رحل المغولُ مِن دمشق على أنَّهم سيعودون زمن الخريف ليدخلوا مصر أيضًا، وعاد سيف الدين قبجق إلى دمشقَ يوم الخميس بعد الظهر خامس عشرين جمادى الأولى ومعه الألبكي وجماعة، وبين يديه السيوفُ مُسَلَّلة وعلى رأسه عصابةٌ، فنزل بالقصر ونودي بالبَلَدِ: نائبُكم قبجق قد جاء فافتَحوا دكاكينَكم واعملوا معاشَكم، ولا يغرر أحدٌ بنفسه هذا الزَّمان والأسعارُ في غاية الغلاءِ والقِلَّة، ولما كان في أواخر الشهر نادى قبجق بالبلد أن يخرُجَ الناس إلى قُراهم، وأمر جماعة وانضاف إليه خلقٌ من الأجناد، وكَثُرت الأراجيف على بابه، وعَظُم شأنه ودُقَّت البشائر بالقلعة، وركب قبجق بالعصائبِ في البلد والشاويشية بين يديه، وجهز نحوًا من ألف فارس نحو خربة اللصوصِ، ومشى مشيَ الملوك في الولاياتِ وتأمير الأمراءِ والمراسيم العالية النافذة، ثم إنَّه ضمن الخماراتِ ومواضِعَ الزنا من الحاناتِ وغيرها، وجُعِلَت دارُ ابن جرادة خارج من باب توما خمارةً وحانة أيضًا، وصار له على ذلك في كلِّ يومٍ ألفُ درهم، وهي التي دمَّرَتْه ومحقت آثارَه، وأخذ أموالًا أخرى من أوقاف المدارس وغيرها، ورجع بولاي من جهة الأغوار وقد عاث في الأرض فسادًا، ونهب البلادَ وخَرَّب ومعه طائفةٌ من التتر كثيرة، وقد خربوا قرًى كثيرة، وقتلوا من أهلها وسَبَوا خلقًا من أطفالها، وجبى لبولاي من دمشق أيضًا جباية أخرى، وخرج طائفةٌ من القلعة فقَتَلوا طائفة من التتر ونهبوهم، وقُتِلَ جماعة من المسلمين في غبون ذلك، وأخذوا طائفةً ممن كان يلوذ بالتتر، ورَسَمَ قبجق لخطيبِ البلَدِ وجماعة من الأعيان أن يدخُلوا القلعة فيتكَلَّموا مع نائِبِها في المصالحةِ، فدخلوا عليه يومَ الاثنين ثاني عشر جمادى الآخرة، فكلَّموه وبالغوا معه فلم يجِب إلى ذلك، وقد أجاد وأحسن وأرجل في ذلك بيَّضَ اللهُ وَجهَه، وفي ثامن رجب طلب قبجق القضاةَ والأعيان فحَلَّفَهم على المناصحة للدولة المحمودية- يعني قازان- فحلفوا له، وفي هذا اليوم خرج الشيخ تقيُّ الدين ابن تيمية إلى مخيَّم بولاي فاجتمع به في فكاكِ مَن كان معه من أسارى المُسلمين، فاستنقذ كثيرًا منهم من أيديهم، وأقام عنده ثلاثةَ أيامٍ ثم عاد، ثم راح إليه جماعةٌ من أعيان دمشق ثم عادوا من عنده فشُلحوا عند باب شرقي وأخَذَ ثيابَهم وعمائِمَهم ورجعوا في شرِّ حالة، ثم بعَثَ في طلبهم فاختفى أكثَرُهم وتغيَّبوا عنه.
قامت ثورةٌ عارمة في تركستان الشرقية ضِدَّ الصين سنة 1350هـ / 1931م كان سببُها تقسيمَ الحاكم الصيني المنطقةَ التي يحكمها "شاكر بك" إلى وحداتٍ إدارية، فبدأ التذمُّر، ثم وقع اعتداءٌ على امرأةٍ مسلمة من قِبَل رئيس الشرطة، فامتلأ الناسُ غيظًا وحِقدًا على الصينيين، وتظاهروا بإقامة حفلٍ على شَرفِ رئيس الشرطة وقَتَلوه أثناء الحَفلِ مع حرَّاسه البالغ عددُهم اثنين وثلاثين جنديًّا. وقد كانت ثورةً عنيفة، اعتصم خلالها بعضُ المسلمين في المرتفعات، ولم تستطع القواتُ الصينية إخمادَها، فاستعانوا بقوات من روسيا فلم تُجْدِ نفعًا مع بركان الغضب المسلِم، وانتصر المسلِمون عليهم، واستولوا على مدينة "شانشان"، وسيطروا على "طرفان" -شمال تركستان الصينية غرب الصين-، واقتربوا من "أورومجي" -مدينة في شمال غربي الصين- قاعدة تركستان الشرقية. وأرادت الحكومةُ الصينية تهدئةَ الأوضاعِ، فعزلت الحاكمَ العامَّ، غير أن المسلمين كانوا قد تمكَّنوا من الاستيلاء على "أورومجي"، وطردوا الحاكِمَ العامَّ قبل أن تعزِلَه الدولة، وتسلَّم قادةُ المسلمين السلطةَ في الولاية، ووزَّعوا المناصب والمراكز على أنفُسِهم، فما كان من الحكومة الصينية إلا أن رضخت للأمر الواقع، واعترفت بما حدث، وأقرَّت لقادة الحركة بالمراكز التي تسلَّموها. وقد امتَدَّ هذا الأمر إلى منطقة تركستان الشرقية كلِّها، وقام عددٌ من الزعماء بالاستيلاء على مدنهم، ثم اتجهوا إلى "كاشغر" -أشهر مدن تركستان الشرقية- واستولوا عليها، وكان فيها "ثابت داملا" أي: الملا الكبير، فوجدها فرصةً وأعلن قيامَ حكومة "كاشغر الإسلامية"، أما "خوجانياز" أو "عبد النياز بك"، فقد جاء إلى الثائرين في كاشغر ليفاوِضَهم وينهي ثورتَهم، إلا أنه اقتنع بعدالةِ ثورتِهم، فانضَمَّ إليهم وأعلن قيامَ حكومة جديدة باسم "الجمهورية الإسلامية في تركستان الشرقية"، وكان ذلك في (2 رجب 1352هـ / 12 نوفمبر 1933م، وقد اختير "خوجانياز" رئيسًا للدولة، و"ثابت داملا" رئيسًا لمجلس الوزراء. ولم تلبث هذه الحكومة طويلًا، فقد ذكر "يلماز أوزتونا" في كتابه "الدولة العثمانية" أنَّ الجيشَ الصيني الروسي استطاع أن يهزم "عبد النياز بك" مع جيشه البالغ (80) ألف جندي، بعد مقتل "عبد النياز" في 6 جمادى الآخرة 1356هـ / 15 أغسطس 1937م، وبذلك أسقط التحالفُ الصيني الروسي هذه الجمهوريةَ المسلِمةَ، وقام بإعدام أعضاء جميع أعضاء الحكومةِ مع عشرة آلاف مسلمٍ.
بينظير بوتو سياسيةٌ باكستانيةٌ، وابنةُ السياسي ورئيس باكستان السابق ذو الفقار علي بوتو، وهي من مواليد مدينة كراتشي، بعد إكمالها لدراستها في جامعة هارفارد بالولايات المتحدة، وجامعة أكسفورد في بريطانيا، عادت إلى باكستانَ بمُدَّة قليلة قبلَ الانقلاب على أبيها الذي قاده ضياء الحق، نشأت "بنظير بوتو" في أسرةٍ سياسيةٍ عريقةٍ، فكان جَدُّها "السير شاهنواز بوتو" الذي يُعَدُّ أحدَ الشخصيات السياسية المشهورة في الهند البريطاني، فقد تولَّى مناصبَ عاليةً جدًّا في الحكومة البريطانية، كان منها مساعدةُ الحاكم الإنجليزي للهند، ورئاسة وزراء إقليم (جوناغر) في الهند، وحصل على عدة ألقابٍ من الحكومة الاستعمارية البريطانية في الهند، منها (خان بهادر)، و(السير)، وكان قد شكَّل حزبًا سياسيًّا باسم (حزب الشعب السندي)، أما "ذو الفقار علي بوتو" (والد بنظير بوتو) فقد مشى على خُطى أبيه، فبعد ما تخرَّج في كلية (بركلي) المشهورة في كاليفورنيا، وجامعة أكسفورد الشهيرة رجَعَ إلى كراتشي عامَ 1953م، وبدأ يشتَغِلُ في المحاماة والتدريس، ثم شكَّلَ حزب الشعب الباكستاني عامَ 1967م، وفي عام 1977م حصل حزبُ الشعبِ على الأغلبية، وشكَّلَ الحكومة، وتولَّى "ذو الفقار علي بوتو" رئاستَها، أمَّا "بنظير بوتو" فقد نشأت أثناءَ هذه الأحداث الساخنة، وفي هذه الأسرة السياسية العريقة، ومن هنا كانت ترى نفسَها أحقَّ الناسِ بالحُكم والسُّلْطة، وترى أنها وُلدت لتحكُمَ ولتقودَ، وكانت دراسة "بوتو" تصُبُّ في سياق وُصولها للحُكم، فكانت دراستُها الابتدائية والثانوية في مدينة كراتشي، وروالبندي، ومدينة مري، في مدارسَ تنصيريَّةٍ، ومن ثَمَّ سافرت إلى أمريكا عامَ 1969م وبَقِيَت في جامعة هارفارد إلى عام 1973م، وحصلت على شهادة البكالوريوس، ثم انتقلت إلى بريطانيا، ودرست القانونَ الدوليَّ، والدبلوماسيةَ في جامعة أكسفورد الشهيرة من عام 1973م، إلى عام 1977م، وأثناءَ هذه السنوات نفسِها درسَت في كلية (مارغريت هال) التابعة لجامعة أكسفورد فلسفةَ السياسةِ، عاشت "بوتو" أغلبَ وقتِها في الخارج، ورجعَت إلى باكستانَ عامَ 2007م، بعد اتفاقياتٍ عقَدَتها مع الجنرال مشرف بضغوطٍ أمريكيةٍ وبريطانيةٍ وضمانهما، بأنها ستُسهِّل لمشرف مهمة البقاء في منصب رئاسة الدولة في مقابلِ أنْ يُعطيَها فُرصةَ تولي رئاسة الوزراء في الحكومة القادمة، وعند عودتها تم اغتيالُها يومَ 27/12/2007م.
كان الأمير تنم الحسني قد تغلَّب على دمشق أيام موت السلطان الظاهر برقوق، ثم إن السلطان الناصر فرج بن برقوق أقرَّه وأعطاه نيابة دمشق، وأجيز بإخراج من أراد من السجون، فأخرج عدة أمراء من السجون، وزاد أمره فأراد تملُّك أكثر من دمشق، كحلب وحمص وطرابلس وغيرها، ثم إن أيتمش لما هرب في الفتنة التي حصلت بينه وبين يشبك -في شهر صفر من هذه السنة- جاء إلى دمشق الأمير تنم هو ومن معه من الأمراء في خامس ربيع الآخر، فخرج الأمير تنم إلى لقائه، وبالغ في إكرامه وإكرام من معه، وعَظُم شأن الأمير تنم بقدوم أيتمش عليه، وأطاعه من خالف عليه، وفي ثامنه قَدِمَ عليه كتابُ الملك الناصر بمَسكِ أيتمش ومن معه وقدومه إلى مصر، فأحضر الكتاب وحامله إلى عند أيتمش، وأعلمه بذلك، ثم جهَّز أيتمش وتغري بردي قصادهما إلى نائب حماة، ونائب حلب، بدعواهما إلى ما هم عليه، فأجابا بالسمع والطاعة في خامس عشر جمادى الأولى، ورُدَّ الخبر بخروج الأمير تنم نائب الشام، وأيتمش، بمن معهما من دمشق إلى جهة غزة، فرسم السلطان فرج بالتجهيز للسفر؛ ففي السابع عشر اجتمع الأمراء والمماليك بمجلس السلطان، فحثَّهم على السفر في أول جمادى الآخرة، وأن يخرج ثمانية أمراء من الألوف بألف وخمسمائة من المماليك المشتراوات وخمسمائة من المستخدمين، فاختلف الرأي؛ فمنهم من أجاب، ومنهم من قال: لا بدَّ من سفر السلطان، وانفضُّوا على غير شيء، ونفوسُهم متغيرةٌ من بعضهم على بعض، ثم في شهر رجب في رابعه يوم الجمعة: نزل السلطان من القلعة إلى الريدانية ليتوجه إلى قتال أيتمش ونائب الشام، فأقام بمخيَّمه، وتلاحق به الأمراء والعساكر والخليفة وقضاة القضاة، وفي ثامنه: رحل السلطان ببقية العسكر، وعِدَّةُ من سار أولًا وثانيًا نحو سبعة آلاف فارس، وأما الأمير تنم نائب الشام فإنه وجَّه نائب حلب بعسكره إلى جهة مصر في ثامنه، وخرج في تاسعه ومعه الأمير أيتمش وبقية العساكر، ومن انضَمَّ إليهم من التركمان، وخيَّم على قبة يلبغا خارج دمشق، حتى لحقه بقية العسكر ومن سار معه من القضاة، وعمل الأمير جركس أبو تنم نائب الغيبة، وفي الحادي عشر رحل الأمير تنم من ظاهر دمشق، وتبعه ابن الطبلاوي في الثاني عشر، وسار نائب طرابلس بعسكره ساقة، ثم إن الأمير تنم نزل على الرملة بمن معه، وكان لما قدم عليه من انكسر من عَسكرِه على غزة شَقَّ عليه ذلك، وأراد أن يقبِضَ على بتخاص والمنقار، ففارقاه ولحقا بالسلطان، وأن السلطان بعث إليه من غزة بقاضي القضاة صدر الدين المناوي في يوم الثلاثاء التاسع عشر، ومعه ناصر الدين محمد الرماح أمير أخور، وطغاي تمر مُقدَّم البريدية، وكتب له أمانًا، وأنَّه باق على كفالته بالشام إن أراد ذلك، وكتب الأمراء إلى الأمير تنم يقولون له: أنت أبونا وأخونا، وأنت أستاذنا، فإن أردتَ الشام فهي لك، وإن أردت مصر كنَّا مماليكك وغلمانك، فصُنِ الدماء. وكان الأمراء والعسكر في غاية الخوف منه؛ لقوَّتِه وكثرة عدده، وتفرُّقِهم واختلافِهم، فسار إليه القاضي وحَدَّثه في الصلح ووعظه، وحذَّره الشقاق والخروج عن طاعة السلطان، فقال الأمير تنم: ليس لي مع السلطان كلام، ولكن يرسل إلى الأمير يشبك وسودون طاز وجركس المصارع، وجماعة عَيَّنهم، ويعود الأمير أيتمش كما كان هو وجميع الأمراء الذين معه، فإن فعل ذلك وإلا فما بيني وبينهم إلا السيف، وثبت على ذلك، فقام القاضي ليخرجَ، فخرج الأمير تنم معه بنفسِه إلى خارج الخيمة، وأركبه فرسًا في غاية الحُسنِ، وعضده لما ركب، فقدم القاضي يوم الخميس الحادي والعشرين منه ومعه أحد خاصكية السلطان ممن كان عند الأمير تنم، وعوقه نحو أربعة أشهر عن الحضور، وأعاد الجواب فاتفق الجميعُ على محاربته، فلما كان يوم السبت الثالث والعشرين منه: ورد الخبر أن الأمير تنم ركب ممن معه يريد الحرب، فسار السلطان بعساكره من غزة إلى أن أشرف على الجينين قريب الظهر، فعاين الأمير تنم قد صفَّ عساكره، ويقال إنهم خمسة آلاف فارس وستة آلاف راجل، فتقدمت عساكر السلطان إليهم وقاتلوهم، فلم يكن غير يسير حتى انهزمت عساكِرُ الأمير تنم، ووقع في الأسر الأميرُ تنم نائب الشام، وأقبغا نائب حلب، ويونس نائب طرابلس، وأحمد ابن الشيخ علي، وفارس حاجب الحُجَّاب وبيغوت، وشادي خجا، وبيرم رأس نوبة أيتمش، وجلبان نائب حلب، ومن أمراء الطبلخاناه والعشرات ما ينيف على مائة أمير، وفرَّ أيتمش، وتغري بردي، ويعقوب شاه، وأرغون شاه، وطيفور، في ثلاثة آلاف إلى دمشق ليملِكوها، وعندما قُبِضَ على الأمير تنم كتب إلى دمشق بالنصرة ومَسْك تنم، فوصل البريدُ بذلك يوم الثلاثاء السادس والعشرين منه على نائب الغيبة بدمشق، فنودي بذلك, ثم قدم الأمير أيتمش إلى دمشق يوم الأربعاء السابع والعشرين منه، فقبض عليه، وعلى تغري بردي، وطيفور، وأقبغا اللكاش، وحُبسوا بدار السعادة، ثم مُسِك بعد يومين أرغون شاه، ويعقوب شاه، وتقدم القاضي سعد الدين إبراهيم بن غراب إلى دمشق، فقدمها في يوم السبت آخره، دخل السلطان بأمرائه وعساكره إلى قلعة دمشق، فكان يومًا مشهودًا وسُرَّ الناس به سرورًا كبيرًا, وفي ليلة الخميس رابع رمضان قُتِل الأمير تنم نائب الشام، والأمير يونس الرماح نائب طرابلس بقلعة دمشق خنقًا بعد أن استصفيت أموالهما، ولم يبقَ لهما شيء، ثم سُلِّما إلى أهلهما، فدُفِن الأمير تنم بتربته بميدان الحصى خارج دمشق، ودُفِن يونس بالصالحية، فكانت مدة ولاية الأمير تنم نيابة الشام سبع سنين وستة أشهر ونصفًا، وولاية يونس طرابلس نحو ست سنين.
بظهورِ عماد الدين زنكي بن أقسنقر بدأ عهد الدولة الزنكية في الموصل وحلب؛ فقد تولى عماد الدين زنكي أمرَ ولاية الموصِل وأعمالها سنة 521 بعد أن ظهرت كفاءتُه في حكم البصرة وواسط، وتولَّى شحنكية العراق، أي: ضابطُ أمن البلَدِ-، وفي محرم سنة 522 تمت له السيطرة على حلب, وأخذ عماد الدين يخوض المعارك تلو المعارك ويحقق الانتصارات على الصليبيين، وقد علَّق ابن الأثير بعد أن تحدَّث عن انتصار عماد الدين على الفرنج في معركة كبيرة، وملكه حصن الأثارب، وحصاره حارم سنة 524، فقال: "وضَعُفَت قوى الكافرين، وعلموا أنَّ البلاد قد جاءها ما لم يكن لهم في حساب، وصار قُصاراهم حِفظَ ما بأيديهم بعد أن كانوا قد طمعوا في ملك الجميع". واستمرَّت جهود زنكي في توحيد قوى المسلمين في غزو الصليبيين، فملك حماة وحمص وبعلبك، وسرجي، ودارا، والمعرة، وكفر طاب، وقلعة الصور في ديار بكر، وقلاع الأكراد الحميدية، وقلعة بعرين، وشهرزور، والحديثة، وقلعة أشب وغيرها من الأكراد الهكارية. وفي سنة 534 حاول زنكي الاستيلاء على دمشق مرتين دون جدوى؛ فقد كانت دمشق المفتاحَ الحقيقي لاسترداد فلسطين من جهة الشام، غيرَ أن حاكم دمشق معين الدين أنر راسلَ الصليبيين للتحالُفِ ضِدَّ زنكي ووعدهم أن يحاصِرَ بانياس ويسَلِّمَها لهم ووافقوا، ولكن زنكي ذهب إليهم قبل قدومِهم لدمشق، فلما سمعوا ذلك لم يخرجوا. ومع ذلك فإنَّ معين الدين حاصر بانياس بمساعدة جماعة من الفرنج، ثم استولى عليها وسلَّمها للفرنج.
كان سعود بن فيصل منذ اللحظة الأولى التي تسلَّم فيها حكم الرياض في المرة الأولى سنة 1288هـ قرَّر أن يعمل على استعادة إقليم الأحساء للدولة من العثمانيين، إما عن طريق القوة أو عن طريق السِّلم، فأرسل إلى بلي المقيم البريطاني في الخليج العربي رسالةً يذكُرُ فيها أنه الآن حاكم نجد ومسيطرٌ على الوضع تمامًا، وغرضه أن يحُلَّ السلام بين السكان بعد أن سيطر على ما بحوزة أخيه عبد الله الموالي للترك، وأنَّ علاقته بالحضر والبدو طيبة، وأنه يؤيد بريطانيا في كونها مسؤولةً وحاميةً لمنطقة الساحل، لكِنَّ الإنجليز رأوا ألَّا يتورطوا بين الأتراك والسعوديين؛ لذا بدأ سعود يتدخَّلُ بمفرده، فأرسل عدة إنذارات للترك يدعوهم فيها للانسحابِ مِن القطيف والمنطقة، ولم تلق إنذاراتُه أي تغيير في موقف مدحت باشا، بل على العكس أخذ يساعِدُ عبد الله بن فيصل نكايةً في سعود، ولَمَّا عُزِل مدحت باشا عن ولاية بغداد صادف اتفاقٌ جزئي بين الأخوين فعَمِلا معًا لاستعادة الأحساء، لكن محاولتهما باءت بالفشلِ؛ لعجزهم عن مواجهة القوات التركية لضعف قدراتِهم في تموين قواتِهم، كما أنَّ الخلافات القائمة لم تسمَحْ لهما بالاستمرار في محاربة الأتراك؛ لأنَّ كلًّا منهم يتربَّصُ بالآخر، على الرغم أنَّ القوات التركية لم تكن في وضعٍ حَسَن من حيث الإمكانات العسكرية, وقد تكبَّد الطرفان التركي والسعودي خسائِرَ، خاصَّةً الجيش التركي فتكَت به الأمراض المعدية؛ مِمَّا اضطره للرحيل إلى البصرة وبدأت مفاوضات بين الطرفين أرسل فيها سعود أخاه الصغير عبد الرحمن، لكن المحادثات لم تنجَح.
وَرِثت روسيا تَركةَ الاتِّحاد السُّوفيتي القديمِ وعَلاقتَه بالجُمهورية العربية السُّورية، وقد مرَّت عَلاقاتُهما بكثيرٍ من المواقف المختلِفة، ويُلاحَظ أنَّ السُّوفيت لم يَرْكَنوا إلى الحكومات السُّورية المتعاقِبة؛ لِعَدائها جميعًا للحزبِ الشُّيوعي السوري، إلَّا أنهم ارْتاحوا لِرَغبتِها في الحِفاظ على استقلال سُوريَة، وتجنُّب الشِّباك الأمريكية، وقد وقَّعت سُوريَة معاهدةَ صداقةٍ وتعاوُن مع الاتِّحاد السُّوفيتي في يوليه 1980م، وساعد دمشقَ على ذلك عواملُ عِدةٌ؛ أهمُّها: سُوء عَلاقتها مع بَغدادَ وعمَّانَ، وأبرَز ما جاء فيه: 1/ يُعلِنُ الطرفانِ المتعاقدانِ عَزْمَهما على التطويرِ والتعزيز لِرَوابط الصداقةِ والتعاون بيْن كِلْتا الدولتينِ والشعبينِ في المجال السياسيِّ، والاقتصاديِّ، والعسكريِّ، والعِلْميِّ التِّكنيكي، والثقافيِّ، والمجالات الأخرى، على أساسِ مَبادئ التكافؤِ والمنفعة المتبادَلة، واحترام السِّيادة والاستقلال الوطنيِّ، وحُرْمة الأراضي، وعدم التدخُّل في الشُّؤون الداخلية لِبَعضهما البعض. 2/ سوف يَعمل الطرفانِ المتعاقدانِ بكلِّ السُّبل على تعزيز السلامِ، وأمْن الشعب، وانفراجِ التوتُّر الدوليِّ وتجسيده في أشكالٍ ملموسةٍ من التعاون بيْن الدولِ، وتسوية قَضايا الخلافات بالطُّرق السِّلمية، والإقصاء مِن مُمارسات العَلاقاتِ الدوليةِ لأيَّة ظواهر لِسِياسة الهَيمنة والعُدْوان. قدَّمت رُوسيا منذ أيام الاتِّحاد السُّوفيتي الدعمَ العسكريَّ الكبيرَ لِسُوريَة، ولكنه تراجَعَ في التِّسعينيات في عَهدي الرئيسينِ: غورباتشوف، ويلتسين، وعاد الدعمُ الرُّوسي لِسُوريَة في عهد الرئيسِ فلاديمير بوتين، وكان بإعادةِ افتتاح القاعدةِ البحرية الرُّوسية في ميناء طَرطوس، وعَقْد الصفقاتِ العسكرية مع سُوريَة، منها: تَقديم خُبراء عسكريينَ وأسلحةٍ، وتجديد عَتاد الجيشِ السُّوري مِن أسلحة حديثةٍ.
هو الشَّيخُ الإمامُ العلَّامة، فقيهُ العصر، شيخُ الحنابلة، مجدُ الدين أبو البركات عبد السلام بن عبد الله بن أبي القاسم الخضر بن محمد بن علي بن تيمية الحراني الحنبلي، جد الشيخ تقي الدين بن تيميَّة المشهور بشيخِ الإسلام، ولِدَ في حدود سنة 590 وتفَقَّه في صغره على عَمِّه الخطيب فخر الدين، ففقه وبرع، واشتغل وصنف التصانيف، وانتهت إليه الإمامةُ في الفقه، وكان يجيدُ القراءاتِ، وصنَّف فيها أرجوزةً, وقد حَجَّ في سنة إحدى وخمسين على درب العراق، وانبهر علماءُ بغداد لذكائه وفضائله. قال شيخ الإسلام تقي الدين أبو العباس: كان الشيخُ جمال الدين بن مالك يقول: أُلينَ للشَّيخِ المجد الفقهُ كما أُلينَ لداود الحديد, ثم قال الشيخُ: وكانت في جَدِّنا حدة, وعَجَبٌ في سرد المتون، وحِفظُ مذاهب الناس، وإيرادُها بلا كُلفة. حدثني الإمام عبد الله بن تيمية: أن جدَّه ربِّيَ يتيمًا، ثم سافر مع ابن عمه إلى العراق ليخدُمَه وينفِقَ عليه، وله ثلاث عشرة سنة، فكان يبيت عنده ويسمَعُه يكرر على مسائل الخلافِ فيحفَظُ المسألة, فقال الفخر إسماعيل بن عساكر يومًا: أيش حفظ الننين – الصبي- فبدر المجد، وقال: حفظتُ يا سيدي الدرس. وسرده، فبُهِتَ الفخر، وقال: هذا يجيءُ منه شيء, ثم عرض على الفخر مصنفه (جنة الناظر)، وكتب له عليه في سنة 606 وعظَّمَه، فهو شيخُه في علم النظر، وأبو البقاء شيخُه في النحو والفرائض، وأبو بكر بن غنيمة صاحب ابن المني شيخه في الفقه، وابن سلطان شيخه في القراءات، وقد أقام ببغداد ستة أعوام مكبًّا على الاشتغال، ورجع ثم ارتحل إلى بغدادَ قبل 620، فتزيَّدَ من العلم، وصَنَّف التصانيفَ، مع الدِّينِ والتقوى، وحُسنِ الاتباع، وجلالةِ العِلمِ. سمعَ المجدُ أبو البركات الكثيرَ ورحل إلى البلاد، ودرَّس وأفتى وانتفَعَ به الطلبة، له تفسيرٌ للقرآن وهو صاحب الكتاب المشهور المنتقى في أحاديث الأحكام، توفِّيَ يوم الفطر بحرَّان.
سُيِّرَت العساكِرُ مِن مِصرَ لقتالِ المفرج بن جراح، وسبَبُ ذلك أنَّ ابنَ جَرَّاح عظُمَ شَأنُه بأرض فلسطينَ، وكثُرَ جَمعُه، وقَوِيَت شوكتُه، وبالغ هو في العيثِ والفساد، وتخريبِ البلاد، فجهز العزيزُ الفاطمي العساكرَ وسَيَّرَها، وجعل عليها القائِدَ يلتكين التركي، فسار إلى الرملة، واجتمع إليه من العربِ، من قيسٍ وغيرها، جمعٌ كثيرٌ، وكان مع ابنِ جَرَّاح جمعٌ يرمون بالنُّشَّاب، ويقاتلون قتالَ الترك، فالتَقَوا ونشبت الحرب بينهما، وجعل يلتكين كَمينًا، فخرج على عسكرِ ابنِ جراح من وراء ظهورهم، عند اشتداد الحرب، فانهزموا وأخذَتْهم سيوفُ المصريين، ومضى ابن جراح منهزمًا إلى أنطاكية، فاستجار بصاحبِها فأجاره، وصادف خرُوج مَلِك الروم من القسطنطينيَّة في عساكرَ عظيمةٍ يريدُ بلاد الإسلام، فخاف ابنُ جراح، وكاتَبَ بكجور بحمص والتجأ إليه، وأمَّا عسكَرُ مِصرَ فإنَّهم نازلوا دمشقَ، مخادعين لقسَّام الجبيليِّ التَّرَّاب، لم يظهروا له إلَّا أنهم جاؤوا لإصلاحِ البَلَدِ، وكفِّ الأيدي المتطَرِّقة إلى الأذى، وكان القائد أبو محمود قد مات في هذه السَّنةِ، وهو والي البلد، ولا حُكْمَ له، وإنما الحُكمُ لقَسَّام، فلما مات قام بعده في الولايةِ جَيشُ بن الصمصامة، وهو ابنُ أخت أبي محمود، فخرج إلى يلتكين وهو يظُنُّ أنه يريد إصلاحَ البلد، فأمره أن يخرجَ هو ومن معه وينزِلوا بظاهر البلد، ففَعَلوا. وحَذِرَ قَسَّام، وأمر مَن معه بمباشرةِ الحَربِ، فقاتلوا دفعاتٍ عِدَّة، فقوي عسكر يلتكين، ودخلوا أطرافَ البلد، ومَلَكوا الشاغور، وأحرقوا ونهبوا، فاجتمع مشايخُ البلَدِ عند قَسَّام، وكَلَّموه في أن يخرجوا إلى يلتكين، ويأخذوا أمانًا لهم وله، فانخذل وذَلَّ، وخضع بعد تجبُّرِه وتكبُّرِه، وقال: افعلوا ما شئتُم، وعاد أصحابُ قَسَّام إليه، فوجدوه خائفًا، مُلقِيًا بيده، فأخذ كلُّ لنَفسِه. وخرج شيوخُ البلد إلى يلتكين، فطلبوا منه الأمانَ لهم ولقسام، فأجابهم إليه، وكان مبدأُ هذه الحرب والحصر في المحرم لعشرٍ بَقِينَ منه، والدخول إلى البلد لثلاث بقين منه، ولم يعرض لقسَّامٍ ولا لأحدٍ مِن أصحابه، وأقام قسَّام في البلد يومين ثم استتَرَ، فأخذ كلَّ ما في داره وما حولها من دورِ أصحابِه وغيرِهم، ثمَّ خرج إلى الخيام، فقصد حاجِبَ يلتكين وعَرَّفه نفسَه، فأخذه وحَمَله إلى يلتكين، فحمله يلتكينُ إلى مصر، فأطلقه العزيزُ، واستراح النَّاسُ من تحكُّمِه عليهم، وتغَلُّبِه بمن تبعه من الأحداثِ مِن أهلِ العيثِ والفَسادِ.