لما كان يوم ثامن عشر ذي الحجة ورد الخبر بأن الأمير تغري بردي المؤيدي نائب حلب المعروف بأخي قصروه- خرج عن طاعة السلطان، وقبض على الأمراء الحلبيين، واستدعى التركمان والعربان، وأكثر من استخدام المماليك، وسببُ خروجه عن الطاعة أنه بلغه أن الملك الظاهر ططر عزَلَه، وأقرَّ عِوَضَه في نيابة حلب الأمير تنبك البجاسي نائب طرابلس، فلما تحقق ذلك خرج عن الطاعة وفعل ما فعل، فشاور الأمير برسباي الأمراءَ في أمره، فوقع الاتفاقُ على أن يكتب الأمير تنبك البجاسي بالتوجُّه إليه وبصحبته العساكر، وقتاله، وأخذ مدينة حلب عنوة، وباستقراره في نيابتها كما كان الملك الظاهر ططر أقره، وكتب له بذلك، ثم في يوم الأحد ثالث محرم سنة 825 ورد الخبر إلى الديار المصرية بفرار الأمير تغري بردي المؤيدي من حلب بعد وقعة كانت بينه وبين تنبك البجاسي المنتَقِل عِوَضَه إلى نيابة حلب.
لَمَّا قُتِلَ الذين كانوا يمُدُّون الزنجَ بالميرة، وقُطِعَت تلك الإمدادات واشتَدَّ الحصار على الزنج، ولَمَّا فرغ الموفَّقُ من شأن مدينة صاحبِ الزنج، وهي المختارة، واحتاز ما كان بها من الأموالِ وقَتَل من كان بها من الرجال، وسَبى من وجد فيها من النِّساء والأطفال، وهرب صاحِبُ الزنج عن حومةِ الحرب والجِلاد، وسار إلى بعضِ البلاد طريدًا شريدًا بشَرِّ حال؛ عاد الموفَّق إلى مدينتِه المُوفَّقيَّة مُؤيَّدًا منصورًا، وقَدِمَ عليه لؤلؤة غلام أحمد بن طولون مُنابذًا لسيِّده سميعًا مطيعًا للمُوَفِّق، وكان ورودُه عليه في ثالث المحرم من هذه السنة، فأكرمه وعَظَّمه وأعطاه وخَلَع عليه وأحسَنَ إليه، وبعثه طليعةً بين يديه لقتالِ صاحب الزنج، وركِبَ الموفَّق في الجيوش الكثيفة الهائلة وراءه، فقصدوا الخبيث وقد تحصَّنَ ببلدة أخرى، فلم يزل به محاصِرًا له حتى أخرجه منها ذليلًا، واستحوذ على ما كان بها من الأموالِ والمغانم، ثمَّ بعث السرايا والجيوشَ وراء حاجِبِ صاحب الزنج، فأسروا عامَّة من كان معه من خاصَّته وجماعتِه، منهم سليمان بن جامع، فاستبشر الناسُ بأسره وكبَّرُوا الله وحَمِدوه؛ فرحًا بالنصر والفتح، وحمل الموفَّقُ بمن معه حملةً واحدة على أصحابِ الخبيث فاستحَرَّ فيهم القتل، وما انجلت الحربُ حتى جاء البشيرُ بقتل صاحب الزنج في المعركةِ، وأُتي برأسِه مع غلامِ لؤلؤة الطولوني، فلما تحقَّق الموفَّق أنَّه رأسُه بعد شهادة الأمراء الذين كانوا معه من أصحابِه بذلك، خَرَّ ساجدًا لله، ثم انكفأ راجعًا إلى الموفَّقيَّة، ورأسُ الخبيثِ يُحمَلُ بين يديه، وسليمانُ معه أسير، فدخل البلدَ وهو كذلك، وكان يومًا مشهودًا، وفرح المسلمون بذلك في المغارب والمشارق، ثم جيء بأنكلاني ولد صاحب الزنج، وأبان بن علي المهلبي مُسَعِّر حربِهم مأسورينِ، ومعهم قريبٌ من خمسة آلاف أسير، فتم السرورُ وهرب قرطاس الذي رمى الموفَّق بصدره بذلك السَّهم إلى رامهرمز، فأُخِذَ وبُعِثَ به إلى الموفَّق فقتله أبو العباس أحمد بن الموفَّق، واستتاب مَن بقي من أصحابِ صاحب الزنج وأمَّنَهم الموفَّق، ونادى في الناس بالأمان، وأن يرجِعَ كُلُّ من كان أُخرِجَ من دياره بسبَبِ الزنج إلى أوطانِهم وبلدانهم، ثم سار إلى بغداد وقَدَّمَ ولده أبا العباس بين يديه، ومعه رأسُ الخبيث يُحمَلُ لِيَراه الناس، فدخلها لثنتي عشرة ليلةً بقيت من جمادي الأولى من هذه السنة، وكان يومًا مشهودًا، وانتهت أيامُ صاحب الزنج المُدَّعي الكذَّاب- قبَّحه الله- واسمُه محمد بن علي، وقد كان ظهورُه في يوم الأربعاء لأربعٍ بَقِين من رمضان سنة خمس وخمسين ومائتين، وكان هلاكُه يوم السبت لليلتين خلتا من صفر سنة سبعين ومائتين، وكانت دولته أربع عشرة سنة وأربعة أشهر وستة أيام، ولله الحمدُ والمنَّة، وقد قيل في انقضاء دولة الزنجِ وما كان من النصرِ عليهم أشعارٌ كثيرة.
هو حاكِمُ مصر الظافِرُ أبو مَنصورٍ إسماعيلُ بن الحافظِ لدِينِ الله عبدِ المجيدِ بن محمدِ بن المُستَنصِر مَعَدِّ بن الظاهرِ عليِّ بن الحاكمِ الفاطميُّ العُبيديُّ، المصريُّ، الإسماعيليُّ. وَلِيَ الأَمرَ بعدَ أَبيهِ خَمسةَ أَعوامٍ. وكان شابًّا جَميلًا وَسيمًا لَعَّابًا عاكِفًا على الأَغاني والسَّراري، استَوْزَرَ الأَفضلَ سليمَ بن مصالٍ فَسَاسَ الإِقليمَ. وانقَطعَت في أَيامِه الدَّعوةُ له ولآبائِهِ العُبيدِيِّين من سائرِ الشامِ والمَغربِ والحَرمَينِ, وبَقِيَ لهم إِقليمُ مصر, وقد خَرجَ على وَزيرِه ابنِ مصالٍ. العادلُ بن السَّلَّارِ، وحارَبَه وظَفَرَ به، واستَأصَلَهُ، واستَبَدَّ بالأَمرِ, وكان ابنُ السَّلَّارِ مِن أَجَلِّ الأُمراءِ الأَكرادِ سُنِّيًّا حَسَنَ المُعتَقَدِ شافِعيًّا. وفي أَيامِ الظافرِ قَدِمَ من إفريقية عبَّاسُ بن يحيى بن تَميمِ بن المُعِزِّ بن باديس مع أُمِّهِ صَبِيًّا. فتَزَوَّجَ العادلُ بها قبلَ أن يَتوَلَّى الوِزارةَ، ثم تَزَوَّجَ عبَّاسٌ، ووُلِدَ له نَصرٌ، فأَحَبَّهُ العادلُ، فاتَّفَقَ عبَّاسٌ وأُسامةُ بن مُنقِذ على قَتلِ العادلِ، وأن يَأخُذ عبَّاسٌ مَنصِبَهُ. فذَبحَ نَصرٌ العادلَ على فِراشِه في المُحرَّم سَنةَ 548هـ، وتَمَلَّكَ عبَّاسٌ وتَمَكَّنَ. عاشَ الظافِرَ اثنتين وعِشرينَ سَنةً, وكانت مُدَّةُ حُكمِه أَربعَ سِنينَ وسَبعةَ أَشهُر وأَربعةَ عشرَ يومًا، وكان سَببُ قَتلِه أن نصرَ بن عبَّاسٍ كان مَلِيحًا، فمالَ إليه الظافرُ وأَحَبَّه، وجَعلَه من نُدَمائِه وأَحبابِه الذين لا يَقدِر على فِراقِهم ساعةً واحدةً، فاتَّهَمَهُ مُؤيِّدُ الدولةِ أُسامةُ بن مُنقِذ بأنه يُفْحِشُ به وذَكرَ ذلك لأَبيهِ عبَّاسٍ فانزَعجَ لذلك وعَظُمَ عليه، فذَكرَ الحالَ لوَلَدِه نَصرٍ، فاتَّفَقا على قَتلِه، فحَضَرَ نَصرٌ عند الظافرِ وقال له: أَشتَهِي أن تَجيءَ إلى داري لدَعوةٍ صَنعتُها، ولا تُكثِر من الجَمعِ؛ فمَشَى معه في نَفَرٍ يَسيرٍ مِن الخَدَمِ لَيلًا، فلمَّا دَخلَ الدارَ قَتَلَه وقَتَلَ مَن معه، وأَفلَتَ خادمٌ صَغيرٌ اختَبأَ فلم يَرَوهُ، ودَفَنَ القَتلَى في دارِه، ثم هَربَ الخادمُ الصغيرُ الذي شاهَدَ قَتْلَه، من دارِ عبَّاسٍ عند غَفْلَتِهم عنه، وأَخبرَ أَهلَ القَصرِ بقَتْلِ نَصرِ بن عبَّاسِ للظافرِ، ثم رَكِبَ عبَّاسٌ من الغَدِ وأَتَى القَصرَ, وقال: أين مولانا؟ فطَلَبوهُ فلم يَجدِوه, فخَرجَ جِبريلُ ويوسفُ أَخَوَا الظافرِ، فقال لهم عبَّاسٌ: أين مولانا؟ قالا: سَلْ ابنَك، فغَضِبَ. وقال: أنتُما قَتَلْتُماهُ، وضَرَبَ رِقابَهُما في الحالِ ليُبعِدَ التُّهمةَ عنه, ثم أَجلسَ الفائزُ بنَصرِ الله أبا القاسمِ عيسى بنَ الظافرِ إسماعيلَ ثاني يَومٍ قُتِلَ أَبوهُ، وله من العُمرِ خمسُ سِنين. حَمَلَهُ عبَّاسٌ على كَتفِه وأَجلَسهُ على سَريرِ المُلْكِ وبايَعَ له الناسُ، وأَخَذَ عبَّاسٌ من القَصرِ من الأَموالِ والجَواهِر والأَعلاقِ النَّفيسَةِ ما أَرادَ، ولم يَترُك فيه إلا ما لا خَيرَ فيه.
هو الخليفةُ، المستنجد بالله، أبو المظفر يوسف بن المقتفي لأمر الله محمد بن المستظهر بن المقتدي العباسي. أمُّه كرجية اسمُها طاووس. عقد له أبوه بولاية العهد في سنة سبع وأربعين، وعمره يومئذ تسع وعشرون سنة. فلما احتُضِر المقتفي، رام طائفة عزل المستنجد، وبعثت حَظِيَّة المقتفي أم علي إلى الأمراء تعدهم وتمنيهم؛ ليبايعوا ابنَها علي بن المقتفي. قالوا: كيف هذا مع وجود ولي العهدِ يوسف؟ فقالت أنا أكفيكموه، فدبرت مؤامرة للتخلص من يوسف الذي اكتشف الأمر فاعتقلها وابنها علي، وثَبَت الأمرُ له، وتلقب بالمستنجد بالله. كان يقولُ الشعر، ونقش على خاتمه: من أحَبَّ نفسه عَمِلَ لها. كانت خلافته إحدى عشرة سنة وشهرًا وستة أيام، وصُلِّي عليه يوم الأحد قبل الظهر، ودُفن بدار الخلافة، ثمَّ نُقِل إلى التربة من الرصافة، وكان سببُ موته أنه مرض واشتد مرضه، وكان قد خافه أستاذ الدار عضد الدين أبو الفرج بن رئيس الرؤساء، وقطب الدين قايماز المقتفوي، وهو حينئذ أكبَرُ أمير ببغداد، فلما اشتد مرض الخليفة اتفقا، ووضعا الطبيبَ على أن يصِفَ له ما يؤذيه، فوصف له دخولَ الحمام، فامتنع لضَعفِه، ثم إنه دخل وأغلق الباب عليه فمات، وقيل إنَّ الخليفة كتب إلى وزيره مع طبيبه ابن صفية يأمُرُه بالقبض على أستاذ الدار وقطب الدين وصَلْبِهما، فاجتمع ابن صفية بأستاذ الدار، وأعطاه خط الخليفة، فقال له: تعود وتقول إنني أوصلت الخطَّ إلى الوزير، ففعل ذلك، وأحضر أستاذ الدار قطب الدين ويزدن وأخاه تنامش، وعرض الخط عليهم، فاتفقوا على قتل الخليفة، فدخل إليه يزدن وقايماز الحميدي، فحملاه إلى الحمام وهو يستغيث وألقياه، وأغلقا الباب عليه وهو يصيح إلى أن مات، ثم بعد وفاة المستنجد، أحضرَ هو وقطب الدين ابنه أبا محمد الحسن، وبايعاه بالخلافة، ولقباه المستضيء بأمر الله، وشرطا عليه شروطًا: أن يكون عضدُ الدين وزيرًا، وابنُه كمال الدين أستاذ الدار، وقطب الدين أمير العسكر، فأجابهم إلى ذلك، ولم يتول الخلافة من اسمُه الحسنُ إلَّا الحسن بن علي بن أبي طالب، والمستضيء بأمر الله، فبايعه أهلُ بيته البيعةَ الخاصة يوم توفي أبوه، وبايعه الناسُ في الغد في التاج بيعةً عامة، ويُذكَرُ أن الخليفة المستنجد بالله كان من أحسن الخلفاء سيرةً مع الرعية، عادلًا فيهم، كثير الرفق بهم، وأطلق كثيرًا من المكوس، ولم يترك بالعراق منها شيئًا، وكان شديدًا على أهل العيثِ والفسادِ والسعاية بالناس.
هو الكاتبُ المؤرِّخُ الصاحبُ محيى الدين عبد الله بن رشيد الدين عبد الظاهر بن نشوان بن عبد الظاهر السّعدىُّ الموقَّعُ كاتب الإنشاء بالديار المصريَّة، وكان من أبرع المؤرِّخين الذين ظهروا في مطالِعِ دولة المماليك البحريَّة، وكان إلى جانب كونِه مؤرِّخًا، كاتبًا صاحِبَ قَلمٍ بليغٍ أهَّلَه لأن يحتلَّ مكانةً مرموقة في الصفِّ الأوَّل من كتَّاب العربيَّة. ولد بالقاهرة في 9 محرم 620هـ (12 من فبراير 1223م) بدأ حياته بحفظ القرآنِ مِثلَ أقرانه من طلبةِ العلم، وتردَّدَ على حلقات الفُقَهاءِ والمحدثين, وامتَدَّت ثقافته لتشمل الأدبَ والتاريخ والأخبار، وهو ما مكَّنَه من الالتحاق بديوانِ الإنشاء على عهدِ الأيوبيِّينَ، الذي كان يضُمُّ فحولَ الكتَّاب البارعين، ولم يبدأ نجم ابن عبد الظاهر في التألُّق والظهورِ إلَّا في عهد السلطان الظاهر بيبرس، حين عَهِدَ إليه بعَمَلِ شَجرةِ نَسَب للخليفة الحاكِمِ بأمر الله أحمد العباسي، الذي اختاره بيبرس خليفةً للمسلمين في محاولةٍ منه لإحياء الخلافة العباسيَّة في القاهرةِ بعد أن سقَطَت في بغداد سنة 656هـ ( 1257م)، ثم توثَّقَت صلتُه بالظاهر بيبرس حتى صار موضِعَ ثِقتِه، فعندما أرسلَ إليه الملك المغولي بركة خان يطلُبُ عَقدَ حِلفٍ مع بيبرس كتَبَ ابن عبد الظاهر صيغةَ الكِتاب، وقرأه على السلطانِ بحضور الأمراء، كما كتب تفويضَ الظاهر بيبرس بولايةِ العهدِ إلى ولَدِه الملك السعيدِ بركة خان. واحتفَظَ ابن عبد الظاهر بمكانتِه أيضًا في عهد السلطان قلاوون الذي حكم مصرَ بعد الظاهِرِ بيبرس وولَدَيه، وكتب له تفويضَ السَّلطَنة بولايةِ العَهدِ إلى ابنه علاء الدين علي، ثم لابنه الملك الأشرف خليل قلاوون. وقد أشاد ببلاغتِه معاصِروه وشهدوا له بالتقدُّم في صناعةِ الكِتابة والأدب؛ فقد وصفه القلقشندي بأنَّه وأبناءه بيتُ الفصاحة ورؤوسُ البلاغة، وقال عنه ابن تغري بردي: بأنَّه من ساداتِ الكُتَّاب ورؤسائِهم وفُضَلائِهم, وهو صاحِبُ النَّظمِ الرَّائقِ والنَّثر الفائق, ولَمَّا وضع ابن عبد الظاهر مؤلَّفاته التاريخيَّةَ ضَمَّنَها عددًا كبيرًا من الوثائق التي كتبها، وصاغ أحداثَ عَصرِه ووقائعه وصوَّرَ أبطالَه ومعاركَه، وترك ابن عبد الظاهر عددًا من المؤلَّفات التاريخيَّة والأدبيَّة وصل إلينا كثيرٌ منها مثل: الروض الزاهر في سيرة الملك الظاهر، وهذه السيرة كتبها المؤلِّفُ في حياة السلطانِ، وتشريف الأيام والعصور بسيرة السلطان الملك المنصور، وهي سيرةٌ للمنصور قلاوون، والروضة البهيَّة الزاهرة في خطط المُعِزِّية القاهرة. وقد امتدَّت الحياة بابن عبد الظاهر حتى تجاوز السبعينَ مِن عمره قضى معظمَها قريبًا من الأحداث التي شَهِدَتها مصرُ والشام فسَجَّلَها في كتبه. تُوفي في القاهرة في 4 من شهر رجب من هذه السنة, ودفن بالقرافة بتُربتِه التي أنشأها.
استمَرَّ الحالُ على الغلاء في الأسعار بشكلٍ فاحشٍ جِدًّا وهلك معظَمُ الدوابِّ لعَدَمِ العَلَفِ، حتى لم توجَدْ دابة للكِراءِ، وهلكت الكلاب والقِطَطُ من الجوع، وانكشف حالُ كثيرٍ مِن الناس، وشَحَّت الأنفسُ حتى صار أكابِرُ الأمراء يمنعونَ مَن يدخُلُ عليهم من الأعيانِ عند مَدِّ أسمِطَتِهم، وكثُرَ تعزير محتَسِب القاهرة ومِصر لبيَّاعي لحوم الكلاب والمَيتات، ثمَّ تفاقم الأمر فأكل الناسُ الميتةَ مِن الكلابِ والمواشي وبني آدم، وأكل النِّساءُ أولادَهنَّ الموتى، ثم إن الأسعارَ انحَلَّت في شهرِ رَجَب ثم في شوال تزايد السِّعرُ وساءت ظنونُ الناس، وكثُرَ الشحُّ وضاقت الأرزاق ووَقَفَت الأحوال، واشتَدَّ البكاء وعَظُمَ ضجيجُ النَّاسِ في الأسواق من شِدَّةِ الغلاء، وتزايد الوباءُ بحيث كان يخرجُ مِن كل باب من أبواب القاهرةِ في كل يوم ما يزيدُ على سبعمائة ميت، ويُغَسَّل في الميضأة من الغرباءِ الطُّرَحاء في كلِّ يَومٍ نحوُ المائة والخمسين ميتًا، ولا يكاد يوجد باب أحدٍ من المستورين بالقاهرة ومصر إلَّا ويصبِحُ على بابه عِدَّةُ أمواتٍ قد طُرِحوا حتى يكَفِّنَهم، فيَشتَغِلَ نهارَه، ثم تزايد الأمر فصارت الأمواتُ تُدفَنُ بغير غسل ولا كفَنٍ، فإنه يدفَنُ الواحد في ثوبٍ ثم ساعة ما يوضع في حُفرتِه يؤخَذُ ثَوبُه حتى يُلبَسَ لميت آخرَ، فيكَفَّنُ في الثوب الواحد عدةُ أمواتٍ!! وعجز الناس عن مواراة الأموات في القبور لكثرتِهم وقِلَّة من يحفرُ لهم، فعملت حفائِرُ كِبارٌ ألقِيَت فيها الأمواتُ من الرجال والنساء والصبيان حتى تمتلئ الحفرةُ، ثم تطَمُّ بالترابِ، وانتُدِبَ أناسٌ لحَملِ الأموات ورَمْيهم في الحفر، فكانوا يأخذونَ عن كلِّ مَيتٍ نِصفَ درهم، فيحمِلُه الواحد منهم ويلقيه إمَّا في حفرة أو في النيلِ إن كان قريبًا منه، وصارت الولاةُ بالقاهرة ومصر تحمل الأموات في شباك على الجمال، ويعلِّقونَ الميِّتَ بيديه ورجليه من الجانبين، ويُرمى في الحفر بالكيمانِ مِن غير غُسلٍ ولا كفنٍ! ورُمِيَ كثيرٌ من الأموات في الآبار حتى تُملأَ ثمَّ تُردَم، ومات كثير من الناس بأطرافِ البلاد فبَقِيَ على الطرقات حتى أكلَته الكلابُ، وأكل كثيرًا منها بنو آدم أيضًا، وحُصِرَ في شَهرٍ واحد من هذه السنة عِدَّةُ مَن مات ممَّن قُدِرَ على معرفته، فبَلَغَت العدَّةُ مائة ألفٍ وسبعةً وعشرين ألف إنسان، وعَظُم الموتانُ في أعمال مصر كلِّها حتى خلت القرى، وتأخَّر المطرُ ببلاد الشام حتى دخل فصلُ الشتاء ليلة الخميسِ سادس صفر وهو سادس عشر ديسمبر ولم يقَعِ المطر، فتزايدت الأسعارُ في سائر بلاد الشام، وجَفَّت المياه، فكانت الدابةُ تُسقى بدرهمٍ شَربةً واحدةً، ويشرَبُ الرجُلُ برُبعِ دِرهمٍ شَربةً واحدة، ولم يبق عُشبٌ ولا مرعى، واشتد الغلاءُ بالحِجازِ!!
إنَّ الملك الظاهر يلباي الإينالي لما تسلطن وتم أمره غطَّاه المنصب، وصار كالمذهول، ولزم السكوتَ وعدم الكلام، وضَعُف عن بتِّ الأمور، وردْع الأجلاب، بل صارت الأجلاب في أيامه كما كانت أولًا وأعظم، فلم يَحسُن ذلك ببال أحد، وصار الأمير خيربك الدوادار الثاني هو صاحب الحل والعقد في مملكته، وإليه جميعُ أمور المملكة، وشاع ذلك في الناس والأقطار، فبهذا وأشباهه اضطربت أحوالُ الديار المصرية، ولما كان عصر يوم الأربعاء رابع جمادى الأولى، وطلعت الأمراء الألوف إلى القلعة ليبيتوا بالقصرِ على العادة، امتنعت المؤيدية عن الطلوع بمن وافقهم ما خلا الأمير جانبك الإينالي الأشرفي المعروف بقلقسيز أمير مجلس، وهو كبير الأشرفية الكبار يومئذ، واستمالت الظاهرية أيضًا الأمير جانبك قلقسيز الأشرفي أمير مجلس، فمال إليهم، ووعدهم بممالأة خشداشيته- زملائه- الأشرفية إليهم، وخذلان يشبك الدوادار، فعند ذلك صار الملك الظاهر يلباي وحده أسيرًا في أيدي القلعيين، فلما أصبحوا يوم الخميس خامس جمادى الأولى أعلن الأمير يشبك الفقيه الوثوب على الخشقدمية، ولبسوا آلة الحرب، وركب بمن معه من المؤيدية والأشرفية الكبار والأشرفية الصغار، والسيفية، واجتمع عليهم خلائقُ من كل طائفة، ومالت زعر الديار المصرية إليهم، وبلغ مَن بالقلعة أمرهم، فخافوهم خوفًا شديدًا، ولَبِسوا هم أيضًا آلة الحرب، ونزلوا بالسلطان الملك الظاهر يلباي إلى مقعد الإسطبل السلطاني المطل على الرميلة، وشرعوا في قتال الأمير يشبك بمن معه في الأزقة والشوارع بالصليبية، وأصبح يوم الجمعة سادس جمادى الأولى والقتال قائم بين الفريقين بشارع الصليبية من أول النهار إلى آخره، فلما جاء الليل ليلة السبت أدخل يلباي إلى مبيت الحراقة، وبات به على هيئة عجيبة، إلى أن أصبح النهار وأخذوه وطلعوا به إلى القصر الأبلق، وحبسوه في المخبأة التي تحت الخرجة، بعد أن طلعوا به ماشيًا على هيئة الخَلعِ من السلطنة ثم سُجِنَ بعد ذلك بسجن الإسكندرية إلى أن توفي في العام التالي وقد جاوز السبعين من عمره، وأخذ الناس في سلطنة الملك الظاهر تمربغا، وزال ملك يلباي هذا كأنه لم يكن، وكانت مدة ملكه شهرين إلا أربعة أيام، ليس له فيها إلا مجرد الاسم فقط، أما السلطان الجديد الظاهر أبو سعيد تمربغا فجلس بصدر المقعد بالإسطبل السلطاني المعروف بالحراقة، وحضر الخليفة المستنجد بالله أبو المظفر يوسف، والقاضي الشافعي والقاضي الحنفي، وتخلف المالكي لتوعكه، والحنبلي لإبطائه، وحضر غالب أرباب الدولة والأعيان وبايعوه بالسلطنة، فقام من وقته ودخل مبيت الحراقة، ولبس خلعة السلطنة السواد الخليفتي.
هو السُّلطانُ الكبيرُ، رُكْنُ الدِّين، أبو طالبٍ، طُغرلبك محمدُ بن ميكائيل بن سَلجوق بن دقاق أوَّلُ مُلوكِ السَّلاجِقة, وأَصلُ السَّلاجِقة مِن بَرِّ بُخارى؛ لهم عددٌ وقُوَّةٌ وإِقدامٌ، وشَجاعةٌ وشَهامةٌ وزَعارةٌ، فلا يَدخُلون تحتَ طاعةٍ، وإذا قَصدَهُم مَلِكٌ دَخَلوا البَرِّيَّة, ثم إن طُغرلبك عَظُمَ سُلطانُه، وطَوَى المَمالِكَ، واستولى على العِراقِ في سنة 447هـ، وتَحبَّبَ إلى الرَّعيَّةِ بِعَدْلٍ مَشُوبٍ بِجَوْرٍ، وكان حَليمًا كَثيرَ الاحتمالِ، شَديدَ الكِتمانِ للسِّرِّ، مُحافِظًا على الصَّلواتِ، وعلى صَومِ الاثنينِ والخَميسِ، مُواظِبًا على لُبْسِ البَياضِ، ويبني المَساجِد، ويَتصدَّق، سار السُّلطانُ طُغرلبك من بغداد، في رَبيعٍ الأوَّل، إلى بلدِ الجَبَلِ، فوَصلَ إلى الرَّيِّ واستَصحَب معه أرسلان خاتون ابنةَ أَخيهِ، زَوجةَ الخليفةِ، لأنَّها شَكَت إطراحَ الخليفةِ لها، فأَخذَها معه، فمرضَ، فلمَّا كانت ليلةُ الأحدِ الرابع والعشرين من رمضان جاء الخبرُ بأنَّه تُوفِّي في ثامنِ الشهرِ، فثار العَيَّارُون فقَتَلوا وَزيرَ السُّلطانِ عَميدَ المُلْكِ الكندريَّ وسبعمائة من أصحابِه، ونَهَبوا الأموالَ، وجَعَلوا يأكلون ويشربون على القَتْلَى نهارًا، حتى انسلخَ الشهرُ وأُخِذَت البَيْعَةُ بعدَه لِوَلَدِ أخيهِ سُليمان بن داودَ، وكان طُغرلبك قد نَصَّ عليه وأَوصَى إليه، لأنَّه كان قد تَزَوَّج بأُمِّهِ، واتَّفَقَت الكَلمةُ عليه، ولم يبق عليه خَوْفٌ إلَّا مِن جِهَةِ أَخيهِ المَلِكِ عَضُدِ الدَّولةِ ألب أرسلان محمد بن داود، وكان مُدَّةُ مُلْكِ طُغرلبك بحَضرةِ القائمِ بأمرِ الله سبعَ سنين وإحدى عشر شهرًا، واثني عشر يومًا وكان عُمُرُهُ يومَ مات سبعين سنة.
لَمَّا ملك صلاح الدين إعزازَ رحل إلى حلب فنازلها منتصَفَ ذي الحجة وحَصَرَها، وبها الملك الصالح إسماعيل بن نور الدين محمود ومَن معه من العساكِرِ، وقد قام العامَّةُ في حفظِ البَلَدِ القيامَ المَرضِيَّ، بحيث إنَّهم منعوا صلاح الدين من القُربِ مِن البلد، لأنَّه كان إذا تقدم للقتال خَسِرَ هو وأصحابُه، كَثُرَ الجراح فيهم والقَتلُ، كانوا يخرجُون ويقاتلونه خارج البلد، فترك القتالَ وأخلدَ للمطاولة، وانقَضَت سنة إحدى وسبعين، ودخلت سنة اثنتين وسبعين، وهو محاصِرٌ لها، ثم ترددت الرسُلُ بينهم في الصُّلحِ في العشرين من المحرم، فوقَعَت الإجابةُ إليه من الجانبين؛ لأن أهل حلب خافوا من طول الحصارِ؛ فإنَّهم ربمَّا ضَعُفوا، وصلاحُ الدين رأى أنه لا يقدِرُ على الدنوِّ مِن البلد، ولا على قتالِ مَن به، فأجاب أيضًا، وتقرَّرَت القاعدة في الصلحِ للجميع، للمَلِك الصالحِ، ولسيف الدين صاحِبِ الموصل، ولصاحِبِ الحصن، ولصاحِبِ ماردين، وتحالفوا واستقَرَّت القاعدة أن يكونوا كُلُّهم عونًا على الناكِثِ الغادر، فلمَّا انفصل الأمرُ وتمَّ الصلحُ، رحل صلاح الدين عن حلب، بعد أن أعاد قلعةَ إعزاز إلى الملك الصالح، وكان في شروط الصلح أن يُطلِقَ صَلاحُ الدين عزَّ الدين جورديك، وشمسَ الدين علي بن الداية، وأخويه سابق الدين، وبدر الدين. فسار أولادُ الداية إلى الملك الناصر، فأكرمهم، وأنعمَ عليهم. وأما جورديك، فأقام في خدمةِ الملك الصالح، وعَلِمَ الجماعةُ براءتَه ممَّا ظنوا به.
قاضي القضاة شمس الدين أبو العباس أحمد بن محمد بن إبراهيم بن أبي بكر بن خَلِّكان البرمكي الأربلي الشافعي، ولد بإربل سنة 608, وكان فاضلًا بارعًا متفننًا كريمًا جوادًا ممدوحًا فيه ستر وحِلمٌ وعفو، وعارفًا بالمذهب حسن الفتاوى جيد القريحة بصيرًا بالعربية علَّامة في الأدب والشعر وأيام الناس، كثيرَ الاطلاع حلو المذاكرة وافِرَ الحرمة، فيه رياسة كبيرة، قدم الشام في شبيبته, ودخل مصرَ وسكنها مدَّةً وتأهل بها وناب بها في القضاءِ عن القاضي بدر الدين السنجاري، ثم قدم الشام على القضاء في ذي الحجة سنة تسع وخمسين منفردًا بالأمر ثم أقيم معه في القضاء ثلاثة قضاة, ثم عزل عن القضاء سنة تسع وستين بالقاضي عز الدين بن الصائغ، ثم عزل ابن الصائغ بعد سبع سنين به، وقد كان المنصب بينه وبين ابن الصائغ دولًا يُعزل هذا تارة ويولى هذا، ويُعزَلُ هذا ويولى هذا، وابن خلكان هو أوَّلُ من جدد في أيامه قضاءَ القضاة من سائر المذاهب، فاشتغلوا بالأحكامِ بعد ما كانوا نوابًا له، وقد درَّس ابن خلكان في عدة مدارس لم تجتمع لغيره، ولم يبقَ معه في آخر وقت سوى الأمينية، وبيَدِ ابنه كمال الدين موسى النجيبية، توفي ابن خلكان بالمدرسة النجيبية في إيوانها يوم السبت آخر النهار، في السادس والعشرين من رجب، ودفن من الغد بسفح قاسيون عن ثلاث وسبعين سنة، له مصنفات أشهرها وفيات الأعيان وقد اشتهر كثيرًا وأنباء أبناء الزمان فيه أكثر من ثمانمائة ترجمة, وله مجاميع أدبية.
جدَّد السلطان الظاهِرُ البيعةَ لولده من بعده الملك السعيدِ محمد بركة خان، وأحضَرَ الأمراءَ كُلَّهم والقضاة والأعيان وأركَبَه ومشى بين يديه، وكتب له ابنُ لقمان تقليدًا هائلًا بالمُلكِ مِن بعد أبيه، وأن يحكُمَ عنه أيضًا في حالِ حياته.
سمحت الحكومة التركية بدخول جميع أعضاء السلالة العثمانية -عدا الأمراء أبناء السلاطين- إلى تركيا بعد إلغاء الخلافة العثمانية في مارس 1923م، وطَرْد سلالة بني عثمان إلى خارج تركيا، بعد ما حكموا البلاد مدة 963 عامًا، منها 407 أعوام هي مدة الخلافة.
بعد أن تمَّ تنصيبُ العادل سلامش في الملك لم يكنْ له من الأمر شيءٌ، بل كل شيء من حَلٍّ وعَقدٍ بيد قلاوون الألفي فشرع الأمير قلاوون في القبض على الأمراء الظاهريَّة، فقبض على أعيانِهم وبعث بهم إلى الثغور فسُجِنوا بها، وأمسك أيضًا كثيرًا من الظاهريَّة وملأ الحبوسَ بهم، وأعطى قلاوونُ ومنع وقطع، ووصل واستخدم وعزل، فكان صورتُه أتابك وتصَرُّفُه تصرُّفَ الملوك، وانفرد قلاوون بالمملكة وأجَدَّ في تدبر أحواله وفَرَّق على المماليك واستمالهم، وقرَّبَ الصالحية وأعطاهم الإقطاعات، وسَيَّرَ عدة منهم إلى البلاد الشاميَّة واستنابهم في القلاع، وتتَبَّع ذراريَّهم وأخذ كثيرًا منهم كانوا قد تصَنَّفوا بالصنائع والحرف، فرتَّبَ طائفة منهم في البحرية، وقررَ لجماعة منهم جامكية –رواتب- وقوِيَ بهم جانبه وتمكَّنَت أسبابه، ثم جمع قلاوون الأمراء في العشرين من رجب وتحَدَّث معهم في صغر سن الملك العادِلِ، وقال لهم: قد علمتُم أن المملكة لا تقومُ إلا برجلٍ كامل، إلى أن اتفقوا على خلع سلامش فخلعوه، وبعَثوا به إلى الكرك وكانت مُدَّة مُلكِه مائة يوم، ولم يكن حَظُّه من المُلك سوى الاسم فقط، وجميعُ الأمور إلى الأتابك قلاوون، وقع الاتفاق على خلع العادل وإقامة قلاوون، فأُجلِسَ قلاوون على تخت المُلك في يوم الأحد العشرين من رجب، وحلَفَ له الأمراءُ وأرباب الدولة، وتلَقَّب بالملك المنصور، وأمر أن يُكتَبَ في صدر المناشير والتواقيع والمكاتبات لفظُ الصالحي، فكُتِبَ بذلك في كل ما يكتب عن السلطان، وجعل عن يمين البسملة تحتها بشيء لطيف جدًّا، وخرج البريد بالبشائر إلى الأعمال، وجُهِّزَت نسخة اليمين إلى دمشق وغيرها، وزُيِّنَت القاهرة ومصر وظواهِرُهما وقلعة الجبل، وأقيمت له الخطبةُ بأعمال مصر، ويُذكَرُ أن قلاوون هذا هو السابع من ملوك الترك بالديار المصريَّة، والرابع ممن مَسَّه الرِّقُّ.
خرج الإمامُ سعود للحَجَّة الثالثة في ذي القعدةِ، وكان قد سيَّرَ قبل خروجِه للحج في نهاية رمضان عبد الوهاب أبا نقطة برعاياه من عسير وألمع وفهاد بن سالم بن شكبان بأهل بيشة ونواحيها، وعثمان المضايفي بأهل الطائف, وأهل اليمن وأهل تهامة والحجاز وحجيلان بن حمد بشوكة أهل القصيم, ومحمد بن عبد المحسن بأهل الجبل ومن تبعه من أهل شمر وشوكة أهل الوشم, وواعدهم الإمامُ سعود المدينةَ النبوية واجتمع معهم مسعود بن مضيان وأتباعه من حرب، فاجتمع الجميع ونزلوا قرب المدينة, وكان الإمامُ سعود لَمَّا خرج من الدرعية أرسل إلى الأمراء المذكورين بمنع الحاجِّ من جهة الشام واستنبول ونواحيهما, فلما أقبل على المدينة الحاجُّ الشامي ومن تبعه وأميره عبد الله باشا العظم، أرسل إليه الأمراء أنْ لا يقدم إليهم ويرجع إلى أوطانه, وذلك أنَّ الإمام سعود خاف من غالب شريف مكة أن يحدث عليه حوادث عند دخول حاجِّ الشام وأتباعهم مكة, فرجع عبد الله العظم ومن تبعه من المدينة إلى أوطانهم, وكادت أن تقع اصطداماتٌ بين الجنود السعوديين وجنود عبد الله باشا العظم الذي لم يكُنْ في موقف عسكري يسمَحُ له بمقابلة السعوديين، وعلى إثرِ ذلك عزل السلطانُ سليم الثالث عبدَ الله باشا العظم عن منصبِه بناءً على تقاعسه عن مواجهةِ القوات السعودية ورجوعِه بالحُجَّاج, ثم رحل الأمراء وأتباعُهم من المدينة إلى مكة، فاجتمعوا بالإمام سعود فاعتَمَروا وحجُّوا على أحسَنِ حال، وبذل سعود في مكَّةَ العطاء والصدقات، وركب إليه الشريف غالب وبايعه، وأخرج سعودٌ الأتراك, وكسا الكعبةَ.
هو الأمير الكبيرُ سَيفُ الدين بلبان المعروف بالزردكاش. من أمراء دمشقَ الأعيان، وكان دَينًا مشكورًا، وقد استنابه بيبرس موضِعَه بدار العدل على دمشق لما سافر إلى حصار أنطاكية، وكان دَيِّنًا خيِّرًا يحب العدل والصلاح. مات في الثامن من ذي الحجة من هذه السنة.