انتهز الأعداء الفوضى التي جرت بعد تولي السلطان الجديد سليمان الثاني حيث تمرد الجند وقتلوا الصدر الأعظم سياوس باشا وسَبَوا نساءه، فتقدم الأعداء في أملاك الدولة العثمانية, فأخذت النمسا كثيرًا من المواقع والمدن، ومنها بلغراد، كما أخذت البندقية سواحل دالماسيا (السواحل الشرقية لبحر الأدرياتيك) وبعض المواطن في بلاد اليونان وتوالت الهزائم.
جهَّز الإمامُ فيصل بن تركي لغزوِ قطر، فلما عَلِمَ أهلُ قطر بذلك طلبوا الأمانَ من فيصل وبايعوه على دينِ الله والسمع والطاعة، فأمر الإمامُ فيصل على السُّفن التي لأهل قطر، وهي نحو 300 سفينة أن يُهَيِّئوها وجعل فيها رجالًا مِن جُندِه، ثمَّ أمرَ على أولاد عبد الله آل خليفة الجالين من البحرين أن يركبوها ويتولَّوا قيادتَها.
بعَث رسولُ الله صلى الله عليه وسلم أبا قَتادةَ بنَ رِبْعِيٍّ رضي الله عنه في سَرِيَّةٍ إلى خَضِرَة؛ وذلك لأنَّ بني غَطَفَانَ كانوا يَحْتَشِدون في خَضِرَة -وهي أرضُ مُحَارِبٍ بِنَجْدٍ- فبعَثهُ صلى الله عليه وسلم في خمسةَ عشرَ رجلًا، فقَتَلَ منهم، وسَبَى وغَنِمَ، وكانت غَيبتُه خمسَ عشرةَ ليلةً.
في هذه السنة عَظُم أمر الإسماعيلية بالشام، وقَوِيت شوكتهم، وملكوا بانياس في ذي القعدة منها، وسببُ ذلك أن بهرام بن أخت الأسداباذي، داعيَ الباطنية بحلب والشام، لَمَّا قُتِل خالُه ببغداد هرب إلى الشام، وصار داعيَ الإسماعيلية فيه، وكان يتردد في البلاد، ويدعو أوباش الناس وطغامَهم إلى مذهبه، فاستجاب له منهم من لا عقلَ له، فكثُر جمعه، إلا أنه يُخفي شخصَه فلا يُعرَف، وأقام بحلب مدة، ونفر إلى إيلغازي صاحبها، وأراد إيلغازي أن يعتَضِدَ به لاتقاء الناس شَرَّه وشر أصحابه؛ لأنهم كانوا يقتلون كل من خالفهم، وقصد من يتمسَّك بهم، وأشار إيلغازي على طغتكين، صاحب دمشق، بأن يجعلَه عنده لهذا السبب، فقبل رأيه، وأخذه إليه، فأظهر حينئذ شخصه -بهرام داعية الباطنية الإسماعيلية- وأعلن دعوته، فكثر أتباعُه من كل من يريد الشرَّ والفساد، ووافقه الوزيرُ طاهر بن سعد المزدقاني، وإن لم يكن على عقيدته؛ قصدًا للاعتضاد به على ما يريد، فعَظُم شَرُّه واستفحل أمره، وصار أتباعه أضعافَ ما كانوا، فلولا أن عامة دمشق يغلب عليهم مذهب أهل السنة، وأنهم يشدِّدون عليه فيما ذهب إليه، لَمَلَك البلدَ، ثم إن بهرام رأى من أهل دمشق فظاظةً وغلظةً عليه، فخاف عاديتَهم، قال الذهبي: "كان طغتكين سيفًا مسلولًا على الفرنج، ولكن له خرمة كان قد استفحل البلاءُ بداعي الإسماعيلية بهرام بالشام، وكان يطوف المدائنَ والقلاع متخفيًا، ويُغوي الأغتام والشطَّار، وينقاد له الجهَّال، إلى أن ظهر بدمشق بتقرير قرَّره صاحب ماردين إيلغازي مع طغتكين، فأخذ يُكرِمُه، ويبالِغُ اتقاء لشَرِّه، فتَبِعه الغوغاء والسفهاء والفلاحون، وكثُروا، ووافقه الوزير طاهر المزدقاني، وبث إليه سره، ثم التمس من الملك طغتكين قلعةً يحتمي بها، فأعطاه بانياس سنة 520، فعَظُم الخطب، وتوجَّع أهلُ الخير، وتستَّروا مِن سَبِّهم، وكانوا قد قتلوا عدةً من الكبار، فتصدى لهم تاج الملوك بوري بن طغتكين، فقتل الوزير كمال الدين طاهر بن سعد المزدقاني، ونصب رأسه، وركب جندَه، فوضعوا السيفَ بدمشق في الملاحدة الإسماعيلية، فكبسوا منهم في الحال نحوًا من ستة آلاف نفس في الطرقات، وكانوا قد تظاهروا، وتفاقم أمرهم، وراح في هذه الكائنة الصالحُ بالطالح. وأما بهرام فتمرَّد وعتا وقَتَل شابًّا من أهل وادي التيم اسمه برق، فقام عشيرته، وتحالفوا على أخذ الثأر، فحاربهم بهرام، فكَبَسوه وذبحوه، وسَلَّمَت الملاحِدةُ بانياس للفرنج، وذَلُّوا. وقيل: إن المزدقاني كان قد كاتب الفرنج ليُسَلِّمَ إليهم دمشق، ويعطوه صور، وأن يهجموا البلد يوم جمعة، ووكل الملاحدةَ تغلق أبواب الجامع على الناس، فقتله لهذا تاج الملوك، وقد التقى الفرنجَ وهزمهم، وكانت وقعةً مشهودة. وفي سنة 520 أقبلت جموع الفرنج لأخذ دمشق، ونزلوا بشقحب، فجمع طغتكين التركمانيين وشطار دمشق، والتقاهم في آخر العام، وحَمِيَ القتال، ثم فرَّ طغتكين وفرسانه عجزًا، فعطفت الرجَّالةُ على خيام العدو، وقَتَلوا في الفرنج، وحازوا الأموالَ والغنائم، فوقعت الهزيمةُ على الفرنج، ونزل النصرُ".
حاصر بطرس الأكبر القيصر الروسي مدينة آزوف التي كانت أصلًا قد استردها العثمانيون وأخضعوها للدولة العثمانية أيام ثورة القوزاق عليهم، ثم أُجبر القيصر الروسي على فك الحصار عام 1107هـ بعد أن قاومهم خان القرم والعثمانيون الذين هناك، فردوهم بعد أن قتلوا منهم نحوًا من ثلاثين ألف جندي، فلما انشغل العثمانيون بالحرب مع المجر استغل الروس هذا الانشغال، فعادوا إلى آزوف ودخلوها هذا العام.
بعد أن تولَّى المهدي الخلافةَ بعث العباسَ بن محمد على رأسِ جيشٍ إلى بلاد الروم كما أرسل جيشًا آخر إلى بلاد الهند، وكان متَّجهًا بصورة عامة إلى بلاد الروم، حيث ما تنفكُّ الصوائفُ من الثغور فتُغيرُ على أرض الروم، وإن كانت لم تُحدِثْ فتوحات واسعة أو تضمَّ بلادًا جديدة بشكل دائمٍ إلَّا أنَّ الانتصاراتِ كانت كبيرةً، والغنائمُ كثيرةً، والأسرى كذلك.
قدم عسكر من مدينة طرابلس فنازلوا قلعة الكهف ومدينتها وبها إسماعيل بن العجمي أمير الإسماعيلية مدة أيام، حتى أخذوها، وهدموا القلعة حتى سووا بها الأرض، وأنعم على إسماعيل بإمرة في طرابلس، فزالت قلعة الكهف، وكانت إحدى الحصون الإسماعلية المنيعة، وذلك بسعاية ناصر الدين محمد، وحجي، وفرج: أولاد عز الدين الداعي.
خَطَبَ السُّلطانُ طُغرلبك ابنةَ الخليفةِ، فانزَعجَ الخليفةُ من ذلك، وقال: هذا شيءٌ لم تَجْرِ العادةُ بمِثلهِ، ثم طَلَبَ شيئًا كَثيرًا كهَيئةِ الفِرارِ، من ذلك أنه طَلبَ ما كان لِزَوجتِه التي تُوفِّيت من الإقطاعات بأرضِ واسط، و300 ألف دينارٍ، وأن يُقيمَ السُّلطانُ طُغرلبك ببغداد لا يَرحل عنها ولا يومًا واحدًا، فوقعَ الاتِّفاقُ على بعضِ ذلك، وأَرسلَ إليها بمائةِ ألف دينارٍ مع أرسلان خاتون ابنةِ أَخيهِ داودَ وزَوجةِ الخليفةِ، وأشياءَ كثيرةٍ من آنيةِ الذَّهَبِ والفِضَّة، والنِّثارِ والجَواري، ومِن الجواهرِ ألفانِ ومائتي قِطعةٍ، من ذلك سبعمائة قِطعةٍ من جَوهرٍ، وزنُ القِطعةِ ما بين الثلاثِ مَثاقيل إلى المِثقالِ، وأشياءَ أُخرى، فتَمَنَّع الخليفةُ لِفَواتِ بَعضِ الشُّروطِ، فغَضِبَ عَميدُ المُلْكِ الوزيرُ لِمَخدُومهِ السُّلطان، وجَرَت شُرورٌ طويلةٌ اقتَضَت أن أَرسلَ السُّلطانُ كِتابًا يَأمرُ الخليفةَ بانتِزاعِ ابنةِ أَخيهِ السيدة أرسلان خاتون، ونَقلِها من دارِ الخِلافةِ إلى دار المَملكةِ، حتى تَنفصِل هذه القَضيَّة، فعَزَم الخَليفةُ على الرَّحيلِ من بغداد، فانزَعجَ النَّاسُ لذلك، وجاء كِتابُ السُّلطانِ إلى رئيسِ شِحْنَةِ – القَيِّم لِضَبطِ البَلدِ- بغداد برشتق يَأمُره بعدمِ المُراقبةِ وكَثرةِ العَسْفِ في مُقابلةِ رَدِّ أصحابِه بالحِرمانِ، ويَعزِم على نَقلِ الخاتون إلى دارِ المُلْكِ، وأَرسلَ مَن يَحمِلها إلى البلدِ التي هو فيها، كل ذلك غَضَبًا على الخَليفةِ، ووَرَدَت الكُتبُ الكثيرةُ من السُّلطانِ طُغرلبك يشكو من قِلَّةِ إنصافِ الخليفةِ، وعَدمِ مُوافقَتِه له، ويَذكُر ما أَسداهُ إليه من الخيرِ والنِّعَمِ إلى مُلوكِ الأَطرافِ، وقاضي القُضاة الدَّامغاني، فلمَّا رأى الخليفةُ ذلك، وأنَّ السُّلطان أَرسلَ إلى نُوَّابِه بالاحتياطِ على أَموالِ الخليفةِ، كَتبَ إلى السُّلطانِ يُجيبُه إلى ما سألَ، فلمَّا وَصلَ ذلك إلى طُغرلبك فَرِحَ فَرحًا شَديدًا، وأَرسلَ إلى نُوَّابِه أن يُطلِقوا أَملاكَ الخَليفةِ، واتَّفقَت الكَلِمةُ بعدَ أن كادت تَتَفرَّق، فوَكَلَ الخَليفةُ في العَقْدِ، فوَقعَ العَقْدُ بمدينةِ تبريز بحَضرةِ السُّلطانِ طُغرلبك، وعَمِلَ سِماطًا عظيمًا، فلمَّا جيءَ بالمُوكِلة قام لها السُّلطانُ وقَبَّلَ الأرضَ عند رُؤيتِها، ودعا للخَليفةِ دُعاءً كثيرًا، ثم أَوجبَ العَقْدَ على صَداقِ أربعمائة ألف دينارٍ، وذلك في يوم الخميس الثالث عشر من شعبان، ثم بَعثَ ابنةَ أَخيهِ الخاتون زوجةَ الخليفةِ في شوال بتُحَفٍ كثيرةٍ، وجَوهرٍ وذَهَبٍ كَثيرٍ، وجَواهرَ عديدةٍ ثَمينةٍ، وهدايا عَظيمةٍ لأُمِّ العَروسِ وأَهلِها، ولمَّا استَقرَّ السُّلطانُ ببغداد أَرسلَ وَزيرَه عَميدَ المُلْكِ إلى الخليفةِ يُطالِبه بِنَقْلِ ابنتِه إلى دارِ المملكةِ فتَمنَّع الخليفةُ من ذلك وقال: إنَّكم إنَّما سألتُم أن يُعقَد العَقْدُ فقط بحُصولِ التَّشريفِ، والتَزمتُم لها بِعَوْدِ المُطالبةِ، فتَردَّد النَّاسُ في ذلك بين الخليفةِ والسُّلطانِ، وأَرسلَ السُّلطانُ زيادةً على النَّقْدِ مائةَ ألف دينارٍ ومائة وخمسين ألف درهمٍ، وتُحَفًا أُخَرَ، وأشياءَ لطيفةً، فلمَّا كان ليلة الاثنين الخامس عشر من صفر سنة455هـ زُفَّت السيدةُ ابنةُ الخليفةِ إلى دارِ المملكةِ، فضُرِبَت لها السُّرادِق من دِجلة إلى دارِ المملكةِ، وضُرِبت الدَّبادِبُ والبُوقاتُ عند دُخولِها إلى الدارِ.
هو السُّلطانُ الشهيدُ الملك المظفر، سيفُ الدين قطز محمود بن عبد الله التركي المعزي. كان أنبَلَ وأخَصَّ مماليك الملك المعز عز الدين أيبك التركماني، ثم صار نائِبَ السلطنة لوَلَدِه المنصور, ثالثِ سلاطين دولة المماليك في مصرَ والشام. كان شابًّا أشقرَ وافِرَ اللحية, فارسًا شجاعًا بطلًا، سائِسًا، دَيِّنًا، حازمًا، حسَنَ التدبيرِ، محَبَّبًا إلى الرعيَّة. كثير الخير ناصحًا للإسلام وأهله، وكان الناسُ يحبُّونَه ويدعون له كثيرًا. هزم التتار، وطهَّر الشام منهم يومَ عين جالوت، وهو الذي كان قَتَلَ فارس الدين أقطاي الجمداري، ويقال: إن قطز ابن أخت السلطان خوارزم شاه جلال الدين، وإنه حُرٌّ واسمُه محمود بن ممدود. لما قُتِلَ أستاذُه المعز عز الدين أيبك قام في توليةِ ولده المنصور علي، فلما سَمِعَ بأمر التتار خاف أن تختَلِفَ الكلمة لصِغَرِ سِنِّ المنصور علي, ودعا إلى نفسه، فبويع في ذي القعدة سنة 657، ثم سار إلى التتار فجعل اللهُ على يديه نصرة الإسلام والمسلمين. وكان اجتماعه مع عدوه في العشر الأخير من رمضان يوم الجمعة، حيث كان فيه نصرُ الإسلام والمسلمين. قال ابن كثير: "لما كان يومُ المعركة بعين جالوت قُتِلَ جوادُه فترجَّلَ وبَقِيَ واقفًا على الأرض ثابتًا، والقتالُ يعمل في المعركة، وهو في موضِعِ القَلبِ، فلما رآه بعضُ الأمراء ترجَّل عن فرسه وحَلَف على السلطان ليركبَنَّها فامتنع، وقال لذلك الأمير: ما كنتُ لأحرِمَ المسلمينَ نَفعَك. ولم يزَلْ كذلك حتى جيءَ له بخيلٍ فرَكِبَه! فلامه بعض الأمراء وقال: يا خوند (يا سيد) لم لا ركبتَ فَرسَ فلان؟ فلو أنَّ بعض الأعداء رآك لقتلَكَ وهلك الإسلامُ بسَبَبِك، فقال: أمَّا أنا فكنتُ أروح إلى الجنة، وأمَّا الإسلامُ فله ربٌّ لا يضيعه، قد قُتِلَ فلان وفلان وفلان حتى عد خَلقًا من الملوك، فأقام للإسلامِ مَن يحفظُه غيرهم، ولم يضيِّع الإسلام", ولما قدم دمشقَ في شوال أقام بها العَدلَ ورتَّبَ الأمور، وأرسل بيبرس خلف التتار ليخرِجَهم ويطرُدَهم عن حلب، ووعَدَه بنيابتِها فلم يفِ له لما رآه من المصلحةِ، فوقعت الوحشةُ بينهما, فلما فرَغ المظَفَّر من الشام ثم رجع إلى الديار المصرية والعساكر الإسلامية في خدمته، كان الأميرُ ركن الدين بيبرس البندقداري قد اتَّفَق مع جماعةٍ مِن الأمراء على قتله، فلما وصلَ بين القرابي والصالحيَّة ضرب دهليزه وساق خَلفَ أرنب، وساق معه أولئك الأمراءَ فشَفَعَ عنده ركن الدين بيبرس في شيءٍ فشَفَّعَه، فأخذ يده ليُقَبِّلَها فأمسَكَها وحمل عليه أولئك الأمراءُ بالسيوف فضربوه بها، وألقوه عن فرَسِه ورشقوه بالنشَّاب حتى قتلوه ودفن بالقصر، وكان قُتله يوم السبت سادس عشر من ذي القعدة، وكانت مُدَّة ملكه من حين عَزَل ابنَ أستاذه المنصور عليِّ بن المعز التركماني إلى هذه المدة، وهي أواخِرُ ذي القعدة نحوًا من سنة، رحمه الله وجزاه عن الإسلامِ وأهله خيرًا.
هو الإمامُ العلَّامةُ الأوحد الشيخ عبد الله ابن شيخ الإسلام محمد بن عبد الوهاب، الثِّقةُ الثَّبتُ, التقي الوَرِعُ المجاهد المحتَسِب, ذو الهمة العالية والشجاعة المتناهية, الذي خَلَف والِدَه شيخ الإسلام محمد بن عبد الوهاب في مؤازرة الإمامِ عبد العزيز بن محمد بن سعود، وخَلَفه في بثِّ العلم والقيام بدعوة التوحيد ونَشْرها، والدفاع عنها بالقلَمِ واللسان، والحُجَّة والبيان، وهو عالمُ نجد بعد أبيه ومُفتيها، ومَن له الفتاوى السديدة والأجوبة العديدة، والرُّدود العظيمة، ومن ضُرِبَت إليه أكبادُ الإبل مِن سائِرِ بلدان نجد، وتوالت عليه الأسئلةُ من جميع قرى نجد ومدُنِها. ولِدَ في الدرعية سنة 1165هـ ونشأ بها في كَنَف والده، وقرأ القرآنَ حتى حَفِظه ثم شرع في القراءةِ على والده، فتفَقَّه في المذاهب الإسلامية، ومهَرَ في علمي الفروع والأصول، وكان مع هذا عالِمًا بارزًا في علم التفسير والعقائد وأصول الدين، عارفًا بالحديث ومعانيه، وبالفِقهِ وأصوله، وعلم النحو واللغة، وله اليدُ الطولي في جميع العلوم والفنون، كرَّس جُهدَه وأوقف حياته على تحصيلِ العلم وتعليمه ونَشْره تدريسًا وتأليفًا، فأخذ عنه العِلمَ خلقٌ كثيرٌ من فطاحلة عُلماء نجد وجهابِذتِهم، وكان مَرجِعَ القضاة في عهد الإمامِ عبد العزيز بن محمد بن سعود، وابنِه الإمام سعود، وابنِه الإمام عبد الله، وقد ألَّف مؤلفات كثيرة، منها: جواب أهل السنة النبوية في نقض كلام الشيعة والزيدية، ردَّ به على بعض عُلماء الزيدية الذين اعترضوا على دعوةِ التوحيد السَّلَفية، وألَّف مختَصَر السيرة النبوية في مجلَّدٍ ضخمٍ، والكلمات النافعة في المكفِّرات الواقعة، وألَّف منسكًا صغيرًا للحج، وكتب رسائِلَ وفتاوى كثيرة، وكان له دروسٌ خاصة يحضُرُها الإمام سعود عبد العزيز، وابنه الإمام عبد الله بن سعود، في الدرعية، وقد صَحِبَ الأمير سعودَ بن عبد العزيز في دخوله مكَّةَ سنة 1218، وكتب حالَ دخوله مكة المكرمة مع الأمير سعود رسالةً وإجابةً منه لِمن سأله عمَّا يعتقدونه ويدينون للهِ به، وكان مع هذا شجاعًا مِقدامًا، وقف في باب البجيري المعروف -أثناء حصار إبراهيم باشا للدرعيَّة- وشهَرَ سَيفَه وقاتل قِتالَ الأبطال قائلًا كلمته المشهورة: "بطنُ الأرض على عِزٍّ خيرٌ من ظهرِها على ذُلٍّ" وقاتَلَ حتى رد العساكِرَ وزحزحهم عن مواقِفِهم، وذلك في آخر حرب الباشا على الدرعية، ثم نقله باشا إلى مصرَ بعد ما استولى على الدرعية، وذلك سنة 1242هـ, ونقل معه ابنه عبد الرحمن، وبقي بمصر محدودَ الإقامة حتى توفِّيَ بمصر، وقد أنجب ثلاثةَ أبناء عُلَماء، هم: الشيخ سليمان، الذي قتله إبراهيم باشا في الدرعية، وعليٌّ قُتِلَ فيما بعد على يد بعض عساكرِ الترك بنجد، وعبد الرحمن نُقِلَ مع أبيه إلى مصر صغيرًا وتعلَّم بها ودرَّس برُواق الحنابلةِ.
ظنَّ السلطان عبد العزيز بن محمود الثاني أنَّه إذا تقرَّب إلى الروس فإن ذلك سيؤثِّرُ على الدول الأوربية الغربية لتقديمِ تساهلاتٍ أكثَرَ للدولة العثمانية، فخافت الدولُ الأوربية فأشاعت عنه التبذيرَ والإسرافَ، وتولى رئيسُ مجلس الشورى أحمد مدحت باشا فكرةَ عَزلِه، كما تواطأ معه شيخُ الإسلام حسن خير الله أفندي -المنتمي لحركة تركيا الفتاة- فأصدر فتوى شرعية تفيدُ بعَزلِه, فعُزِلَ السلطان عبد العزيز في هذا العام بعد أن أمضى في الحكم ست عشرة سنة وأربعة أشهر كان يسعى خلالها إلى تقويةِ الدولةِ، ثم قُتِلَ بعد ذلك وأُشيعَ أنَّه انتحر، وتولى الخلافةَ بعده ابنُ أخيه مراد الخامس بن عبد المجيد في اليوم السابع من هذا الشهر في هذه السنة.
هي أُمُّ المؤمنين سَوْدَةُ بنتُ زَمْعَةَ بن قيسِ بن عبدِ شَمسِ بن عبدِ وُدٍّ، وأُمُّها الشَّموسُ بنتُ قيسِ بن عَمرِو بن زيدِ بن لَبيدٍ، تَزوَّجها السَّكرانُ بن عَمرِو بن عبدِ شَمسِ بن عبدِ وُدٍّ، وأَسلمَت بمكَّةَ قديمًا وبايَعَت، وأَسلَم زَوجُها السَّكرانُ بن عَمرٍو، وخرَجا جميعًا مُهاجِرين إلى أرضِ الحَبشةِ في الهِجرَةِ الثَّانيةِ، قَدِمَ السَّكرانُ بن عَمرٍو مكَّةَ مِن أرضِ الحَبشةِ ومعه امْرأتُه سَودَةُ بنتُ زَمْعةَ فتُوفِّيَ عنها بمكَّةَ، فلمَّا حَلَّتْ أَرسَل إليها رَسولُ الله صلَّى الله عليه وسلَّم فخَطَبَها فقالت: أَمْرِي إليك يا رسولَ الله. فقال رَسولُ الله: (مُرِي رجلًا مِن قَومِك يُزَوِّجُكِ). فأَمَرَت حاطِبَ بن عَمرِو بن عبدِ شَمسِ بن عبدِ وُدٍّ فزَوَّجَها، فكانت أوَّلَ امْرأةٍ تَزوَّجها رسولُ الله صلَّى الله عليه وسلَّم بعدَ خَديجةَ، وهاجرت إلى المدينةِ، وهي التي وَهَبَت يَومَها إلى عائشةَ بعدَ أن أَسَنَّتْ وكَبِرَتْ، وتُوفِّيَتْ في آخرِ خِلافةِ عُمَرَ بن الخطَّاب رضِي الله عنهُما جميعًا.
خرج الوليدُ بن طريف التغلبي بالجزيرة، ففَتَك بإبراهيم بن خازم بن خزيمة بنصيبين، ثم قَوِيَت شوكةُ الوليد، فدخل إلى أرمينيَّة، وحصر خلاط عشرينَ يومًا، فافتدوا منه أنفُسَهم بثلاثين ألفًا. ثم سار إلى أذربيجان، ثمَّ إلى حلوان وأرض السواد، ثم عبَرَ إلى غرب دجلة، وقصد مدينة بلد، فافتدوا منه بمائةِ ألف، وعاث في أرضِ الجزيرة، فسَيَّرَ إليه الرشيد يزيدَ بن مزيد بن زائدة الشيباني, فجعل يزيدُ يختالُه ويُماكِرُه، وكانت البرامِكةُ مُنحَرِفةً عن يزيد، فقالوا للرشيد: إنَّما يتجافى يزيدُ عن الوليد للرَّحِم؛ لأنَّهما كلاهما من وائل، فكتب إليه الرشيدُ كتابَ مُغضَب، وقال له: لو وَجَّهتُ أحدَ الخدم لقام بأكثَرَ ممَّا تقوم به، ولكِنَّك مُداهِنٌ متعَصِّبٌ، وأُقسِمُ بالله إن أخَّرْتَ مناجَزتَه لأُوجِّهنَّ إليك من يحمِلُ رأسَك. فقال يزيدُ لأصحابه: فِداكم أبي وأمِّي، إنَّما هي الخوارِجُ ولهم حَملةٌ، فاثبُتوا، فإذا انقضت حملتُهم فاحملوا عليهم؛ فإنهم إذا انهزموا لم يرجِعوا، فكان كما قال، حَمَلوا عليهم حَملةً، فثَبَت يزيدُ ومن معه مِن عشيرته، ثم حَمَل عليهم فانكشفوا واتَّبَع يزيدُ الوليدَ بن طريف، فلَحِقَه واحتَزَّ رأسَه.
وفي هذه السنة منع اللهُ الغيثَ بحكمته، فلم يقَعْ في الأرض حَيَا في بلدان نجدٍ ولا غيمٌ ولا مطرٌ كثيرٌ ولا قليلٌ، من أولها إلى آخر الشتاء، وقتَ حلول الشمس برج الحوت، فقَنِط الناس قنوطًا عظيمًا؛ لأن الناس يقولون: ما نعلم أن السماء عَدِمَ فيها الغيم مثل هذه السنة، فلما كان رابعَ عشر صفر أنشأ الله الغيمَ في السماء فصَبَّ الغيث فامتلأ كلُّ وادي بما فيه، وضاقت مجاريه وخرَّب السيل في البلدان كثيرًا، فلم يأتِ آخر الليل إلا وكلُّ إنسان يستغيث ربَّه أن يرفعه عنهم، ثم عادهم السيلُ في رابع عشر ربيع الآخر ليلة الثلاثاء ويومَها على أول حلول الشمسِ برج الحمل، فجاء سيلٌ ضاقت منه الوديان وخرب البلدانَ في كُلِّ بلد من بلدان نجد، ثم عادها الحيَا على أول دخول جمادى الآخرة، واستمَرَّ على جميع البلدان المطرُ نحو أربعة عشر يومًا لم تطلُعِ الشمس، وكل يوم معه سيلٌ يجري، وحار الماءُ في وسط منازل البلدان حتى إنَّه ظهر في مسجد الجامع في بلد المجمعة، وسقط أكثَرُ من ثلثه، وظهر الماء في المجالس وبطون النخل، وأعشبت الأرض عشبًا لم يُعرَف له نظير!
فيها أغار أسترخان الخوارزمي في جمعٍ من التُّرك على المسلمين بناحية أرمينية، وسبى من المسلمين وأهلِ الذمَّة خلقًا، ودخلوا تفليس، وكان حربُ بن عبد الله مقيمًا بالموصِل في ألفينِ مِن الجند لمكان الخوارجِ الذين بالجزيرة، وسيَّرَ المنصور إلى محارَبة التُّرك جبرائيلَ بن يحيى وحَربَ بنَ عبد الله، فقاتلوهم، فهُزم جبرائيلُ وقُتِلَ حَربٌ، وقُتِل من أصحاب جبرائيلَ خلقٌ كثيرٌ.