هو الفُضيلُ بنُ عِياضِ بن مسعود بن بشر التميمي اليربوعي الخراساني، المجاوِرُ بحرم الله، وُلِدَ بسمرقند، ونشأ بأبيورد، وارتحلَ في طلَبِ العلم؛ قال الفضل بن موسى: كان الفضيلُ بنُ عياض شاطِرًا يقطَعُ الطَّريقَ بين أبيورد وسرخس، وكان سبَبُ توبته أنَّه عَشِقَ جارية، فبينا هو يرتقي الجُدران إليها، إذ سَمِعَ تاليًا يتلو {أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنْ تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ وَمَا نَزَلَ مِنَ الْحَقِّ...} [الحديد: 16] فلمَّا سَمِعَها، قال: بلى يا رَبِّ، قد آن، فرجع، فآواه الليلُ إلى خربةٍ، فإذا فيها سابلةٌ، فقال بعضُهم: نرحَلُ، وقال بعضهم: حتى نُصبحَ؛ فإنَّ فُضَيلًا على الطريق يقطَعُ علينا، قال: ففَكَّرتُ، وقلتُ: أنا أسعى باللَّيلِ في المعاصي، وقومٌ مِن المسلمينَ هاهنا، يخافونني، وما أرى اللهُ ساقني إليهم إلَّا لأرتَدِعَ، اللهمَّ إني قد تبتُ إليك، وجعلتُ توبتي مجاورةَ البيتِ الحرامِ. وقال ابن المبارك: ما بقِيَ على ظهرِ الأرضِ عندي أفضَلُ من الفُضَيل بن عِياضٍ، وقيل: مات- رحمه الله- في ست وثمانين ومئة. قال الذهبيُّ: وله نيِّفٌ وثمانون سنة، وهو حُجَّةٌ كبيرُ القَدرِ.
هو الإمامُ الأَوحدُ، البَحرُ، ذو الفُنونِ والمَعارِف، العَلَّامَةُ أبو مُحمدٍ عليُّ بن أحمدَ بن سَعيدِ بن حَزْمِ بن غالبِ بن صالحِ بن خَلَفِ بن معد بن سُفيانَ بن يَزيدَ (مَولى يَزيدَ بن أبي سُفيانَ) الأُمَويُّ الفَقيهُ الحافظُ، المُتَكَلِّمُ، الأَديبُ، الوَزيرُ، الظَّاهريُّ، صاحبُ التَّصانيفِ. أَصلُ جَدِّهِ يَزيدَ من فارس، وهو أَوَّلُ مَن أَسلَم من أَجدادِه، وجَدُّهُ خَلَفٌ أَوَّلُ مَن دَخَلَ بِلادَ المَغرِب من آبائهِ زَمنَ عبدِالرحمن الدَّاخِل، وكانت بَلدُهم قُرطبةَ، ووُلِدَ ابنُ حَزمٍ بها في رمضان، سنة 384هـ، وكان والِدُه من كُبَراءِ أَهلِ قُرطُبة؛ عَمِلَ في الوِزارةِ للدَّولةِ العامِريَّة، فنَشأَ ابنُ حَزمٍ في تَنَعُّمٍ ورَفاهِيَةٍ، ورُزِقَ ذَكاءً مُفرِطًا، وذِهْنًا سَيَّالًا. فقَرأَ القُرآنَ واشتَغَلَ بالعُلومِ النَّافِعَةِ الشَّرعيَّةِ، وبَرَزَ فيها وَفاقَ أَهلَ زَمانِه. كان حافِظًا عالِمًا بعُلومِ الحَديثِ وفِقْهِهِ، مُستَنبِطًا للأَحكامِ من الكِتابِ والسُّنَّةِ بعدَ أن كان شافِعيَّ المَذهبِ، انتَقلَ إلى مَذهبِ أَهلِ الظَّاهرِ، وكان مُتَفَنِّنًا في عُلومٍ جَمَّةٍ، عامِلًا بِعِلمِه، زاهِدًا في الدُّنيا بعدَ الرِّياسَةِ التي كانت له ولأَبيهِ مِن قَبلِه في الوزارةِ وتَدبيرِ المَمالِكِ، مُتواضِعًا ذا فَضائلَ جَمَّةٍ. قال الذَّهبيُّ: "كان قد مَهَرَ أوَّلًا في الأَدبِ والأَخبارِ والشِّعْرِ، وفي المَنطِقِ وأَجزاءِ الفَلسفَةِ، فأَثَّرَت فيه تَأثيرًا لَيْتَهُ سَلِمَ من ذلك، ولقد وَقفتُ له على تَأليفٍ يَحُضُّ فيه على الاعتِناءِ بالمَنطِقِ، ويُقَدِّمُه على العُلومِ، فتَألَّمتُ له، فإنَّه رَأسٌ في عُلومِ الإسلامِ، مُتَبَحِّرٌ في النَّقْلِ، عَديمُ النَّظيرِ على يُبْسٍ فيه، وفَرْطِ ظاهِريَّةٍ في الفُروعِ لا الأُصولِ". وله تَصانيفُ وكُتُبٌ مَشهورةٌ كَثيرةٌ أَهَمُّها ((المُحَلَّى))، و((الفَصلُ في المِلَل والنِّحَل)). ويُقال: إنَّه صَنَّفَ أربعمائةَ مُجَلَّدٍ في قَريبٍ من ثمانين ألف وَرَقَةٍ. وكان أَديبًا طَبيبًا شاعِرًا فَصيحًا، له في الطِبِّ والمَنطِقِ كُتُبٌ، كان مُصاحِبًا للشَيخِ أبي عُمرَ بن عبدِ البَرِّ النمري، ومُناوِئًا للشيخِ أبي الوليدِ سُليمانَ بن خَلفٍ الباجيِّ، وقد جَرَت بينهما مُناظراتٌ كَثيرةٌ، وكان ابنُ حَزمٍ كَثيرَ الوَقيعةِ في العُلماءِ بِلِسانِه وقَلَمِه لا يَكادُ يَسلَمُ أَحَدٌ من لِسانِه من العُلماءِ المُتقَدِّمين والمُتأخِّرين، حتى قيلَ: "كان لِسانُ ابنِ حَزمٍ وسَيفُ الحَجَّاجِ بن يوسفَ شَقِيقَينِ, لكَثرةِ وُقوعِه في الأئمةِ" فنَفَرَت عنه القُلوبُ،، فتَمالَأَ العُلماءُ على بُغضِه ورَدُّوا قَولَه واجمَعوا على تَضليلِه وشَنَّعُوا عليه, وحَذَّروا السَّلاطِينَ من فِتنَتهِ, ونَهوا عَوامَّهُم عن الدُّنُوِّ إليه والأَخذِ منه, فأَورَثَهُ ذلك حِقدًا في قُلوبِ أَهلِ زَمانِه، وما زالوا به حتى بَغَّضوهُ إلى مُلوكِهم، فطَردوهُ عن بلادِه حتى تَشَرَّدَ في الباديةِ ومع ذلك لم يرجِع عن أَقوالِه وأَفعالِه. كان ظاهِريًّا لا يقولُ بشيءٍ من القِياسِ لا الجَلِيِّ ولا غَيرِه، وهذا الذي وَضَعهُ عند العُلماءِ، وأَدخَلَ عليه خَطأً كَبيرًا في نَظَرِه وتَصرُّفِه وكان مع هذا مِن أَشَدِّ الناسِ تَأويلًا في باب الأُصولِ، وآياتِ الصِّفاتِ وأحاديثِ الصِّفاتِ، لأنَّه كان أَوَّلًا قد تَضَلَّع من عِلْمِ المَنطِق، أَخذَهُ عن محمدِ بن الحسنِ المُذحجيِّ الكِناني القُرطُبي، ففَسَدَ بذلك حالُه في بابِ الصِّفاتِ، قال الذَّهبيُّ: "قيلَ: إنَّه تَفَقَّهَ أوَّلًا للشافعيِّ، ثم أَدَّاهُ اجتِهادُه إلى القَوْلِ بنَفْيِ القِياسِ كُلِّهِ جَلِيِّهِ وخَفِيِّهِ، والأَخْذِ بظاهرِ النَّصِّ وعُمومِ الكتابِ والحديثِ، والقَولِ بالبَراءةِ الأصليَّة، واستِصحابِ الحالِ، وصَنَّفَ في ذلك كُتُبًا كَثيرةً، وناظَرَ عليه، وبَسَطَ لِسانَه وقَلَمَه، ولم يَتأَدَّب مع الأئمةِ في الخِطابِ، بل فَجَّجَ العِبارةَ، وسَبَّ وجَدَّعَ، فكان جَزاؤُه من جِنْسِ فِعْلِه، بحيث إنَّه أَعرَض عن تَصانيفِه جَماعةٌ من الأئمةِ، وهَجرُوها، ونَفَروا منها، وأُحرِقَت في وَقتٍ، واعتَنَى بها آخرون من العُلماءِ، وفَتَّشُوها انتِقادًا واستِفادةً، وأَخْذًا ومُؤاخَذةً، ورَأوا فيها الدُّرَّ الثَّمينَ مَمْزوجًا في الرَّصْفِ بالخَرزِ المهينِ، فتارةً يطربون، ومَرَّةً يعجبون، ومِن تَفَرُّدِه يَهزَؤون. وفي الجُملةِ فالكمالُ عَزيزٌ، وكلُّ أَحَدٍ يُؤخذُ من قَولِه ويُتركُ، إلَّا رَسولَ الله صلَّى الله عليه وسلَّم, وكان يَنهضُ بِعُلومٍ جَمَّةٍ، ويُجيدُ النَّقْلِ، ويُحسِن النَّظْمَ والنَثْرَ. وفيه دِينٌ وخَيْرٌ، ومَقاصِدُه جَميلةٌ، ومُصنَّفاتُه مُفيدةٌ، وقد زَهِدَ في الرِّئاسَةِ، ولَزِمَ مَنزِلَه مُكِبًّا على العِلْمِ، فلا نَغلُو فيه، ولا نَجفُو عنه، وقد أَثنَى عليه قَبلَنا الكِبارُ. قال أبو حامد الغزالي: "وجدتُ في أَسماءِ الله تعالى كِتابًا أَلَّفَهُ ابنُ حَزمٍ يَدُلُّ على عِظَمِ حِفظِه وسَيَلانِ ذِهْنِهِ". وقال الإمامُ أبو القاسمِ صاعدُ بن أحمدَ: "كان ابنُ حَزمٍ أَجْمَعَ أَهلِ الأندَلُسِ قاطِبةً لِعُلومِ الإسلامِ، وأَوْسَعَهُم مَعرِفَةً مع تَوَسُّعِهِ في عِلْمِ اللِّسانِ، ووُفورِ حَظِّهِ من البَلاغةِ والشِّعْرِ، والمَعرِفَةِ بالسِّيَرِ والأَخبارِ". قال الحافظُ أبو عبدِ الله محمدُ بن فتوح الحُميدي: "ما رأينا مِثلَه فيما اجتَمَع له من الذَّكاءِ وسُرعَةِ الحِفظِ وكَرَمِ النَّفْسِ والتَّدَيُّنِ، وما رأيتُ مَن يقولُ الشِّعْرَ على البَديهةِ أَسرعَ منه". قال أبو القاسمِ صاعدٌ: "كان أَبوهُ مِن وُزَراءِ المَنصورِ محمدِ بن أبي عامرٍ، ثم وَزَرَ للمُظَفَّرِ، ووَزَرَ أبو محمدٍ للمُسْتَظْهِر عبدِ الرحمن بن هشامٍ، ثم نَبَذَ هذه الطَّريقَة، وأَقبلَ على العُلومِ الشَّرعيَّة، وعَنِيَ بِعِلْمِ المَنطِقِ وبَرَعَ فيه، ثم أَعرَض عنه". قُلتُ (الذهبي): "ما أَعرَض عنه حتى زَرَعَ في باطِنِه أُمورًا وانحِرافًا عن السُّنَّةِ". وقد حَطَّ أبو بكر بن العربي على أبي محمدٍ وعلى الظاهريَّةِ في كِتابِ القَواصِم والعَواصِم، فقال: "هي أُمَّةٌ سَخِيفةٌ، تَسَوَّرَت على مَرتَبةٍ ليست لها، وتَكلَّمَت بكَلامٍ لم تفهَمهُ". قلتُ (الذهبي): "لم يُنصِف القاضي أبو بكرٍ شَيْخَ أَبيهِ في العِلْمِ، ولا تَكلَّم فيه بالقِسْطِ، وبالَغَ في الاستِخفافِ به، وأبو بكرٍ فعَلَى عَظَمَتِه في العِلْمِ لا يَبلُغ رُتْبَةَ أبي محمدٍ، ولا يَكادُ، فرَحِمَهُما الله وغَفَرَ لهُما". ثم قال (الذهبي): "وَلِي أنا مَيْلٌ إلى أبي محمدٍ لِمَحَبَّتِهِ في الحَديثِ الصَّحيحِ، ومَعرِفَتِه به، وإن كنتُ لا أُوافِقُه في كَثيرٍ مما يَقولُه في الرِّجالِ والعِلَلِ، والمَسائِلِ البَشِعَةِ في الأُصولِ والفُروعِ، وأَقطعُ بخَطَئِه في غيرِ ما مَسألةٍ، ولكن لا أُكَفِّرُه، ولا أُضَلِّلُه، وأرجو له العَفْوَ والمُسامَحةَ وللمسلمين. وأَخضَعُ لِفَرْطِ ذَكائِه وسِعَةِ عُلومِه، ورَأيتُه قد ذَكَرَ – أي ابن حزم- قولَ مَن يقول: أَجَلُّ المُصنَّفاتِ (المُوطَّأ). فقال: بل أولى الكُتُبِ بالتَّعظيمِ (صَحيحا) البُخاريِّ ومُسلمٍ" وكانت وَفاتُه شَريدًا في البادِيَةِ بعدَ أن أَقْصَتْهُ المُلوكُ وشَرَّدَتْهُ عن بِلادِه حتى انتهى إلى بادِيَةِ لبلة فتُوفِّي بها آخرَ نهارِ الأحدِ للَيلتينِ بَقِيَتا من شعبان، وقيلَ: إنَّه تُوفِّي في منت ليشم، وهي قَريةٌ له، وقد جاوَزَ التِّسعين.
هو أبو مُحرِزٍ الجَهْمُ بنُ صَفوانَ التِّرمِذيُّ، من أهلِ بَلخٍ، مولًى لبني راسِبٍ، ظهر في المائةِ الثَّانيةِ من الهِجرةِ، وهو حامِلُ لواءِ الجَهْميَّةِ ورأسُها، وإليه تنتَسِبُ، وقد ظهَرت بِدعتُه بتِرمِذَ .وكان قد خرج مع الحارِثِ بنِ سُرَيجٍ الذي تمرَّد على الدَّولةِ الأُمويَّة، وقتَله سَلْمُ بنُ الأحوَزِ المازنيُّ بمَرْوٍ نحوَ سنةِ 128 هـ .وقد كان أوَّلَ من أشهَر بدعةَ القَولِ بخَلقِ القرآنِ وتعطيلِ اللهِ عن صفاتِه. وكان يُنكِرُ الصِّفاتِ، ويُنزِّهُ الباريَ عنها بزَعمِه، ويقولُ: الإيمانُ عَقدٌ بالقلبِ، وإن تلفَّظ بالكُفرِ، ويزعم أنَّ اللهَ ليس على العَرشِ بل في كُلِّ مكانٍ، وقد قيل: إنَّه كان يُبطِنُ الزَّندقةَ، واللهُ أعلَمُ بذلك .وأخَذ مقالاتِ شيخِه الجَعْدِ بنِ دِرهَمٍ فأظهَرها، واحتجَّ لها بالشُّبُهاتِ العقليَّةِ ، فقد كان كثيرَ الِجدالِ والخُصوماتِ والمُناظَراتِ، ولم يكُنْ له بصرٌ بعلمِ الحديثِ، ولم يكنْ من المهتمِّينَ به، ولم يُعَدَّ من أهلِ العِلمِ قطُّ؛ إذ شغله علمُ الكلامِ عن ذلك، وقد نبَذ عُلَماءُ السَّلَفِ أفكارَه، وشنَّعوا عليه، ومَقَتوه أشَدَّ المَقْتِ .قال أحمَدُ بنُ حَنبَلٍ: (الجَهْمُ وشيعتُه دَعَوا النَّاسَ إلى المُتشابهِ من القُرآنِ والحديثِ، فضلُّوا وأضلُّوا بكلامِهم بَشَرًا كثيرًا، فكان ممَّا بلغَنا من أمرِ الجَهْمِ عَدُوِّ اللهِ أنَّه كان من أهلِ خُراسانَ؛ من أهلِ تِرمِذَ، وكان صاحِبَ خُصوماتٍ وكلامٍ، وكان أكثَرُ كلامِه في اللهِ تعالى، فلقِيَ أُناسًا من المُشرِكين يقالُ لهم: السُّمَنِيَّةُ، فعرفوا الجَهْمَ، فقالوا له: نُكلِّمُك، فإن ظهَرَت حُجَّتُنا عليك دخَلْتَ في دينِنا، وإن ظهَرت حُجَّتُك علينا دخَلْنا في دينِك، فكان ممَّا كلَّموا به الجَهْمَ أن قالوا له: ألسْتَ تزعُمُ أنَّ لك إلَهًا؟ قال الجَهْمُ: نعم. فقالوا له: فهل رأيتَ إلهَك؟ قال: لا. قالوا: فهل سمِعتَ كلامَه؟ قال: لا. قالوا: فشَمِمْتَ له رائحةً؟ قال: لا. قالوا: فوجَدْتَ له حِسًّا؟ قال: لا. قالوا: فوجَدْت له مجَسًّا؟ قال: لا. قالوا: فما يُدريك أنَّه إلهٌ؟ قال: فتحيَّرَ الجَهْمُ، فلم يَدرِ مَن يعبُدُ أربعينَ يومًا!) .فبَقِيَ أربعين يومًا لا يَعبُدُ شيئًا! ثُمَّ لَمَّا خلا قلبُه من معبودٍ يألهُه، نقَش الشَّيطانُ اعتقادًا نَحَتَه فِكرُه، فقال: إنَّه الوجودُ المُطلَقُ! ونفى جميعَ الصِّفاتِ، واتَّصل بالجَعْدِ بنِ دِرهَمٍ .ذُكِر الجَهْمُ عِندَ عبدِ اللهِ بنِ المبارَكِ، فقال: (عَجِبتُ لشيطانٍ أتى إلى النَّاسِ داعيًا إلى النَّارِ، واشتَقَّ اسمَه عن جَهنَّمَ!) .وقال أبو مُعاذٍ البَلْخيُّ: (كان جَهْمٌ على مَعبَرِ تِرمِذَ، وكان رجُلًا كوفَّي الأصلِ، فصيحَ اللِّسانِ، لم يكُنْ له علمٌ، ولا مجالَسةٌ لأهلِ العلمِ، كان تكلَّم كلامَ المُتكلِّمينَ، وكلَّمه السُّمَنيَّةُ فقالوا له: صِفْ لنا ربَّك الذي تعبُدُه، فدخل البيتَ لا يخرُجُ كذا وكذا، قال: ثُمَّ خرج عليهم بَعدَ أيَّامٍ، فقال: هو هذا الهواءُ مع كُلِّ شيءٍ، وفي كُلِّ شيءٍ، ولا يخلو منه شيءٌ، قال أبو مُعاذٍ: كَذَب عَدُوُّ اللهِ، إنَّ اللهَ في السَّماءِ على عَرشِه، وكما وصَفَ نَفْسَه) .وقال يزيدُ بنُ هارونَ: (لعَنَ اللهُ الجَهْمَ ومَن قال بقَولِه، كان كافرًا جاحدًا، ترك الصَّلاةَ أربعينَ يومًا، يزعُمُ أنَّه يرتادُ دينًا، وذلك أنَّه شَكَّ في الإسلامِ).وقال ابنُ تيميَّةَ: (أوَّلُ من عُرِف في الإسلامِ أنَّه أنكَر أنَّ اللهَ يحِبُّ أو يُحَبُّ: الجَهْمُ بنُ صَفوانَ، وشيخُه الجَعْدُ بنُ دِرهَمٍ، وكذلك هو أوَّلُ من عُرِف أنَّه أنكر حقيقةَ تكليمِ اللهِ لموسى وغيرِه، وكان جَهْمٌ ينفي الصِّفاتِ والأسماءَ، ثُمَّ انتقَل بعضُ ذلك إلى المُعتَزِلةِ وغيرِهم، فنفَوا الصِّفاتِ دونَ الأسماءِ، وليس هذا قَولَ أحدٍ مِن سلَفِ الأمَّةِ وأئمَّتِها).
اجتمع ابنُ وثَّاب النميري صاحِبُ حران وقريبُه ابن عطير النميري، وأمدَّهما نصر الدَّولة بنُ مروان بعسكرٍ كثيف، فساروا جميعُهم إلى السُّويداء جنوب دمشق، وكان الرومُ قد أحدثوا عمارتَها في ذلك الوقت، واجتمع إليها أهلُ القرى المجاورةِ لها، فحصرها المسلمون وفتحوها عَنوةً، وقتلوا فيها ثلاثةَ آلاف وخمسَمِئَة من الرومِ، وغَنِموا ما فيها، وسَبَوا خلقًا كثيرًا، وقَصَدوا الرَّها فحصروها، وقطعوا الميرةَ عنها، حتى بلغ مكوكُ الحنطة دينارًا، واشتَدَّ الأمر، فخرج البطريقُ الذي فيها متخفِّيًا، ولحق بمَلِك الرومِ، وعَرَّفه الحالَ، فسَيَّرَ معه خمسةَ آلاف فارس، فعاد بهم، فعَرَف ابن وثاب ومُقَدَّم عساكر نصر الدَّولة الحالَ، فكَمَنا لهم، فلمَّا قاربوهم خرج الكمينُ عليهم، فقُتِلَ من الروم خلقٌ كثير، وأُسِرَ مِثلُهم، وأُسِرَ البطريقُ وحُمِلَ إلى باب الرَّها، وقالوا لِمَن فيها إمَّا أن تفتحوا البلدَ لنا، وإمَّا قتَلْنا البطريقَ والأسرى الذين معه. ففتحوا البلدَ للعجزِ عن حفظه، وتحصَّن أجنادُ الروم بالقلعةِ، ودخل المسلمون الرَّها، وغَنِموا ما فيها، وامتلأت أيديهم من الغنائمِ والسَّبيِ، وأكثروا القتلَ، وأرسل ابنُ وثاب إلى آمد مِئَة وستين راحلةً عليها رؤوسُ القتلى وأقام مُحاصِرًا للقلعة، ثمَّ إنَّ حسَّان بن الجرَّاح الطائي سار في خمسةِ آلاف فارس من العرَبِ والروم نجدةً لِمَن بالرَّها، فسَمِعَ ابن وثاب بقربه، فسار إليه مجِدًّا ليلقاه قبل وصوله، فخرج من الرَّها الروم إلى حران، فقاتَلَهم أهلها، وسَمِعَ ابن وثاب الخبر فعاد مسرعًا، فوقع على الرومِ، فقتل منهم كثيرًا، وعاد المنهزِمونَ إلى الرَّها.
خرج النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم إلى الطَّائفِ، وهي تَبعُد عن مكَّة نحوَ سِتِّينَ مِيلًا، سارها ماشِيًا على قَدميهِ جِيئةً وذِهابًا، ومعه مولاهُ زيدُ بنُ حارثةَ، وكان كُلَّما مَرَّ على قَبيلةٍ في الطَّريقِ دعاهُم إلى الإسلامِ، فلمْ تُجبْ إليهِ واحدةٌ منها, فلمَّا انتهى إلى الطَّائفِ عَمَدَ إلى رُؤسائِها فدعاهُم فلمْ يَستجيبوا له, فأقام بين أهلِ الطَّائفِ عشرةَ أيَّامٍ، لا يَدَعُ أحدًا مِنْ أشرافهِم إلا جاءهُ وكَلَّمهُ، فقالوا: اخرُجْ من بلادِنا. وأَغْرَوْا به سُفهاءَهُم، فلمَّا أراد الخُروجَ تَبِعَهُ سُفهاؤهُم وعَبيدهُم يُسِبُّونَهُ ويُصيحونَ بهِ، حتَّى اجتمع عَليهِ النَّاسُ، فوقَفوا له سِمَاطَيْنِ [أي صَفَّيْنِ] وجعلوا يَرمونهُ بالحِجارةِ، وبكِلماتٍ مِنَ السَّفَهِ، ورَجموا عَراقيبَهُ، حتَّى اخْتَضَبَ نَعلاهُ بالدِّماءِ. وكان زيدُ بنُ حارثةَ يَقِيهِ بِنفسهِ حتَّى أصابهُ شِجَاجٌ في رَأسهِ، ولم يزلْ بهِ السُّفهاءُ كذلك حتَّى أَلجأوهُ إلى حائطٍ لعُتبةَ وشَيبةَ ابنيْ رَبيعةَ على ثلاثةِ أميالٍ مِنَ الطَّائفِ, ورجع رسولُ الله صلى الله عليه وسلم في طريقِ مكَّة بعدَ خُروجهِ مِنَ الحائطِ كَئيبًا مَحزونًا، كَسيرَ القلبِ، فلمَّا بلغ قَرْنَ المنازلِ بعث الله إليه جبريلَ ومعه مَلَكُ الجبالِ، يَسْتَأْمِرُهُ أنْ يُطْبِقَ الأَخْشَبَيْنِ على أهلِ مكَّة, فقال النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم: (بل أرجو أنْ يُخرجَ الله عزَّ وجلَّ من أصلابهِم مَنْ يَعبدُ الله عزَّ وجلَّ وحدَه لا يُشركُ بهِ شيئًا). وفي هذا الجوابِ الذي أَدلى بهِ الرَّسولُ صلى الله عليه وسلم تَتجلَّى شَخصيَّتُه الفَذَّةُ، وما كان عَليهِ من خُلُقٍ عَظيمٍ.
هو السلطان الملك المجاهد أسد الدين شيركوه الصغير، أبو الحارث بن ناصر الدين محمد بن أسد الدين شيركوه بن شادي، صاحبُ حمص، ولَّاه إياها الملك الناصر صلاح الدين بعد موت أبيه سنة إحدى وثمانين وخمسمائة، فمكث فيها سبعًا وخمسين سنة، ولد بمصر سنة 569 وكان من أحسن الملوك سيرةً، طَهَّر بلاده من الخمور والمكوس والمنكرات، وهي في غايةِ الأمن والعدل، لا يتجاسر أحدٌ من الفرنج ولا العرب يدخلُ بلاده إلا أهانه غايةَ الإهانة، وكانت ملوكُ بني أيوب يتَّقونه؛ لأنه يرى أنه أحق بالأمرِ منهم، لأنَّ جده أسد الدين شيركوه هو الذي فتح مصرَ، وأوَّلُ من ملك منهم، شَهِدَ غزو الفرنج لدمياط، ورابَطَ عليها, وسكن المنصورةَ إلى انقضاء الغزاة، واستنقاذ دمياط, وكان شهمًا مهيبًا بطلًا شُجاعا، مِقدامًا معروفًا بالشجاعة. استخدم الحَمَام في نواحي بلاده لنقل الأخبار, وكانت بلادُه طاهرة من الخمر والمكوس, ومنعَ النساءَ من الخروج من أبواب حمص مُدَّة إمرته عليها خوفًا أن يأخذ أهل حمص أهاليهم وينزحون عنها لجَوِره, وله أخبارٌ في الظلم والتعذيب والاعتقال. إلَّا أنه كان لا يشرب الخمر أبدًا، ويلازم الصلوات في أوقاتها، ولا يُقبلُ على اللهو، بل همَّتُه في مصالح ملكه, وكان ذا رأي ودهاء, وله هيئة جميلة وجلالة وصورة مليحة، وكان الملوك يراعونه ويخافونه، وكان الملك الكاملُ قد استوحش منه واتَّهَمه بأنه أوقع بينه وبين الأشرف، فلما مات الأشرفُ وتمَلَّك الكامل دمشق، طلب من شيركوه مالًا عظيمًا، فبعث إليه نساءه يشفعن فيه، فما أجاب وقال: لا بدَّ من المال، فأيس وهيَّأَ الأموال، ولم يبقَ إلَّا تسييرها فأتته بطاقةٌ بموت الكامل، فجاء وجلس عند قبرِ الكامل وتصَرَّف في أمواله وخَيلِه، كانت وفاته بحمص، وعُمِلَ عزاؤه بجامع دمشق، واستخلف بعده ابنُه المنصور ناصِرُ الدين إبراهيم.
هو عليُّ بنُ عبدالله بن جعفر المعروفُ بابنِ المديني، إمامُ عَصرِه في الجرحِ والتَّعديلِ والعِلَل، وُلِدَ سنةَ إحدى وستين ومائةٍ، أحدُ الأعلامِ، وصاحبُ التصانيفِ، روى عنه الأئمَّةُ: البُخاري، وأحمد، والنَّسائي، وغيرُهم، قال ابن عُيَينة: "لولا ابنُ المدينيِّ ما جَلَستُ"، وقال النَّسائيُّ: "كأنَّ اللهَ خلَقَ عليَّ بن المديني لهذا الشأنِ"، وقيل للبخاريِّ ما تشتهي؟ قال: "أقدَمُ العِراقَ وعَلِيُّ بنُ عبدالله حيٌّ فأجالِسُه". وقال البخاري: "ما استصغَرْتُ نفسي عند أحدٍ إلَّا عند عليِّ بنِ المَدِيني" له كتابُ العِلَل، وقَولُه في الجرحِ والتَّعديلِ مُقَدَّمٌ، توفِّيَ في سامرا، فرَحِمَه الله تعالى وجزاه عن الإسلامِ والمسلمينَ خَيرًا.
هو صاحِبُ مِصرَ الحاكِمُ بأمر الله، أبو عليٍّ منصورُ بنُ العزيز نزار بن المعِزِّ معد بن المنصور إسماعيل بن القائم محمد بن المهدي، العُبَيديُّ الإسماعيليُّ الزِّنديقُ المُدَّعي الرُّبوبيَّة. مولِدُه سنةَ 375. أقاموه في المُلكِ بعد أبيه، وله إحدى عشرةَ سنةً. حكى هو عن نَفسِه قال: "ضَمَّني أبي وقَبَّلَني وهو عُريان، وقال: امْضِ فالعَبْ، فأنا في عافيةٍ. قال: ثمَّ توفِّيَ، فأتاني برجوان، وأنا على جميزةٍ في الدار. فقال: انزِلْ وَيحَك، اللهَ اللهَ فينا، فنَزَلْت، فوضَعَ العِمامةَ بالجوهَرِ على رأسي، وقبَّلَ الأرضَ، ثمَّ قال: السَّلامُ عليك يا أميرَ المُؤمنينَ، وخرج بي إلى النَّاسِ، فقَبَّلوا الأرضَ، وسَلَّموا عليَّ بالخِلافةِ". قال الذهبيُّ: "كان شَيطانًا مَريدًا جَبَّارًا عنيدًا، كثيرَ التلَوُّن، سَفَّاكًا للدِّماء، خبيثَ النِّحلةِ، عظيمَ المَكرِ، جَوادًا مُمَدَّحًا، له شأنٌ عجيبٌ، ونبأٌ غريبٌ، كان فرعونَ زَمانِه، يختَرِعُ كُلَّ وَقتٍ أحكامًا يُلزِمُ الرَّعيَّةَ بها، أمَرَ بسَبِّ الصَّحابةِ رَضِيَ الله عنهم، وبكتابةِ ذلك على أبوابِ المساجِدِ والشوارعِ، وأمَرَ عُمَّالَه بالسَّبِّ، وفي سنة 395 أمَرَ بقَتلِ الكِلابِ. وأبطَلَ بَيعَ الفَقعِ والمُلوخيَّة، وحَرَّم بيعَ السَّمَك بغيرِ قِشرٍ، ووقَعَ بباعةٍ لِشَيءٍ مِن ذلك فقَتَلَهم. وفي سنة 402 حَرَّمَ بيعَ الرُّطَب، وجمَعَ منه شيئًا عظيمًا فأحرَقَه، ومنَعَ مِن بَيعِ العِنَب، وأباد الكُرومَ. وأمر النَّصارى بتعليقِ صَليبٍ في رِقابِهم زِنَتُه رطلٌ وربعٌ بالدمشقيِّ، وألزم اليهودَ أن يُعَلِّقوا في أعناقِهم قرميَّةً في زنة الصَّليبِ إشارةً إلى رأسِ العِجلِ الذي عبدوه، وأن تكونَ عِمائِمُهم سُودًا، وأن يدخُلوا الحَمَّام بالصَّليبِ وبالقرمية، ثم أفرَدَ لهم حَمَّاماتٍ. وأمَرَ في العامِ بهَدمِ كَنيسةِ قمامة، وبهدمِ كَنائِسِ مِصرَ، فأسلَمَ عِدَّةٌ، ثمَّ إنه نهى عن تقبيلِ الأرضِ، وعن الدُّعاءِ له في الخُطَب وفي الكُتُب، وجعَلَ بدَلَه السَّلامُ عليه، ثمَّ إنَّ ابنَ باديس أميرَ المغربِ بَعَث ينقِمُ عليه أمورًا، فأراد أن يَستَميلَه، فأظهَرَ التفَقُّهَ، وحمَلَ في كُمِّه الدَّفاتر، ولَزِمَ التفَقُّهَ وأمَرَ الفُقَهاءَ بِبَثِّ مَذهَبِ مالكٍ، واتَّخَذ له مالكيَّينِ يُفَقِّهانِه، ثمَّ تغَيَّرَ فقَتَلَهما صبرًا", وفي سنة 404 نفى المنَجِّمينَ مِن بلاده. ومنَعَ النِّساءَ مِن الخروجِ مِن البيوتِ، وأبطَلَ عَمَل الِخفافِ لهنَّ جُملةً، وما زِلنَ ممنوعاتٍ مِن الخروجِ سَبعَ سِنينَ وسَبعةَ أشهر. ثم بعد مُدَّةٍ أمَرَ بإنشاءِ ما هُدِمَ من الكنائِسِ، وأذِنَ للنَّصارى الذين أكرَهَهم في العَودِ إلى الكُفرِ، وخبَرُ هلاكِه أنه فُقِدَ في ليلةِ الاثنينِ لثلاثٍ بَقِينَ مِن شَوَّال، ولم يُعرَفْ له خبَرٌ، وكان سبَبُ فَقدِه أنَّه خرج يطوفُ ليلةً على رَسمِه، وأصبح عند قَبرِ الفقاعي، وتوجَّهَ إلى شرقي حُلوان ومعه ركابيَّان، فأعاد أحدَهما مع جماعةٍ مِن العرب إلى بيتِ المال، وأمر لهم بجائزةٍ، ثمَّ عاد الركابيُّ الآخر، وذكَرَ أنَّه خَلَّفَه عند العَينِ والمقصبة، وبقيَ النَّاسُ على رسمِهم يَخرُجونَ كُلَّ يومٍ يلتَمِسونَ رُجوعَه إلى آخر شوال، فلما كان ثالثُ ذي القعدة خرج مُظَفَّر الصقلبي وغَيرُه من خواصِّ الحاكِمِ، ومعهم القاضي، فبَلَغوا عسفان، ودخلوا في الجَبَلِ، فبَصُروا بالحِمارِ الذي كان عليه راكبًا، وقد ضُرِبَت يداه بسَيفٍ فأثَّرَ فيهما، وعليه سَرجُه ولِجامُه، فاتَّبَعوا الأثَرَ، فانتهوا به إلى البِركةِ التي شَرقيَّ حلوان، فرأوا ثيابَه، وهي سبعُ قِطَع صُوف، وهي مُزَرَّرة بحالِها لم تُحَلَّ، وفيها أثَرُ السَّكاكين، فعادوا ولم يَشُكُّوا في قَتلِه، وكان عُمُرُه 37 سنة، وولايته 25 سنة, وقيل: إنَّ سَبَبَ قَتلِه هو أنَّه كان كثيرَ الشَّتمِ والسَّبِّ لأختِه سِتِّ الملك، واتَّهَمَها بالفاحشة، فعَمِلَت على قتلِه، بحيث كانت تَعرِفُ يومَ خُروجِه إلى الجَبَلِ لينظُرَ في النجومِ، فتمالأت مع الوزيرِ وأرسلوا عبدينِ أسودَينِ، فلما كان من اللَّيلِ وسار إلى الجبَلِ وَحدَه، قتَلَه العبدانِ وأحضراه إلى أختِه التي دفنته في دارِه، وقَرَّرَت توليةَ وَلَدِه، وكان حينها بدمشقَ، فأخبَرَت النَّاسَ أنَّ الحاكِمَ سيَغيبُ سَبعةَ أيَّامٍ, وهذا لِيَسكُنَ النَّاسُ ويَحضُرَ ابنُه من دمشق، فلما حضَرَ جَهَّزَتْه وأخرَجَتْه للنَّاسِ، على أنَّه الحاكِمُ الجديدُ، وابنُه هو أبو الحسن علي، ولُقِّبَ الظاهِرَ لإعزاز دين الله، وأُخِذَت له البيعةُ.
سار العلاء بن مغيث اليحصبي من إفريقيَّة إلى مدينة باجة من الأندلس، ولَبِسَ السَّواد, وخطبَ للمنصور، واجتمع إليه خلقٌ كثيرٌ، فخرج إليه الأميرُ عبد الرحمن الداخل، فالتقيا بنواحي إشبيلية، ثم تحارَبا أيامًا، فانهزم العلاء وأصحابُه، وقُتِل منهم في المعركة سبعةُ آلاف، وقُتِل العلاء، وأُمِرَ بعضُ التجار بحمل رأسه ورؤوسِ جماعةٍ مِن مشاهير أصحابه إلى القيروان، وإلقائِها بالسوق سرًّا، ففعل ذلك، ثم حُمِلَ منها شيءٌ إلى مكة، فوصلت وكان بها المنصور، وكان مع الرؤوسِ لواءٌ أسوَدُ وكتاب كتبه المنصورُ للعلاء.
ظهر إبراهيمُ بن موسى بن جعفر بن محمد، وكان بمكَّةَ، فلما بلغَه خبَرُ أبي السرايا وما كان منه سار إلى اليمن، وبها إسحاقُ بن موسى بن عيسى بن موسى بن محمد بن علي بن عبد الله بن عباس عاملًا للمأمون، فلمَّا بلغه قُربُ إبراهيمَ من صنعاء، سار منها نحوَ مكة فأتى المشاش، فعسكَرَ بها واجتمع بها إليه جماعةٌ من أهل مكة هَرَبوا من العلويِّينَ، واستولى إبراهيمُ على اليمن، وكان يسمَّى الجزَّار؛ لكثرة من قتَل باليمن، وسبى، وأخذ الأموال.
هو أبو محمد عبدالملك بن هشام بن أيوبَ المعافري، العلَّامةُ النَّحويُّ الأَخباريُّ، أبو محمد الذهلي السَّدوسي، وقيل: الِحمْيري المعافري البصري، نزيلُ مصر، هذَّبَ السيرةَ النبويَّةَ لابنِ إسحاقَ مُصَنِّفِها. سمعها مِن زياد البكائي صاحِبِ ابنِ إسحاق, وإنما نُسِبَت إليه، فيقال سيرةُ ابن هشام؛ لأنه هذَّبَها وزاد فيها ونقَصَ منها، وحَرَّر أماكِنَ، واستدرك أشياءَ، وكان إمامًا في اللغة والنحو، وقد كان مقيمًا بمصرَ، واجتمع به الشافعيُّ حين وردها، وتناشدَا من أشعارِ العرب شيئًا كثيرًا. كانت وفاتُه بمصر.
ثار الجُندُ الأتراكُ ببغدادَ على جلالِ الدَّولةِ البُويهيِّ الشيعيِّ، وأرادوا إخراجَه منها، فاستنظَرَهم ثلاثة أيام، فلم يُنظِروه، ورَمَوه بالآجُرِّ، فأصابه بعضُهم، واجتمع الغِلمانُ فرَدُّوهم عنه، فخرَجَ من بابٍ لطيفٍ في سميرية- نوعٍ مِن السفُنِ- مُتنكِّرًا، وصَعِدَ راجلًا منها إلى دارِ المرتضى بالكرخ، وخرج من دار المرتضى، وسار إلى رافعِ بنِ الحُسَين بن مقن بتكريت، وكسَر الأتراكُ أبوابَ داره ودخلوها ونَهَبوها، وقلعوا كثيرًا من ساجِها وأبوابِها، فأرسل الخليفةُ إليه، وقرَّرَ أمرَ الجندِ وأعاده إلى بغداد.
هو الشيخ أبو محمد عبد الله بن عجال الغزواني أصلُه من مراكش من غزوان، قبيلة من عرب تامسنا، ولِدَ بمدينة القصر الكبير وبها تعلم مبادئ علوم الدين والأدب, وكان في ابتداء أمره يقرأ العلمَ بمدرسة الوادي من عدوة الأندلس بفاس، فحصلت له إرادة فسافر إلى مراكش ولازم الشيخ التباع وتخرج به، ثم انتقل إلى بلاد الهبط فنزل بها على قبيلة، يقال لهم: بنو فزنكار، واجتمع عليه كثيرٌ من مريديه واشتهر أمرُه وعظُمَ صيتُه وكان يغزو مع السلطان, ومات فجأة وهو راكبٌ دابتَه ودُفن بتربته في حومة القصور.
شنَّت القواتُ الإسرائيليةُ بأوامرَ من رئيس وزرائها الأسبق شيمون بيريز هجومَ قانا الأولَ، وتمَّت هذه المجزَرة في مركز قيادة فيجي التابع ليونيفل في قرية قانا جنوبَ لُبنانَ، حيث قامت قواتُ الاحتلالِ الإسرائيليِّ بقصفِ المقَرِّ بعد لجوء المدنيِّينَ إليه هرَبًا من عمليةِ عناقيدِ الغضبِ التي شنَّتها إسرائيلُ على لُبنانَ، وأدَّى قصفُ المقَرِّ إلى مَقتَلِ 106 من المدنيِّينَ، وإصابة الكثيرِ بجروحٍ، وقد اجتمَعَ أعضاءُ مجلسِ الأمن للتصويت على قرارٍ يُدين إسرائيلَ ولكنَّ الولاياتِ المتحدةَ أجهضَت القرارَ باستخدام حقِّ النقضِ-الفيتو.
هو الإمام العلم أبو عمارة حمزةُ بن حبيبِ بنِ عمارة التيميُّ المعروف بالزيَّات، ولد سنة 80. قيل له " الزيات " لأنه كان يجلب الزيت من الكوفة إلى حلوان, ويجلب إلى الكوفة الجبن والجوز. أصله من سبي فارس، وقيل: ولاؤه لبني عجل، وقيل: ولاؤه لتيم الله بن ثعلبة. أدرك عددًا من الصحابة, أحدُ القراء السبعة، من أهل الكوفةِ، تلا عليه طائفةٌ، منهم الأعمش، وحدَّثَ عنه كثيرٌ، منهم الثوريُّ، كان إمامًا قَيِّمًا لكتاب الله، قانتًا لله، ثخينَ الورع، رفيعَ الذِّكر، عالِمًا بالحديث والفرائض، عديم النظير في وقته علما وعملا، قال الثوري: ما قرأ حمزةُ حرفًا إلَّا بأثَرٍ. قال أسود بن سالم: سألت الكسائي عن الهمز والإدغام: ألكم فيه إمام؟ قال: نعم، حمزة، كان يهمز ويكسر، وهو إمام من أئمة المسلمين، وسيد القراء والزهاد، لو رأيته لقرت عينك به من نسكه. وقال حسين الجعفي: ربما عطش حمزة فلا يستسقي كراهية أن يصادف من قرأ عليه. وذكر جرير بن عبد الحميد أن حمزة مر به فطلب ماء قال: فأتيته فلم يشرب مني لكوني أحضر القراءة عنده. وقال يحيى بن معين: سمعت ابن فضيل يقول: ما أحسب أن الله يدفع البلاء عن أهل الكوفة إلا بحمزة.