، ولم يكن يتسامحُ مع أيٍّ منهم إلا إذا تخلى عن مذهبِه السني وأعلن ولاءه للمذهب الشيعي، واضطرت الدولةُ العثمانية نتيجةً لمعاهدة مع الصفويين أن تترك للدَّولة الصفوية الرافضية الشيعية جميعَ الأقاليم والبلدان والقلاع والحصون التي فتحها العثمانيون في عهد السلطان الغازي سليمان الأول بما فيها مدينة بغداد! وهذه أول معاهدة تركت فيها الدولةُ بعضَ فتوحاتِها، وكانت فاتحةَ الانحطاط والضَّعفِ، وأوَّلَ المعاهدات التي دلَّت على ضعف الدولة العثمانية! لقد بالغ الشاه عباس الصفوي في عدائه للمذهب السُّني، وإمعانًا في ضرب الدولة العثمانية حاميةِ المذهب السنِّي اتصل بملوك النصارى، وعقَدَ اتفاقات تعاوُن مشترك معهم؛ من أجلِ تقويض أركان الدولة العثمانية السُّنية، وقدَّم العديد من التنازلات لهذه الدول الأوروبية النصرانية تأكيدًا لتعاونِه معهم انطلاقًا من عدائِه للدولة العثمانية، وعامل الشاه عباس الصفوي النصارى في إيران معاملةً حسنةً على عكس معاملته لأهل السنَّة، وقد كان لمعاملته المتميِّزة للنصارى أن نشِطَت الحركة التنصيرية في إيران، كما شجع التجار الأوربيين في عقد صفقات تجارية كبيرة مع التجَّار في إيران، وأصبحت إيران سوقًا رائجًا للتجارة الأوروبية، ثم توَّج تسامحه مع النصارى بأن أعلن في عام 1007هـ أوامِرَه بعدم التعرضِ لهم، والسماح لهم بحرية التجوُّل في ربوع الدولة الصفوية، وأعطاهم امتيازاتٍ ببناء الكنائس في كبرى المدن الإيرانية، وهذه المعاملة للنصارى كانت نكايةً في الدولة العثمانية السُّنِّية!!
سار الأميرُ سعود بن عبد العزيز بجيوشِه من جميع نواحي نجدٍ وعُربانها، وقصَدَ الأحساءَ، وكان أهلُ الأحساءِ بعد نقضِهم العهدَ أتى إليهم زيدُ بن عريعر واستولى عليهم واستوطنَ البلَدَ هو وإخوانُه وذووه، فأقبل إليهم سعود بجنوده وفرسانه، ومعهم براك بن عبد المحسن بن سرداح آل حميد مهاجر، ونزل سعودٌ بجنوده على قرية الشقيق المعروفة في الأحساء، فحاصرها يومين وأخذها عَنوةً، واستولى عليها وهرب أهلُها، تم اجتمع أهل قرى شمال الأحساءِ في قرية القرين، فسار إليها سعود فنزلها وحاصرها أشدَّ الحصار وحاصر أهل بلد المطيرفي فصالحوه على نصفِ أموالهم، وسار سعود بجنوده إلى المبرز، فخرج عليهم زيدُ بن عريعر بما عنده من الخيلِ، فحصل بينهم قتالٌ، قُتِلَ مِن قومِ زيد غديرُ بن عمر، وحمود بن غرمول، وانهزم زيد ومن معه إلى البلدِ، ثم بعد أيام. سارت الجموعُ إلى المبرز فكمنوا لهم فجرت وقعةُ المحيرس قُتِلَ فيها من أهل المبرز مقتلةٌ عظيمة، قيل: إن القتلى ينيفون عن المائة رجل، وسارت الجنودُ إلى البطالية، فوقع فيها قتالٌ فانهزم أهلُها وقُتِلَ منهم عددٌ كثير، وأخذ سعود ما فيها من الأمتعةِ والطعام والحيوان والأموال، ثم ساروا إلى بلدانِ الشرق فحصل فيها قتالٌ وجِلادٌ، وارتجف أهل الشرق، ثم إنَّ براك بن عبد المحسن أتى إلى سعود وقال: إن أهل الأحساء يريدون المبايعة والدخول في الإسلامِ، ولكِنْ لا يقدرون على الجلوسِ بين يديك خوفًا وفَرَقًا وهيبةً، فقال: سعود لا بُدَّ من إقبالهم عندي، فشفَعَ براك برؤساء المسلمين على سعودٍ يرحَلُ عنهم، وقال لسعود: إذا رحلت عنهم أخرجوا عنهم زيدَ بن عريعر وأتباعه، ووفَدوا عليك وبايعوك فرحل سعود قافلًا إلى الدرعية، وركب براك إلى أهلِ الأحساءِ، فلما وصل إليهم نابذوه ونقضوا ما بينهم وبينه، وقاتَلوه واستمَرُّوا على أمرهم، فأرسل إليه فريق السياسب وأدخلوه المبرز، وكان أولاد عريعر في الجفر والجشة، فحصل بينهم وبين السياسب وأتباعهم قتالٌ شديد، فهرب أولادُ عريعر من الأحساء، وقصدوا البصرة والزبير وسكنوا فيه، واستولى على الأحساء من جهة الإمام عبد العزيز براكُ بن عبد المحسن وبايعوه على السمع والطاعة, وكتب إليه عبد العزيز أنه يجلي من الأحساءِ رؤساء الفتن: محمد بن فيروز، وأحمد بن حبيل، ومحمد بن سعدون، فأخرجهم براك منها، ودخل أهلُ الأحساء في طاعة براك، وصار أميرًا نائبًا للإمامِ عبد العزيز سامعًا مُطيعًا. وبزوال ولاية زيدِ بن عريعر عن الأحساء زالت ولاية آل حميد عن الأحساء ونواحيها؛ لأن ولاية براك هذه كانت للإمامِ عبد العزيز بن محمد بن سعود وتابعةً لدولة الدرعية.
سيَّر سلمان باشا والي العراق العساكِرَ الكثيرة من العراق والأكراد والمحمرة، ومعهم من البوادي عُربان المنتفق مع رئيسِهم حمود بن ثامر، وعُربان آل بعيج، والزقاريط وآل قشعم، وجميع بوادي العراق، وعربان شمر والظفير، وسار معه أهل الزبير وما يليهم، وجعل على قيادةِ الحملة وزيره علي كيخيا، واتفق له قوةٌ هائلة من المدافع والقنابر وآلات الحروب، واجتمع معه جموع كثيرة، حتى قيل إنَّ الخيل الذي يعلَّقُ عليها ثمانية عشر ألف, فسار علي كيخيا بجميع تلك الجموع وقصد الأحساءَ، فلما نزل فيها تابعَه أهلُ المبرز والهفوف وقرى الشرق وجميع نواحيه، ونقضوا العهدَ مع دولة الدرعيَّة, وامتنع على حملةِ علي كيخيا قصر الصاهود بالمبرز وحصْن الهفوف، فزحف بجنوده على قصرِ الصاهود وحاصره شهرين، وبذل كُلَّ الأسباب لفتحِ بسوق الأبطال والرمي المتواصِلِ بالمدافع والقنابر، وحفر حفرًا في السورِ ملأها بالبارود، ثمَّ ثوَّرها عليهم دون طائلٍ حتى وقع فيهم الفشلُ، ولم يكن في داخل هذا القصر إلَّا 100 رجل أكثَرُهم من نجد مع سليمان بن محمد بن ماجد الناصر من أهل ثادق، وكان يتصف بالشجاعة فثبت هو ومن معه ولم يعطُوا الدنيَّةَ لعدُوِّهم حتى بطَلَ كَيدُهم ووقع في قلوبِ الكيخيا وعساكره الملَلُ والتخاذل, فارتحلوا راجعين وتركوا الأحساءَ، وانهزم معهم أهلُ الأحساء الخائنون الذين نقضوا العهد، وتركوا محالَّهم وأمتعتَهم وأموالهم، وقيل: لَمَّا أراد الكيخيا ومن معه الارتحال جمعوا سلالِمَهم وزحَّافات الخشب والجذوع التي أعدوها لحفر الحفر والجدران، وشيئًا من خيامهم ومتعهم وطعامهم وأشعلوا فيه النيران. أما الذين امتنعوا على الكيخيا في قصر الهفوف فرئيسُهم إبراهيم بن عفيصان لم يقع عليهم حصارٌ، ولكن حاولوا مرارًا عديدة لفتحِه ولم يحصلوا على طائلٍ, وكان الأميرُ سعود قد سار بأهل نجدٍ من البادي والحاضر وقصد الأحساءَ، فلما عَلِمَ برجوع الكيخيا رحل من مكانِه, ونزل على ثاج الماء المعروف في ديار بني خالد، فجمع اللهُ بينه وبين الكيخيا على غير ميعادٍ، فنزل الكيخيا الشباك ماء قريب من ماء ثاج, فجرى بينهم محاولة خيل وطراد، وأقاموا على ذلك أيامًا، ثم ألقيَ في قَلبِ الكيخيا وجنودِه الرعبُ ووقع فيهم الفشَلُ وطلبوا الصلح، وأنَّ كُلًّا من الفريقين يرحل على عافية وحقن دماء. وصالحهم سعود على ذلك وارتحلوا إلى أوطانِهم، ثم رحل سعودٌ ونزل الأحساء ورتَّب حصونَه وثغوره، وأقام فيه قريبًا من الشهرين، واستعمل فيه أميرًا سليمان بن محمد بن ماجد الناصر، ثم رحل سعود إلى وطنِه قافلًا.
كان الآشوريون -وهم نصارى نساطرة- يقيمون في ولاية "وان" شرقيَّ الأناضول، وعاشوا تحت ظِلِّ الدولة الإسلامية آمنينَ على دمائِهم وأعراضِهم وأموالِهم، فلما اندلعت الحربُ العالمية الأولى، واستولى الروسُ على "وان" أغرَوا الآشوريِّينَ بالتمَرُّد على العثمانيين، وأمدُّوهم بالمالِ والسلاح، ولَمَّا انسحبت روسيا من "وان" بعد قيام الشيوعيَّةِ وجدت الدولةُ العثمانيةُ نفسَها مضطرةً للفَتكِ بهم؛ لِمَا أظهَروه من الخيانة والتمرُّدِ والقتل، ففَرَّ مَن استطاع منهم إلى إيران، ثمَّ عَمِلت بريطانيا على نقلِهم إلى العراق وأقاموا لهم مخيَّمات في ديالي وبعقوبة، ثم قاموا في العراق بإحداثِ عِدَّةِ فِتَن، منها فتنة سوق العتمة في محرم 1342 / 15 آب 1923م، وأخرى في رمضان من نفس العام، وهمَّت القبائل بالفتكِ بهم، فحمتهم بريطانيا، وألزمت الحكومة بإعطائهم الأراضيَ وإعفائِهم من الضرائِبِ، فأخذوا أكثَرَ ممَّا يستحقون، وعُين الضابط الإنجليزي فايكر لإسكانهم وله مطلقُ الحرية، ثم جاء إلى العراق نقيبٌ إنجليزي يُدعى هرمز رسام ادَّعى أنه نسطوري أصلُه من الموصِل، فأخذ يتجوَّلُ بين النساطرة الآشوريين ويحَرِّضُهم على طلب الانفصال عن العراق، وأسَّس جمعية لجنة إنقاذ الأقليات العراقية غير المسلِمة، وحاول الآشوريون عرقلةَ دخول العراق للأمَمِ المتحدة؛ لأنَّ بريطانيا ستتخلَّى عنهم حينَها، فأصبح بطريق الآشوريين "مار شمعون" يطالِبُ بسلطةٍ واسعةٍ على قومِه إداريًّا، ودعا قومَه للتمَرُّد، واستدعت الحكومةُ العراقية مار شمعون ونصحَتْه بالكَفِّ عن هذه الأفكارِ، فلم يمتَنِعْ، فمُنِعَ من العودة للمَوصِل؛ مما أثار الأوساطَ النصرانية كافةً، وكان الملك فيصل في لندن فأبرق منها بالسَّماحِ له بالعودة دون قيودٍ؛ وذلك بناءً على طلب بريطانيا منه ذلك، ولكِنَّ الحكومة لم تستجبْ ودُعِيَ بعض وجوه الآشوريين لعَقدِ مؤتمر، ولكن الآشوريين أعلنوا أنهم يريدون الانتقالَ إلى سوريا تحت حماية فرنسا، فانتقل ما يقارب من 1350 رجلًا، وأخبرت العراق فرنسا أنَّها لا تسمح بعودةِ أيِّ رجل من هؤلاء، إلَّا أن الفرنسيين أعلموا الحكومةَ العراقية في 11 ربيع الثاني 1352هـ أنهم قرَّروا إعادتهم، فأعادوهم بالسلاحِ، وبدؤوا التحرُّكَ للعراق فلاقَتْهم القوات العراقية فحصل اشتباكٌ قُتِلَ من الآشوريين ما يزيدُ على الألف، وقام النساطرة في الداخل باعتداءاتٍ على السكَّان، واضطر الملكُ فيصل للعودة من أوربا، وحاولت عُصبةُ الأمم التدخُّلَ، واندلعت الثورةُ الآشورية في عمومِ العراق في 14 من ربيع الثاني، فتشَكَّلت الوفودُ واللجان العالمية وكَثُرت الاحتجاجات وترجيات الأُمَم؛ لاستقبال المظلومين، وكل ذلك بدافع العصبية الدينية النصرانية، حتى انتهت أزمتُهم بحماية إنجلترا لهم، وإعادة تسكينِهم وتعويضِهم.
قام فرحات عباس زعيم حزب اتحاد الشعب الجزائري بتقديم بيانٍ إلى السلطات الفرنسية يطالبون فيه بحث تقرير المصير, إلَّا أن فرنسا رفضت واعتقلت فرحات عباس، ولم يمضِ وقتٌ طويل حتى استغلت فرنسا قيامَ بعض المظاهرات في عددٍ من المدن الجزائرية وإحراقها للعَلَم الفرنسي حتى ارتكبت مذبحةً رهيبة سقط فيها 45 ألف قتيل جزائري، وكان ذلك تحولًا في كفاح الجزائريين من أجلِ الحرية والاستقلال؛ فتشَكَّلت لجنة سرية من اثنين وعشرين عضوًا، وفوضت محمد بوضياف لاختيارِ قيادة لعمل منظم سري، فشكَّلَها من تسعة أعضاء وعُرِفَت باللجنة الثورية للوَحدةِ والعمل، وارتحل ثلاثة منهم للتنسيق مع أحزاب المغرب وتونس من أجل الثورة في البلاد كلِّها جميعًا، ومن أجل الدعم، وحُدِّد يوم 1 نوفمبر 1954م موعدًا لبدء الثورة الجزائرية الحاسمة -وهو يصادف عيد القديسين عند الفرنسيين- وفوجئت السلطات الاستعماريةُ الفرنسية بوقوعِ سلسلة من الهجمات المسلَّحة شَنَّها الثوار الجزائريون على المنشآت والمراكز العسكرية الفرنسية في كامل أنحاءِ البلاد، وكان ذلك إيذانًا ببداية حرب طويلة الأمد استمَرَّت سبع سنوات ونصف، وقد بادرت جبهةُ التحرير الجزائرية باستعدادها لمفاوضة فرنسا من أجلِ وقف القتال, بعد أن بلغ الشهداءُ أكثر من مليون شهيد، لكِنَّ فرنسا رفضت تلك المبادرة، وزادت قواتِها الاستعمارية إلى أكثر من نصف مليون مقاتل، وقامت بأحدَ عَشَرَ هجومًا ضخمًا واسِعَ النطاق؛ العمل الذي عُرف بمشروع شال. فزاد جيش التحرير الجزائري قواتِه إلى أكثر من 120 ألف مجاهد. وامتَدَّت عملياته إلى الأراضي الفرنسية؛ حيث تم تدمير مستودعات بترولية ضخمة. استطاعت فرنسا اختطافَ طائرة مغربية على مَتنِها أربعة قواد من قادة الثورة الجزائرية، وهم: حسين آيات أحمد، وأحمد بن بله، ومحمد خضير، ومحمد بو ضياف، فأصبحت القضيةُ الجزائرية مُعضِلةً، ومِن أضخم المشكلات الدولية، وتعدَّدت مناقشاتها في الأمم المتحدة، واكتسبت تعاطفًا دوليًّا متزايدًا على حساب تآكُلِ الهيبة الفرنسية عسكريًّا وسياسيًّا واقتصاديًّا، وتشكَّلت حكومة جزائرية مؤقتة في 19 سبتمبر 1958م برئاسة عباس فرحات، ولم يمضِ شهر واحد على تشكيلها حتى اعترفت بها 14 دولة. وفي نوفمبر 1959م أعلن الرئيس الفرنسي ديجول عن قبول فرنسا للمفاوضاتِ، فأعلنت الحكومة الجزائرية المؤقتة أنَّها كلفت الزعماء الجزائريين المختطَفين في فرنسا بإجراءِ المفاوضات حولَ تقرير المصير، فرفض ديجول هذا المقتَرَح. في مارس 1962م تم الاتفاقُ على إيقاف إطلاق النار بين الجيش الفرنسي وجبهة التحرير الجزائرية, ثم جرى استفتاء في 1 يونيو 1962م على استقلال الجزائر جاءت نتيجته 97.3% لمصلحة الاستقلال. وأُعلِنَ الاستقلال في 5 يونيو من نفس العام, وقامت الدولةُ الجزائرية برئاسة يوسف بن خده.
هو عبد السلام محمد عارف الجميلي: ثاني رؤساء العراق بعد سقوطِ المَلَكيَّة وقيام الجمهورية العراقية، وقد وُلِدَ في مدينة "حديثة" على نهر الفرات في أسرة فقيرة، ثم انتقل مع أسرته إلى بغداد والتحق بالمدارس الحكومية، ثم دخل الكليةَ الحربيَّةَ وتخرَّج منها برتبة ملازم، ثم اشترك في حربِ فلسطين، وقابل هناك عبدَ الكريم قاسم، وانضمَّ عن طريقه إلى اللجنة المركزية للثورة العراقية، وقام بدورٍ كبير في الثورة على المَلَكية في ذي الحجة سنة 1377هـ؛ حيث قاد اللواءَ العشرين ببغداد، واستولى على مبنى الإذاعة وأصدر بيانَ الثورة، وأعلن قيامَ الجمهورية؛ ولذلك كان يُعِدُّ نفسَه القائدَ الفعليَّ للثورة، وقد تمَّ تعيينُه نائبًا للرئيس عبد الكريم قاسم. أصبح عبد السلام عارف رئيسًا للعراق سنة 1382هـ بعد خلافاتٍ شديدة مع عبد الكريم قاسم انتهت بمقتل قاسم بعد سلسلةٍ من المظاهرات والاضطرابات ضِدَّ حُكمِه، كان عبدُ السلام عارف ذا مُيولٍ أخلاقيَّة إسلامية، ولكنَّه كان شديدَ الانبهار بالرئيس المصري جمال عبد الناصر، وكان يرى وجوبَ الانضمامِ إلى مصر على نمطِ الاتحاد المصري السوري، فلما تولى الرياسةَ نظَّم الحكمَ على النَّمَطِ النَّاصري؛ مما أثار عليه حزبَ البعث والأحزاب الشيوعية، ثم زادت الأمورُ اضطرابًا بعد فشل الاتحاد بين مصر وسوريا؛ بسبب حزبِ البعث السوري، فبَطَش عارف بالبعثيين في العراق لإرضاء عبد الناصر، ثم أخذ في إرساءِ قواعد الوَحدة بين مصر والعراق، وحضر حفلَ تدشين بناء السد العالي سنة 1384ه، وبدأ في تنظيمِ الدستور العراقي بصورةٍ تشبه لحدٍّ كبيرٍ الدستورَ المصري، وأمَّم المصارِفَ والصناعات الكبرى، ولكنَّه قام أيضًا بإلغاء الأحكامِ العرفيَّة، والمحاكم العسكرية، وأطلق سراحَ المعتقلين السياسيين. بعد ذلك أخذ الخلافُ يظهر بين أتباع الحزب الناصري الذين يريدون الوَحدةَ مباشرةً دون دراسةٍ والخضوعَ التامَّ لعبد الناصر، وبين عبد السلام عارف الذي لم يقبَلْ بالوحدة، وحاول الناصريونَ الانقلابَ على عارف أثناء وجوده في مؤتمر القمة العربية بالدار البيضاء سنة 1385هـ، وطلب جمال عبد الناصر من عبد السلام عارف العفوَ عن المتآمرين وقادةِ الانقلاب، ولكنَّ عارفًا رفض بشدة، ثم زادت الشُّقَّةُ بين الرجلين وشعر عبد الناصر بأنَّ عارفًا لم يكن يومًا من أتباعِه أو أنصارِه. وفي يوم 23 من ذي الحجة سنة 1385هـ وأثناء رحلة داخلية لعبد السلام عارف بالطائرة الهليكوبتر وعند قرية «القرنة» قرب البصرة انفجرت الطائرةُ بسبب قنبلةٍ وُضِعَت فيها، ليلقى عبد السلام عارف ورفاقُه مصرعَهم في الحال، وقد أذاعت الحكومةُ العراقيَّةُ أنَّ سَبَبَ الحادثة العواصِفُ الرَّعديةُ! وهكذا انتهت حياتُه بصورةٍ غامضة.
هو الإمامُ العلامة كمال الدين محمد ابن الشيخ همام الدين عبد الواحد ابن القاضي حميد الدين عبد الحميد ابن القاضي سعد الدين مسعود الحنفي السيرامي الأصل المصري المولد والدار والوفاة، المشهور بابن الهمام، ولد سنة 790 بالإسكندرية ومات أبوه وكان قاضي الإسكندرية وهو ابن عشر أو نحوها، فنشأ في كفالة جدته لأمه، وكانت مغربية خيِّرة تحفظ كثيرًا من القرآن وقدم بصحبتها القاهرة فأكمل بها القرآن عند الشهاب الهيثمي وتلاه تجويدًا على الزراتيتي، وبالإسكندرية على الزين عبد الرحمن الفكيري، وكان شيخه يصفه بالذكاء المفرط والعقل التام والسكون، وحَفِظَ مختصر القدوري والمنار والمفصَّل للزمخشري وألفية النحو، ثم عاد بصحبتها أيضًا إلى الإسكندرية فأخذ بها النحو عن قاضيها الجمال يوسف الحميدي الحنفي، وقرأ في الهداية على الزين السكندري، وفي المنطق على العز عبد السلام البغدادي والبساطي، وعنه أخذ أصول الدين وقرأ عليه شرح هداية الحكمة لملا زادة, ولم يبرح عن الاشتغال بالمعقول والمنقول حتى فاق في زمن يسير أقرانه, وأشير إليه بالفضل التام والفطرة المستقيمة، بحيث قال البرهان الأبناسي أحد رفقائه حين رام بعضهم المشي في الاستيحاش بينهما: "لو طلبت حجج الدين ما كان في بلدنا من يقوم بها غيره. ثم قال: وشيخنا البساطي وإن كان أعلم، فالكمال أحفظ منه وأطلق لسانًا، هذا مع وجود الأكابر إذ ذاك، بل أعلى من هذا أن البساطي لما رام المناظرة مع العلاء البخاري بسبب ابن الفارض ونحوه قيل له: من يحكم بينكما إذا تناظرتما، فقال: ابن الهمام لأنه يصلح أن يكون حَكَم العلماء" وقال يحيى بن العطار: "لم يزل يُضرَب به المثل في الجمال المفرد مع الصيانة وفي حسن النغمة مع الديانة، وفي الفصاحة واستقامة البحث مع الأدب" واستمر يترقى في درج الكمال حتى صار عالِمًا مفننًا علَّامة متقنًا، درَّس وأفتى وأفاد، وعكف الناس عليه، واشتهر أمره وعظُم ذِكرُه، قال شمس الدين السخاوي: "فقد كان إمامًا علامة عارفًا بأصول الديانات والتفسير والفقه وأصوله، والفرائض والحساب، والتصوف والنحو والصرف والمعاني والبيان، والبديع والمنطق والجدل والأدب والموسيقى، وجُل علم النقل والعقل، متفاوت المرتبة في ذلك, ومع قلة علمه في الحديث فهو عالم أهل الأرض ومحقِّق أولي العصر حُجة أعجوبة ذا حجج باهرة واختيارات كثيرة وترجيحات قوية, وقد تخرج به جماعة صاروا رؤساء في حياته، فمن الحنفية التقي الشمس والزين قاسم وسيف الدين، ومن الشافعية ابن خضر والمناوي. ومن المالكية عبادة وطاهر والقرافي, ومن الحنابلة الجمال بن هشام. وهو أنظَرُ من رأيناه من أهل الفنون ومن أجمعهم للعلوم وأحسنهم كلامًا في الأشياء الدقيقة وأجلدِهم على ذلك مع الغاية في الإتقان والرجوع إلى الحق في المباحث ولو على لسان آحاد الطلبة، كل ذلك مع ملاحة الترسل وحسن اللقاء والسمت والبِشر والبزَّة ونور الشيبة وكثرة الفكاهة والتودد والإنصاف وتعظيم العلماء، والإجلال لتقي الدين ابن تيمية وعدم الخوض فيما يخالف ذلك، وعلو الهمة وطيب الحديث ورقة الصوت وطراوة النغمة جدًّا, وسلامة الصدر وسرعة الانفعال والتغير والمحبة في الصالحين وكثرة الاعتقاد فيهم والتعهد لهم والانجماع عن التردد لبني الدنيا حتى الظاهر جقمق مع مزيد اختصاصه به، ولكنه كان يراسله هو ومن دونه فيما يسأل فيه" وقد حجَّ غير مرة وجاور بالحرمين مدة، وشرب ماء زمزم- كما قاله في شرحه للهداية- للاستقامة والوفاة على حقيقة الإسلام معها. ونشر في الحرمين علمًا جمًّا, وعاد في رمضان سنة ستين وهو متوعِّك فسُرَّ المسلمون بقدومِه وعكف عليه من شاء الله من طلبته وغيرهم أيامًا من الأسبوع إلى أن مات في يوم الجمعة سابع رمضان، ودفِنَ من يومه، وصُلِّيَ عليه عصرًا بمصلى المؤمني، وكانت جنازته مشهودة، شهده السلطانُ فمَن دونه، قدِمَ للصلاة عليه قاضي مذهبه ابن الديري، ودُفِنَ بالقرافة في تربة ابن عطاء الله، ولم يخلف بعده في مجموعه مثله. وله مصنفات أشهرها فتح القدير في الفقه الحنفي، وله التحرير في أصول فقه الأحناف، وغيرها من المصنفات.
هو العلَّامة الفقيهُ المجتهدُ الربَّاني الحنفي، أبو الهذيل زُفَر بن الهذيل بن قيس بن سلم وُلد سنة 110 في العراق. وكانت أسرة زُفر على جانبٍ مِن سَعة الرزق وبُحبوحة العيش، وهو ما ساعَده على الانصراف إلى طلب العلمِ دون أن يشغَلَ نفسَه بأعباءِ الحياة، فحَفِظَ القرآنَ صغيرًا واستقام به لسانُه، وتفتَّحَت مواهِبُه واستعَدَّت لطلب العلم، ومالت نفسُه ورَغِبَت في تلقِّي الحديثِ النبوي، فتردَّدَ على حلقاتِه واتصل بشيوخِه الأبرار، وفي مقدِّمتِهم محدِّث الكوفة سليمان بن مهران المعروف بالأعمش، ويحيى بن سعيد الأنصاري، وسعيد بن أبي عَروبة، وإسماعيل بن أبي خالد، ومحمد بن إسحاق، وأيوب السختياني في أصبهان. ثم ذهب إلى أصبهان مع والده، في خلافة الوليد بن يزيد بن عبد الملك، وكان أبوه قد تولَّى أمرَ أصبهان، وفي الفترة التي أقامها زُفَرُ في أصبهان أخذ عن عُلَمائها ومحدِّثيها المشهورين، حتى أصبحَ حافظًا مُتقنًا، وثِقةً مأمونًا. ولَمَّا رسخت قدمه في السُّنَّة أقبل عليه طلابُ العِلمِ يتعلَّمون على يديه، ويروونَ عنه أحاديثَ رَسولِ الله صلى الله عليه وسلم، ومن أشهَرِ هؤلاء: أبو نُعَيم الأصبهاني، وحسان بن إبراهيم، وأكثم بن محمد، وعبد الله بن المبارك، ووكيع بن الجرَّاح، وخالد بن الحارث. وكان زُفَرُ محدِّثًا بصيرًا وخبيرًا بفنون الحديثِ، وناقدًا دقيقًا، ويصف أبو نُعَيم ذلك بقوله: "كنتُ أعرِضُ الحديثَ على زُفَر، فيقول هذا ناسِخٌ وهذا منسوخ، وهذا يؤخَذُ به وهذا يُرفَض". وبلغ من سَعةِ عِلمِه وتمكُّنه من فنون الحديث وقدرتِه على التمييز بين درجاتِ الحديث من حيثُ الصِّحةُ والضَّعفُ أنه كان يقول للحافظ أبي نعيم: "هاتِ أحاديثَك، أُغَرْبِلْها لك غَربلةً"، ولَمَّا عاد إلى الكوفة وكانت تموجُ بحلقاتِ العلماء، استأنف اتصالَه بكبار الأئمة، وانتظم في حلقاتِهم، ونهَل من عِلمِهم، حتى اتَّصل بأبي حنيفة النعمان، وكان قد انتهت إليه رئاسةُ الفِقه في العراقِ، واتَّسَعت شهرتُه، فلازمه ملازمةً لصيقةً، حتى غلب عليه الفقهُ وعُرِفَ به، فقيل: "كان صاحِبَ حديثٍ، ثم غلَبَ عليه الفِقهُ". ويذكرُ أبو جعفر الطحاوي أنَّ سبب انتقال زُفَر إلى حلقةِ أبي حنيفةَ مسألةٌ فقهيَّةٌ أعيَتْه وأعيَتْ أصحابَه من المحدِّثين، وعجزوا عن حَلِّها، فلما أتى بها إلى أبي حنيفة أجابه إجابةً شافيةً، فكان ذلك أحدَ الأسبابِ التي دفعت بزُفَرَ إلى الاشتغالِ بالفقه والإقبال عليه، فالتزم أبا حنيفةَ أكثر من عشرين سنة، ووجد فيه الفَهمَ العميقَ والفِكرَ السَّديد، ومالت نفسُه إليه. ولَمَّا توفِّي أبو حنيفة النعمان خلَفَه في حلقتِه زُفَرُ بن الهذيل بإجماعِ تلامذةِ الإمام دونَ مُعارضةٍ، وقد رفض منصِبَ القضاء حين عُرِضَ عليه، وظل منقطعًا إلى العِلمِ، وقد توفِّيَ وهو في الثامنة والأربعين. قال الذهبي: ذكَره يحيى بن مَعين، فقال: ثقةٌ مأمون
سار طغرلبك إلى خوارزم فحصرها وملكها واستولى عليها، وانهزم شاه ملك بين يديه، واستصحَبَ أموالَه وذخائِرَه، ومضى في المفازةِ إلى دهستان، ثم انتَقَل عنها إلى طبس، ثمَّ إلى أطراف كرمان، ثمَّ إلى عمال التيز ومكران، فلمَّا وصَلَ إلى هناك عَلِمَ خلاصَه ببُعدِه، وأمِنَ في نفسه، ثمَّ خرجَ طغرلبك من خراسانَ إلى الريِّ بعد فراغِه مِن خوارزم، وجرجان، وطبرستان، فلمَّا سَمِعَ أخوه إبراهيمُ ينال بقدومِه سار إليه فلَقِيَه، وتسَلَّم طغرلبك الريَّ منه، وتسَلَّمَ غيرَها من بلد الجبل وسار إبراهيمُ إلى سجستان، وأخذ طغرلبك أيضًا قلعةَ طبرك من مجدِ الدَّولة بن بُوَيه، وأقام عنده مُكَرَّمًا، وأمَرَ طغرلبك بعمارةِ الرَّيِّ وكانت قد خَرِبَت، ثمَّ ساروا إلى قزوين، فامتنعَ عليه أهلُها، فزحف إليهم ورماهم بالسِّهامِ والحجارة، فلم يَقدِروا أن يَقِفوا على السورِ، وقُتِلَ مِن أهل البلد برشق، وأخذ ثلاثَمِئَة وخمسين رجلًا، فلمَّا رأى كامرو ومرداويج بن بسو ذلك خافوا أن يملِكَ البلد عَنوةً ويَنهَب، فمنعوا الناسَ مِن القتال، وأصلحوا الحالَ على ثمانينَ ألف دينار، وصار صاحبُها في طاعته، ثمَّ إنه أرسل إلى كوكتاش وبوقا وغيرهما من أمراء الغز، الذين تقَدَّم خروجُهم، يُمَنِّيهم ويدعوهم إلى الحضورِ في خدمته، وأرسل طغرلبك إلى ملك الديلمِ يدعوه إلى الطاعة، ويطلُبُ منه مالًا، ففعل ذلك، وحَمَل إليه مالًا وعُروضًا، وأرسل أيضًا إلى سلار الطرم يدعوه إلى خدمتِه، ويطالبُه بحمل مِئَتي ألفِ دينار، فاستَقَرَّ الحالُ بينهما على الطاعةِ وشَيءٍ مِن المال. وأرسلَ سَريَّةً إلى أصبهان، وبها أبو منصور فرامرز بن علاء الدَّولة، فأغارت على أعمالِها وعادت سالِمةً، وخرج طغرلبك من الريِّ، وأظهر قصدَ أصبهان، فراسلَه فرامرز، وصانَعَه بمالٍ، فعاد عنه وسار إلى همذان فمَلَكَها من صاحِبِها كرشاسف بن علاء الدَّولة، ثمَّ عاد إلى الريِّ، واستناب بهمذان ناصرًا العَلويَّ، وسَيَّرَ طغرلبك طائفةً من أصحابِه إلى كرمان مع أخيه إبراهيم ينال، بعد أن دخل الريَّ، وقيل إنَّ إبراهيمَ لم يقصِدْ كرمان، وإنَّما قصد سجستان، وكان مُقَدَّم العساكِرِ التي سارت إلى كرمان غيره، فلما وصلوا إلى أطراف كرمان نَهَبوا، ولم يُقدِموا على التوغُّلِ فيها، فلم يَرَوا من العساكِرِ مَن يَكُفُّهم، فتوسَّطوا ومَلَكوا عِدَّةَ مواضعَ منها ونَهَبوها، فبلغ الخبَرُ إلى الملك أبي كاليجار، صاحِبِها، فسَيَّرَ وزيرَه مُهذَّب الدَّولة في العساكِرِ الكثيرة، فخرجت الغزُّ إلى الجِمالِ والبغال والميرة ليأخُذوها، وسَمِعَ مهذَّب الدَّولة ذلك، فسيَّرَ طائفةً مِن العسكر لمنعِهم، فتواقعوا واقتَتلوا، وتكاثرَ الغز، فسَمِعَ مُهَذَّب الدَّولة الخبَرَ، فسار في العساكِرِ إلى المعركة، وهم يقتَتِلون، وقد ثبَتَت كل طائفة لصاحبتِها واشتَدَّ القتال، فلما وصل مهذَّب الدَّولة إلى المعركة انهزم الغُزُّ وتركوا ما كانوا ينهَبونَه، ودخلوا المفازةَ، وتَبِعَهم الديلم إلى رأسِ الحدِّ، وعادوا إلى كرمان فأصلحوا ما فسَدَ منها.
لما فرغ الفرنجُ من إصلاح أمْرِ عكا، ساروا مستهلَّ شعبان نحو حيفا مع شاطئ البحر لا يفارِقونَه، فلما سمع صلاح الدين برحيلِهم نادى في عسكره بالرحيلِ، فضايقوا الفرنج في مسيرِهم، وأرسلوا عليهم مِن السهام ما كاد يحجُبُ الشمس، ووقعوا على ساقةِ الفرنج، فقتلوا منها جماعةً، وأسَروا جماعةً، وأرسل الأفضَلُ بن صلاح الدين إلى والِدِه يستَمِدُّه ويُعَرِّفُه الحال، فأمر صلاح الدين العساكِرَ بالمسير إليه، فاعتذروا بأنَّهم ما ركبوا بأُهبةِ الحَربِ، وإنما كانوا على عَزمِ المسيرِ لا غير، فبَطَل المددُ وعاد مَلِك الإنكليز إلى ساقة الفرنج، فحماها، وجَمَعَهم، وساروا حتى أتوا حيفا، فنَزَلوا بها، ونزل المسلمونَ لِيُقيموا في قرية بالقرب من الفرنج، وأحضر الفرنجُ مِن عكا عِوَض من قُتِلَ منهم وأُسِرَ ذلك اليوم، وعِوَضَ ما هلك من الخيل، ثم ساروا إلى قيسارية، والمسلمون يسايرونَهم ويتخَطَّفون منهم مَن قَدَروا عليه فيَقتُلونه، لأن صلاح الدين كان قد أقسم أنَّه لا يظفَرُ بأحدٍ منهم إلا قَتَلَه بمن قَتَلوا بعكا، فلما قاربوا قيسارية لاصقهم المسلمون، وقاتلوهم أشدَّ قتال، فنالوا منهم نيلًا كثيرًا، ونزل الفرنجُ بها، وبات المسلمون قريبًا منهم، فلما نزلوا خرجَ من الفرنج جماعةٌ فأبعدوا عن جماعتِهم، فأوقع بهم المسلمون الذين كانوا في اليزك – المقَدِّمة- فقتلوا منهم وأسروا، ثم ساروا من قيساريَّة إلى أرسوف، وكان المسلمونَ قد سبقوهم إليها، ولم يُمكِنْهم مسايرة الفرنج لضِيقِ الطريق، فلما وصل الفرنجُ إليهم حمل المسلمون عليهم حملة منكرة وألحقوهم بالبحر، ودخله بعضُهم فقُتِل منهم كثير، فلما رأى الفرنجُ ذلك اجتمعوا، وحملت الخيَّالة على المسلمين حملةَ رجل واحد، فوَلَّوا منهزمين، فلما انهزم المسلمون عنهم قُتِلَ خلق كثير، والتجأ المنهزمون إلى القلب، وفيه صلاحُ الدين، وكان بالقُربِ من المسلمين روضةٌ كثيرة الشجر، فدخلوها وظَنَّها الفرنج مكيدةً، فعادوا، وزال عنهم ما كانوا فيه من الضِّيقِ، ثم سار الفرنجُ إلى يافا فنزلوها، ولم يكُنْ بها أحد من المسلمين، فملكوها، وسار صلاحُ الدين عنهم إلى الرملة، واجتمع بأثقالِه بها، وجمع الأمراء واستشارهم فيما يفعل، فأشاروا عليه بتخريبِ عسقلان، فأمر بتخريبِها، فخُرِّبَت تاسع عشر شعبان، وأُلقِيَت حجارتها في البحر، وهَلَك فيها من الأموال والذخائر التي للسُّلطانِ والرعية ما لا يُمكِنُ حَصرُه، وعفى أثَرَها حتى لا يبقى للفرنجِ في قَصدِها مَطمَعٌ، ولَمَّا سمع الفرنج بتخريبها أقاموا مكانَهم ولم يسيروا إليها، فلما خَرِبَت عسقلان رحل صلاح الدين عنها ثاني شهرِ رمضان، ومضى إلى الرملة فخَرَّبَ حِصنَها وخَرَّب كنيسة لد، ثم سار صلاح الدين إلى القدس بعد تخريبِ الرملة، فاعتَبَرَه وما فيه من سلاحٍ وذخائر، وقرَّرَ قواعِدَه وأسبابه، وما يُحتاج إليه، وعاد إلى المخيم ثامن رمضان، وفي هذه الأيام خرج ملك الإنكليز من يافا، ومعه نفرٌ من الفرنج من معسكرهم، فوقع به نفرٌ من المسلمين، فقاتلوهم قتالًا شديدًا، وكاد ملك الإنكليز يؤسَرُ، ففداه بعضُ أصحابه بنَفسِه، فتخلَّصَ المَلِكُ وأُسِرَ ذلك الرجُل.
في سنةِ سبع وتسعين مَلَك غياث الدين وأخوه شهابُ الدين ما كان لخوارزم شاه محمَّد بنِ تكش بخراسان ومرو ونيسابور وغيرها، وعادا عنها بعد أن أقطعا البلادَ، فلمَّا بلغ خوارزم شاه خبَرُ عودة العساكر الغوريَّة عن خراسان، ودخول شهاب الدين الهندَ، أرسل إلى غياثِ الدين يعاتِبُه ويُهَدِّدُه، فغالَطَه غِياثُ الدين في الجواب لتمديدِ الأيامِ بالمُراسلاتِ، ويخرج أخوه شهاب الدين من الهند بالعساكِرِ؛ فإن غياث الدين كان عاجزًا بسَبَبِ إصابته بداء النقرس، فلما وقفَ خوارزم شاه على رسالة غياث الدين أرسَلَ إلى علاء الدين الغوري، نائب غياث الدين بخراسان، يأمُرُه بالرحيل عن نيسابور، ويتهَدَّدُه إن لم يفعل، فكتب علاء الدين إلى غياث الدين بذلك، ويُعَرِّفُه ميل أهلِ البلد إلى الخوارزميين، فأعاد غياث الدين جوابَه يقوِّي قَلْبَه، ويَعِدُه النصرةَ والمنع عنه، وجمع خوارزم شاه عساكِرَه وسار عن خوارزم نصفَ ذي الحجة سنة 597، ومَلَك خوارزم شاه مدينةَ مرو، وسار إلى نيسابور وبها علاء الدين، فحصره، وقاتله قتالًا شديدًا، وطال مقامُه عليها، وراسله غيرَ مَرَّة في تسليم البلد إليه، وهو لا يُجيبُ إلى ذلك انتظارًا للمَدَدِ مِن غياث الدين، فبقي نحو شهرين، فلما أبطأ عنه النجدة أرسل إلى خوارزم شاه يطلُبُ الأمانَ لِنَفسِه ولمن معه من الغوريَّة، وأنه لا يتعَرَّضُ إليهم بحَبسٍ ولا غيره من الأذى، فأجابه إلى ذلك، وحَلَف لهم، وخرجوا من البلد وأحسَنَ خوارزم شاه إليهم، ووصَلَهم بمال جليل وهدايا كثيرة، وطلب من علاء الدين أن يسعى في الصُّلحِ بينه وبين غياث الدين وأخيه، فأجابه إلى ذلك. ثم سار خوارزم شاه إلى سرخس، وبها الأمير زنكي، فحصره أربعين يومًا، وجرى بين الفريقينِ حروبٌ كثيرة، فضاقت الميرةُ على أهل البلد، لا سيما الحَطَب، فأرسل زنكي إلى خوارزم شاه يطلُبُ منه أن يتأخَّرَ عن باب البلد حتى يخرُجَ هو وأصحابه ويترك البلَدَ له، فراسله خوارزم شاه في الاجتماعِ به ليُحسِنَ إليه وإلى من معه، فلم يجِبْه إلى ذلك، واحتج بقُربِ نَسَبِه مِن غياث الدين، فأبعد خوارزم شاه عن باب البلد بعساكِرِه، فخرج زنكي فأخذ من الغَلَّات وغيرها التي في المعسكَرِ ما أراد لا سيما من الحَطَب، وعاد إلى البلد وأخرج منه من كان قد ضاق به الأمرُ، فنَدِمَ حيث لم ينفَعْه الندم؛ ورحل عن البلد، وترك عليه جماعة من الأمراء يحصرونَه، فلما أبعد خوارزم شاه سار محمَّد بن جربك من الطالقان، وهو من أمراء الغوريَّة، وأرسل إلى زنكي أمير سرخس يُعَرِّفُه أنه يريد أن يكبس الخوارزميين لئلا ينزعِجَ إذا سَمِعَ الغلبة، وسمع الخوارزميون الخبَرَ، ففارقوا سرخس، وخرج زنكي ولقِيَ محمد بن جربك وعسكر في مرو الروذ، وأخذ خراجَها وما يجاورها، فسَيَّرَ إليهم خوارزم شاه عسكرًا مع خاله، فلَقِيَهم محمد بن جربك وقاتَلَهم، فلمَّا سَمِعَ خوارزم شاه ذلك عاد إلى خوارزم، وأرسل إلى غياثِ الدين في الصلح، فأجابه عن رسالتِه مع أمير كبير من الغورية يقال له الحسين بن محمد المرغني، ومرغن من قرى الغور، فقبض عليه خوارزم شاه.
أخذ الملكُ الصالحُ نجمُ الدين أيوب صاحِبُ مصر دمشقَ بعد أن حاصرها بمساعدةِ الخوارزميَّة، وكان الخوارزميَّة يظنون أنَّ السلطانَ إذا انتصر على عَمِّه الملك الصالح إسماعيل يقاسِمُهم البلادَ حتى دمشق، فلما منعوا من دمشقَ، وصاروا في الساحِلِ وغيره من بَرِّ الشام، تغيَّرت نياتُهم، واتفقوا على الخروجِ عن طاعة الملكِ الصالح نجم الدين، وساروا إلى داريا وانتهبوها، وكاتَبوا الأميرَ ركنَ الدين بيبرس وهو على غَزَّة بعسكرٍ جَيِّدٍ مِن عساكر مصر، وحَسَّنوا له أن يكونَ معهم يدًا واحدةً ويزوِّجوه منهم، فمال إليهم، وكاتبوا الناصِرَ داود صاحِبَ الكرك، فوافَقَهم ونزل إليهم واجتمع بهم وتزوَّج منهم، وعاد الناصرُ إلى الكرك واستولى على ما كان بيد الأمير حسامِ الدينِ بنِ أبي علي، من نابلس والقُدس والخليل، وبيت جبريلَ والأغوار، وخاف الصالحُ إسماعيل، فكاتب الخوارزميَّة وقَدِم إليهم، فحلفوا له على القيامِ بنُصرتِه، ونزلوا دمشقَ، فقام الأميرُ حسام الدين بن أبي علي بحفظِ البلدِ أحسَنَ قيام، وألحَّ الخوارزمية ومعهم الصالحُ إسماعيل في القتال ونهْبِ الأعمال، وضايقوا دمشقَ، وقطعوا عنها الميرةَ، فاشتَدَّ الغلاءُ بها، ومات كثيرٌ من الناس جوعًا، ثم عَدِمَت الأقواتُ بالجملة، وأكل الناسُ القِطَط والكلابَ والميتاتِ، ومات شخصٌ بالسجن فأكله أهلُ السِّجنِ! وهلك عالمٌ عظيم من الجوع والوباء، واستمر هذا البلاء ثلاثة أشهرٍ، وصار من يمُرُّ من الجبل يشتَمُّ ريحَ نتنِ الموتى، لعجز الناس عن مواراة موتاهم، وأخذ الملك الصالح نجم الدين مع ذلك في إعمالِ الحِيَل والتدبير، وما زال بالمنصور إبراهيمَ صاحب حمص حتى مال إليه، واتفق أيضًا مع الحلبيِّينَ على محاربة الخوارزميَّة، فخرج الملك الصالح نجم الدين من القاهرةِ بعساكِرِ مصر، ونزل العباسة، فوافاه بها رسلُ الخليفة، وهما محمَّد بن وجه السبع، وجمالُ الدين عبد الرحمن بن محيي الدين أبي محمد يوسف بن الجوزي في آخر شوال، ومعهما التقليدُ والتشريف الأسود: وهو عمامة سوداء وجبة وطوق ذهب، وفرس بمركوبٍ بحلية ذَهَب، فنصب المنبرَ، وصعد عليه جمال الدين عبد الرحمن محيي الدين بن الجوزي الرَّسول، وقرأ التقليدَ بالدهليز السلطاني، والملك الصالحُ نجم الدين قائم على قَدَميه، حتى فرغ من القراءة، ثم ركِبَ والملك الصالحُ نجم الدين بالتشريفِ الخليفتي، فكان يومًا مشهودًا، وكان قد حضر أيضًا من عند الخليفة تشريفٌ باسم الصاحب معين الدين بن شيخ الشيوخ، فوجد أنه قد مات، فأمر السلطانُ أن يفاض على أخيه الأميرِ فخرِ الدين يوسف بن شيخ الشيوخ، فلبسه، فلما بلغ الخوارزميَّةَ مسيرُ السلطان من مصر، ومسير الملك المنصور إبراهيم صاحِب حمص بعساكر حلب، رحلوا عن دمشق يريدون لقاء المنصورِ، فوجد أهلُ دمشق برحيلهم فَرَجًا، ووصلت إليهم الميرةُ، وانحلَّ السِّعرُ.