لَمَّا خُلِعَ إبراهيمُ بن المهدي واختفى وانقطعت الفِتَن، قَدِمَ المأمونُ بغداد، وكان قد أقام بجرجان شَهرًا وجعل يقيمُ بالمنزل اليومَ واليومينِ والثلاثةَ، وأقام بالنهروان ثمانيةَ أيام، فخرج إليه أهلُ بيته والقوَّاد، ووجوهُ الناس، وسَلَّموا عليه. وكان قد كتب إلى طاهرِ بنِ الحُسين، وهو بالرقَّة، ليوافيَه بالنهروان، فأتاه بها ودخل بغدادَ مُنتصَفَ صفر، ولباسُه ولباسُ أصحابِه الخُضرة، فلمَّا قَدِمَ بغدادَ نزل الرصافةَ، ثمَّ تحوَّل ونزل قصرَه على شاطئِ دِجلةَ، وأمر القوادَ أن يقيموا في مُعسكَرِهم. وكان الناسُ يدخلونَ عليه في الثياب الخُضر، وكانوا يَخرقونَ كلَّ ملبوسٍ يرونه من السَّوادِ على إنسان، فمكثوا بذلك ثمانية أيام، فتكلَّم بنو العباس وقوَّاد أهل خراسان، وقيل: إنَّه أمر طاهر بن الحسين أن يسألَه حوائِجَه، فكان أوَّلَ حاجةٍ سأله أن يلبَسَ السوادَ، فأجابه إلى ذلك، وجلس للنَّاسِ، وأحضر سوادًا فلَبِسَه، ودعا بخِلعةٍ سوداءَ فألبسَها طاهِرًا، وخلع على قوَّادِه السَّوادَ، فعاد الناسُ إليه.
هو أبو البركات كمال الدين عبد الرحمن بن محمد بن عبيد الله مصغر بن أبي سعيد بن سليمان الأنباري النحوي صاحب التصانيف المفيدة، من الأئمَّة المشار إليهم في علمِ النحو، وُلِدَ في شهر ربيع الآخر سنة 513, وسكن بغداد من صباه إلى أن مات، وتفقَّه على مذهب الشافعي، بالمدرسة النظامية وتصدَّر لإقراءِ النحو بها، وصار شيخَ العراق في الأدب غيرَ مُدافَع له. تولى التدريس في بغداد, وقَصَده طلابُ العلم من سائر الأقطار, يقول ابنُ خَلِّكان: "اشتغل عليه خلقٌ كثيرٌ وصاروا عُلَماء، ولَقِيتُ جماعة منهم، وصَنَّف في النحو كتاب "أسرار العربية" وهو سهل المأخذ كثير الفائدة، وله كتاب "الميزان" في النحو، وله كتاب في "طبقات الأدباء" جمع فيه المتقَدِّمين والمتأخرين مع صغر حجمه، وكتُبُه كلها نافعة، وكان نفَسُه مباركًا ما قرأ عليه أحدٌ إلا وتميز". ثم انقطع ابن الأنباري في منزله مشتغلًا بالعلم والعبادة والإفادة، قال الموفق عبد اللطيف البغدادي: "لم أر في العُبَّاد والمنقطعين أقوى منه في طريقِه، ولا أصدق منه في أسلوبه، جِدٌّ مَحضٌ لا يعتريه تصَنُّع، ولا يَعرِف الشرورَ ولا أحوال العالَم. كانت له دارٌ يَسكُنُها، وحانوت ودار أخرى يتقَوَّت بأجرتهما، سيَّرَ له المستضيء خمس مائة دينار فردَّها، وكان لا يُوقَد عليه ضوء، وتحته حصير قصب، وثوبَا قُطن، وله مائة وثلاثون مصنفًا" ومن تصانيفه في المذهب "هداية الذاهب في معرفة المذاهب" و"بداية الهداية" وفي الأصول "الداعي إلى الإسلام في أصول الكلام" و"النور اللائح في اعتقاد السلف الصالح" وغير ذلك، وفي الخلاف "التنقيح في مسلك الترجيح"، و"الجمل في علم الجدل" وغير ذلك، وفي النحو واللغة ما يزيد على الخمسين مصنَّفًا، وله شعر حسن كثير, ثم انقطع في آخر عمره في بيته مشتغلًا بالعلم والعبادة، وتَرَك الدنيا ومجالسة أهلها، ولم يزل على سيرة حميدة إلى أن توفي ليلة الجمعة تاسع شعبان من هذه السنة ببغداد، ودُفِنَ بباب أبرز بتربة الشيخ أبي إسحاق الشيرازي.
كان الجنرالُ الإسباني سلفستر قائِدُ قطاع مليلة يزحَفُ نحو بلاد الريف؛ لِيُحكِمَ السيطرة عليها، ونجح في بادئ الأمر في الاستيلاء على بعض المناطق، وحاول الأميرُ محمد بن عبد الكريم الخطابي أن يُحَذِّرَ الجنرال سلفستر من مغبَّةِ الاستمرار في التقدُّمِ والدخول في مناطق لا تعترف بالحماية الإسبانية الأجنبية، لكنَّ الجنرال المغرور لم يأبهْ لكلام الأمير، واستمرَّ في التقدُّمِ ممنِّيًا نفسه باحتلال بلاد الريف، ولم تُصادِفْ هذه القواتُ في زحفها في بلاد الريف أيَّ مقاومة، واعتقد الجنرال أن الأمرَ سهلٌ، وأعماه غرورُه عن رجال الخطابي الذين يعملون على استدراجِ قوَّاتِه داخل المناطق الجبلية المرتفعة، واستمرَّت القوات الإسبانية في التقدُّمِ وتحقيق انتصارات صغيرة، حتى احتلَّت مدينة أنوال في رمضان، ثمَّ في شوال وقعت معركة أنوال الشهيرة التي سميت باسم المكان الذي جرت فيه، وهي قرية أنوال، وإن كانت أحداثُها قد شَمِلت عدةَ مواقع، بحيث عُدَّت من أكبر المعارك التاريخية التي جرت بين المغرب وإسبانيا، كمعركة الزلاقة أيام المرابطين، ومعركة الأرك في عهد الموحِّدين، وكان لها صدًى كبير في العالم الغربي؛ لأنَّها لقَّنت جنودَ الاحتلال الإسباني دروسًا لن تنسى. خاض المجاهِدون الريفيُّون المعركةَ بقيادة المجاهد الأمير المغربي محمد بن عبد الكريم الخطابي، وهم بضع مئات في كلِّ موقع، بحيث لم يكن يتعدَّى العددُ الإجمالي ثلاثة آلاف مقاتل، في حين كان عددُ جيش الاحتلال بقيادة الجنرال سلفستر ستين ألفَ جنديٍّ مدجَّجين بأحدث الأسلحة الفتَّاكة. واعتمد المجاهدون على الغنائِمِ التي ربحوها من المحتَلِّ، كالأسلحة المتنوِّعة والذخائر والمؤَن الكثيرة، إضافةً إلى نحو ألف أسير من مختلف الرُّتَب العسكرية، وتكبيدهم 15 ألف جندي ما بين قتيل وجريح و570 أسيرًا، وكان الجنرال سلفستر على رأس القتلى. ما إن انتشر خبَرُ انتصار الخطابي ورجاله في معركة أنوال، حتى هبَّت قبائِلُ الريف تُطارِدُ الإسبان أينما وُجدوا، ولم يمضِ أسبوعٌ إلَّا وقد انتصر الريفُ عليهم، وأصبح وجودُ الإسبان مقتصرًا على مدينة تطوان وبعض الحصون في منطقة الجبالة.
فسدت طبيعةُ الانكشاريين وتغَيَّرت أخلاقهم، وتبدلَّت مهمَّتُهم، وأصبحوا مصدرًا للبلاءِ للدولة والشعوب التابعة لها، وصاروا يتدخَّلون في شؤونِ الدولة وتعَلَّقت أفئدتُهم بشهوةِ السلطة وانغمَسوا في الملذات والمحرمات، وشق عليهم أن ينفِروا في برودة الشتاءِ، وفرضوا العطايا السلطانية، ومالوا إلى النَّهبِ والسلب حين غَزوا البلاد، وتركوا الغاية التي من أجلِها وُجِدوا، وغَرَقوا في شرب الخمور، وأصبحت الهزائِمُ تأتي من قِبَلهم بسبب تَركِهم للشريعة والعقيدة والمبادئ، وبُعدِهم عن أسباب النصر الحقيقية، وقاموا بخَلعِ وقَتلِ السلاطين، فجمع السلطانُ مجموعة من أعيان الدولة وكبار ضبَّاط الانكشارية في بيتِ المفتي، ثم أفتى المفتي بجوازِ العمل للقضاء على المتمَرِّدين. وقد أعلن الموافقةَ كُلُّ من حضر من ضباط الانكشارية مِن حيث الظاهِرُ، وأبطنوا خلافَ ذلك، ولما شعروا بقُربِ ضياع امتيازاتهِم وبوضع حدٍّ لتصرُّفاتهم، أخذوا يستعدون للثورة، واستجاب لهم بعضُ العوام. وفي 8 ذي القعدة عام 1241هـ بدأ بعضُ الانكشاريين بالتحَرُّش بالجنود أثناء أدائِهم تدريباتهم، ثم بدؤوا في عصيانهم، فجمع السلطان العلماءَ وأخبرهم بنيَّةِ المتمردين فشَجَّعوه على استئصالهم، فأصدر الأوامر للمدفعية حتى تستعِدَّ لقتالهم ملوِّحًا باللين والتساهل في الوقتِ نفسِه؛ خوفًا من تزايُدِ لهيب شرورهم. وفي صباح 9 ذي القعدة تقَدَّم السلطان ووراءه جنودُ المدفعية وتَبِعَهم العلماء والطلبة إلى ساحة (آت ميداني) حيث اجتمع العصاةُ هناك يثيرون الشَّغبَ، وقيل: إن السلطانَ سار معه شيخ الإسلام قاضي زادة طاهر أفندي والصدر الأعظم سليم باشا أمام الجُموعِ التي كانت تزيد على 60.000 نفسٍ، ثم أحاطت المدفعية بالميدانِ واحتَلَّت المرتفعات ووجَّهت قذائِفَها على الانكشارية، فحاولوا الهجومَ على المدافع ولكِنَّها صَبَّت حمَمَها فوق رؤوسهم، فاحتَمَوا بثكناتهم هروبًا من الموت، فأحرقت وهدمت فوقَهم وكذلك تكايا البكتاشية، وبذلك انتصر عليهم. وفي اليوم التالي صدر مرسومٌ سلطاني قضى بإلغاء فِئَتِهم وملابسهم واصطلاحاتهم وأسمائهم من جميعِ بلاد الدولة، وقتل من بقي منهم هاربًا إلى الولاياتِ أو نفيه، ثم قلَّد حسين باشا الذي كانت له اليدُ الطولى في إبادتهم قائدًا عامًّا (سرعسكر) وبدأ بعدها نظامُ الجيش الجديد، ثم أصبح السلطان محمود بعد ذلك حرًّا في تطوير جيشه، فترَسَّم خطى الحضارة الغربية، فاستبدل الطربوش الرومي بالعمامة، وتزيَّا بالزيِّ الأوروبي، وأمر أن يكونَ هو الزيَّ الرسميَّ لكُلِّ موظَّفي الدولة؛ العسكريين منهم والمدنيين، وأسَّس وسامًا دعاه وسامَ الافتخارِ، فكان أوَّلَ من فعل ذلك من سلاطين آلِ عثمان، وما قام به السلطان محمود من استبدال الطربوش بالعِمامةِ وفرْض اللِّباس الأوروبي على كافَّةِ المجموعات العسكرية: يدُلُّ على شعورهِ العميق بالهزيمة النفسيَّة.
أبلغت لجنةُ الحلفاء العليا المقيمة في باريس الحكومةَ العثمانيةَ قرارًا يقضي بنزول الجيوشِ اليونانية في أزمير ويحذِّرونها من المقاومة، فأبلغت الحكومةُ التركية والي أزمير الالتزامَ بالهدوء وعدمِ المقاومة؛ لأن الحلفاءَ سيحتلون أزمير، ثم ظهر الأسطولُ الإنجليزي في مياه المدينة في 14 أيار، وأبلغ القائدُ الإنجليزي كالثورب واليَ أزمير بأنَّ الاحتلال سيكون من قِبَل اليونان وليس من قِبَل الحُلَفاء، فصُعِقَ الوالي لذلك الخبر، وبدأ الإنزال اليوناني في 15 أيار، وطاف الجنود اليونانيون الشوارعَ في تحدٍّ سافرٍ مثيرٍ للمشاعِرِ، وأطلقوا النارَ على الأتراك وأجبروهم على خلعِ طرابيشهم وداسوها بأقدامِهم، واستفزُّوا الضباطَ بالبصاق في وجوههم، وأخذوا بانتزاعِ الحجاب عن وجوه النساء المسلِمات، وفي زحمة هذه الأحداث رست الباخرة أينبولي في مياه أزمير بين الأسطول الإنجليزي والبواخر اليونانية، ونزل منها مصطفى كمال (أتاتورك) بصورةٍ مفاجئة، وهو الذي من المفروض أن يكون قد سافر إلى الأناضول، وبالذات إلى مدينة سامسون عن طريق البحر الأسود؛ لذلك في اليوم التالي لسفره طلبته الحكومة لتأكُّدِها من إثارته للاضطرابات، فانفجرت روحُ المقاومة، وتشكَّلت جمعياتٌ سرِّية، مثل جمعية القرقول، وامتدَّت المقاومة والأعمال الفدائية إلى مناطِقَ متعددة في البلاد، واستغل مصطفى كمال هذه الفوضى، وأعلن استقلالَ نَفسِه وعدمَ ارتباطه بالخليفة أو الحكومة، وأخذ يحرِّضُ الناس على الثورة ضِدَّ الحكومة العثمانية.
توفِّيَ طاهِرُ بن عبدالله بن طاهر بن الحُسين الخزاعي، أميرُ خراسان وابنُ أميرها, وكان قد ولِيَ إمرة خراسان بعد أبيه ثماني عشرة سنة, فلما ورد على المستعين وفاةُ طاهر بن عبدالله، عقدَ لابنه محمَّد بن طاهر على خراسان، ولمحمد بن عبدالله بن طاهرٍ على العراق، وجعل إليه الحَرَمين، والشُّرطة
كانت دارُ النَّدوةِ عامرةً بالحَرَمِ تجاهَ الكعبةِ في مكَّةَ المُكرَّمة مِن الجِهةِ الشَّماليَّة الغربيَّة، وكان ينزِلُ بها الخُلَفاءُ والأُمَراءُ في حجِّهم في صدرِ الإسلام، ولكنَّها أُهمِلَ أمرُها في مُنتصَفِ القَرنِ الثالثِ الهجريِّ فأخذ يتهَدَّمُ بناؤُها. فكتب في ذلك إلى الخليفةِ المُعتَضِد العباسيِّ، فأمر بها فهُدِمَت في هذا العامِ وجُعِلَت مسجِدًا وفيها قبلةٌ إلى الكعبةِ، ثم بُني له قُبَّةٌ عاليةٌ.
وفي هذه السنة منع اللهُ الغيثَ بحكمته، فلم يقَعْ في الأرض حَيَا في بلدان نجدٍ ولا غيمٌ ولا مطرٌ كثيرٌ ولا قليلٌ، من أولها إلى آخر الشتاء، وقتَ حلول الشمس برج الحوت، فقَنِط الناس قنوطًا عظيمًا؛ لأن الناس يقولون: ما نعلم أن السماء عَدِمَ فيها الغيم مثل هذه السنة، فلما كان رابعَ عشر صفر أنشأ الله الغيمَ في السماء فصَبَّ الغيث فامتلأ كلُّ وادي بما فيه، وضاقت مجاريه وخرَّب السيل في البلدان كثيرًا، فلم يأتِ آخر الليل إلا وكلُّ إنسان يستغيث ربَّه أن يرفعه عنهم، ثم عادهم السيلُ في رابع عشر ربيع الآخر ليلة الثلاثاء ويومَها على أول حلول الشمسِ برج الحمل، فجاء سيلٌ ضاقت منه الوديان وخرب البلدانَ في كُلِّ بلد من بلدان نجد، ثم عادها الحيَا على أول دخول جمادى الآخرة، واستمَرَّ على جميع البلدان المطرُ نحو أربعة عشر يومًا لم تطلُعِ الشمس، وكل يوم معه سيلٌ يجري، وحار الماءُ في وسط منازل البلدان حتى إنَّه ظهر في مسجد الجامع في بلد المجمعة، وسقط أكثَرُ من ثلثه، وظهر الماء في المجالس وبطون النخل، وأعشبت الأرض عشبًا لم يُعرَف له نظير!
تجهَّزَ يمينُ الدَّولةِ إلى الهندِ عازمًا على غَزوِها، فسار إليها واختَرَقها واستباحَها ونكَّسَ أصنامَها. فلمَّا رأى مَلِكُ الهِندِ أنَّه لا قُوَّةَ له به، راسَلَه في الصُّلحِ والهُدنةِ على مالٍ يؤدِّيه، وخمسينَ فيلًا، وأن يكونَ له في خِدمتِه ألفَا فارسٍ لا يزالون، فقَبَضَ منه ما بذَلَه، وعاد عنه إلى غزنةَ زهب مدينة من مدن قيرغيزستان ومركز مُقاطعة نارين أوبلاستي .
لَمَّا رحل صلاحُ الدين مِن قلعةِ الشغر سار إلى قلعة برزية، وكانت قد وُصِفَت له، وهي تقابِلُ حِصنَ أفامية، وتناصِفُها في أعمالها، وبينهما بحيرةٌ تجتَمِعُ مِن ماءِ النهر العاصي وعيونٌ تتفَجَّرُ من جبل برزية وغيره، وكان أهلُها أضَرَّ شَيءٍ على المسلمين؛ يقطعونَ الطَّريقَ، ويبالِغونَ في الأذى، فلمَّا وصل إليها نزل شرقيَّها في الرابع والعشرين من جمادى الآخرة، ثم رَكِبَ من الغدِ وطاف عليها لينظُرَ مَوضِعًا يقاتِلُها منه، فلم يجِدْ إلَّا من جهةٍ، فنزله المسلمون ونصبوا عليه المجانيق، ونصب أهلُ القلعة عليها منجنيقًا بِطُولها، فلما رأى صلاح الدين أنهم لن ينتَفِعوا بالمنجنيق لارتفاعِ القلعة، عزمَ على الزَّحفِ ومكاثرةِ أهلِها بجُموعِه، فقسَّم عسكَرَه ثلاثة أقسام: يزحَفُ قِسمٌ، فإذا تَعِبوا وكلُّوا عادوا وزحف القِسمُ الثاني، فإذا تَعِبوا وضَجِروا عادوا وزحفَ القِسمُ الثَّالِثُ، ثم يدور الدورَ مَرَّةً بعد أخرى حتى يتعَبَ الفِرنجُ ويَنصَبوا، فإنَّهم لم يكن عندهم من الكثرةِ ما يتقَسَّمونَ كذلك، فإذا تَعِبوا وأعيَوا سَلَّموا القلعةَ، فلما كان الغدُ- وهو السابع والعشرون من جمادى الآخرة- تقَدَّم أحَدُ الأقسامِ، وخرج الفرنجُ مِن حصنهم، فقاتَلَهم على فصيلِهم، ورماهم المسلِمونَ بالسهام، ومَشَوا إليهم حتى قَرُبوا إلى الجبل، فلما قاربوا الفرنجَ عَجَزوا عن الدنوِّ منهم لخشونةِ المرتقى، وتسَلَّط الفرنجُ عليهم؛ لعُلوِّ مكانِهم، بالنشابِ والحجارةِ، فلمَّا تَعِبَ هذا القِسمُ انحدروا، وصَعِدَ القسم الثاني، وكانوا جلوسًا ينتظرونَهم، فقاتلوهم إلى قريبِ الظُّهرِ، ثمَّ تَعِبوا ورجعوا، فلما رآهم صلاح الدين قد عادوا تقَدَّم إليهم يردُّهم، وصاح في القسمِ الثالث، وهم جلوسٌ ينتظرون نوبَتَهم، فوثبوا مُلَبِّين، وساعدوا إخوانَهم، وزحفوا معهم، فجاء الفرنجُ ما لا قِبَلَ لهم به، وكان أصحابُ عماد الدين قد استراحوا، فقاموا أيضًا معهم، فحينئذٍ اشتَدَّ الأمرُ على الفرنجِ، وبلغت القلوبُ الحناجِرَ، وكانوا قد اشتَدَّ تَعَبُهم ونَصَبُهم، فظهر عجزُهم عن القتال، وضَعفُهم عن حَملِ السلاحِ؛ لشدَّةِ الحرِّ والقتال، فخالطهم المسلمونَ، فعاد الفرنجُ يدخلون الحِصنَ، فدخل المسلمون معهم، فملكوا الحِصنَ عَنوةً وقَهرًا، ودخل الفرنجُ القلة التي للحصن، وأحاط بها المسلمون، وأرادوا نَقبَها، وكان الفرنجُ قد رفعوا مَن عندهم من أسرى المسلمينَ إلى سطحِ القلة، وأرجلهم في القيود والخشب المنقوب، فلمَّا سَمِعوا تكبير المسلمين في نواحي القلعة كبَّروا في سطحِ القلة، وظنَّ الفِرنجُ أنَّ المسلمينَ قد صعدوا على السطحِ، فاستسلموا وألقوا بأيديهم إلى الأسرِ، فملكها المسلمونَ عَنوةً، ونَهَبوا ما فيها، وأسَرُوا وسَبَوا من فيها، وأخذوا صاحِبَها وأهلَها، وألقى المسلمونَ النار في بعض بيوتِهم فاحترقت، وأمَّا صاحِبُ برزية، فإنَّه أُسِرَ هو وامرأتُه وأولاده، فأطلقهم صلاحُ الدين.
سارت قوةٌ من أهل الدرعية وأميرُهم عبد العزيز بن محمد إلى ثرمداء، وكان النذيرُ قد جاء أهل ثرمداء بذلك، فاستعانوا بأهل وثيثيا ومرات، فالتقى بهم جيش الدرعية وهم مستعدون للقتال في موضع قريب من ثرمداء يسمى الوطية، وكان جيش الدرعية قد أعدوا كمينًا، فلما نشب القتال خرج عليهم الكمين فولَّوا مدبرين وقتل منهم خمسة وعشرون، منهم علي بن زامل أمير وثيثيا
توقَّفت الثَّورةُ الجزائريةُ الكبرى -التي اندلعت في جميعِ أرجاء الجزائر ثم انتقلت لأرض فرنسا نفسِها- بعد اتِّفاق الجزائريِّين والفرنسيِّين في مفاوضاتٍ سابقة على وقفِ إطلاق النار، وتشكيل حكومةٍ جزائرية مؤقَّتة؛ فأعلنت فرنسا عن قَبولها للمفاوضات، وعيَّنَ المجلسُ الوطني الجزائري العقيدَ هواري بومدين قائدًا عامًّا لجيش التحرير، ثم أعلنت الحكومةُ الجزائريةُ والفرنسيةُ في 25 ذي القعدة 1380هـ / 10 أيار 1961م الشُّروعَ في محادثات إيفيان، وكانت فرنسا تماطِلُ بل وتتوقف من أجلِ موضوع الصحراء إلى أن اعترفت أخيرًا بحقِّ الجزائريين في الصحراء، وتمَّ الاتفاقُ على وقف إطلاق النار، وأن تتولى شؤونَ الجزائر هيئةٌ مؤقتة تتألَّفُ من اثني عشر عُضوًا، وفي محرم 1382هـ / تموز 1962م جرى الاستفتاءُ على استقلال الجزائر، فكانت النتيجةُ 97.3% لصالح الاستقلال، فأُعلِنَ استقلالُ الجزائر في 3 صفر 1382هـ / 5 تموز، وقامت الدولةُ الجزائرية، ووُضِع الدستورُ وأقرَّه المجلس، وبموجِبِه انتُخِبَ أحمد بن بلة رئيسًا للدولة، الذي أعلن القوانينَ الاشتراكية، ومن الناحية السياسية الدولية بَقِيَت فرنسا صاحبةَ النفوذ الفعلي رغم الخلافِ معها.
لما وصل السلطان إلى بغداد في العشرين من ذي الحجة، ونزل بباب الشماسية، ودخل بعضُ عسكره إلى بغداد، ونزلوا في دُورِ الناس، شكا الناسُ ذلك إلى السلطان، فأمر بإخراجِهم، وبَقِيَ فيها مَن له دار، وبقي السلطانُ يراسل الخليفة بالعود، ويطلب الصلحَ، وهو يمتنِعُ، وكان يجري بين العسكرين مناوشة، والعامة من الجانب الغربي يسبون السلطانَ أفحش سَبٍّ. ثم إن جماعة من عسكر السلطان دخلوا دار الخلافة، ونهبوا التاج، وحُجَر الخليفة، أول المحرم، وضجَّ أهل بغداد من ذلك، فاجتمعوا ونادوا الغزاة، فأقبلوا من كلِّ ناحية، ولما رآهم الخليفة خرج من السرادق والشمسة على رأسه، والوزير بين يديه، وأمر بضربِ الكوسات والبوقات، ونادى بأعلى صوته: يا آلَ هاشم! وأمر بتقديم السفن، ونَصْب الجسر وعبرَ الناسُ دفعةً واحدة، وكان له في الدار ألفُ رجل مختفين في السراديب، فظهروا، وعسكرُ السلطانِ مُشتَغِلون بالنهب، فأسر منهم جماعة من الأمراء، ثم عبر الخليفةُ إلى الجانب الشرقي، ومعه ثلاثون ألف مقاتل من أهل بغداد والسواد، وأمر بحفر الخنادق، فحُفِرت بالليل، وحفظوا بغداد من عسكر السلطان، ووقع الغلاءُ عند العسكر، واشتدَّ الأمر عليهم، وكان القتالُ كلَّ يوم عليهم عند أبواب البلدِ وعلى شاطئ دجلة، وعزم عسكر الخليفة على أن يكبِسوا عسكر السلطان، فغدر بهم الأميرُ أبو الهيجاء الكردي، صاحب إربل، وخرج كأنَّه يريد القتال، فالتحق هو وعسكرُه بالسلطان. وقَدِمَ عماد الدين زنكي بقواتٍ ضخمة نجدةً للسلطان فأجاب المسترشد بالله للصُّلحِ.
سقَطتْ آلةٌ رافعةٌ في الحَرَمِ المكِّيِّ تَابِعةٌ لمشروعِ تَوسِعة المسجِدِ الحرام في مكَّة المكرمة. وقد خلَّفْت هذه الحادثةُ أكثرَ من 108 قتلى، وحوالي 238 جريحًا، حسَبَ ما أَعلَن عنه الدِّفاعُ المدنيُّ السعوديُّ. وكان سببُها تَعرُّضَ مكة المكرمة لعواصفَ رمليَّةٍ ورياحٍ عاتية وأمطارٍ شديدةٍ. تَزامنتْ هذه الحادثةُ مع بداية موسِمِ الحجِّ في مكَّةَ المكرَّمةِ.
احترق من مدينة عدن جانبٌ عظيم، من نصف الليل إلى قرب الفجر، وتلفت فيه بيوت كثيرة من بيوت التجار، وجانبٌ من السوق الكبير، وجانب من حافة اليهود، وحافة الحبوش بأسرها وأحدقت النار بالمدرسة السفيانية، وتلفت فيها أموال جليلة. ويقال: إنه بلغ عدد البيوت المحترقة تسعمائة بيت, وذهب في هذا الحريق من الأموال والأنفس ما لا يعلمه إلَّا الله تعالى.