هو الأستاذُ الفيلسوف محمد بن زكريا الرازي، من أهلِ الرَّيِّ، فيها تعلَّمَ ونشأ، ثم سافر إلى بغداد, أشهرُ أطبَّاءِ الإسلامِ وأكثَرُهم ابتكارًا، صاحب التصانيف، من أذكياءِ أهلِ زمانِه، كان كثيرَ الأسفارِ، واسِعَ المعرفةِ، مليحَ التأليف، وكان في بصَرِه رطوبةٌ؛ لكثرةِ أكلِه الباقلَّى، عمِيَ آخِرَ عُمُره. قال عنه الذهبي: "أخذَ عن البلخي الفيلسوفِ، فبلغ الغايةَ في علوم الأوائل. نسأل اللهَ العافية". كان في شبيبته يضرِبُ بالعودِ، فلما التحى قال: "كلُّ غناءٍ يخرجُ مِن بين شاربٍ ولحيةٍ لا يُستحسَنُ، فتركه وأقبل على دراسةِ الطِّبِّ والفلسفة بعد الأربعينَ، وعُمِّرَ وبلغ في علومه الغايةَ حتى أشيرَ إليه في الطبِّ"، اشتغل على الطبيبِ أبي الحسن علي بن ربن الطبري الذي كان مسيحيًّا، فأسلم، تولى تدبيرَ مارستان الريِّ ثم رئاسة الأطباءِ في بيمارستان بغداد زمنَ المكتفي، كان واسِعَ الاطِّلاعِ وله مشاركاتٌ في الحساب والكيمياء والفلسفة والفَلَك، وله تصانيفُ كثيرةٌ أكثَرُها في الطبِّ، تُرجِمَ أكثَرُها إلى اللاتينية، منها كتاب الأسرار في الكيمياء، والطب المنصوري، والفصول في الطب، ومقالة في الحصى والكلى والمثانة، وتقسيم العلل، والمدخل إلى الطب، وأشهرها الحاوي في الطب، وكتاب الجدري والحصبة، وغيرها كثير. كان يجلِسُ في مجلسِه للتعليم ودونَه التلاميذُ ودونَهم تلاميذُهم ودونهم تلاميذُ أُخَرُ, فكان يجيءُ الرجُلُ فيَصِفُ ما يجِدُ مِن المرض لأوَّلِ مَن يلقاه من تلاميذِه، فإن كان عندهم علمٌ وإلَّا تعدَّاهم إلى غيرهم، فإن أصابوا وإلَّا تكلَّم الرازي في ذلك. كان وافِرَ الحُرمة، صاحِبَ مروءة وإيثار، كريمًا متفضِّلًا بارًّا بالناس، حسن الرأفة بالفقراءِ والأعِلَّاء، حتى كان يُجري عليهم الجِرايات الواسعة ويُمَرِّضُهم. وللرازي أخبارٌ كثيرة وفوائِدُ متفرقة فيما حصل له من التمَهُّر في صناعة الطب وفيما تفرَّدَ به في مداواة المرضى، وفي الاستدلال على أحوالهم، وفيما خَبَرَه من الصفات والأدوية التي لم يصِلْ إلى عملها كثيرٌ من الأطباء. فكان إمامَ وَقتِه في علم الطبِّ، متقِنًا لهذه الصناعةِ حاذقًا فيها عارفًا بأوضاعِها وقوانينها، والمشارَ إليه في ذلك العصرِ، فتُشَدُّ إليه الرحالُ في أخذها عنه، ومن كلامِه في الطبِّ: "مهما قدرتَ أن تعالجَ بالأغذيةِ، فلا تعالجْ بالأدوية"، "مهما قدرتَ أن تعالجَ بدواءٍ مُفرَد فلا تعالجْ بدواءٍ مركَّب"؛ "إذا كان الطبيبُ عالِمًا والمريضُ مُطيعًا، فما أقلَّ لُبثَ العِلَّة"؛ "عالجْ في أوَّلِ العلَّة بما لا تَسقُط به القُوَّة". توفِّي في بغداد، وقد اختلف كثيرًا في سَنة وفاتِه مع شهرتِه، فقيل: توفِّي سنة 313، وقيل 317، وقيل 320، وقيل 360.
هو السلطان الملك الظاهر سيف الدين أبو سعيد جقمق العلائي الظاهري الشركسي، السلطان الرابع والثلاثون من ملوك الترك، والعاشر من الجراكسة، ويذكر في أصله أنه أخذ من بلاده صغيرًا فاشتراه خواجا كزلك وجلبه إلى الديار المصرية، فابتاعه منه الأتابك إينال اليوسفي، وقيل: ولده أمير علي بن إينال وهو الأصح، وربَّاه عنده، فطلبه الملك الظاهر منه في سرحة سرياقوس، وأخذه وأعطاه لأخيه جاركس، وقد اختلفت الأقوال في أمر عتقه؛ فمن الناس من قال: إن أمير علي كان أعتقه قبل أن يطلُبَه الملك الظاهر منه، فلما طلبه الملك الظاهر سكت أمير علي عن عتقه لتنال جقمق السعادة بأن يكون من جملة مشتريات الملك الظاهر. تسلطن يوم خُلِعَ الملك العزيز يوسف، وهو يوم الأربعاء التاسع عشر من ربيع الأول سنة 842. كان قد خرج عن طاعة الظاهر جقمق الأمير قرقماس، فواقعه الملك الظاهر، فانهزم قرقماس واختفى، ثم ظُفِرَ به وضُرِبَ عنقه. ثم خرج عن طاعته تغرى برمش نائب حلب، ثم أينال الجكمي نائب الشام؛ فجهز إليهما العساكر، فقاتلوهما واحدًا بعد الآخر، فظَفِرَ بهما وقتلهما. وبعد قتل هؤلاء صفا الوقت للملك الظاهر، وأخذ وأعطى، وقرب أقوامًا وأبعد آخرين. ولم يزل في ملكه والأقدارُ تساعدُه، إلى أن بدأ المرض به في آخر السنة الماضية وما زال يزداد به حتى قويَ عليه جدًّا في أواخر شهر محرم من هذه السنة، ثم لما كان يوم الأربعاء العشرون من المحرم، تكلم السلطان مع بعض خواصِّه في خلع نفسه من السلطنة، وسلطنة ولده المقام الفخري عثمان في حياته، فروجِعَ في ذلك فلم يقبَلْ، ورسم بإحضار الخليفة والقضاة والأمراء من الغد بالدهيشة، فلما كان الغد، وهو يوم الخميس الحادي والعشرين محرم حضر الخليفة والقضاة وجميع الأمراء، وفي ظنِّ الناس أنه يعهد لولده عثمان بالملك من بعده كما هي عادة الملوك، فلما حضر الخليفة والقضاة عنده بعد صلاة الصبح، خلع نفسَه من السلطنة، وقال للخليفة والقضاة: الأمر لكم، انظروا فيمن تُسلطِنوه، أو معنى ذلك؛ لعِلمِه أنهم لا يعدلون عن ولده عثمان؛ فإنَّه كان أهلا للسلطنة بلا مدافعة، فلما سمع الخليفةُ كلام السلطان، لم يعدِلْ عن المقام الفخري عثمان، لِما كان اشتمل عليه عثمان من العلم والفضل، وإدراكِه سِنَّ الشبيبة، وبايعه بالسَّلطنة، وتسلطن في يوم الخميس ولقِّبَ بالملك المنصور، وعمره يومئذ نحو الثماني عشرة سنة تخمينًا، واستمرَّ الملك الظاهر مريضًا ملازمًا للفراش، وابنه الملك المنصور يأخذ ويعطي في مملكتِه، ويعزِلُ ويولي، والملك الظاهر في شُغلٍ بمرضه، وما به من الألم في زيادة، إلى أن مات في قاعة الدهيشة الجوانية بين المغرب والعشاء من ليلة الثلاثاء ثالث صفر وقرئ حوله القرآن العزيز، إلى أن أصبح وجُهِّزَ وغُسِّلَ وكُفِّن من غير عجلة ولا اضطراب، حتى انتهى أمرُه وحُمِل على نعشه، وأُخرِج به، وأمام نعشه ولده السلطان الملك المنصور عثمان ماشيًا وجميع أعيان المملكة إلى أن صلِّيَ عليه بمصلاة باب القلعة من قلعة الجبل، وصلى عليه الخليفة القائم بأمر الله أبو البقاء حمزة، وخلفه السلطان المنصور عثمان والقضاة وجميع الأمراء والعساكر، ثم حمل بعد انقضاء الصلاة عليه وأُنزِلَ من القلعة، حتى دفِنَ بتربة أخيه الأمير جاركس القاسمي المصارع، ولم يشهد ولده الملك المنصور دفنَه، وكانت مدة سلطنته أربع عشرة سنة وعشرة شهور ويومين.
هو الأميرُ الكبيرُ, قائِدُ الجُيوشِ, أبو الحسَنِ جَوهرُ بنُ عبد الله الروميُّ الصقلِّيُّ، قائد المعِزِّ الفاطميِّ, مِن نُجَباء الموالي. كان عاليَ الهِمَّة, نافِذَ الأمر. فتح مِصرَ للفاطميِّينَ فأنهى الحُكمَ الإخشيديَّ عليها لَمَّا تهيَّأَ له أخذُ البلاد بمُكاتبةٍ مِن أمراء مصر, عندما قَلَّت عليهم الأموالُ, اختَطَّ القاهِرةَ في اللَّيلةِ التي دخل فيها مِصرَ, والجامِعَ الأزهَرَ، كُلُّ ذلك قبلَ مجيءِ المعِزِّ الفاطميِّ إليها، ثمَّ لَمَّا تَمَلَّك العزيزُ أرسَلَه إلى فتح دمشق، لكنَّه انسحب لاستنجادِهم بالقرامِطةِ، فعُزِلَ عن القيادةِ إلى أن توفِّيَ. قال الذهبي: "كان جوهرٌ حسَنَ السيرةِ في الرَّعايا, عاقِلًا أديبًا, شُجاعًا مَهيبًا, لكِنَّه على نِحلةِ بَني عُبَيدٍ، التي ظاهِرُها الرَّفضُ, وباطِنُها الانحلالُ. وعُمومُ جُيوشِهم من البربَرِ، وأهلُ زعارةٍ وشَرٍّ لا سيَّما مَن تَزَندقَ منهم, فكانوا في معنى الكَفَرةِ, فكم ذاقَ المُسلِمونَ منهم من القَتلِ والنَّهبِ وسَبيِ الحريمِ، ولا سيَّما في أوائِلِ دَولتِهم, حتى إنَّ أهلَ صور استنجدوا بنصارى الرُّومِ لَمَّا لَحِقَهم من المغاربةِ مِن الظُّلمِ والجَورِ وأخْذِ الحَريمِ مِن الحَمَّامات والطُّرُقِ أمرٌ كبيرٌ"، فقاموا عليهم, وقَتَلوا فيهم فهربوا. توفِّيَ جَوهرٌ في هذه السَّنةِ في القاهرةِ، ودفن في الجامعِ الأزهر.
وَقعَ نِزاعٌ بين فِرقَتينِ، فِرقةِ العَبيدِ وعَرَبِ الصَّعيدِ، وفِرقةِ الجُنْدِ مِن التُّركِ والمَغارِبَةِ، ورَأسُهم ناصرُ الدَّولةِ ابنُ حمدان التَّغلبيُّ، فالتَقوا بكومِ الريش، فهَزمَهم ابنُ حمدان، وقَتَلَ وغَرَّقَ نحوًا من أربعين ألفًا. ونَفَدَت خَزائنُ المُستَنصِر على التُّركِ، ثم اختَلَفوا، ودامت الحَربُ أيامًا، وطَمِعَ التُّركُ في المُستَنصِر، وطالبوه حتى بِيعَت فُرُشُ القَصرِ، وأَمتِعَتُه بأَبخَسِ ثَمَنٍ، وغَلَبَت العَبيدُ على الصَّعيدِ، وقَطَعوا الطُّرُقَ، وكان نَقْدُ الأَتراكِ في الشهرِ أربعَ مائة ألف دِينارٍ، واشتَدَّت وَطأةُ ناصرِ الدَّولةِ، وصار هو الكُلُّ، فحَسَده الأُمراءُ، وحارَبوهُ، فهَزَموه، ثم جَمَعَ وأَقبلَ فانتَصَر، واضمَحلَّ أَمرُ المُستَنصِر بالمَرَّةِ، وخَملَ ذِكْرُهُ. وبَعثَ ابنُ حمدان يُطالِبُه بالعَطاءِ، فَرآهُ رَسولُه على حَصيرٍ، وما حوله سِوى ثلاثةِ غِلمانٍ. فقال: أما يكفي ناصرَ الدَّولةِ أن أَجلِسَ في مثلِ هذا الحالِ؟ فبَكَى الرسولُ، ورَقَّ له ناصرُ الدَّولةِ، وقَرَّرَ له كلَّ يومٍ مائةَ دِينارٍ, وتَفرَّق عن المُستَنصِر أَولادُه، وأَهلُه من الجوعِ، وتقرفوا وتَفَرَّقوا في البلادِ، ودامَ الجَهْدُ عامين، ثم انحَطَّ السِّعْرُ في سَنةِ خمسٍ وسِتِّين. قال الذهبيُّ: "كان ناصرُ الدَّولةِ، يُظهِر التَّسَنُّنَ، ويَعِيبَ المُستَنصِرَ لِخُبْثِ رَفْضِهِ وعَقِيدَتِه" قال ابنُ الأَثيرِ: بالَغَ ابنُ حمدان في إهانَةِ المُستَنصِر، وفَرَّقَ عنه عامَّةَ أَصحابِه، وكان غَرضُه أن يَخطُبَ لأَميرِ المؤمنين القائمِ، ويُزيلَ دَولةَ الباطنِيَّة، وما زال حتى قَتَلَهُ الأُمراءُ، وقَتَلوا أَخوَيهِ فَخْرَ العَربِ، وتاجَ المعالي، وانقَطَع ذِكْرُ الحمدانية بمصر بالكُلِّيَّةِ"
جَهَّزَ مُعاوِيَةُ بن أبي سُفيان جيشًا عظيمًا بَرًّا وبَحْرًا لِغَزْوِ القُسطنطينيَّة، وكان قائدَ الجيشِ سُفيانُ بن عَوفٍ الأزديُّ، وقاد الأُسْطولَ بُسْرُ بن أَرْطاة, وكان في الجيشِ ابنُ عبَّاسٍ، وابنُ عُمَر، وأبو أَيُّوبَ، وابنُ الزُّبيرِ، والحُسينُ بن عَلِيٍّ رضي الله عنهم، انْضَمُّوا إلى هذه الحَملَةِ مُتَمَثِّلينَ أَمامَ أَعيُنِهم قولَ الرَّسولِ: (لَتُفْتَحَنَّ القُسطنطينيَّةُ فَلَنِعْمَ الأميرُ أَميرُها، وَلَنِعْمَ الجيشُ ذلك الجيشُ). آمِلِينَ أن يَتَحَقَّقَ فيهم قولُ الرَّسولِ، فقد ثبَت عن رسولِ الله: (أوَّلُ جيشٍ يَغْزون مَدينةَ قَيْصَر مَغفورٌ لهم). وقام الجيشُ بحِصارِ القُسطنطينيَّة، وجَرَتْ اشْتِباكاتٌ عَديدة بين الطَّرفين خَسِرَ فيها المسلمون الكَثيرَ، وقد جاءَهُم مَدَدٌ مِن الشَّام بقيادةِ يَزيدَ بن مُعاوِيَة ممَّا قَوَّى أَمرَهُم، وتُوفِّي هناك أبو أيُّوبَ ودُفِنَ عند سُورِها؛ ولكن لم يَتِم فتحُها مع شِدَّةِ الحِصارِ وقُوَّتِه؛ وذلك لِمَنَعَةِ المدينةِ، وقُوَّةِ أَسوارِها، ومَكانِها في البَرِّ والبَحرِ، وأُحْرِقَت كثيرٌ مِن سُفُنِ المسلمين.
لم تكن الفتنةُ بين عبد الله وسعود أبناء فيصل بن تركي وليدةَ الساعة بعد وفاة والدهما، بل كانت روحُ التنافس موجودة بينهما من أيام والدهما؛ ولذلك جعل فيصل سعودًا أميرًا على الخَرجِ والأفلاج ومناطق جنوب بلاد العارض، وما أن توفي فيصل حتى ثار سعودٌ على أخيه عبد الله ينازعه في الحكمِ، واتجه إلى عسير ونزل على حكامِها آل عايض يطلب العونَ والمساعدة في حربِه على أخيه بحجَّةِ أنه كان يهينُه ولم يَرْعَ حَقَّه، وحاول عبد الله أن يثني سعودًا عن غرضه، ووعده بأن يلبي له طلبه إذا عاد إلى الرياض، لكِنَّ سعودًا لم ينثنِ عن عزمِه، ولَمَّا لم يجد العون من آل عايض اتجه إلى نجران يستنصِرُ بصاحبها، وهو في الأصل عدو لدعوة الشيخ محمد بن عبد الوهاب، وكذلك عدو لبيت آل سعود، فوعده بالنصرة، كما وقف مع سعود بن فيصل ضِدَّ أخيه عددٌ من القبائل، منهم العجمان، ويعض قبائل بدو الدواسر، وبنو مرة، وبدو نجران وأميرها الذي ساعده بالمال. وقد حَذَّر علماءُ أئمة الدعوة من هذه الفتنةِ، وأصدروا الفتاوى وبيَّنوا للعامَّةِ والخاصة بغيَ سعود على أخيه عبد الله، ومنها ما كتبه الشيخ عبد الرحمن بن حسن آل الشيخ: "بسم الله الرحمن الرحيم، من عبد الرحمن بن حسن إلى من يصل إليه من الإخوانِ، سلامٌ عليكم ورحمة الله وبركاته. وبعد: تفهمون أنَّ الجماعةَ فرضٌ على أهل الإسلام، وعلى من دان بالإسلامِ، كما قال تعالى: {وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُوا} [آل عمران: 103] ولا تحصل الجماعةُ إلا بالسمع والطاعة لِمَن ولاه الله أمرَ المسلمين، وفي الحديث الصحيح عن العِرباضِ بن ساريةَ، قال: وعَظَنا رسولُ الله صلى الله عليه وسلم موعظةً وَجِلَت منها القلوب، وذَرَفت منها العيونُ،.... الحديث، وقد جمع الله أوائِلَ الأمة على نبيه صلى الله عليه وسلم، وذلك بسبب الجهاد، وكذلك الخلفاء، رد الله بهم إلى الجماعةِ مَن خرج، وفتح الله لهم الفتوحَ، وجمع الله الناسَ عليهم، وتفهمون أنَّ الله سبحانه وتعالى جمعكم على إمامِكم عبد الله بن فيصل بعد وفاة والده فيصل، فالذي بايع بايعَ وهم الأكثرون، والذين لم يبايعوا بايعَ لهم كبارُهم، واجتمع عليه أهلُ نجدٍ باديهم وحاضِرُهم، وسمعوا وأطاعوا، ولا اختلف عليه أحدٌ منهم، حتى سعود بن فيصل، بايع أخاه وهو ما صار له مدخال في أمرِ المسلمين، لا في حياة والده ولا بعده، ولا التفت له أحدٌ من المسلمين. ونقَضَ البيعة، وتبيَّنَ لكم أمرُه أنه ساعٍ في شَقِّ العصا، واختلافِ المسلمين على إمامهم، وساعٍ في نقض بيعةِ الإمام، وقد قال تعالى: {وَأَوْفُوا بِعَهْدِ اللَّهِ إِذَا عَاهَدْتُمْ وَلا تَنْقُضُوا الْأَيْمَانَ بَعْدَ تَوْكِيدِهَا وَقَدْ جَعَلْتُمُ اللَّهَ عَلَيْكُمْ كَفِيلًا إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا تَفْعَلُونَ وَلا تَكُونُوا كَالَّتِي نَقَضَتْ غَزْلَهَا مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ أَنْكَاثًا تَتَّخِذُونَ أَيْمَانَكُمْ دَخَلًا بَيْنَكُمْ أَنْ تَكُونَ أُمَّةٌ هِيَ أَرْبَى مِنْ أُمَّةٍ إِنَّمَا يَبْلُوكُمُ اللَّهُ بِهِ وَلَيُبَيِّنَنَّ لَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مَا كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ} [النحل: 91،92] وسعى سعودٌ في ثلاثة أمور كُلُّها مُنكَرة: نَقَض البيعةَ بنفسِه، وفارق الجماعةَ، ودعا الناس إلى نقضِ بيعة الإمام، فعلى هذا يجِبُ قتالُه وقِتالُ من أعانه".
هو الملك المنصور عبد الله بن الناصر أحمد بن الأشرف إسماعيل بن الأفضل عباس بن المجاهد علي بن المؤيد داود بن المظفر يحيى بن المنصور عمر بن علي بن رسول متملك اليمن, وهو تاسع حكَّام دولة بني رسول باليمن، وحكم سنة واحدة فقط من 829 إلى 830. توفِّي في جمادى الأولى، وأُقيم مِن بَعدِه أخوه الأشرف إسماعيل.
هو الإمامُ الحافظُ الكبيرُ، محَدِّث العراق، ومؤرِّخُ العصر، محبُّ الدين، أبو عبد الله محمَّد بن محمود بن حسن بن هبة الله بن محاسن بن النجار البغدادي, مولِدُه سنة 578. كان والدُه مقدمَ النجَّارين بدار الخلافة، وكان من العوام. أولُ سماع لابن النجار سنة ثمان وثمانين، وأول دخولِه في الطلب وهو حَدَثٌ سنة ثلاث وتسعين، سمع الكثيرَ ورحل شرقًا وغربًا، وهو صاحب كتاب ذيل التاريخ المعروف جعَلَه ذيلًا لتاريخ بغداد للخطيب البغدادي. قال ابن النجار في أول (تاريخه): "كنت وأنا صبيٌّ عَزَمتُ على تذييل (الذيل) لابنِ السَّمعاني، فجمعتُ في ذلك مسوَّدة، ورحلت وأنا ابن ثمان وعشرين سنة، فدخلت الحجازَ والشام ومصر والثغر وبلاد الجزيرة والعراق والجبال وخراسان، وقرأت الكتبَ المطولات، ورأيتُ الحفَّاظَ، وكنتُ كثير التتبُّع لأخبار فضلاء بغداد ومَن دخَلَها". قال الذهبي: "ساد ابنُ النجَّار في هذا العلم, واشتهر، وكتب عمَّن دَبَّ ودرج من عالٍ ونازل، ومرفوعٍ وأثَر، ونظمٍ ونَثر، وبرَعَ وتقدم، وصار المشارَ إليه ببلده، ورحل ثانيًا إلى أصبهان في حدود العشرينَ، وحجَّ وجاور، وعمل (تاريخًا) حافلًا لبغداد ذيَّلَ به على الخطيب واستدرك عليه فيه، وهو في مائتي جزء، ينبئ بحِفظه ومعرفتِه، وقد قرأتُ عليه (ذيل التاريخ) وكان مع حفظِه فيه دينٌ وصيانةٌ ونُسُك". وقد شرع في كتابة التاريخ وعمره خمس عشرة سنةً، وقرأ بنفسِه على المشايخِ كثيرًا حتى حصل نحوًا من ثلاثة آلاف شيخٍ، من ذلك نحوٌ من أربعمائة امرأة، وتغَرَّب ثماني وعشرين سنة، ثم جاء إلى بغداد وقد جمع أشياءَ كثيرة، من ذلك القَمَر المنير في المسند الكبير، يذكُرُ لكلِّ صحابيٍّ ما روى، وكَنز الأيام في معرفة السُّنَن والأحكام، والمختَلِف والمؤتَلِف، والسابق واللاحق، والمتَّفِق والمفترِق، وكتاب الألقاب، ونهْج الإصابة في معرفة الصَّحابة، والكافي في أسماء الرِّجال، وغير ذلك مما لم يتمَّ أكثرُه, وله أخبارُ مكَّة والمدينة وبيت المقدس، وغُرَر الفوائد وأشياء كثيرة جدًّا، وذكر أنَّه لما عاد إلى بغداد عُرِضَ عليه الإقامة في المدارس فأبى وقال: معي ما أستغني به عن ذلك، وكانت وفاتُه يوم الثلاثاء الخامس من شعبان، وله من العمر خمسٌ وسبعون سنة وصُلِّيَ عليه بالمدرسة النظامية، وشهِدَ جنازته خلقٌ كثير، وكان ينادى حول جنازته هذا حافِظُ حديث رسولِ الله صلى الله عليه وسلم، الذي كان ينفي الكذبَ عنه، ولم يترك وارثًا.
كان الوزيرُ ابن العلقمي يجتَهِدُ في صرف الجيوش وإسقاطِ اسمِهم من الديوان، فكانت العساكِرُ في آخر أيام المستنصر قريبًا من مائة ألف مقاتل، منهم من الأمراء ومن هو كالملوك الأكابر الأكاسر، فلم يزل يجتهد في تقليلِهم إلى أن لم يبقَ سوى عشرة آلاف، ثم كاتب التتارَ وأطمعهم في أخذِ البلاد، وسَهَّل عليهم ذلك، وحكى لهم حقيقةَ الحال، وكشَفَ لهم ضعف الرجال، وذلك كلُّه طمعًا منه أن يزيل السُّنَّة بالكُلِّيَّة، وأن يُظهِرَ البِدعةَ الرَّافضية، وأن يقيمَ خليفةً مِن الفاطميِّينَ، وأن يُبيدَ العلماء والمُفتين- والله غالبٌ على أمرِه- كانت الفِتَنُ قد استعرت بين السُّنة والرافضة في بغداد حتى تجالَدوا بالسيوف، وشكا أهلُ باب البصرة إلى الأمير ركن الدين الدويدار والأمير أبي بكر بن الخليفة فتَقَدَّما إلى الجند بنَهبِ الكرخ، فهَجَموه ونهبوا وقتلوا، وارتكبوا من الشنعة العظائم، فحنق ابنُ العلقمي ونوى الشرَّ، وأمر أهل الكرخ بالصَّبرِ والكف. فمالأ- قبَّحَه اللهُ- على الإسلامِ وأهلِه المغولَ الكَفَرةَ وزَعيمَهم هولاكو، حتى فعل ما فعل بالإسلامِ وأهلِه، خاصة في بغداد- عليه من الله ما يستحقُّ- كان قدوم هولاكو بجنوده كلها- وكانوا نحو مائتي ألف مقاتل- إلى بغداد في ثاني عشرَ المحرم من هذه السنة، وجاءت إليهم أمدادُ صاحب الموصل يساعِدونَهم على أهل بغداد, وميرته وهداياه وتُحَفه، وكل ذلك خوفًا على نفسه مِن التتار، ومصانعةً لهم، وقد سُتِرَت بغداد ونُصِبَت فيها المجانيق والعرادات وغيرها من آلات الممانعة، فأحاطوا ببغدادَ مِن ناحيتها الغربيَّة والشرقية، وجيوش بغداد في غايةِ القِلَّة ونهاية الذِّلَّة، لا يبلغونَ عَشرةَ آلاف فارس، وهم وبقيَّة الجيش، كلهم قد صرفوا عن إقطاعاتِهم وذلك كلُّه عن آراء الوزيرِ ابن العلقميِّ الرافضي، الذي دبَّر على الإسلام وأهله ما وقع من الأمر الفظيعِ، الذي لم يؤرخ أبشَعُ منه منذ بُنِيَت بغداد، وكان أوَّلَ مَن برز إلى التتار هو، فخرج بأهلِه وأصحابِه وخَدَمِه وحَشَمِه، فاجتمع بالسلطانِ هولاكو خان- لعنه الله- ثم عاد فأشار على الخليفةِ بالخروجِ إليه والمثول بين يديه لتقَعَ المصالحة على أن يكون نِصفُ خراج العراق لهم ونِصفُه للخليفة، فخرج الخليفةُ في سبعمائة راكبٍ مِن القضاة والفقهاء والصوفية ورؤوس الأمراء والدولة والأعيان، فلما اقتَرَبوا من منزل السلطان هولاكو خان حُجِبوا عن الخليفةِ إلا سبعة عشر نفسًا، فخَلَص الخليفة بهؤلاء المذكورين، وأُنزِلَ الباقون عن مراكبهم فنُهِبَت وقُتِلوا عن آخرهم، وأُحضِرَ الخليفة بين يدي هولاكو فسأله عن أشياء كثيرة، فيقال: إنَّه اضطرب كلامُ الخليفة من هَولِ ما رأى من الإهانةِ والجبروت، ثم عاد إلى بغداد وفي صُحبَتِه خوجه نصير الدين الطوسي، والوزير ابن العلقمي وغيرهما، والخليفةُ تحت الحوطة والمصادرة، فأحضَرَ مِن دار الخلافة شيئًا كثيرًا مِن الذهب والحُلِيِّ والمصاغ والجواهر والأشياء النفيسة، وقد أشار أولئك الملأ من الرَّافضة وغيرهم من المنافقين على هولاكو ألَّا يصالح الخليفة، وقال الوزير: متى وقع الصلحُ على المناصفة لا يستمِرُّ هذا إلا عامًا أو عامين، ثم يعود الأمر إلى ما كان عليه قبل ذلك، وحَسَّنوا له قتل الخليفة، فلما عاد الخليفةُ إلى السلطان هولاكو أمر بقَتلِه، ويقال: إن الذي أشار بقتله الوزير ابن العلقمي، والمولى نصير الدين الطوسي، وكان النصيرُ عند هولاكو قد استصحبه في خدمَتِه لما فتح قلاع ألموت التي للإسماعيلية، وانتزعها من أيديهم، وانتخب هولاكو الطوسيَّ ليكون في خدمته كالوزير المشير، فلما قَدِمَ هولاكو وتهيبَ مِن قَتلِ الخليفة هَوَّن عليه الوزير ذلك فقتلوه، فباؤُوا بإثمِه وإثم من كان معه من ساداتِ العُلَماءِ والقُضاة والأكابر والرؤساء والأمراء وأولي الحَلِّ والعقد ببلاده، ومالوا على البلد فقَتَلوا جميع من قدروا عليه من الرجال والنساء والولدان والمشايخ والكهول والشبَّان، ودخل كثيرٌ من الناس في الآبار وأماكِنِ الحشوش، وقنى الوسَخِ، وكَمَنوا كذلك أيامًا لا يظهرون، وكان الجماعةُ مِن الناس يجتمعون إلى الخانات ويُغلِقونَ عليهم الأبواب فتفتحها التتارُ إمَّا بالكسر وإما بالنار، ثم يدخلونَ عليهم فيهربون منهم إلى أعالي الأمكنةِ فيقتلونهم بالأسطُحِ، حتى تجري الميازيب من الدماءِ في الأزقة، فإنا لله وإنا إليه راجعون!! وكذلك في المساجد والجوامع والرُّبُط، ولم ينجُ منهم أحد سوى أهل الذمَّة من اليهود والنصارى ومَن التجأ إليهم وإلى دار الوزير ابن العلقمي الرافضي، وطائفةٌ مِن التجَّار أخذوا لهم أمانًا، بذلوا عليه أموالًا جزيلةً حتى سَلِموا وسَلِمَت أموالهم، وعادت بغدادُ بعد ما كانت آنَسَ المدن كلِّها كأنها خرابٌ ليس فيها إلا القليلُ مِن الناس، وهم في خوفٍ وجوعٍ وذِلَّة وقلة! وكان دخولهم إلى بغداد في أواخِرِ المحرم، وما زال السيف يقتُلُ أهلَها أربعينَ يومًا، وكان الرجلُ من بني العباس يُستدعى به مِن دار الخلافة فيخرج بأولادِه ونسائه فيُذهَبُ به إلى مَقبرةِ الخَلَّال تجاه المنظرة فيُذبَحُ كما تُذبَحُ الشاة، ويؤسَرُ من يختارون من بناتِه وجواريه، وتعطَّلَت المساجد والجمع والجمعات مدة شهورٍ ببغداد، ولما انقضى الأمرُ المقَدَّر وانقضت الأربعون يومًا بقيت بغداد خاويةً على عروشها ليس بها أحَدٌ إلا الشاذُّ من الناس، والقتلى في الطرقات كأنها التلول، وقد سقط عليهم المطَرُ فتغيرت صُوَرُهم وأنتنت من جِيَفِهم البلد، وتغيَّرَ الهواء فحصل بسببه الوباءُ الشديد حتى تعدى وسرى في الهواءِ إلى بلاد الشام، فمات خلقٌ كثير من تغيُّرِ الجو وفساد الريح، فاجتمع على الناس الغلاءُ والوَباءُ والفَناء والطعن والطاعون، فإنا لله وإنا إليه راجعون، ولما نودي ببغداد بالأمانِ خرج من تحت الأرضِ مَن كان بالمطامير والقنى والمقابر كأنهم الموتى إذا نُبِشوا من قبورهم، وقد أنكر بعضُهم بعضًا، فلا يعرف الوالد ولده ولا الأخ أخاه، وأخذهم الوباءُ الشديد فتفانوا وتلاحقوا بمن سبقَهم من القتلى، واجتمعوا تحت الثرى بأمرِ الذي يعلَمُ السر َّوأخفى، اللهُ لا إلهَ إلا هو له الأسماءُ الحسنى. حكى جمال الدين سليمان بن عبد الله بن رطلين قال: "لما قُتِلَ الخليفة, وأَطلَقَ المغول السبعة عشر الذين كانوا معه وكان أبي معهم، قُتِلَ منهم رجلان وطلب الباقونَ بيوتهم فوجدوها بلاقِعَ. فأتوا المدرسةَ المغيثية، وقد كُنتُ ظَهرتُ مِن مخبئي, فبقيت أسألُ عن أبي، فدُلِلْتُ عليه، فأتيتُه وهو ورفاقه، فسَلَّمت عليهم، فلم يعرفني أحدٌ منهم، وقالوا: ما تريد؟ قلت: أريدُ فخر الدين ابن رطلين. وقد عرفتُه، فالتفَتَ إليَّ وقال: ما تريد منه؟ قلت: أنا ولَدُه. فنظر إليَّ وتحقَّقني، فلما عرفني بكى!!". كان رحيل هولاكو خان عن بغداد في جمادى الأولى من هذه السنة إلى مقر مُلكِه، وفوَّضَ أمر بغداد إلى الأمير علي بهادر، فوَّضَ إليه الشحنكية بها وإلى الوزير ابن العلقمي الذي مات بعد أشهرٍ من هذه الحادثةِ غَمًّا وكَمَدًا, فولي بعده الوزارة ولدُه عز الدين بن الفضل محمد، فألحقه اللهُ بأبيه في بقيَّة هذا العام.
لمَّا بَلَغَ رسولُ الله صلَّى اللهُ عليه وسلَّم سِتَّ سنينَ، خرجَتْ به أُمُّه السيِّدةُ آمنةُ بنتُ وهبٍ إلى أخوالِه بني عَديِّ بن النَّجَّار تَزورُهم به، ومعه حاضِنَتُه أمُّ أيمنَ رَضي اللهُ عنها، وهم على بَعيرَين، فنَزَلَت به أُمُّه في دارِ النابغةِ عند قبرِ أبيه عبدِ الله بن عبدِ المُطَّلِب، فأقامَت به عند أخوالِه شهرًا، ثم رَجَعَت به أُمُّه إلى مكةَ، فلمَّا كانوا بالأبواءِ توُفِّيَت أُمُّه آمِنةُ بنتُ وهبٍ، ورَجَعَت به أُمُّ أيمنَ رَضي اللهُ عنها -واسمُها: بَرَكةُ بِنتُ ثَعلَبةَ بنِ حِصنٍ-، وكانت أمُّ أيمنَ رَضي اللهُ عنها تحبُّ النبيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم حُبًّا شديدًا وتَعتني به غايةَ الاعتِناءِ، وتَحوطُه برِعايَتِها وشَفقَتِها، وكان النبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم يَبَرُّها ويُحسِنُ إليها، ولمَّا كَبِرَ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم أعتَقَها، ثم أنكَحَها زيدَ بنَ حارِثةَ رَضي اللهُ عنه الذي أنجَبَت منه أُسامةَ بنَ زيدٍ رَضي اللهُ عنهما، وقد توُفِّيَت أمُّ أيمنَ رَضي اللهُ عنها بعدما توفِّي رسولُ الله صلَّى اللهُ عليه وسلَّم بخَمسةِ أشهُرٍ.
تَزوَّج رسولُ الله صلى الله عليه وسلم عائشةَ الصِّدِّيقةَ رضي الله عنها وهي بنتُ سِتِّ سِنينَ, وبَنى بها بالمدينةِ في شَوَّال في السَّنةِ الثانية مِن الهِجرةِ وهي بنتُ تِسعِ سِنينَ, وكانت أَحظى أزواجِه عنده وأحبَّهُم إليه, ولمْ يتزوَّجْ بِكرًا غيرَها.
هو أبو عبدِ الرَّحمن مُعاوِيَةُ بن أبي سُفيان الأُمَويُّ القُرشيُّ، مِن أصحابِ الرَّسول صلى الله عليه وسلم، وأحدُ كُتَّابِ الوَحْي، سادِسُ الخُلفاءِ في الإسلامِ، وأوَّلُ مُلوكِ المسلمين، ومُؤَسِّسُ الدَّولةِ الأُمويَّة في الشَّام، وُلِدَ بمكَّة وتَعَلَّم الكِتابَةَ والحِسابَ، أَسلَم مُعاوِيَةُ رضي الله عنه يومَ الفَتحِ، وقِيلَ: في عُمرَةِ القَضاءِ وكان يَكتُم إسلامَهُ خَوفًا مِن أَبيهِ، وقد اسْتَعمَله رسولُ الله صلَّى الله عليه وسلَّم على كِتابَةِ الوَحْي، واسْتَعمَلَه على الشَّامِ الخُلفاءُ: عُمَرُ، وعُثمانُ، وبَقِيَ على الشَّام في خِلافَة عَلِيٍّ بغَيرِ رِضاهُ، فبَقِيَ كذلك قُرابةَ العِشرين سنة، ثمَّ تَمَّ له الأَمْرُ بعدَ تَنازُلِ الحسنِ بن عَلِيٍّ له، وبَقِيَ خَليفَةً مُدَّةَ تِسعةَ عشرَ عامًا وأَشْهُر، فتَح الله له فيها الكثيرَ مِن البِلادِ، واشْتُهِرَ بالحِكمَةِ في سِياسَتِه للنَّاس، ومُداراتِه لهم، وكان قد عَهِدَ لابنِه يَزيدَ قبلَ مَوتِه، وبعَث في البِلادِ لِيأخُذوا له ذلك، وتُوفِّي في دِمشقَ وصلَّى عليه الضَّحَّاكُ بن قيسٍ، ودُفِنَ فيها، جَزاهُ الله خيرًا عن الإسلام والمسلمين.
هو أميرُ المؤمنين الخليفة العباسي المستظهر بالله أبو العباس أحمد بن المقتدي بأمر الله أبي القاسم عبد الله بن الذخيرة محمد بن القائم بأمر الله عبد الله بن القادر الهاشمي، العباسي، البغدادي. ولد في شوال سنة 470، وأمه أمُّ ولدٍ، واستُخلِف عند وفاة أبيه في تاسع عشر المحرم وله ست عشرة سنة وثلاثة أشهر، وذلك في سنة 487. كان خيِّرًا فاضلًا ذكيًّا بارعًا كريم الأخلاق، ليِّن الجانب، سخيَّ النفس، مؤثرًا للإحسان، حافظًا للقرآن، محبًّا للعلم، منكرًا للظلم، فصيح اللسان، كتب الخط المنسوب, وكانت أيامه ببغداد كأنها الأعياد، وكان راغبًا في البر والخير، مسارعًا إلى ذلك، لا يرُدُّ سائلًا، وكان جميل العشرة لا يُصغي إلى أقوال الوُشاة من الناس، ولا يثق بالمباشرين، وقد ضبط أمور الخلافة جيدًا، وأحكمها وعلمها، وكان لديه علم كثير، وله شِعر حسن. قال ابن النجار: "كان المستظهر موصوفًا بالسخاء والجود، ومحبة العلماء، وأهل الدين، والتفقد للمساكين، مع الفضل والنُّبل والبلاغة، وعلو الهمة، وحسن السيرة، وكان رضي الأفعال، سديد الأقوال". ولما بويع بالخلافة استوزر أبا منصور ابن جهير، وقال له: "الأمور مفوَّضة إليك، والتعويل فيها عليك؛ فدبِّرها بما تراه. فقال: هذا وقتٌ صعب، وقد اجتمعت العساكر ببغداد مع السلطان الذي عندنا، ولا بد من بذل الأموال التي تستدعي إخلاصهم وطاعتهم. فقال له: الخزائن بحُكمك؛ فتصرَّفْ فيها عن غير استنجاز ولا مراجعة ولا محاسبة. فقال: ينبغي كتمان هذه الحال إلى أن يصلح نشرها". توفي المستظهر بالله سحرَ ليلة الخميس سادس عشرين ربيع الآخر؛ مَرِض ثلاثة عشر يومًا من تراقي –دمَّل يطلع في الحلق- ظهر به، وبلغ إحدى وأربعين سنة وستة أيام، وكانت خلافته أربعًا وعشرين سنة وثلاثة أشهر وأحد عشر يومًا، وقد ولي غسله ابن عقيل أبو الوفا الحنبلي، وابن السني، وصلى عليه ولده أبو منصور الفضل، ودفن في حجرة كان يسكنها، ومن غريب الاتفاق أنه لما توفي السلطان ألب أرسلان توفي بعده الخليفة القائم بأمر الله، ولما توفي السلطان ملكشاه توفي بعده الخليفة المقتدي بأمر الله، ولما توفي السلطان محمد توفي بعده الخليفة المستظهر بالله. لما توفي المستظهر بالله بويع ولدُه المسترشد بالله أبو منصور الفضل بن أبي العباس أحمد بن المستظهر بالله، وكان وليَّ عهد أبيه, وقد خُطب له وليًّا للعهد ثلاثًا وعشرين سنة، فبايعه أخواه ابنا المستظهر بالله، وهما أبو عبد الله محمد، وأبو طالب العباس، وعمومته بنو المقتدي بأمر الله، وغيرهم من الأمراء والقضاة والأئمة والأعيان، وكان المتولي لأخذ البيعة القاضي أبو الحسن الدامغاني، وكان نائبًا عن الوزارة فأقرَّه المسترشد بالله عليها.