هو السُّلطانُ الملك المعز عِزُّ الدنيا والدين، أيبك التركماني، الصالحي الجاشنكير- جاشنكير متذوِّق طعام السلطان- صاحب مصر. لما قتل المماليكُ المعظَّم توران شاه، خَطَبوا لشجرةِ الدر أمِّ خليل أيامًا، وكانت تعلِّمُ على المناشير، وتأمُرُ وتنهى، ويُخطَبُ لها بالسلطنة. ولما وصل الخبَرُ بذلك إلى بغداد فبعث الخليفة المستعصم بالله من بغداد كتابا إلى مصر وهو ينكِرُ على الأمراء ويقولُ لهم: "إن كانت الرجالُ قد عَدِمَت عندكم فأعلِمونا حتى نسَيِّرَ إليكم رجلًا" فاجتمع الأمراءُ والبحرية للمشورة واتفقوا على إقامة الأمير عز الدين أيبك مقَدَّم العسكر في السلطنة ولقَّبوه بالملك المعز. كان المعزُّ أكبر الصالحية، دَيِّنًا عاقلًا ساكًنا، كريمًا تاركًا للشرب. ملكوه في أواخر ربيع الآخر سنة ثمان وأربعين، وتزوَّجَ بأم خليل، فأنِفَ من سلطنتِه جماعة، فأقاموا في الاسمِ الملك الأشرف موسى بن الناصر يوسف ابن المسعود أطسز بن السلطان الملك الكامل وله عشرُ سنين، وذلك بعد خمسة أيام، فكان التوقيع يبرز وصورته: رسم بالأمر العالي السلطاني الأشرفي والملكي المعزي. واستمَرَّ ذلك والأمور بيد المعز، وكان في المعِزِّ تُؤَدة ومداراة، ثم استقَلَّ بالملك بلا منازعة، وكسر الناصِرَ لَمَّا أراد أخذ الديار المصرية وقَتَلَ فارِسَ الدين أقطاي الجمدار- جمدار حامل ملابس السلطان- سنة ثنتين وخمسين، وخلع بعده الأشرفَ، واستقَلَّ بالملك وحده، وهو واقِفُ المدرسة المعزية بمصرَ ومجازُها من أحسن الأشياء. كان موتُه في يوم الثلاثاء الثالث والعشرين من ربيع الأول، أصبح المعز بداره ميتًا فاتَّهَم مماليكُه زوجته شجرة الدر، وقد كان عَزَم على تزوُّجِ ابنة صاحب الموصل بدر الدين لؤلؤ، فأمرت جواريها أن يمسِكنَه لها فما زالت تضربُه بقباقيبِها والجواري يَعركنَ في أنثَيَيه حتى مات وهو كذلك، وقيل بل أعدت له شجرة الدرِّ خمسةً ليقتلوه منهم محسن الجوجري، وخادمٌ يعرف بنصر العزيزي، ومملوكٌ يسمى سنجر، فلما كان يوم الثلاثاء ركب الملك المعز من الميدان بأرضِ اللوق، وصَعِدَ إلى قلعة الجبل آخِرَ النهار، ودخل إلى الحمام ليلًا، فأغلق عليه الباب محسن الجوجري، وغلام كان عنده شديدُ القوة ومعهما جماعة، وقتلوه بأن أخذه بعضُهم بأنثييه وبخناقه، فاستغاث المعز بشَجَرةِ الدر فقالت اتركوه، فأغلظ لها محسن الجوجري في القول، وقال لها: متى ترَكْناه لا يبقي علينا ولا عليك، ثم قتلوه، وأقامت الأتراكُ بعده ولَدَه عليًّا، بإشارةِ أكبر مماليكه الأمير سيف الدين قطز، ولَقَّبوه الملك المنصور، وخُطِبَ له على المنابر وضُرِبَت السكة باسمه وجَرَت الأمور على ما يختاره برأيه ورسمه، عاش المعِزُّ نيفًا وخمسين سنة، وكان قد مكث في الملك نحوًا من سبع سنين.
أهلَّ شهر جمادى الأولى والفتنة قائمة بين أمراء الدولة؛ وذلك أن الأمير يشبك هو زعيم الدولة، بيده جميع أمورها من الولاية والعزل، والنقض والإبرام، وصار له عصبة كبيرة، فأحبوا عزل الأمير إينال باي ابن الأمير قجماس ابن عم الملك الظاهر برقوق من وظيفة أمير أخور؛ وذلك أنه اختص بالسلطان لأمور؛ منها: قرابته، ثم مصاهرته إياه، فشَقَّ ذلك على عصبة يشبك، وأحبوا أن يكون جركس المصارع أمير أخور، وانقطعوا عن حضور الخدمة السلطانية عدة أيام من جمادى الأولى، فاستوحش السلطان منهم، وتمادى الحال، فتقدم السلطان إلى الأمير إينال باي أن ينزل إلى الأمراء ويصالحهم، فمنع جماعة من المماليك السلطانية إينال باي أن ينزل، وتشاجروا مع طائفة من مماليك الأمراء، واشتد ما بينهم من الشر، وأخذ كل أحد في أُهبة الحرب، وأصبحوا جميعًا يوم الأحد لابسين السلاح، وقد أعدَّ يشبك بأعلى مدرسة حسن مدافع النفط والمكاحل؛ ليرمي على الإسطبل السلطاني، ومن يقف تحت القلعة بالرميلة، ونزل السلطان من قلعة الجبل إلى الإسطبل، واجتمع عليه من أقام على طاعته من الأمراء والمماليك، وأقام مع يشبك من الأمراء المقدَّمين سبعة وأكثر المماليك الظاهرية، فأقاموا على الحصار والمراماة، من بكرة الأحد إلى ليلة الخميس سابعه، وقد أخذ أصحاب السلطان على اليشبكية المنافذ، وحصروهم والقتال بينهم مستمر، وأمرُ يشبك في إدبار، فلما كان ليلة الخميس نصف الليل، خرج يشبك بمن معه على حمية من الرميلة، ومروا إلى جهة الشام، فلم يتبَعْهم أحد من السلطانية، ونودِيَ من آخر الليل في الناس بالقاهرة الأمان والاطمئنان، ومُنِع أهل الفساد من النهب، وأما يشبك ففي مروره إلى دمشق انضم له الكثير وزُوِّد بالكثير من العدد والعتاد، وقد انضم إليهم خلق كثير، فدخلوا دمشق بكرة الثلاثاء رابع شهر رجب، فسألهم الأمير شيخ المحمودي عن خبرهم، فأعلموه بما كان، وذكروا له أنهم مماليك السلطان وفي طاعته، لا يخرجون عنها أبدًا غير أن الأمير إينال باي ثقل عنهم ما لم يقع منهم، فتغير خاطر السلطان، حتى وقع ما وقع، وأنهم ما لم يُنصَفوا منه ويعودوا لِما كانوا عليه، وإلا فأرض الله واسعة، فوعدهم بخير، وقام لهم بما يليق بهم، وكتب إلى السلطان يسأله في أمرهم، وقدمت كتب نواب الشام إلى الأمير يشبك، تَعِدُه بالأمداد، وتقويته بما يريد، وقدم عليهم الأمير نوروز والأمير دقماق، فبعث الأميران شيخ ويشبك بيشبك العثماني إلى الأمير جكم الجركسي الظاهري، يستدعيه من أنطاكية إلى دمشق، وأفرج الأمير شيخ المحمودي أيضًا عن قرا يوسف ابن قرا محمد التركماني.
إنَّ الملك الظاهر يلباي الإينالي لما تسلطن وتم أمره غطَّاه المنصب، وصار كالمذهول، ولزم السكوتَ وعدم الكلام، وضَعُف عن بتِّ الأمور، وردْع الأجلاب، بل صارت الأجلاب في أيامه كما كانت أولًا وأعظم، فلم يَحسُن ذلك ببال أحد، وصار الأمير خيربك الدوادار الثاني هو صاحب الحل والعقد في مملكته، وإليه جميعُ أمور المملكة، وشاع ذلك في الناس والأقطار، فبهذا وأشباهه اضطربت أحوالُ الديار المصرية، ولما كان عصر يوم الأربعاء رابع جمادى الأولى، وطلعت الأمراء الألوف إلى القلعة ليبيتوا بالقصرِ على العادة، امتنعت المؤيدية عن الطلوع بمن وافقهم ما خلا الأمير جانبك الإينالي الأشرفي المعروف بقلقسيز أمير مجلس، وهو كبير الأشرفية الكبار يومئذ، واستمالت الظاهرية أيضًا الأمير جانبك قلقسيز الأشرفي أمير مجلس، فمال إليهم، ووعدهم بممالأة خشداشيته- زملائه- الأشرفية إليهم، وخذلان يشبك الدوادار، فعند ذلك صار الملك الظاهر يلباي وحده أسيرًا في أيدي القلعيين، فلما أصبحوا يوم الخميس خامس جمادى الأولى أعلن الأمير يشبك الفقيه الوثوب على الخشقدمية، ولبسوا آلة الحرب، وركب بمن معه من المؤيدية والأشرفية الكبار والأشرفية الصغار، والسيفية، واجتمع عليهم خلائقُ من كل طائفة، ومالت زعر الديار المصرية إليهم، وبلغ مَن بالقلعة أمرهم، فخافوهم خوفًا شديدًا، ولَبِسوا هم أيضًا آلة الحرب، ونزلوا بالسلطان الملك الظاهر يلباي إلى مقعد الإسطبل السلطاني المطل على الرميلة، وشرعوا في قتال الأمير يشبك بمن معه في الأزقة والشوارع بالصليبية، وأصبح يوم الجمعة سادس جمادى الأولى والقتال قائم بين الفريقين بشارع الصليبية من أول النهار إلى آخره، فلما جاء الليل ليلة السبت أدخل يلباي إلى مبيت الحراقة، وبات به على هيئة عجيبة، إلى أن أصبح النهار وأخذوه وطلعوا به إلى القصر الأبلق، وحبسوه في المخبأة التي تحت الخرجة، بعد أن طلعوا به ماشيًا على هيئة الخَلعِ من السلطنة ثم سُجِنَ بعد ذلك بسجن الإسكندرية إلى أن توفي في العام التالي وقد جاوز السبعين من عمره، وأخذ الناس في سلطنة الملك الظاهر تمربغا، وزال ملك يلباي هذا كأنه لم يكن، وكانت مدة ملكه شهرين إلا أربعة أيام، ليس له فيها إلا مجرد الاسم فقط، أما السلطان الجديد الظاهر أبو سعيد تمربغا فجلس بصدر المقعد بالإسطبل السلطاني المعروف بالحراقة، وحضر الخليفة المستنجد بالله أبو المظفر يوسف، والقاضي الشافعي والقاضي الحنفي، وتخلف المالكي لتوعكه، والحنبلي لإبطائه، وحضر غالب أرباب الدولة والأعيان وبايعوه بالسلطنة، فقام من وقته ودخل مبيت الحراقة، ولبس خلعة السلطنة السواد الخليفتي.
عزم شارل الخامس (شارلكان) ملكُ إسبانيا على القيام بحملة عسكرية تستهدفُ القضاء على حركةِ الجهاد الإسلامي في الحوضِ الغربيِّ للبحر المتوسط، وقبل أن يشرَعَ في تنفيذها حدث هدوءٌ نسبيٌّ ساد القارةَ الأوربية إثرَ عقدِ هُدنة نيس في محرم 945 (يونيو 1538م) مع فرنسا، والتي كانت مدتها عشر سنوات. ومما شجع شارلكان على هذه الحملة علمُه بأن القائد التركي خير الدين بربروسا قد ذهب إلى إستانبول للَّقاء بالسلطان العثماني وأسند قيادةَ الأسطول العثماني للقائد حسن آغا الطواشي. رسا شارلكان بسُفُنه أمام مدينة الجزائر في يوم 28 جمادى الآخر من هذه السنة, وعندما شاهده الطوشي اجتمع في ديوانه مع أعيان الجزائر وكبار رجال الدولة، وحثَّهم على الجهاد والدِّفاع عن الإسلام والوطن، ثم بدأ حسن آغا في إعدادِ جيوشِه والاستعداد للمعركةِ، من ناحية أخرى بدأ الإسبانُ في تحضير متاريسِهم، وتعجَّب شارل الخامس لاستعداداتِ حسن آغا وأراد أن يستهزئَ به، وفي الليلة ذاتها وصل إلى معسكر شارلكان رسولٌ مِن قِبَل والي الجزائر يطلُبُ إذنًا للسماح بحُرية المرور لمن أراد من أهل الجزائر- وخاصَّةً نساءَها وأطفالَها- مغادرةَ المدينة عبرَ باب الواد، وعرف شارلكان أن حامية الجزائر مصَمِّمة على الدفاع المستميت، وأنَّه من المُحال احتلال الجزائر إلا إذا تم تدميرُها تدميرًا تامًّا، ولم يكن شارلكان قد أنزل مدفعيةَ الحصار حتى تلك الساعة، فلم يتمكن بذلك من قصفِ الجزائر بالمِدفعية، وفي الوقت نفسِه كان المجاهدون يوجِّهون ضرباتِهم الموجعة إلى القوات الإسبانية في كل مكان، وكانت أعداد المجاهدين تتعاظم باستمرار بفضل تدفُّق مقاتليهم من كل مكان، بمجرد سماعِهم بإنزال القوات الإسبانية، وكان المجاهدون يستفيدون في توجيههم لضرباتهم من معرفتهم الدقيقةِ بالأرض واستخدامهم لمميزاتها بشكلٍ رائع، وسخر الله لجنود الإسلام الأمطارَ والرياحَ والأمواجَ، وهَبَّت ريحٌ عاصِفٌ استمرَّت عِدَّةَ أيام واقتلعت خيام جنود الحملة وارتطمت السفنُ بعضُها ببعض؛ مما أدى إلى غرق كثير منها، وقذفت الأمواج الصاخبةُ ببعض السفن إلى الشاطئ، وهجم عليها المدافعون المسلمون واستولوا على أدواتِها وذخائرها، أما الأمطار فقد أفسدت مفعولَ البارود، وفي وسط هذه الكوارث حاول شارلكان مهاجمةَ مدينة الجزائر إلا أنَّ كلَّ محاولاته باءت بالفشل، واضطُرَّ إلى الانسحاب مع بقية جنوده على ما تبقَّى لهم من سفن، واتجه بأسطوله إلى إيطاليا بدلًا من إسبانيا بعد أن قُتِلَ من جيشه في المعركة أكثر من 20 ألفًا وانتشرت جثثهم لعدة كيلو مترات على ساحل البحر، وأُسِر حوالي 130 سفينة! ويُعَدُّ هذا الانتصارُ من الانتصارات الكبرى في تاريخ العثمانيين والجزائريين، ولم تفكِّرْ أي قوة صليبية بعدها في احتلال الجزائر إلَّا في عام 1830م.
ارتعدت فرائِصُ الأمم الأوروبية النصرانيةِ من الخطر الإسلاميِّ العظيم الذي هدَّد القارة الأوروبية؛ من جرَّاءِ تدفُّق الجيوش العثمانية برًّا وبحرًا, وعندما احتلَّ الأسطول العثماني بقيادة علي باشا قبرص بقرارٍ من السلطان سليم الثاني, أخذ البابا بيوس الخامس يسعى من جديدٍ لجمع شمل البلاد الأوروبية المختلفة، وتوحيد قواها برًّا وبحرًا في تحالف صليبي تحت راية البابوية، اختير لقيادة قوة هذا التحالف (دون خوان) النمساوي، وهو أخٌ غير شقيق للملك فيليب الثاني، سار (دون خوان) إلى البحر الأدرياتيك، حتى وصل إلى الجزء الضيق من خليج كورنث بالقرب من باتراس، وليس ببعيد عن ليبانتو اليونانية، والذي أعطى اسمها للمعركة، ونظَّم علي باشا قواتِه فوضع سفُنَه على نسق واحد من الشمال إلى الجنوب، بحيث كانت ميمنتُها تستند إلى مرفأ ليبانتو، ومسيرتُها في عُرض البحر، وقد قسَّمها علي باشا إلى جناحين وقلب, فكان هو في القلب, وشيروكو في الجناح الأيمن، وبقي الجناح الأيسر بقيادة قلج علي، ومقابل ذلك نظَّمَ دون خوان قواتِه، فوضع سفنه على نسق يقابل النسق الإسلامي، ووضع جناحه الأيمن بقيادة دوريا مقابل قلج علي، وأسند قيادة جناحه الأيسر إلى بربريجو مقابل شيروكو، وجعل (دون) نفسَه لقيادة القلب، وترك أسطولًا احتياطيًّا بقيادة سانت كروز. احتدمت المعركة في 17 جمادي الأولى من هذه السنة, أحاط الأسطول الإسلامي بالأسطول الأوروبي وأوغل العثمانيون بين سفن العدو، ودارت معركة قاسية أظهر فيها الفريقان بطولةً كبيرة وشجاعة نادرة، وشاءت إرادة الله هزيمة المسلمين، ففقدوا ثلاثين ألف مقاتل، وقيل عشرين ألفًا، وخسروا 200 سفينة حربية، منها 93 غرقت، والباقي غنمه العدو وتقاسمته الأساطيل النصرانية المتحدة، وأُسِرَ لهم عشرة آلاف رجل! واستطاع قلج علي إنقاذ سفنه، واستطاع كذلك المحافظة على بعض السفن التي غَنِمَها، ومن بينها السفينة التي تحمل علم البابا، رجع بها إستانبول التي استقبلته استقبال الفاتحين، رغم الشعور بمرارة الهزيمة, وكان لهذه الهزيمة أثرُها الكبير في تراجع الهيمنة العثمانية على غرب البحر المتوسط، ونهاية التمدد العثماني في شرق ووسط أوروبا, ومن أسباب هذه الهزيمة الكارثية على الدولة العثمانية قرارُ سليم الثاني بفتح قبرص، فلم يكن صائبًا؛ لأن قبرص لم تكن مزعجةً للدولة العثمانية، بينما ترتب على فتحها قيامُ هذا التحالف الصليبي الذي أدى إلى هزيمة الدولة في هذه المعركة, فضلًا عن أن قائد الأسطول العثماني علي باشا لم يكن على مستوى قيادة معركة بهذا الحجم، الذي شكله التحالف النصراني, وفي المقابل احتفلت القارة الأوربية بنصر ليبانتو؛ فلأول مرة منذ قرون تحلُّ الهزيمة بالعثمانيين!
سيَّر سلمان باشا والي العراق العساكِرَ الكثيرة من العراق والأكراد والمحمرة، ومعهم من البوادي عُربان المنتفق مع رئيسِهم حمود بن ثامر، وعُربان آل بعيج، والزقاريط وآل قشعم، وجميع بوادي العراق، وعربان شمر والظفير، وسار معه أهل الزبير وما يليهم، وجعل على قيادةِ الحملة وزيره علي كيخيا، واتفق له قوةٌ هائلة من المدافع والقنابر وآلات الحروب، واجتمع معه جموع كثيرة، حتى قيل إنَّ الخيل الذي يعلَّقُ عليها ثمانية عشر ألف, فسار علي كيخيا بجميع تلك الجموع وقصد الأحساءَ، فلما نزل فيها تابعَه أهلُ المبرز والهفوف وقرى الشرق وجميع نواحيه، ونقضوا العهدَ مع دولة الدرعيَّة, وامتنع على حملةِ علي كيخيا قصر الصاهود بالمبرز وحصْن الهفوف، فزحف بجنوده على قصرِ الصاهود وحاصره شهرين، وبذل كُلَّ الأسباب لفتحِ بسوق الأبطال والرمي المتواصِلِ بالمدافع والقنابر، وحفر حفرًا في السورِ ملأها بالبارود، ثمَّ ثوَّرها عليهم دون طائلٍ حتى وقع فيهم الفشلُ، ولم يكن في داخل هذا القصر إلَّا 100 رجل أكثَرُهم من نجد مع سليمان بن محمد بن ماجد الناصر من أهل ثادق، وكان يتصف بالشجاعة فثبت هو ومن معه ولم يعطُوا الدنيَّةَ لعدُوِّهم حتى بطَلَ كَيدُهم ووقع في قلوبِ الكيخيا وعساكره الملَلُ والتخاذل, فارتحلوا راجعين وتركوا الأحساءَ، وانهزم معهم أهلُ الأحساء الخائنون الذين نقضوا العهد، وتركوا محالَّهم وأمتعتَهم وأموالهم، وقيل: لَمَّا أراد الكيخيا ومن معه الارتحال جمعوا سلالِمَهم وزحَّافات الخشب والجذوع التي أعدوها لحفر الحفر والجدران، وشيئًا من خيامهم ومتعهم وطعامهم وأشعلوا فيه النيران. أما الذين امتنعوا على الكيخيا في قصر الهفوف فرئيسُهم إبراهيم بن عفيصان لم يقع عليهم حصارٌ، ولكن حاولوا مرارًا عديدة لفتحِه ولم يحصلوا على طائلٍ, وكان الأميرُ سعود قد سار بأهل نجدٍ من البادي والحاضر وقصد الأحساءَ، فلما عَلِمَ برجوع الكيخيا رحل من مكانِه, ونزل على ثاج الماء المعروف في ديار بني خالد، فجمع اللهُ بينه وبين الكيخيا على غير ميعادٍ، فنزل الكيخيا الشباك ماء قريب من ماء ثاج, فجرى بينهم محاولة خيل وطراد، وأقاموا على ذلك أيامًا، ثم ألقيَ في قَلبِ الكيخيا وجنودِه الرعبُ ووقع فيهم الفشَلُ وطلبوا الصلح، وأنَّ كُلًّا من الفريقين يرحل على عافية وحقن دماء. وصالحهم سعود على ذلك وارتحلوا إلى أوطانِهم، ثم رحل سعودٌ ونزل الأحساء ورتَّب حصونَه وثغوره، وأقام فيه قريبًا من الشهرين، واستعمل فيه أميرًا سليمان بن محمد بن ماجد الناصر، ثم رحل سعود إلى وطنِه قافلًا.
هو الشيخُ أبو محمد عثمان بن محمد الملقب بـ (فودي) بن عثمان بن صالح بن هارون بن محمد أحدُ علماء نيجيريا، كان مالكيَّ المذهب. ولِدَ في قرية طقِل في شمال نيجيريا، سنة 1169هـ يعتبرُ عثمان دان فوديو مؤسِّسَ دولة تكرور في سوكوتو في غربِ أفريقيا قريبًا من نهر الكونغو، وكان قد عاد من الحجِّ وهو ممتلئٌ حماسةً للإصلاح الديني، فكَثُر أتباعُه والمتحمِّسون لأفكارِه، فلما زاد عددُ أتباعه ومريديه، وفكَّرَ في الاتصال بأحدِ الملوك ليشُدَّ مِن أزره، فلجأ إلى أقوى ملوكِ الهوسة- وهو وقتذاك- الملِكُ نافتا (ملك غوبر)، وشرح له الإسلامَ الصحيح وطلبَ إليه إحياءَ معالم الدين، وإقامةَ العدل بين الناس. فاستجاب له أوَّلَ الأمر وأسند إليه الفتوى والإرشادَ بمجلِسِه وديوانه، غيرَ أنَّ بعض مدَّعي العلمِ الحاقدين قاموا يعَيِّرونه لاتصاله بالمَلِك ويتَّهمونه بالرياء والسعي إلى الجاه والسلطان، ووشَوا به عنده، ومنهم من أنكر عليه بعضَ أقواله وأفعاله، فوقعت بينه وبين المَلِك جفوة سافر بسَبَبِها الشيخ إلى بلاد زمفرة وكبي. يقول الإمام محمد بللو ابن الشيخ عثمان بن فودي عن معاناة والده: "ثم إنَّه لما برز هكذا، وكثُرَ أتباعه من العلماء والعوام، وتراسل الخلقُ إلى الاقتداء به، وكفاه اللهُ من ناوأه من علماءِ وَقتِه، حتى نشر أعلامَ الدين، وأحيا السنة الغرَّاء، فتمكَّنت في البلد أيَّ تمكين- نصَبَ أهل الدنيا له العداوةَ مِن أمراء هذه البلاد،..... وإنما غاظهم ما يرون من ظهورِ الدين وقيام ما درس مِن معالم اليقين، وذَهاب بقاءِ ما هم فيه من الضَّلالِ والباطِلِ والتخمين، مع أنَّ سَلطنتَهم.. مؤسَّسة على قواعِدَ مخُالِفة للشريعة.... فلمَّا أوضح الشيخُ الطريق، واهتدى إليه أهلُ التوفيق... وبقِيَ أهل الدنيا من علماءِ السوء والملوك في طغيانِهم يعمهون،... فجعل أولئك الملوك والعلماء يؤذون الجماعةَ (أتباعه)، ويعترضون كلَّ من ينتسب إلى الشيخ،... ولم يزَلْ كُلُّ من تولى من ملوكِ بلادنا مجتَهِدًا في إطفاءِ ذلك النور، ويكيد بالشيخِ وبجماعته، ويمكُرُ بهم ويحتال في استئصالهم" استطاع الشيخ عثمان بالدعوة أن يوحِّدَ تلك الجماعات المتناثرة في شتى أقاليم الحوصة ويجعل منها جماعةً واحدةً مُتماسِكةً، فأصبح له جَيشٌ قوي، ثم تعرض لولايات الحوصة الإسلامية، فسقطت واحدة تلوَ الأخرى في يدِه، وكان قد قسَّم مملكتَه على ولديه، ومات في هذه السنة بعد أن أسَّس مملكةً كبيرة سُرعان ما هبَّ الإنجليز للتدخل فيها, ولفودي مؤلَّفات كثيرة تجاوزت 150 كتابًا. توفِّي في ولاية سقطو (سوكوتو) بنيجيريا.
بعد أن رأى الكثيرُ من السوريين أنَّ الكفاحَ المسلَّحَ لا يتكافأُ مع القوات الفرنسية لجؤوا إلى الكفاح الدبلوماسيِّ، فبدأت تظهَرُ الكتلة الوطنية والجمعية التأسيسية التي دعت لوضع دستورٍ للبلاد، وعمَلِ انتخابات نيابية حُرَّة، وإلغاءِ الأحكام العرفية، ثم حصلت تطوراتٌ في إصدار دساتير عديدة، أحدها لدولة سوريا، وآخر لدولة العلويين في اللاذقية، وثالث للدروز، ثمَّ حُلَّت الحكومة المؤقتة، وعملت انتخابات جديدة، وحصل محمد علي العابد على رئاسة الجمهورية، ولكِنْ في أواخر سنة 1935م قام إضرابٌ عام في دمشق استمر خمسين يومًا، وحصلت اضطراباتٌ، واستقالت أكثَرُ من وزارة، وبسبب ذلك تم الاتفاقُ على معاهدة تضع حدًّا للانتداب، فشُكِّلَ وَفدٌ سوريٌّ مكَلَّفٌ بالتفاوضِ مع الحكومة الفرنسية برئاسة هاشم الأتاسي، وعضوية كلٍّ من فارس الخوري، جميل مردم، سعد الله الجابري: ممثِّلين عن الكتلة الوطنية، ومصطفى الشهابي، إدمون حمصي: ممثلين عن الحكومة، ونعيم أنطاكي سكرتيرًا، والقائم مقام أحمد اللحام أحد ضباط الجيش العربي سابقًا خبيرًا ومستشارًا عسكريًّا، التقى الوفدُ بسياسي وزارة خارجية فرنسا، وكانت العقبةُ الأساسية الأولى التي اختلف عليها الطرفان هي قضية توحيد الأراضي؛ فقد أصرَّ الجانِبُ السوري المفاوِضُ على وَحدة الأراضي السورية بالشَّكلِ الذي كانت عليه في عهد العثمانيين، وتوصَّل الطرفان المتفاوضان إلى حَلٍّ وَسطٍ يقضي بقيام دولتين مستقلَّتين في المنطقة سورية ولبنان، وأن يبقى لبنانُ ضِمنَ حدوده الراهنة، مقابِلَ موافقة الوفد الفرنسي على إعادة توحيد إقليمي جبل الدروز وجبل العلويين مع سورية، وأمَّا بالنسبة لسنجق الإسكندرونة فقد أقرَّت فرنسا بتبعيته لسورية، ولكنْ بشرط أن يكون له وضعٌ خاصٌّ يُتَّفَق عليه فيما بعد. وكانت العقبةُ الثانية أمام نجاح المفاوضات هي المتعلقة بالقوات السورية الخاصة بعد توقيع المعاهدة، وأصرَّ الوفدُ السوري على استعادة القوات فورًا؛ نظرًا لأنَّ نفقاتِها كانت من الموازنة السورية طيلةَ السنوات العشر الأخيرة، أمَّا الجانب الفرنسي فكان يرغَبُ بإبقائها تحت قيادة ضباط فرنسيين خلالَ فترة معينة يمكِنُ بعدها تسليمُها إلى الحكومة السورية بعد توقيع اتفاق عسكري معها، فتَمَّ الاتفاق على أنه يجوز للحكومة الفرنسية أن تحتَفِظَ ولمدة خمس سنوات ببعض القوات خارج المدن وبمطارين، وبقوات محدودةٍ ضِمنَ محافظتي جبل الدروز ومنطقة العلويين، على أن تعترف المعاهدةُ باستقلال سوريا. لكِنَّ المعاهدة لم يُنفَّذ منها شيء؛ لأنها لم تُعرَض على البرلمان الفرنسي، واقترح إضافة ملاحق جديدة على المعاهدة، منها إعطاءُ حكم ذاتي للدروز والنصيريين وسكان الجزيرة الفراتية حكمًا ذاتيًّا، وتعدى الاتفاق العسكري الذي يوجِبُ جلاء الجيش الفرنسي عن البلاد بحيث يصبِحُ هذا الوجود دائمًا.
رحل السلطانُ بيبرس إلى قريبِ عيونِ الأساور من وادي عارة وعرعرة، فلما كان بعد عشاءِ الآخرِ أمر العسكَرَ كُلَّه فلبسوا آلة الحرب، وركِبَ آخِرَ الليل وساق إلى قيسارية، فوافاها بكرةَ نهار الخميس تاسع جمادى الأولى على حين غفلةٍ مِن أهلها، وضرب عليها بعساكِرِه، وللوقت ألقى الناسُ أنفُسَهم في خندقها، وأخذوا سكك الحديدِ التي برسم الخيولِ مع المقاود والشبح، وتعلَّقوا فيها من كل جانبٍ حتى صعدوا، وقد نُصِبَت المجانيق ورمي بها، فحرقوا أبوابَ المدينة واقتحموها، فَفَرَّ أهلها إلى قلعتها، وكانت من أحصَنِ القلاع وأحسَنِها وتعرف بالخضراء، وكان قد حمل عليها الفرنجُ العُمُدَ الصوان، وأتقنوها بتصليبِ العُمُدِ في بنيانها، حتى لا تُعمَلَ فيها النقوبُ ولا تقَعُ إذا علقت، فاستمر الزحف والقتال عليها بالمجانيق والدبابات والزحَّافات ورمي النشَّاب، وخرجت جريدة- خَيْلٌ لا رَجَّالة فيها- من عسكر السلطان إلى بيسان مع الأمير شهاب الدين القيمري، فسَيَّرَ جماعة من التركمان والعربان إلى أبوابِ عكا، فأسروا جماعةً مِن الفرنج، هذا والقتال ملِحٌّ على قلعة قيسارية، والسلطانُ مقيمٌ بأعلى كنيسةٍ تجاه القلعة ليمنَعَ الفرنج من الصعودِ إلى علو القلعةِ، وتارة يركَبُ في بعضِ الدبَّابات ذوات العجل التي تجري حتى يصل إلى السور ليرى النقوبَ بنَفسِه، وأخذ السلطانُ في يده يومًا من الأيامِ تُرسًا وقاتل، فلم يرجِعْ إلَّا وفي ترسِه عِدَّةُ سِهامٍ، فلما كان في ليلةِ الخميس النصف من جمادى الأولى: سلَّم الفرنجُ القلعةَ بما فيها، فتسلق المسلمونَ من الأسوار، وحرقوا الأبواب ودخلوها من أعلاها وأسفَلِها، وأذِّنَ بالصبحِ عليها، وطلع السلطانُ ومعه الأمراء إليها، وقسَّمَ المدينة على الأمراء والمماليك والحلقة، وشرع في الهدمِ ونزل وأخذ بيَدِه قطاعةً وهدَمَ بنَفسِه، فلما قارب الفراغَ مِن هدم قيسارية بعث السلطانُ الأمير سنقر الرومي والأمير سيف الدين المستعرب في جماعة، فهدموا قلعةً كانت للفرنج عند الملوحة قريب دمشق، وكانت عاتية حتى دكُّوها دكًّا، وفي السادس عشر: سار السلطانُ جريدة إلى عثليث، وسير الأمير سنقرًا السلاح دار، والأمير عز الدين الحموي، والأمير سنقرًا الألفي إلى حيفا، فوصلوا إليها، ففر الفرنجُ إلى المراكب وتركوا قلعَتَها، فدخلها الأمراءُ بعد ما قتلوا عِدَّةً من الفرنج وبعد ما أسروا كثيرًا، وخربوا المدينة والقلعة وأحرقوا أبوابها في يومٍ واحد، وعادوا بالأسرى والرؤوس والغنائم سالمين، ووصل السلطانُ إلى عثليث فأمر بتشعيثِها وقطْع أشجارها، فقُطِعَت كلُّها وخربت أبنيتها في يوم واحد، وعاد إلى الدهليز بقيسارية، وكمَّل هَدْمَها حتى لم يدَعْ لها أثرًا، وقدمت منجنيقات من الصبيبة وزرد خاناه من دمشق، وورد عِدَّة من الفرنج للخدمة، فأكرَمَهم السلطان وأقطعهم الإقطاعات، وفي التاسع عشر: رحل السلطان من قيسارية، وسار من غير أن يَعرِفَ أحدٌ قَصْدَه فنزل على أرسوف مستهلَّ جمادى الآخرة، ونقل إليها من الأحطاب ما صارت حولَ المدينة كالجبال الشاهقة وعَمَل منها ستائر، وحفر سربين من خندق المدينة إلى خندق القلعةِ وسَقَفَه بالأخشاب، وعمل السلطان طريقًا من الخندقين إلى القلعة، وردمت الأحطابُ في الخندق، فتحَيَّل الفرنجُ وأحرقوها كلَّها، فأمر السلطان بالحفر من باب السربين إلى البحرِ، وعمل سروبًا تحت الأرض يكون حائطُ خندق العدو ساترًا لها، وعمل في الحائط أبوابًا يرمي التراب منها وينزل في السروب حتى تساوي أرضُها أرض الخندق، وأحضر المهندسين حتى تقَرَّر ذلك، وولي أمرَه للأمير عز الدين أيبك الفخري، فاستمر العمل، والسلطان بنفسِه ملازم العمل بيده في الحفرِ وفي جر المنجنيقات ورمي الترابِ ونَقلِ الأحجار، أسوةً لغيره من الناس، وكان يمشي بمفرده وفي يده ترسٍ، تارة في السَّرَب وتارة في الأبوابِ التي تفتح، وتارة على حافةِ البحر يرامي مراكِبَ الفرنج، وكان يجرُّ في المجانيق، ويطلع فوق الستائر يرمي من فوقها، ورمى في يوم واحد ثلاثمائة سهم بيده، وحضر في يومٍ إلى السرب وقُدَّ في رأسه خلف طاقة يرمي منها، فخرج الفرنج بالرماح وفيها خطاطيف ليجبذوه فقام وقاتلهم يدًا بيد وكان معه الأميرُ سنقر الرومي، والأمير بيسري، والأمير بدر الدين الخازندار، فكان سنقر يناوله الحجارةَ حتى قتل فارسين من الفرنج، ورجعوا على أسوأ حال، وكان يطوفُ بين العساكر في الحصار بمفردِه، ولا يجسِرُ أحد ينظر إليه ولا يشير إليه بإصبُعِه، بل كان الناسُ فيها سواءً في العمل، حتى أثرت المجانيق في هدمِ الأسوار، وفُرِغَ من عمل الأسربة التي بجانبي الخندق، وفتحت فيها أبواب متسعة، فلما تهيأ ذلك وقع الزحفُ على أرسوف في يوم الخميس ثامن رجب، ففتحها الله في ذلك اليوم عندما وقَعَت الباشورة – الباشورة حائط ظاهر الحصن يختفي وراءه الجند عند القتال- فلم يشعر الفرنج إلا بالمسلمين قد تسلقوا وطلعوا القلعة، ورفعت الأعلام الإسلامية على الباشورة، وحَفَّت بها المقاتلة وطُرِحَت النيران في أبوابها، هذا والفرنجُ تقاتل، فدفع السُّلطانُ سنجقه للأميرِ سنقر الرومي وأمَرَه أن يؤمِّنَ الفرنج من القتل، فلما رآه الفرنجُ تركوا القتالَ، وسلَّمَ السنجق للأمير علم الدين سنجر المسروري المعروف بالخياط الحاجب، ودُلِّيَت له الحبال من القلعة فربطها في وسطِه والسنجق معه، ورفع إليها فدخَلَها وأخذ جميعَ سيوف الفرنج وربَطَهم بالحبال وساقهم إلى السلطانِ والأمراء صفوف وهم ألوف، وأباح السلطانُ القلعة للناس، وكان بها من الغِلالِ والذخائر والمال شيءٌ كثير، وكان فيها جملةٌ من الخيول والبغال لم يتعرض السلطان لشيءٍ منه، إلا ما اشتراه ممَّن أخذه بالمال ووجد فيها عِدَّةً من أسرى المسلمين في القيود فأُطلِقوا، وقَيَّد الفرنجَ بقيودهم، وعيَّنَ السلطانُ جماعةً مع الأسرى من الفرنج ليسيروا بهم، وقسَّم أبراج أرسوف على الأمراء، وأمر أن يكون أسرى الفرنجِ يتولون هدم السورِ، فهُدِمَت بأيديهم، وأمرَ السلطان بكشف بلاد قيسارية وعمَل متحَصَّلِها، فعُمِلَت بذلك أوراقٌ، وطَلَبَ قاضي دمشق وعدوله ووكيل بيت المال، وتقدم بأن يملك الأمراءُ المجاهدون من البلاد التي فتحها الله عليه، وكتبت تواقيع كل منهم من غير أن يطَّلعوا على ذلك، فلما فرغت التواقيعُ فُرِّقَت على أربابها، وكتب بذلك مكتوبٌ جامع بالتمليك ورحل السلطانُ من أرسوف بعد استكمال هدمِها في يوم الثلاثاء الثالث عشر شهر رجب إلى غزة وسار منها إلى مصر ودخل السلطان من القاهرة في يوم الخميس حادي عشر شعبان والأسرى بين يديه.
كان يَزيدُ فَتَح جُرجان وقُهِسْتان ثمَّ غَدَر أَهلُ جُرجان، فلمَّا صالَح يَزيدُ إصْبَهْبَذ صاحِبَ طَبَرِسْتان سار إلى جُرجان، وعاهَد الله تعالى لَئِن ظَفَر بهم لا يَرفَع السَّيفَ حتَّى يَطحَن بِدِمائِهم، ويَأكُل مِن ذلك الطَّحِين. فأَتاها فحَصَرهم يَزيدُ فيها سَبعةَ أَشهُر، وهُم يَخرُجون إليه في الأيَّام فيُقاتِلونَه ويَرجِعون, فبَيْنَا هُم على ذلك إذ خَرَج رَجَلٌ مِن عَجَم خُراسان يَتَصَيَّد، وقِيلَ: رَجُل مِن طَيِّء، فأَبْصَر وَعْلًا في الجَبلِ، ولم يَشعُر حتَّى هَجَم على عَسكَرِهم، فرَجَع كأنَّه يُريدُ أَصحابَه، وجَعَل يَخْرِق قَباءَه ويَعقِد على الشَّجَرِ عَلامات، فأَتَى يَزيدُ فأَخبرَه، فضَمَنَ له يَزيدُ دِيَةً إن دَلَّهُم على الحِصْن، فانْتَخَب معه ثلاثمائة رَجُل، واسْتَعمَل عليهم ابنَه خالدَ بن يَزيدَ، وقال له: إن غُلِبْتَ على الحَياةِ فلا تُغْلَبَنَّ على المَوتِ، وإيَّاك أن أراك عندي مَهْزومًا. وضَمَّ إليه جَهْمَ بن زَحْر، وقال للرَّجُل: مَتَى تَصِلون؟ قال: غَدًا العَصرَ. قال يَزيدُ: سأَجْهَدُ على مُناهَضَتِهم عند الظُّهْر. فساروا فلمَّا كان الغَدُ وَقْتَ الظُّهْر أَحْرَق يَزيدُ كُلَّ حَطَب كان عندهم، فصار مِثل الجِبال مِن النِّيران، فنَظَر العَدُوُّ إلى النِّيران فهالَهُم ذلك فخَرجوا إليهم، وتَقدَّم يَزيدُ إليهم فاقْتَتلوا، وهَجَم أَصحابُ يَزيدَ الذين ساروا على عَسْكَرِ التُّرك قبلَ العَصرِ وهُم آمِنون مِن ذلك الوَجْهِ، ويَزيدُ يُقاتِلُهم مِن هذا الوَجْهِ، فما شَعَروا إلَّا بالتَّكْبيرِ مِن وَرائِهم، فانْقَطَعوا جَميعًا إلى حِصْنِهم، ورَكِبَهم المسلمون فأَعْطوا بِأَيدِيهم، ونَزَلوا على حُكْم يَزيد، وسَبَى أَهلَها وغَنِمَ ما فيها، وقَتَل مُقاتِلَتَهم، وصَلَبَهم فَرْسَخَيْنِ إلى يَمينِ الطَّريقِ ويَسارِه، وقاد منهم اثني عَشر ألفًا إلى وادي جُرجان وقال: مَن طَلَبَهم بِثَأْرٍ فلْيُقْتَل. فكان الرَّجُل مِن المسلمين يَقتُل الأَربعَة والخَمسَة، وأَجرَى الماءَ على الدَّمِ وعليه أَرْحاء لِيَطْحَنَ بِدِمائِهم لِيُبِرَّ يَمينَه، فطَحَنَ وخَبَزَ وأَكَل، وقِيلَ: قَتَل منهم أَربعينَ ألفًا, وبَنَى مَدينَة جُرجان، ولم تكُن بُنِيت قبلَ ذلك مَدينةً، ورَجَع إلى خُراسان، واسْتَعمَل على جُرجان جَهْم بن زَحْر الجُعفي، وكَتَب إلى سُليمان بالفَتْح يُعَظِّمُه ويُخبِره أنَّه قد حَصَل عنده مِن الخُمُس ستُّمائة ألف ألف، فقال له كاتِبُه المُغيرَة بن أبي قُرَّة مَوْلَى بَنِي سَدوس لا تَكتُب تَسمِيَةَ المالِ، فإنَّك مِن ذلك بين أَمرَيْنِ، إمَّا اسْتَكْثَرَهُ فأَمَرَك بِحَمْلِه، وإمَّا سَمَحَت نَفْسُه لك به فأَعطاكَه، فتَكَلَّف الهَدِيَّة، فلا يَأتِيه مِن قِبَلِك شَيءٌ إلَّا اسْتَقَلَّهُ، فكأَنِّي بك قد اسْتَغْرَقْتَ ما سَمَّيْتَ ولم يَقَع منه مَوْقِعًا، ويَبْقَى المالُ الذي سَمَّيْتَ مُخَلَّدًا في دَواوينِهم، فإن وَلِيَ والٍ بعدَه أَخَذَك به، وإن وَلِيَ مَن يَتَحامَل عليك لم يَرْضَ بأَضعافِه، ولكن اكتُب فَسَلْهُ القُدومَ، وشافِهْهُ بما أَحبَبتَ فهو أَسْلَم. فلم يقبل منه وأَمضَى الكِتابَ، وقِيلَ: كان المَبلَغ أربعة آلاف ألف.
لَمَّا وليَ أحمد بن طولون مصرَ سكن مدينةَ العسكرِ على عادة أمراء مصرَ من قَبلِه، ثم أحَبَّ أن يبني له قصرًا، فبنى القطائع. والقطائِعُ قد زالت آثارها الآن مِن مصر، ولم يبق لها رَسمٌ يُعرف، وكان موضِعها من قبَّة الهواء، التي صار مكانها الآن قلعةُ الجبل، إلى جامع ابن طولون، وهو طول القطائع، وأمَّا عرضها فإنه كان من أول الرميلة من تحت القلعة إلى الموضع الذي يعرف الآن بالأرضِ الصفراء, وكانت مساحةُ القطائع ميلًا في ميل, وقبة الهواء كانت في السَّطحِ الذي عليه قلعةُ الجبل. وتحت قبة الهواء كان قصرُ ابن طولون. وموضع هذا القصر الميدانُ السلطاني الآن الذي تحت قلعة الجبل بالرميلة, وكان موضع سُوق الخيل والحمير والبغال والجمال بستانًا. يجاورها الميدانُ الذي يُعرَف اليوم بالقبيبات؟ فيصير الميدانُ فيما بين القصر والجامع الذي أنشأه أحمد بن طولون المعروف به. وبجوار الجامع دارُ الإمارة في جهته القبلية، ولها بابٌ من جدار الجامع يخرجُ منه إلى المقصورة المحيطة بمصلَّى الأمير إلى جوار المحراب، وهناك دار الحرم. والقطائع عدَّةُ قِطَع يسكنُ فيها عبيدُ الأمير أحمد بن طولون وعساكِرُه وغِلمانُه. وسبب بناء ابن طولون القصرَ والقطائع كثرةُ مماليكه وعبيدِه، فضاقت دارُ الإمارة عليهم، فركِبَ إلى سفح الجبل وأمرَ بحرث قبور اليهود والنصارى، واختطَّ موضعهما وبنى القصرَ والميدان، ثمَّ أمر أصحابَه وغلمانه أن يختطُّوا لأنفُسِهم حول قصره وميدانِه بيوتًا فاختطوا وبنوا حتى اتَّصل البناءُ بعمارة الفسطاط- مصر القديمة- ثم بُنِيَت القطائع، وسُميت كلُّ قطيعةٍ باسم من سكنها. فكان للنُّوبة قطيعة مفردة تُعرَف بهم، وللرُّوم قطيعة مُفردة تُعرف بهم، وللفرَّاشين قطيعة مفردة تُعرَف بهم، ولكلِّ صِنفٍ من الغِلمانِ قطيعةٌ مفردة تُعرفُ بهم، وبنى القُوَّادُ مَواضِعَ متفَرِّقة، وعُمِرَت القطائعُ عِمارةً حسنةً وتفَرَّقت فيها السِّكَكُ والأزِقَّة، وعُمِرَت فيها المساجد الحِسان والطواحين والحمَّامات، والأفران والحوانيت والشوارع, ولَمَّا بنى ابن طولون القصرَ والميدان، وعَظُمَ أمرُه زادت صدقاتُه ورواتبُه حتى بلغت صدقاتُه المرتَّبة في الشهر ألفي دينار، سوى ما كان يطرأ عليه من مصاريفَ أخرى، وكان يقول: هذه صدقات الشكر على تجديدِ النِّعَم، ثم جعل مطابخَ للفقراء والمساكين في كلِّ يوم، فكان يذبَحُ فيها البقر والغنم ويفرِّقُ للنَّاسِ في القدور الفخَّار والقصع، ولكل قصعةٍ أو قدر أربعةُ أرغفة: في اثنين منها فالوذج، والاثنان الآخران على القِدْر أو القصعة، وكان في الغالب يُعمَلُ سماطٌ عظيم وينادى في مصر: من أحبَّ أن يحضر سماطَ الأميرِ فلْيحضر، ويجلس هو بأعلى القصرِ ينظر ذلك ويأمرُ بفتح جميع أبواب الميدان ينظُرُهم وهم يأكلونَ ويَحمِلون فيسُّرُه ذلك، ويحمد اللهَ على نعمته. وجعل بالقُربِ مِن قَصرِه حُجرةً فيها رجالٌ سمَّاهم بالمكَبِّرين عِدَّتُهم اثنا عشر رجلًا، يبيت في كلِّ ليلةٍ منهم أربعة يتعاقبون بالليلِ نُوبًا، يكَبِّرون ويهَلِّلون ويسبِّحون ويقرؤونَ القرآنَ بطيبِ الألحان ويترسَّلون بقصائدَ زُهديَّة ويؤذنونَ أوقاتَ الأذانِ.
لمَّا خَرجَ طُغرلبك من بغداد خَلْفَ أَخيهِ إبراهيمَ ينال استَغلَّ الفُرصةَ البساسيري، فلمَّا كان يومُ الأحدِ الثامن من ذي القعدة جاء إلى بغداد ومعه الرَّاياتُ البِيضُ المِصريَّةُ العُبيدِيَّةُ، وعلى رَأسِه أَعلامٌ مَكتوبٌ عليها اسمُ المُستَنصِر بالله أبو تَميمٍ مَعَدُّ، أَميرُ المؤمنين، فتَلقَّاهُ أَهلُ الكَرخِ الرَّافِضَةُ وسَألوهُ أن يَجتازَ من عندهم، فدَخلَ الكَرخَ وخَرجَ إلى مشرعةِ الزَّاويا، فخَيَّمَ بها والنَّاسُ إذ ذاك في مَجاعةٍ وضُرٍّ شَديدٍ، ونَزلَ قُريشُ بن بَدران وهو شَريكُ البساسيري في هذه الفِتنةِ، في نحوٍ مِن مائتي فارسٍ على مشرعةِ بابِ البَصرةِ، وكان البساسيري قد جَمعَ العَيَّارِينَ وأَطمَعَهُم في نَهبِ دارِ الخِلافةِ، ونَهَبَ أَهلُ الكَرخِ مِن الشِّيعةِ دُورَ أَهلِ السُّنَّةِ ببابِ البَصرةِ، ونُهِبَت دارُ قاضي القُضاة الدَّامغاني، وتملك وهلك أَكثرُ السِّجِلَّاتِ والكُتبِ الحُكمِيَّة، وبِيعَت للعطَّارِين، ونُهِبَت دُورُ المُتعلِّقِين بخِدمةِ الخَليفةِ، وأَعادَت الرَّوافضُ الأذانَ بحيَّ على خَيرِ العَملِ، وأُذِّنَ به في سائرِ نواحي بغداد في الجُمُعاتِ والجَماعاتِ وخُطِبَ ببغداد للمُستَنصِر العُبيدي على مَنابِرِها، وضُربَت له السِّكَّةُ على الذَّهَبِ والفِضَّةِ، وحُوصِرَت دارُ الخِلافةِ، فدافَع الوزيرُ أبو القاسم بن المسلمة المُلَقَّب برَئيسِ الرُّؤساءِ، بمن معه من المُستَخدِمين دون دارِ الخِلافةِ, فلم يُفِد ذلك شيئًا، فرَكِبَ الخَليفةُ بالسَّوادِ والبُردَةِ، وعلى رَأسِه اللِّواءُ وبِيَدِه سَيفٌ مُصَلَّتٌ، وحولَه زُمرةٌ مِن العبَّاسيِّين والجواري حاسِراتٌ عن وُجوهِهنَّ، ناشِراتٌ شُعورِهِنَّ، ومَعهُنَّ المصاحِفُ على رُؤوسِ الرِّماحِ، وبين يَديهِ الخَدَمُ بالسُّيوفِ، ثم إنَّ الخَليفةَ أَخذَ ذِمامًا من أَميرِ العَربِ قُريشٍ لِيَمنَعهُ وأَهلَهُ ووَزيرَهُ ابن المسلمة، فأَمَّنَهُ على ذلك كُلِّه، وأَنزلَه في خَيمةٍ، فلامَهُ البساسيري على ذلك، وقال: قد عَلِمتَ ما كان وقعَ الاتفاقُ عليه بيني وبينك، من أنَّك لا تَبُتَّ برَأيٍ دُوني، ولا أنا دُونكَ، ومهما مَلكْنَا بيني وبينك. ثم إن البساسيري أخذَ القاسمَ بن مَسلمةَ فوَبَّخَهُ تَوبيخًا مُفضِحًا، ولامَهُ لَومًا شَديدًا ثم ضَربهُ ضَربًا مُبرِحًا، واعتَقلهُ مُهانًا عنده، ونَهبَت العامَّةُ دارَ الخِلافةِ، ثم اتَّفقَ رأيُ البساسيري وقُريشٍ على أن يُسَيِّروا الخليفةَ إلى أَميرِ حَديثَةِ عانَة، وهو مهارش بن مجلي النَّدوي، وهو مِن بني عَمِّ قُريشِ بن بدران، وكان رجلًا فيه دِينٌ وله مُروءةٌ، فلمَّا بلغ ذلك الخَليفةَ دَخلَ على قُريشٍ أن لا يخرج من بغداد فلم يَفِد ذلك شيئًا، وسَيَّرَهُ مع أَصحابِهما في هَودَج إلى حَديثَةِ عانَة، فكان عند مهارش حَولًا كامِلًا، وليس معه أَحدٌ من أَهلِه، وأما البساسيري، وما اعتَمدَهُ في بغداد، فإنَّه رَكِبَ يومَ عيدِ الأضحى وأَلبَس الخُطباءَ والمُؤذِّنينَ البَياضَ، وكذلك أَصحابَه، وعلى رَأسِه الأَلوِيَةُ العُبيديَّة المِصريَّة، وخَطَب للمُستَنصِر العُبيدي المِصري، وانتَقَم البساسيري من أَعيانِ أَهلِ بغداد انتِقامًا عَظيًما، وغَرَّقَ خَلْقًا ممن كان يُعادِيه، وبَسَطَ على آخرين الأرزاقَ ممن كان يُحبُّه ويُواليه، وأَظهرَ العَدلَ، ثم إنَّه عَلَّقَ ابنَ المسلمة رَئيسَ الرُّؤساءِ بِكَلُّوبٍ في شِدْقَيْهِ، ورُفِعَ إلى الخَشبةِ، إلى أن مات.
ثار العُربان ببلاد الصعيدِ وأرضِ بحري، وقطعوا الطريق برًّا وبحرًا، فامتنع التجَّار وغيرُهم من السفر، وقام الشريفُ حِصنُ الدين ثعلب بن الأمير الكبير نجمِ الدين علي بن الأمير الشريف فخر الدين إسماعيل بن حصن الدولة مجد العرب ثعلب بن يعقوب بن مسلم بن جعفر بن موسى، وقال نحن أصحابُ البلاد، ومنع الأجنادَ مِن الخراج، وصَرَّح هو وأصحابُه بأنَّا أحَقُّ بالمُلكِ مِن المماليك، وقد كفى أنَّا خَدَمْنا بني أيوب، وهم خوارِجُ خرجوا على البلاد، وأنِفُوا من خدمةِ التركِ، وقالوا إنما هم عَبيدٌ للخوارِجِ، وكتبوا إلى الملك الناصِرِ صاحب دمشق يستحثُّونه على القدوم إلى مِصرَ، واجتمع العَرَبُ- وهم يومئذٍ في كثرة من المالِ والخيل والرجال- إلى الأمير حصنِ الدين ثعلب، وهو بناحيةِ دهروط صربان، وأتوه من أقصى الصعيدِ، وأطراف بلاد البحيرة والجيزة والفيوم، وحَلَفوا له كلُّهم، فبلغ عِدَّةُ الفرسان اثني عشر ألف فارس، وتجاوزت عدَّةُ الرجَّالة الإحصاء لكثرتهم، فجهَّزَ إليهم الملك المعز أيبك الأميرَ فارس الدين أقطاي المستعرب، في خمسةِ آلاف فارس، فساروا إلى ناحيةِ ذروة، وبرَزَ إليهم الأميرُ حصن الدين ثعلب، فاقتتل الفريقانِ مِن بكرة النهار إلى الظهر، فقَدَّرَ الله أنَّ الأمير حصن الدين تقنطَرَ عن فرسه، فأحاط به أصحابُه وأتت الأتراكُ إليه، فقُتِلَ حَولَه من العرب والعبيدِ أربعُمائة رجل، حتى أركبوه، فوجَدَ العرَبَ قد تفرَّقوا عنه، فولى منهزمًا، وركب التركُ أدبارهم، يقتُلونَ ويأسِرونَ حتى حال بينهم الليلُ، فحووا من الأسلابِ والنِّسوانِ والأولاد والخيول والجمال والمواشي ما عَجَزوا عن ضبطه، وعادوا إلى المخيَّم ببلبيس، ثم عَدَوا إلى عرب الغربية والمنوفية من قبيلتي سنبس ولواتة، وقد تجمَّعوا بناحية سخا وسنهور، فأوقعوا بهم وسَبَوا حريمَهم وقتلوا الرجال، وتبدَّدَ كل عرب مصر وخَمَدَت جمرتُهم من حينئذ، ولحِقَ الشريف حصنُ الدين مَن بَقِيَ مِن أصحابه، وبعث يطلبُ مِن الملك المعز الأمان، فأمَّنَه ووعده بإقطاعاتٍ له ولأصحابه، ليصيروا من جملةِ العسكرِ وعونًا له على أعدائه، فانخدع الشريفُ حصن الدين، وظن أنَّ التركَ لا تستغني عنه في محاربةِ الملك الناصر، وقَدِمَ في أصحابه وهو مطمئِنٌّ إلى بلبيس، فلما قرب من الدهليز نزل عن فرَسِه ليحضُرَ مجلِسَ السلطان، فقُبِضَ عليه وعلى سائِرِ مَن حضر معه، وكانت عِدَّتُهم نحوَ ألفَي فارس وستمائة راجل، وأمر الملك المعِزُّ فنُصِبَت الأخشابُ مِن بلبيس إلى القاهرة وشُنِقَ الجميع، وبَعَث بالشريفِ حِصن الدين إلى ثغرِ الإسكندرية، فحُبِسَ بها وسُلِّمَ لواليها الأمير شمس الدين محمد بن باخل، وأمر المعِزُّ بزيادة القطعية على العَرَب، وبزيادة القَوَد المأخوذ منهم، ومعاملتهم بالعُنفِ والقَهرِ، فذَلُّوا وقَلُّوا.
هو السلطان أحمد الأول بن مراد الثالث بن سليم الثاني بن سليمان القانوني بن سليم الأول. ولد في 12 جمادى الثانية سنة 998 (18 ابريل سنة 1590م) تولى السلطنة بعد أبيه ولم يتجاوز سنه الرابعة عشرة إلَّا بقليل, وقام بحجز أخيه مصطفى بين الخدم والجواري. كانت أركانُ الدولة في بداية حكمه غيرَ ثابتة، فنارُ الحرب مستعرة مع النمسا غربًا, ومع الصفويين شرقًا؛ حيث كانت الحرب معهم شديدة الوطأة؛ لتولي الشاه عباس الصفوي قيادتها، مما جعلها أعظمَ من كافة الحروب السابقة, فاضطربت أحوالُ الولايات الشرقية عمومًا، وسعت كلُّ أمة من الأمم المختلفة النازلة بها للحصول على الاستقلال، وكان من أهَمِّ الحركات حركةُ الأكراد بقيادة رجل كردي يلقَّب بجان بولاد، والأمير فخر الدين المعني الثاني الدرزي، وغيرهما، لكنْ قيَّض الله للدولة في هذه الشدة الوزير مراد باشا الملقب بقويوجي الذي عُيِّن صدرًا أعظم، وكان قد تجاوز الثمانين؛ ليكون عونًا وعضدًا للسلطان الفتى، فتقلد مع كِبَرِ سِنِّه ووَهَنِ قواه قيادةَ الجيوش وحارب الثائرين بهمَّة ونشاط زائِدَينِ، فانتصر على فخر الدين الدرزي, وجان بولاد الكردي، واستمال قلندر أوغلي أحد زعماء الثورة في الأناضول، وقبض على آخر يدعى أحمد بك وقتله بعد أن فرَّق جنده بالقرب من قونية، وفي سنة 1608 م انتصر على من بقِيَ من العصاة بقرب وان، وفي السنة التالية قَتَل آخر زعماء الثورة المدعو يوسف باشا الذي كان استقَلَّ بصاروخان ومنتشا وآيدين, وبذلك عادت السكينة وساد الأمن بهمَّة هذا الشجاع الذي لُقِّب بسيف الدولة عن استحقاق, وازدادت في أيام السلطان أحمد العلاقاتُ السياسية مع دول الإفرنج، فجددت مع فرنسا العقود والعهود القديمة مع بعض زيادات طفيفة، وفي سنة 1609 جُدِّدت مع مملكة بولونيا- بولندا- الاتفاقات التي أُبرِمَت معها في زمن السلطان محمد الثالث، وأهمُّ ما بها تعهُّد بولونيا بمنع قوزاق الروسية من الإغارة على إقليم البغدان، وتعهُّد الدولة العلية بمنع تتار القرم من التعدي على حدودها، وفي سنة 1612م تحصلت ولايات الفلمنك على امتيازات تجارية تضارع ما مُنحِتَه كلٌّ من فرنسا وإنكلترا, والفلمنك هم الذين أدخلوا في البلاد الإسلامية استعمالَ التبغ (الدخان) فعارض المفتي في استعمالِه وأصدر فتوى بمنعِه، فهاج الجند واشترك معهم بعضُ مُستخدَمي السراي السلطانية، حتى اضطروه إلى إباحته! وفي الثالث والعشرين من ذي القعدة من هذه السنة توفي السلطان أحمد ودُفِن عند جامع سلطان أحمد، وكانت مدة حكمه أربعة عشر عامًا, ولصِغَرِ سِنِّ ابنه عثمان الذي لم يتجاوَزْ ثلاث عشرة سنةً من عمره خالف السلطانُ أحمد العادة المتَّبَعة من ابتداء الغازي عثمان الأول بتنصيب أكبر الأولاد أو أحدهم مكان والده، فأوصى بالمُلكِ من بعده لأخيه مصطفى الأول.
هو السلطان العثماني محمد الرابع بن إبراهيم الأول بن أحمد الأول بن محمد الثالث بن مراد الثالث بن سليم الثاني بن سليمان القانوني بن سليم الأول بن يزيد الثاني بن محمد الفاتح. ولد السلطان محمد عام 1051هـ، وتولى السلطنة وهو ابن سبع سنوات، فتولت جدته كوسيم مهبيكر نيابة السلطنة وأصبحت مقاليد الأمور في يديها، وساءت أحوال الدولة وتدخل الانكشارية (وهم قوات مشاة وفرسان بالجيش العثماني) في شؤونها فازدادت سوءًا، وبعد مقتل السلطانة كوسيم تولت والدة السلطان محمد خديجة تورخان نيابة السلطنة، وعلى الرغم من صغر سنها إلا أنها اتصفت برجاحة العقل فبحثت عن رجل منقذ للدولة، فوجدت بغيتها في محمد باشا كوبريلي الذي قَبِل منصب الصدر الأعظم بشرط أن تُطلق يده في تصريف الدولة. فأعلن محمد كوبريلي سنة 1066 أن السلطان محمد قد بلغ سن الرشد وتمكن من تولي زمام أمور الدولة, وبهذا الإعلان انتهى دور السلطانة الوالدة خديجة فتفرغت هي لأعمال الخير والبر, وتفرغ الصدر الأعظم كوبريلي لتدبير شؤون الدولة ومعالجة إشكالاتها الداخلية ومواجهة الأخطار الخارجية المحدِقة بها. في عهد السلطان محمد الرابع كوَّنت أوروبا حِلفًا ضم: النمسا، وبولونيا، والبندقية، ورهبان مالطة، والبابا، وروسيا، وسَمَّوه (الحلف المقدس) وذلك للوقوف في وجه المد العثماني الإسلامي الذي أصبح قريبًا من كل بيت في أوربا الشرقية بسبب جهاد العثمانيين الأبطال. بدأ الهجوم الصليبي على ديار الدولة العثمانية، وقيض الله لهذه الفترةِ آل كوبريلي الذين ساهموا في رد هجمات الأعداء وتقوية الدولة؛ فالصدر الأعظم محمد كوبريلي المتوفي عام (1072هـ/661م) أعاد للدولة هيبتها، وسار على نهجه ابنه (أحمد كوبريلي) الذي رفض الصلح مع النمسا والبندقية, وبوفاة الصدر الأعظم "أحمد كوبريلي" ضعُف النظام العثماني، وهاجمت النمسا بلاد المجر، واغتصبت قلعة نوهزل ومدينة بست ومدينة بودا، وأغار ملك بولونيا على ولاية البغدان، وأغارت سفن البندقية على سواحل المورة واليونان، واحتلت أثينا وكورنثة عام 1097هـ وغيرها من المدن, وكان من نتائج الهزائم المتتابعة التي لحقت بالدولة العثمانية في أواخر عهده أن ثار الجيشُ في وجه السلطان محمد الرابع، فاتفق العلماءُ ورجال الدولة على عزله، فعُزل في محرم عام 1099هـ بعد أن دامت سلطنته نحو أربعين سنة وخمسة أشهر، تولى خلالها السلطان محمد الرابع بنفسه قيادة جيوش الدولة، وبعد عزله تولى مكانه أخوه سليمان الثاني، وكانت الدولة أثناء خلع السلطان محمد الرابع قد فقدت كثيرًا من أراضيها, وبقيَ السلطان محمد الرابع في العزلة إلى أن توفي في 8 ربيع الآخر من هذه السنة بالغًا من العمر 53 سنة، ودُفن في تربة والدته ترخان سلطان.