لَمَّا نَشَبت فتنةٌ في طُلَيطلة قام أهلُها بإنهاء حُكمِ ابنِ يعيش، واستدعوا عبد الرَّحمن بن ذي النون أميرَ شنتمرية لتولِّي رئاسة مدينتهم، فأرسل ابنَه إسماعيل فكان أوَّلَ مَن حكم طُلَيطلة من بني ذي النُّونِ، فأحسن إدارتَها إلى أن مات، فتولَّى بعده ابنُه المأمون. هذه بدايةُ قيام دولةِ ذي النون في طُلَيطلة.
هو المَلِكُ المنصورُ، أبو الجودِ الأتابك عِمادُ الدين زنكي بنُ الحاجِبِ قسيم الدولة آقسنقر بن عبد الله التركي، صاحِبُ المَوصِل. وُلِدَ سنة 477. قتل والِدُه, قسيمُ الدَّولةِ مملوكُ السُّلطانِ ألب أرسلان, وله يومئذٍ عَشرُ سنينَ، ولم يُخَلِّفْ والِدُه ولدًا غَيرَه، فالتَفَّ عليه غِلمانُ أبيه، ورَبَّاه كربوقا، وأحسَنَ إليه, فكان زنكي بطلًا شُجاعًا مِقدامًا كأبيه، عظيمَ الهَيبةِ مَليحَ الصُّورةِ، أسمرَ جميلًا، قد وَخَطَه الشَّيبُ، وكان عاليَ الهِمَّةِ، لا يَقِرُّ ولا ينامُ، فيه غَيرةٌ حتى على نِساءِ جُندِه، عَمَرَ البِلادَ, وكان يُضرَبُ بشجاعتِه المَثَلُ، وهو من أشجَعِ خَلقِ الله. قبل أن يَملِكَ شارك مع الأميرِ مودود صاحبِ المَوصِلِ حِصارَ مدينةِ طَبريَّة، وهي للفِرنجِ، فوصلت طعنتُه إلى بابِ البَلَدِ، وأثَّرَ فيه. وحمل أيضًا على قلعةِ عقر الحميدية، وهي على جَبَلٍ عالٍ، فوصَلَت طعنتُه إلى سورِها, وأمَّا بعدَ مُلكِه، فكان الأعداءُ مُحدِقينَ ببِلادِه، وكلُّهم يَقصِدُها، ويريدُ أخْذَها، وهو لا يَقنَعُ بحِفظِها، حتى إنَّه لا ينقضي عليه عامٌ إلَّا وهو يفتَحُ مِن بلادِهم, ومِن شجاعَتِه التي لم يُسمَعْ بمِثلِها أنَّه كان في نَفَرٍ أثناءَ حصارِ طَبَريَّة وقد خرج الفِرنجُ مِن البَلَدِ، فحمل عليهم هو ومَن معه وهو يَظُنُّ أنَّهم يَتبَعونَه فتخَلَّفوا عنه وتقَدَّمَ وَحْدَه وقد انهزَمَ مَن بظاهِرِ البلدِ مِن الفرنجِ فدخلوا البلَدَ ووَصَلَ رُمحُه إلى البابِ فأثَّرَ فيه، وقاتلهم عليه وبَقِي ينتظر وصولَ من كان معه فحيث لم يَرَ أحدًا حمى نفسَه وعاد سالِمًا، فعَجِبَ النَّاسُ مِن إقدامِه أوَّلًا، ومِن سلامتِه آخِرًا, وكان زنكي من الأمراءِ المُقَدَّمينَ، فوَّضَ إليه السُّلطان محمودُ بن ملكشاه شحنكية بغداد، سنة 511 في العامِ الذي وُلِدَ له فيه ابنُه المَلِك العادِلُ نورُ الدين محمود، ثمَّ عَيَّنه السُّلطانُ محمود على المَوصِل، بتوصيةٍ مِن القاضي بهاءِ الدينِ أبو الحَسَن علي بن الشهرزوي وصلاح الدين محمد الياغبساني بعد أن أشارا به على وزير السُّلطان بقَولِهما: "قد عَلِمْتَ أنت والسُّلطانُ أنَّ بلادَ الجزيرة والشَّام قد استولى الإفرنجُ على أكثَرِها وتمَكَّنوا منها وقَوِيَت شَوكتُهم، وكان البرسقي يَكُفُّ بعضَ عادِيَتِهم، فمُنذ قُتِلَ ازداد طَمَعُهم، وهذا وَلَدُه طِفلٌ صَغيرٌ ولا بُدَّ للبلادِ مِن شَهمٍ شُجاعٍ يَذُبُّ عنها ويحمي حَوزَتَها، وقد أنهينا الحالَ إليكم لئلَّا يجريَ خَلَلٌ أو وهَنٌ على الإسلامِ والمُسلِمينَ فنَحصُلَ نحن بالإثمِ مِن الله تعالى، واللوم من السُّلطانِ، فأنهى الوزيرُ ذلك إلى السُّلطان فأعجَبَه، وقال: مَن تَرَيانِ يَصلُحُ لهذه البلادِ، فذكرا جماعةً فيهم عمادُ الدين زنكي، وعَظَّمَا محَلَّه أكثَرَ مِن غَيرِه" فأجاب السُّلطانُ إلى توليَتِه؛ لِمَا عَلِمَ مِن شَهامَتِه وكفايتِه، فوَلَّاه البلادَ جَميعَها، وكتب بذلك منشورًا, ولَمَّا قَدِمَ زنكي المَوصِل سَلَّمَ إليه السُّلطانُ محمود وَلَديه ألب أرسلان وفروخشاه المعروف بالخفاجي ليُرَبِّيهما؛ فلهذا قيل لزنكي "أتابك"؛ لأنَّ الأتابك هو الذي يُرَبِّي أولاد الملوك. سار زنكي مِن بغدادَ إلى البوازيج ليَملِكَها ويتقَوَّى بها. كان زنكي يُحسِنُ اختيارَ رِجالِه وقادتِه، فيَختارُ أصلَحَهم وأشجَعَهم, وأكرَمَهم لِمَهامِّ ولايتِه وقيادةِ جُيوشِه، وكان في المُقابِلِ يُكرِمُهم ويَحتفي بهم. عَمِلَ زنكي على تَرتيبِ أوضاعِ المَوصِلِ فقَرَّرَ قواعِدَها فولَّى نصير الدين جقر دزدارية قلعةَ المَوصِل, وجَعَلَ الصَّلاحَ مُحمَّدَ الياغبساني أميرَ حاجِبِ الدولة وجعَلَ بهاء الدين قاضيَ قُضاةِ بلادِه جَميعِها وما يفتَحُه مِن البلادِ، ووفَى لهم بما وعَدَهم وكان بهاءُ الدين أعظَمَ النَّاسِ عنده مَنزِلةً وأكرَمَهم عليه وأكثَرَهم انبساطًا معه وقُربًا منه، ورَتَّبَ الأمورَ على أحسَنِ نِظامٍ وأحكَمِ قاعدةٍ, ثمَّ تفَرَّغَ عِمادُ الدين زنكي لتحريرِ بلاد المُسلِمينَ مِن الفرنج، فبدأ بتَوحيدِ الجَبهةِ الإسلاميَّةِ وهي أراضي المُسلِمينَ المحيطةُ بالفِرنجِ الصَّليبيِّينَ في الشَّامِ, ففَتَحَ مدائِنَ عِدَّةً، وكان خُصومُه من المُسلِمينَ محيطينَ به مِن كُلِّ الجِهاتِ، وهو ينتَصِفُ منهم، ويستولي على بلادِهم, وقد أحاطت ولاياتُهم بولايتِه مِن كُلِّ جِهاتِها، فهو يقصِدُ هذا مَرَّةً وهذا مَرَّةً، ويأخُذُ مِن هذا ويَصنَعُ هذا، إلى أن مَلَك مِن كُلِّ مَن يليه طَرفًا مِن بلادِه، وحاصَرَ دِمشقَ وصالَحَهم على أن خَطَبوا له بها، ثمَّ بعد ذلك اتَّجَه للفِرنجِ واستَنقَذَ منهم كفرطاب والمعرَّة ودوَّخَهم، وشَغَلَهم بأنفُسِهم، ودانت له البلادُ، وخَتَم جِهادَه معهم باستنقاذِ إمارةِ الرَّها منهم. قال أبو شامة: "كان الفِرنجُ قد اتَّسَعَت بلادُهم وكَثُرَت أجنادُهم، وعَظُمَت هيبتُهم، وزادت صَولَتُهم، وامتَدَّت إلى بلادِ المُسلِمينَ أيديهم، وضَعُفَ أهلُها عن كَفِّ عاديهم، وتتابعت غزواتُهم، وساموا المُسلِمينَ سوءَ العذابِ، واستطار في البلاد شَرَرُ شَرِّهم، وامتَدَّت مَملَكتُهم من ناحيةِ ماردين وشبختان إلى عريشِ مِصرَ، لم يتخَلَّلْه مِن ولاية المُسلِمينَ غير حَلَب وحَماة وحمص ودمشق، فلما نظَرَ اللهُ سُبحانَه إلى بلادِ المُسلِمينَ ولَّاها عِمادَ الدِّينِ زنكي فغزا الفرنجَ في عُقرِ دِيارِهم، وأخذَ للمُوحِّدينَ منهم بثَأرِهم، واستنقذ منهم حصونًا ومعاقِلَ" توجَّه أتابك زنكي إلى قلعةِ جعبر ومالِكُها يومذاك سيفُ الدولةِ أبو الحَسَنِ عليُّ بنُ مالك، فحاصَرَها وأشرَفَ على أخْذِها، فأصبح زنكي يومَ الأربعاء خامِسَ شَهرِ ربيع الآخر سنة 541 مَقتولًا، قَتَلَه خادِمُه وهو راقِدٌ على فراشِه ليلًا، ودُفِنَ بصفين. ذَكَرَ بَعضُ خواصِّه قال: "دخَلْتُ إليه في الحالِ وهو حيٌّ، فحين رآني ظَنَّ أني أريدُ قَتْلَه، فأشار إليَّ بإصبُعِه السبَّابة يَستَعطِفُني، فوقَفْتُ مِن هَيبَتِه، وقلتُ له: يا مولانا، مَن فَعَل بك هذا فلم يَقدِرْ على الكلامِ، وفاضَت نفسُه لوقتِه"، فكان- رحمه الله- شديدَ الهَيبةِ على عَسكَرِه ورَعِيَّتِه، عظيمَ السِّياسةِ، لا يَقدِرُ القَويُّ على ظُلمِ الضعيفِ، وكانت البلادُ قبل أن يَملِكَها خرابًا من الظُّلمِ ومُجاوَرةِ الفِرنجِ، فعَمَرَها وامتلأت أهلًا وسُكَّانًا. قال عز الدين بنُ الأثير في تاريخه: "حكى لي والدي قال: رأيتُ المَوصِلَ وأكثَرُها خرابٌ، وكان الإنسانُ لا يَقدِرُ على المشيِ إلى الجامِعِ العتيقِ إلَّا ومعه مَن يحميه؛ لِبُعدِه عن العمارةِ، وهو الآن في وسَطِ العِمارةِ، وكان شديدَ الغيرةِ لا سِيَّما على نساءِ الأجنادِ، وكان يقول: لو لم تُحفَظْ نِساءُ الأجنادِ بالهَيبةِ وإلَّا فَسَدْنَ لِكَثرةِ غَيبةِ أزواجِهنَّ في الأسفارِ". فلمَّا قُتِلَ تَمَلَّك ابنُه نورُ الدين محمود بالشَّامِ، وابنُه غازي بالمَوصِل.
وقَّع محمد بن رشيد مع أهلِ المجمعة حِلفًا دفاعيًّا سريًّا ضد الإمام عبد الله بن فيصل الذي وقع في خلافٍ مع أهالي الوشم والمجمعة الذين ثاروا لتحقيق استقلالِهم عن الرياضِ، ولَمَّا تقدمت جيوشُ عبد الله المؤلَّفة من البوادي والحضر في وادي حنيفة، بادر محمَّد بن رشيد إلى نجدة المجمعة بجيشٍ مؤلَّف من بوادي شمر وقبائل حرب، ولَمَّا وصلت قواتُ ابن رشيد بُرَيدة انضَمَّ إليها أميرُ البلدة حسن آل مهنا أبو الخيل، ومعه جند القصيم، وزحفت قواتُ ابن رشيد إلى الزلفي، وكانت قواتُ عبد الله تعسكر في ضرماء، ولَمَّا عرف عبد الله استعدادَ ابن رشيد للقتال، وعرف أنَّ قواته لا تستطيع مجابهةَ قوَّات خصمه، انسحَب إلى الرياض، ودخل ابنُ رشيد المجمعة وعيَّنَ عليها سليمان بن سامي من أهالي حائل نائبًا عنه، وبذلك انضمت المجمعة إلى ابنِ رشيد وانفصلت نهائيًّا عن الرياضِ.
لمَّا رَأى المُشركون أنَّ أصحابَ رسولِ الله صلى الله عليه وسلم قد تَجهَّزوا وخرجوا، وحملوا وساقوا الذَّراريَّ والأطفالَ والأموالَ إلى الأوسِ والخزرجِ في يَثْرِبَ، أصابتهُم الكآبةُ والحزنُ، وساوَرهُم القلقُ والهَمُّ، فاجتمع طواغيتُ مكَّةَ في دارِ النَّدوَةِ لِيتَّخِذوا قرارًا حاسمًا في هذا الأمرِ. وكان اجتماعُهُم بعدَ شَهرينِ ونصفِ تقريبًا مِن بَيعةِ العَقبةِ، وتوافد إلى هذا الاجتماعِ جميعُ نُوَّابِ القبائلِ القُرشيَّةِ؛ لِيتَدارسوا خُطَّةً حاسِمةً, تَكفُلُ القضاءَ سريعًا على النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم ودَعوتِهِ, ولمَّا جاءوا إلى دارِ النَّدوةِ حَسْبَ الميعادِ، اعترضهُم إبليسُ في هَيئةِ شيخٍ جليلٍ، ووقف على البابِ، فقالوا: مَن الشَّيخُ؟ قال: شيخٌ مِن أهلِ نجدٍ, سمِع بالذي اتَّعَدْتُم له فحضر معكم لِيسمعَ ما تقولون، وعسى ألَّا يُعْدِمَكُم منه رأيًا ونُصْحاً. قالوا: أجلْ، فادْخُلْ. فدخل معهم. وبعد أن تَكامل الاجتماعُ, ودار النِّقاشُ طويلًا. قال أبو الأَسودِ: نُخرِجُهُ مِن بين أَظْهُرِنا ونَنْفيهِ مِن بلادِنا، ولا نُبالي أين ذهب، ولا حيث وقع، فقد أَصلَحنا أَمْرَنا, وأُلْفَتَنا كما كانت. قال الشيخُ النَّجديُّ: لا والله ما هذا لكم برأيٍ، ألم تَرَوْا حُسْنَ حَديثهِ، وحَلاوةَ مَنْطِقِهِ، وغَلَبَتْهُ على قلوبِ الرِّجالِ بما يأتي به، والله لو فعلتُم ذلك ما أَمِنْتُم أن يَحِلَّ على حَيٍّ مِن العربِ، ثمَّ يَسيرُ بهِم إليكم - بعد أن يَتَّبِعوهُ - حتَّى يَطأَكُم بهِم في بلادِكُم، ثمَّ يفعلُ بكم ما أراد، دَبِّروا فيه رأيًا غيرَ هذا. قال أبو البَخْتريِّ: احْبِسوه في الحديدِ وأَغلِقوا عليه بابًا، ثمَّ تَربَّصوا به ما أصاب أمثالَهُ مِن الشُّعراءِ الذين كانوا قبله - زُهيرًا والنَّابِغةَ - ومَن مضى منهم، مِن هذا الموتِ، حتَّى يُصيبَهُ ما أصابهم. قال الشَّيخُ النَّجديُّ: لا والله ما هذا لكم برأيٍ، والله لَئِن حَبَستُموه -كما تقولون- لَيَخرُجنَّ أَمرُهُ مِن وراءِ البابِ الذي أغلقتُم دونَه إلى أصحابهِ، فلأَوْشَكوا أن يَثِبوا عليكم، فيَنزِعوه مِن أَيديكُم، ثمَّ يُكاثِروكُم به حتَّى يَغلِبوكُم على أَمرِكُم، ما هذا لكم برأيٍ، فانظروا في غيرِهِ. بعد ذلك تَقدَّم كبيرُ مُجرِمي مكَّةَ أبو جهلِ بنِ هشامٍ بِاقتِراحٍ آثمٍ وافق عليه جميعُ مَن حضر, قال أبو جهلٍ: والله إنَّ لي فيه رأيًا ما أَراكُم وقعتُم عليه بعدُ. قالوا: وما هو يا أبا الحكمِ؟ قال: أَرى أن نَأخُذَ مِن كُلِّ قَبيلةٍ فَتًى شابًّا جَليدًا نَسِيبًا وَسِيطًا فِينا، ثمَّ نُعطي كُلَّ فَتًى منهم سَيفًا صارمًا، ثمَّ يَعمِدوا إليه، فيَضرِبوه بها ضربةَ رجلٍ واحدٍ فيَقتُلوه، فنَستَريحَ منه، فإنَّهم إذا فعلوا ذلك تَفرَّق دَمُهُ في القبائلِ جميعًا، فلمْ يَقدِرْ بنو عبدِ منافٍ على حربِ قومِهم جميعًا، فَرَضوا مِنَّا بالعَقْلِ، فَعَقَلْناهُ لهم. قال الشَّيخُ النَّجديُّ: القولُ ما قال الرَّجلُ، هذا الرَّأيُ الذي لا رأيَ غيرُهُ. ووافقوا على هذا الاقتراحِ الآثمِ بالإجماعِ.
كان سَببُ ذلك أنَّه لمَّا قَدِمَ الأندَلُس أَميرًا أَظهَر العَصبِيَّة لليَمانِيَّة على المُضَرِيَّة، فاتَّفَق في بعضِ الأيَّام أنَّه اختَصَم رَجلٌ مِن كِنانَة ورَجلٌ مِن غَسَّان، فاسْتَعان الكِنانيُّ بالصُّمَيلِ بن حاتِم بن ذي الجَوْشَن الضَّبابي، فكلَّم فيه أبا الخطَّار، فاسْتَغلَظ له أبو الخطَّار، فأجابه الصُّمَيل، فأُمِرَ به فأُقِيمَ وضُرِب قَفاهُ، فمالَت عِمامتُه، فلمَّا خرَج قِيلَ له: نَرَى عِمامَتك مالَت! فقال: إن كان لي قومٌ فسَيُقِيمُونَها. وكان الصُّمَيْلُ مِن أَشرافِ مُضَر، فلمَّا جَرى له ذلك جَمَعَ قَومَه وأَعلمَهم، فقالوا له: نحن تَبَعٌ لك. قال: أُريدُ أن أُخرِجَ أبا الخَطَّار مِن الأندَلُس. فقال له بعضُ أَصحابِه: افْعَل واسْتَعِن بمَن شِئتَ ولا تَسْتَعِن بأبي عَطاء القَيسي. وكان مِن أَشرافِ قَيس، وكان يَنظُر الصُّميلَ في الرِّياسَة ويَحسُده. وقال له غيرُه: الرَّأيُ أنَّك تأتي أبا عَطاء وتَشُدُّ أَمرَك به فإنَّه تُحرِّكُه الحَمِيَّة ويَنصُرك، وإن تَركتَه مال إلى أبي الخَطَّار وأَعانَه عليك لِيَبلُغ فيك ما يُريد، والرَّأيُ أيضًا أن تَستَعِينَ عليه بأَهلِ اليَمن فَضلًا عن مَعْد. ففَعَل ذلك وسار مِن لَيلتِه إلى أبي عَطاء، وكان يَسكُن مَدينَة إسْتِجَة، فعَظَّمَه أبو عَطاء وسَألَه عن سَببِ قُدومِه، فأَعلمَه، حتَّى قام فرَكِبَ فَرسَه ولَبِسَ سِلاحَه وقال له: انهَض الآنَ حيث شِئتَ فأنا معك. وأَمَر أَهلَه وأَصحابَه باتِّباعِه، فساروا إلى مَرْو، وبها ثَوابَة بن سَلامَة الحُداني، وكان مُطاعًا في قَومِه، وكان أبو الخطَّار قد استَعمَله على إشبيلية وغيرها، ثمَّ عَزلَه ففَسَد عليه، فدَعاهُ الصُّمَيل إلى نَصرِه ووَعَدَهُ أنَّه إذا أخرجوا أبا الخطَّار صار أَميرًا، فأجاب إلى نَصرِه ودَعا قَومَه فأجابوه فساروا إلى شدونة، وسار إليهم أبو الخطَّار مِن قُرطُبة، فالتقوا واقْتَتَلوا في رَجب مِن هذه السَّنَة، وصَبَر الفَريقان ثمَّ وَقَعت الهزيمةُ على أبي الخطَّار وقُتِلَ أَصحابُه أَشدَّ قَتْلٍ وأُسِرَ أبو الخطَّار. ولمَّا انهَزَم أبو الخطَّار سار ثَوابةُ بن سَلامَة والصُّمَيل إلى قُرطُبة فمَلكاها، واسْتَقَرَّ ثَوابةُ في الإمارة فثارَ به عبدُ الرحمن بن حَسَّان الكلبي وأَخرَج أبا الخطَّار مِن السِّجْن، فاسْتَجاش اليَمانِيَّة فاجْتَمَع له خَلْقٌ كثيرٌ، وأَقبلَ بهم إلى قُرطُبة، وخَرَج إليه ثَوابةُ فيمَن معه مِن اليَمانِيَّة والمُضَريَّة مع الصُّمَيل. فلمَّا تَقاتَل الطَّائفتان نادى رَجلٌ مِن مُضَر: يا مَعشرَ اليَمانِيَّة، ما بالُكُم تَتَعرضون للحَربِ على أبي الخطَّار وقد جعلنا الأَميرَ منكم؟ يعني ثَوابَة، فإنَّه مِن اليَمَن... فلمَّا سَمِع النَّاسُ كَلامَه قالا: صَدَق والله، الأَميرُ مِنَّا فما بالُنا نُقاتِل قَومَنا؟ فتَركوا القِتالَ وافتَرقَ النَّاسُ، فهرَب أبو الخطَّار فلَحِقَ باجة، ورَجَع ثَوابةُ إلى قُرطُبة، فسُمِّيَ ذلك العَسكَر عَسكَر العافِيَة.
عندما اندلعت الحرب العظمى انسحب الأتراك من عسيرٍ، أصبح الأمير حسن آل عائض حاكمًا لعسير، لكِنَّ قبائل قحطان وزهران نفرت منه بسبب استبداده، فأرسلوا إلى الملك عبدالعزيز يستعينون به عليه، فأرسل لهم علماء يعلِّمون الناس العلم وينشرون التوحيد، لكنَّ ابن عائض لم يحسِنْ استقبالهم واستمَرَّ في سياسته، فأرسل الملك عبدالعزيز حملةً بقيادة ابن عمه عبد العزيز بن مساعد بن جلوي أمير حائل ومعه قحطان وزهران، فهزموا ابن عائض وابن عمه محمد آل عائض في معركة حجلا؛ فأُسِرَا وأرسلا إلى الرياض، ثم أفرج عنهما وعادا إلى عسير كعمَّال للملك عبدالعزيز.
لَمَّا رأى المحسِنُ ابن الوزير ابن الفرات انحلالَ أمورهم، أخذَ كلَّ مَن كان محبوسًا عنده من المصادَرينَ، فقتَلَهم؛ لأنَّه كان قد أخذ منهم أموالًا جليلةً، ولم يوصِلْها إلى المقتَدِر، فخاف أن يقرُّوا عليه. فكَثُر الإرجافُ على ابن الفرات، فكتب ابنُ الفراتِ إلى المقتَدِر يُعَرِّفُه ذلك، وأنَّ النَّاسَ إنَّما عادَوه لنُصحِه وشفَقتِه، وأخذ حقوقه منهم، فأنفذ المقتَدِرُ إليه يُسَكِّنُه ويطَيِّبُ قَلبَه, ثم ركبَ هو وولدُه إلى المقتدر، فأدخلَهما إليه فطيَّبَ قلوبَهما فخرجا من عنده هو وابنُه المحسن، فأمَّا المحسن فإنه اختفى، وأما الوزير فإنه جلس عامَّةَ نهاره يمضي الأشغالَ إلى الليل، ثم بات مفكِّرًا، فلما أصبح سَمِعَه بعضُ خَدَمِه ينشد: وأصبَحَ لا يدري وإن كان حازمًا... أقُدَّامُه خيرٌ له أم وراءَه. فلما أصبح الغدُ، وهو الثامن من ربيع الأول، وارتفع النهار أتاه نازوك وبليق في عِدَّة من الجند، فدخلوا إلى الوزيرِ، وهو عند الحرم، فأخرجوه حافيًا مكشوفَ الرأس، وأُخِذَ إلى دجلة، ثم حُمِلَ إلى مؤنسٍ المظَفَّر، ومعه هلال بن بدر، فاعتذر إليه ابنُ الفرات، وألان كلامه، فقال له: أنا الآن الأستاذُ، وكنتُ بالأمس الخائنَ الساعيَ في فساد الدولة، وأخرجتَني والمطرُ على رأسي ورؤوسِ أصحابي، (ولم تمهِلْني) ثمَّ سُلِّمَ إلى شفيع اللؤلؤي، فحُبِسَ عنده، وكانت مدَّة وَزارته عشرةَ أشهر وثمانية عشر يومًا، وأُخِذَ أصحابُه وأولاده ولم ينجُ منهم إلَّا المحسن، فإنه اختفى، وصودِرَ ابنُ الفرات على جملةٍ مِن المال مبلغها ألف ألف دينار.
كان بنو دبيس قد قَتَلوا أبا الغنائِمِ بنَ مزيدٍ أخا أبي الحَسَنِ في حربٍ بينهم وحالت الأيَّامُ بينه وبين الأخذِ بثَأرِه، ثم تجهَّزَ لِقَصدِهم بعد ذلك، وجمَعَ العَرَبَ، والشَّاذنجان، والجوانيَّة، وغيرَهما من الأكرادِ، وسار إليهم، فلمَّا قَرُبَ منهم خرَجَت زوجتُه ابنةُ دبيس وقَصدت أخاها مُضَرَ بنَ دبيس ليلًا، وقالت له: قد أتاكم ابنُ مزيد فيما لا قِبَلَ لكم به، وهو يَقنَعُ منكم بإبعادِ نبهان قاتِلِ أخيه، فأبعدوه، فأجابها أخوها مُضَرُ إلى ذلك، وامتَنَع أخوه حَسَّان. فلما سمِعَ ابنُ مزيد بما فعَلَتْه زوجتُه أنكره، وأراد طلاقَها، فقالت له: خِفتُ أن أكونَ في هذه الحَربِ بين فَقدِ أخٍ حَميمٍ، أو زوجٍ كَريمٍ، ففعَلْتُ ما فعلتُ رَجاءَ الصَّلاحِ، فزال ما عنده منها، وتقَدَّم إليهم، وتقَدَّموا إليه بالحُلَلِ والبيوت، فالتَقَوا واقتتلوا، واشتَدَّ القِتالُ بين الفريقين، فظَفِرَ ابنُ مزيد بهم، وهزَمَهم وقَتَلَ حَسَّان ونبهان ابني دبيس، واستولى على البيوتِ والأموال، ولَحِقَ مَن سَلِمَ مِنَ الهزيمة بالحويزة, ولَمَّا ظَفِرَ بهم رأى عندهم مكاتباتِ فَخرِ الملك يأمُرُهم بالجِدِّ في أمرِ ابن مزيد، ويَعِدُهم النُّصرة، فعاتبه على ذلك، وحصل بينهما نُفرةٌ، ودَعَت فخْرَ الملك الضَّرورةُ إلى تقليدِ ابنِ مزيد الجزيرةَ الدبيسيَّةَ، واستثنى مواضِعَ منها: الطيب وقرقوب وغيرهما، وبقي أبو الحسَنِ هناك إلى جُمادى الأولى, ثمَّ إنَّ مُضَرَ بنَ دبيسٍ جمع جمعًا، وكبس أبا الحَسَنِ ليلًا، فهرب في نفرٍ يسيرٍ، واستولى مُضَرُ على حُلَلِه وأمواله، وكلِّ ماله، ولَحِقَ أبو الحسن ببلدِ النيلِ مُنهَزِمًا.
لَمَّا توفِّيَ أبو القاسمِ بنُ مكرم صاحِبُ عُمان خلَّف أربعةَ بنينَ، وهم أبو الجيش، والمهذَّب، وأبو محمد، وآخرُ صغيرٌ، فوَلِيَ بعده ابنُه أبو الجيش، وأقَرَّ عليَّ بن هطال المنوجاني، صاحِبَ جيش أبيه، وكان المهذَّب، يَطعنُ على ابنِ هطال، وبلغه ذلك، فأضمَرَ له سوءًا، فجهَّزَ له مكيدةً وجعله يكتُبُ بخَطِّه ما أظهَرَه ابنُ هطال عند أبي الجيش، وقال له: إنَّ أخاك كان قد أفسد كثيرًا من أصحابِك عليك، وتحَدَّث معي، واستمالني فلم أوافِقْه؛ فلهذا كان يذمُّني، ويقع فيَّ، وهذا خَطُّه بما استقَرَّ- يعني من أنَّه سيمنَحُه الوَزارةَ وغَيرَها إن مَكَّنَه من الأمرِ- فلمَّا رأى خطَّ أخيه أمَرَه بالقبض عليه، ففعل ذلك واعتقَلَه، ثمَّ وضَعَ عليه من خنَقَه وألقى جُثَّتَه إلى مُنخَفضٍ مِن الأرض، وأظهَرَ أنَّه سقط فمات، ثم توفِّي أبو الجيشِ بعد ذلك بيسيرٍ، وأراد ابن هطال أن يأخُذَ أخاه أبا محمَّدٍ فيولِّيَه عمان ثمَّ يقتُلَه، فلم تُخرِجْه إليه والدتُه، وقالت له: أنت تتولَّى الأمور، وهذا صغيرٌ لا يَصلُحُ لها. ففعل ذلك، وأساء السِّيرةَ، وصادر التجَّار، وأخذ الأموالَ، وبلغ ما كان منه مع بني مكرم إلى المَلِك أبي كاليجار البويهي، والعادِل أبي منصور ابنِ مافنة، فأعظما الأمر واستكبَراه، وشَدَّ العادِلُ في الأمر، وكاتَبَ نائبًا كان لأبي القاسِمِ بنِ مكرم بجبالِ عُمان يُقالُ له المرتضى، وأمَرَه بقصد ابن هطال، وجَهَّز العساكِرَ مِن البصرة لتسيرَ إلى مساعدةِ المرتضى، فجمَعَ المرتضى الخَلقَ، وتسارعوا إليه وخرجوا عن طاعةِ ابن هطال، وضَعُف أمرُه، واستولى المرتضى على أكثَرِ البلاد، ثمَّ وضعوا خادمًا كان لابنِ مكرم، وقد التحَقَ بابنِ هطال؛ لقَتْلِه، وساعَدَه على ذلك فَرَّاش كان له، فلمَّا سمع العادل بقَتلِ ابن هطال سيَّرَ إلى عُمان من أخرج أبا محمد بن مكرم، ورتبَه في الإمارةِ، وكان قد استقَرَّ أنَّ الأمر لأبي محمد في هذه السَّنة.
حضر القضاةُ والعُلَماءُ وفيهم الشيخُ تقيُّ الدين ابن تيمية في يوم الاثنين ثامِنَ رجب عند نائب السلطنةِ بالقَصرِ، وقُرئت عقيدةُ الشيخ تقي الدين ابن تيمية الواسطيَّة، وحصل بحثٌ في أماكِنَ منها، وأُخِّرَت مواضِعُ إلى المجلس الثاني، فاجتمعوا يومَ الجمعة بعد الصلاة في الثاني عشر من هذا الشهر, وحضر الشيخُ صفي الدين الهندي، وتكلَّمَ مع الشيخِ تقيِّ الدين كلامًا كثيرًا، ولكِنَّ ساقِيَتَه لاطمت بحرًا، ثم اصطلحوا على أن يكون الشيخُ كمال الدين بن الزملكاني هو الذي يحاقِقُه من غيرِ مُسامحة، فتناظرا في ذلك، وشكر النَّاسُ من فضائل الشيخِ كمال الدين بن الزملكاني وجَودةِ ذِهنِه وحُسنِ بحثِه حيث قاومَ ابن تيميَّة في البحث، وتكَلَّم معه، ثم انفصل الحالُ على قبول العقيدة، وعاد الشيخُ إلى منزله مُعَظَّمًا مُكَرَّمًا، وكان الحامِلُ على هذه الاجتماعات كتابًا ورد من السلطان في ذلك، كان الباعِثُ على إرسالِه قاضي المالكيَّة ابن مخلوف، والشَّيخ نصر المنبجي شيخ الجاشنكير وغيرهما من أعدائه، وذلك أنَّ الشيخ تقي الدين ابن تيمية كان يتكَلَّم في المنبجي وينسِبُه إلى اعتقادِ ابن عربي، وكان للشيخِ تقي الدين من الفُقَهاءِ جماعة يحسُدونَه لتقَدُّمِه عند الدولة، وانفرادِه بالأمر بالمعروف والنهيِ عن المنكر، وطاعةِ الناس له ومحبَّتِهم له، وكثرةِ أتباعِه، وقيامه في الحق، وعِلمِه وعَمَلِه، ثم وقع بدمشقَ خَبطٌ كثير وتشويشٌ بسبب غيبةِ نائب السلطنة، وطَلَب القاضي جماعةً من أصحاب الشيخ وعَزَّرَ بَعضَهم ثمَّ اتفق أن الشيخ جمال الدين المِزِّي الحافظ قرأ فصلًا بالردِّ على الجهميَّة من كتابِ أفعال العباد للبخاريِّ تحت قبة النسر بعد قراءة ميعاد البخاري بسبب الاستسقاء، فغضب بعضُ الفقهاء الحاضرين وشكاه إلى القاضي الشافعي ابن صصرى، وكان عدوًّا للشيخ تقي الدين ابن تيمية, فسَجَن المزِّي، فبلغ الشيخَ تقي الدين فتألَّم لذلك وذهب إلى السجنِ فأخرجه منه بنَفسِه، وراح إلى القصرِ فوجد القاضيَ ابن صصرى هنالك، فتقاولا بسبب الشيخِ جمالِ الدين المزِّي، فحلف ابن صصرى لا بد أن يعيدَه إلى السجن وإلَّا عزل نفسَه فأمر النائِبُ بإعادتِه تطييبًا لقلب القاضي فحَبَسه عنده في القوصيَّة أيامًا ثم أطلقه، ولما قدم نائبُ السلطنة ذكر له الشيخُ تقي الدين ابن تيمية ما جرى في حقِّه وحَقِّ أصحابه في غيبته، فتألم النائِبُ لذلك ونادى في البلدِ ألَّا يتكلم أحدٌ في العقائِدِ، ومن عاد إلى تلك حَلَّ مالُه ودَمُه ورُتِّبَت داره وحانوته، فسكنت الأمور، ثم عُقِدَ المجلس الثالث في يوم سابع شعبان بالقصرِ واجتمع جماعةٌ على الرضا بالعقيدة الواسطية, وفي هذا اليوم عزلَ ابنُ صصرى نفسَه عن الحكم بسبب كلامٍ سمعه من بعض الحاضرينَ في المجلس، وهو من الشيخِ كمال الدين بن الزملكاني، ثم جاء كتابُ السلطان في السادس والعشرين من شعبان فيه إعادةُ ابن صصرى إلى القضاء، وذلك بإشارةِ المنبجي، وفي الكتابِ: إنا كنا سمعنا بعقدِ مَجلِسٍ للشيخ تقي الدين ابن تيمية، وقد بلَغَنا ما عُقِدَ له من المجالس، وأنه على مذهب السَّلَفِ، وإنما أردنا بذلك براءةَ ساحتِه مِمَّا نسب إليه، ثم جاء كتابٌ آخر في خامس رمضان يوم الاثنين وفيه الكشفُ عن ما كان وقع للشيخِ تقي الدين ابن تيمية في أيَّام جاغان، والقاضي إمام الدين القزويني، وأن يُحمَلَ هو والقاضي ابن صصرى إلى مصر، فتوجَّها على البريد نحو مصر، وخرج مع الشيخِ خَلقٌ من أصحابه وبَكَوا وخافوا عليه من أعدائه، وأشار عليه نائبُ السلطنة ابن الأفرم بترك الذَّهابِ إلى مصر، وقال له: أنا أكاتِبُ السلطان في ذلك وأصلِحُ القضايا، فامتنع الشيخُ من ذلك، وذكَرَ له أن في توجُّهِه لمصر مصلحةً كبيرة، ومصالحَ كثيرة، فلما كان يومُ السبت دخل الشيخُ تقيُّ الدين غزَّةَ فعَمِلَ في جامعها مجلسًا عظيمًا، ثم دخلا معا إلى القاهرة والقلوبُ معه وبه متعلِّقة، فدخلا مصر يوم الاثنين الثاني والعشرين من رمضان، وقيل إنَّهما دخلاها يوم الخميس، فلما كان يومُ الجمعة بعد الصلاة عقد للشيخ مجلس بالقلعة اجتمع فيه القضاةُ وأكابر الدولة وأراد أن يتكَلَّم على عادته فلم يتمكَّن من البحث والكلامِ، وانتدب له الشَّمسُ ابن عدنان خصمًا احتسابًا، وادَّعى عليه عند ابن مخلوف المالكي أنَّه يقول: إنَّ الله فوق العَرشِ حَقيقةٌ، وأنَّ الله يتكَلَّمُ بحَرفٍ وصَوتٍ، فسأله القاضي جوابَه فأخذ الشيخُ في حمد اللهِ والثناء عليه، فقيل له: أجِبْ، ما جئنا بك لتخطب! فقال: ومن الحاكِمُ فيَّ؟! فقيل له: القاضي المالكي، فقال له الشَّيخُ: كيف تحكمُ فيَّ وأنت خصمي، فغضب غضبًا شديدًا وانزعج وأقيمَ مَرسمٌ عليه وحُبِسَ في برج أيامًا، ثم نقِلَ منه ليلة العيد إلى الحبس المعروفِ بالجُبِّ، هو وأخوه شرف الدين عبد الله، وزين الدين عبد الرحمن، وأما ابن صصرى فإنه جُدِّدَ له توقيعٌ بالقضاء بإشارة المنبجي شيخ الجاشنكير حاكم مصر، وعاد إلى دمشقَ يوم الجمعة سادس ذي القعدة والقلوبُ له ماقتة، والنفوسُ منه نافرة، وقرئ تقليدُه بالجامع، وبعده قرئ كتابٌ فيه الحطُّ على الشيخ تقي الدين ابن تيميَّة ومخالفته في العقيدة، وأن ينادى بذلك في البلاد الشاميَّة، وألزِمَ أهلُ مذهبه بمخالفتِه، وكذلك وقع بمصر، قام عليه جاشنكير وشيخُه نصر المنبجي، وساعدهم جماعةٌ كثيرةٌ من الفقهاء والصوفيَّة وجرت فِتَنٌ كثيرة منتشرة، نعوذُ بالله من الفتن، وحصل للحنابلةِ بالديار المصرية إهانةٌ عظيمة كثيرة، وذلك أنَّ قاضِيَهم كان قليلَ العِلمِ مُزجَى البضاعةِ، وهو شرف الدين الحراني، فلذلك نال أصحابُهم ما نالهم، وصارت حالُهم حالًا مؤلمة.
كان القانوني قد قتل سابقًا ابنه مصطفى بدسيسة من زوجته روكسلانا الروسية؛ ليتولى ابنُها سليم الخلافة، بل سعت أيضًا لقتل ابن مصطفى الذي لا يزال رضيعًا، وعَهِدَ بالخلافةِ لابنه سليم دون الأكبر بايزيد الذي ثار على أبيه، فأرسل إليه جيشًا فهزمه، فاضطر بايزيد للُّجوء إلى بلاد فارس عند الصفويين، فلما استردَّه سليمان القانوني ثم قتله، صفت ولاية العهد لسليم بن سليمان.
نشبَت الحرب بين قليج أرسلان بن مسعود صاحِبِ قونية، وبين ياغي بسان بن دانشمند صاحِبِ ملاطية، وكان سبب هذه الحرب أنَّ قليج أرسلان تزوج ابنة سلدق بن علي بن أبي القاسم صاحب أرزروم، فسيرت العروس إلى قليج مع جهاز كبير، فأغار ياغي على مسيرة العروس واختطفها وما معها، وأمَرَها بالردَّةِ عن الإسلام لينفَسِخَ زواجُها من قليج أرسلان، ففعلت ثم عادت للإسلامِ؛ ليزوجها ياغي من ابن أخيه، فلما علم قليج بذلك جمع عساكره وسار إلى ملاطية، وقاتل صاحبها ياغي، فانهزم قليج والتجأ إلى ملك الروم يستنصره على ابن دانشمند، فرده ملك الروم بقوة وسَيَّرَه إلى قتال ياغي، ولكن بلغه في الطريق وفاة ابن دانشمند فأغار على بلاده وملك بعضها، وخلف ابن دانشمند أخوه إبراهيم في إمارة ملاطية، وتم الصلح مع قليج على أن يستولي ذو النون بن محمد بن دانشمند على مدينة قيسارية، وأن يملك شاهنشاه أخو قليج أرسلان على مدينة أنكورية (أنقرة).
وُلِد في مَدينة "بلونسك" البُولنديَّة، ولِتَحمُّسِه للصُّهيونيةِ هاجَر إلى فِلَسطين في 1906. امتهَنَ ابن غُوريون الصحافةَ في بِداية حياته العَمَلية، وبدَأ باستعمالِ الاسمِ اليهودي "ابن غُوريون" عندما مارَس حياتَه السِّياسيةَ. وهو أوَّلُ مَن تقلَّد مَنصِب رئيس وُزراءٍ لإسرائيلَ مِن سنةِ 1948م حتى سنة 1953م، وتقلَّد المنصبَ مدَّةً أُخرى بدَأت في 1955م، وانتهَت في 1963م، وعندما تولَّى منْصبَ رئيسَ الوزراءِ أمَر بتَشكيل "جَيش الدِّفاع الإسرائيلي" مِن عناصر عِصابةِ "الهاجاناه"، وهي عصابةٌ صُهيونية. أسَّسه ابنُ غوريون في مَدينة القُدس كرَدِّ فِعلٍ للثَّورة التي اندلَعَت في فِلَسطين من العام 1920م. كان ابن غُوريون مِن طلائع الحرَكةِ العُمَّالية الصُّهيونيةِ في مَرْحلة تأْسيس الكيانِ الصُّهيوني "إسرائيل". وهو الذي قاد إسرائيلَ في حرْب 1948 التي يُطلِق عليها الإسرائيليُّون "حرْب الاستقلالِ". وقد استقالَ مِن رِئاسة الوزراءِ عام 1963م مُعلِنًا رغبتَه في التفرُّغ للدِّراسة والكتابةِ، لكنه ظلَّ مُحتفِظًا بمَقعدِه في الكِنيست، غيرَ أنه لم يُخلِدْ تمامًا لهذا النَّمَط الجديدِ من الحياةِ، فأسَّس عام 1965م حِزبًا مُعارِضًا أسماه (رافي)، ويُعَدُّ ابنُ غوريون من المؤسِّسين لحزْبِ العَمَل الإسرائيلي، والذي تبوَّأ رئاسةَ الوزراءِ الإسرائيليَّة لمدَّة 30 عامًا منذُ تأْسيس الكيانِ الصُّهيوني "إسرائيل". وهلك ابن غُوريون عن عُمرٍ ناهَزَ 87 عامًا.
هو السُّلطانُ موسى ابن السلطان أبي عنان فارس بن أبي الحسن المريني مَلِك المغرب صاحب مدينة فاس وما والاها، توفي في جمادى الآخرة، وأقيم بعده المستنصر محمد بن أبي العباس أحمد المخلوع، ابن أبي سالم فلم يَتِمَّ أمرُه وخُلِعَ بعد قليل، وأقيم الواثق محمد بن السلطان أبي الحسن، كل ذلك بتدبير الوزير ابن مسعود، وهو يوم ذاك صاحب أمر فاس.
خرج عَمرُو بنُ سُليم التجيبي- المعروفُ بالقويع- على محمَّدِ بنِ الأغلب أميرِ إفريقيَّة، فسيَّرَ إليه جيشًا، فحصره بمدينةِ تونس، فلم يبلُغوا منه غرضًا فعادوا عنه. فلما دخَلَت سنة خمس وثلاثين سيَّرَ إليه ابن الأغلب جيشًا، فالتَقَوا بالقرب من تونس، ففارق جيشَ ابنِ الأغلب جمعٌ كثيرٌ، وقصدوا القويعَ فصاروا معه، فانهزم جيشُ ابن الأغلب وقَوِيَ القُويع؛ فلما دخلت سنةُ ستٍّ وثلاثين سيَّرَ محمد بن الأغلب إليه جيشًا، فاقتتلوا فانهزم القويعُ، وقتلَ من أصحابِه مَقتَلة عَظيمة، وأدرك القويعَ إنسانٌ، فضرَبَ عُنُقَه، ودخل جيشُ ابن الأغلب مدينة تونس بالسَّيفِ في جمادى الأولى.