تقدَّم اللورد ملنر وزير المستعمرات الألماني إلى الوفدِ المصري بنصِّ مشروع معاهدة تتكوَّن من عدة مواد، ومنها: (المادة الأولى) تتعهد بريطانيا بضمان سلامة أرضِ مِصرَ واستقلالها كمملكةٍ ذات أنظمة دستورية. (المادة الثانية) تتعهَّدُ مصر من جانبها ألَّا تَعقِدَ أيَّ معاهدة سياسية مع أي دولة أخرى بدون رضا بريطانيا. (المادة الثالثة) نظرًا للمسؤولية الملقاة على عاتق بريطانيا بمقتضى الفقرة المتقدمة، ونظرًا لِما لها من المصلحة الخاصة في حفظ مواصلاتها مع ممتلكاتها في الشرق والشرق الأقصى، فمِصرُ تعطيها حقَّ إبقاء قوة عسكرية بالأراضي المصرية، وحقَّ استعمال الموانئ والمطارات المصرية لغَرَضِ التمكن من الدفاع عن القُطرِ المصري، ومن المحافظة على مواصلاتها مع أملاكها المذكورة، أما المكان أو الأمكنة التي تعسكِرُ فيها تلك الجنود البريطانية فإنها تعَيَّن بعد اتفاق الطرفين، إلى غير ذلك من المواد. كما أن الوفد المصري قدَّم مشروعَ معاهدة إلى لجنة اللورد ملنر، والتي تتكوَّنُ مواده من: (المادة الأولى) تعترف بريطانيا باستقلال مصر. وتنتهي الحماية التي أعلنتها بريطانيا على مصر في 18 ديسمبر سنة 1914 هي والاحتلال العسكري الإنجليزي، وبذلك تستردُّ مصرُ كامِلَ سيادتها الداخلية والخارجية، وتكونُ دولةً مَلَكيةً ذات نظام دستوري. (المادة الثانية) تُجلي بريطانيا جنودَها عن القطر المصري بدءًا من تاريخ العمل بهذه المعاهدة. (المادة الخامسة) في حالة إلغاء المحاكم القُنصلية وإحالة محاكمة الأجانب على ما يقع منهم من الجنايات والجُنَح إلى المحاكم المختلطة تَقبَل مصر أن تعَيِّن أحدَ رجال القانون من التبعية الإنجليزية في وظيفة النائبِ العمومي لدى المحاكمِ المختلطة.
بعد أن توقَّف زحفُ الجيش السعودي على اليمن بقيادة الأمير سعود والأمير فيصل، استدعى الملكُ عبد العزيز عبدَ اللهِ ابنَ الوزير إلى الطائِفِ، وأطلَعَه على برقية الإمام يحيى -التي أرسلها بعد انهيار قوات جيشه- ثمَّ أملى الملك عبد العزيز على ابن الوزير ومن حضر من المستشارين السعوديين فقراتٍ أشبَهَ بالمواد التي تُبنى عليها معاهدةٌ للصلح، فتولى المستشارون وابن الوزير صياغتَها، فكانت معاهدة الطائف، ثم جرى توقيعها في جدة -بعد أن اطَّلع الإمامُ يحيى على نصها- في 6 صفر 1353ه - 21/ 5/ 1934م. على أن تكون الحُديدة لليمن، وجازان ونجران وعسير وتوابعها للسعودية، وقد وقَّعه نيابةً عن الملك عبد العزيز ابنُه الأمير خالد بن عبد العزيز، ونيابة عن الإمام يحيى عبدُ الله بن أحمد الوزير، وقد نصت المعاهدة على 23 مادة وملحق فيه خمس مواد، وممَّا ورد في هذه المعاهدة:
1/ تنتهي حالة الحرب القائمة بين البلدين بمجرَّد توقيع المعاهدة، وتنشأ فورًا بينهما حالةُ سلم دائم وصداقة وطيدة، وأُخوَّة إسلامية عربية دائمة.
2/ يعترف كل منهما للآخر باستقلالِ كُلٍّ من المملكتين استقلالًا تامًّا مطلقًا، ويُسقِطُ كلٌّ منهما أيَّ حَقٍّ يدعيه في قسم أو أقسام من بلاد آخر خارج الحدود القطعية المبينة في صلب هذه المعاهدة.
3/ خطُّ الحدود الذي يفصل بين بلاد كلٍّ مِن الفريقين المتعاقدين موضَّحٌ بالتفصيل الكافي كما هو في نص المعاهدة، ويعتبر هذا الخط حدًّا فاصلا قطعيًّا بين البلاد التي تخضع لكل منهما.
4/ نظرًا لرغبة الفريقين في دوام السلم والطمأنينة يتعهدان تعهدًا متقابلًا بعدم إحداث أي بناء لحصون في مسافة خمسة كيلومترات في كل جانب من جانبي الحدود في كل المواقع والجهات على طول خط الحدود.
5/ يتعهَّدُ كل من الفريقين بأن يسحب جندَه فورًا عن البلاد التي أصبحت بموجِبِ هذه المعاهدة تابعة للفريق الآخر، مع صون الأهلين والجند عن كل ضرر.
6/ يتعهد كل من الفريقين بأن يمنع كُلٌّ منهما أهاليَ مملكته عن كلِّ ضَررٍ وعدوان على أهالي المملكة الأخرى في كل جهةٍ وطريق، وبأن يمنعَ الغزوَ بين أهل البوادي من الطرفين، ويَرُدَّ كلَّ ما ثبت أخذه بالتحقيق الشرعي من بعد إبرام هذه المعاهدة، وضمان ما تَلَف وبما يلزم بالشَّرعِ فيما وقعَ من جناية قَتلٍ أو جرحٍ، بالعقوبة الحاسمة على من ثبت منهم العدوان.
7/ يتعهد كل من الفريقين تعهدًا متقابلًا بأن يمتنعا عن الرجوع للقوة لحلِّ المشكلات بينهما، وبأن يعملا جهدَهما لحلِّ ما يمكنُ أن ينشأ بينهما من الاختلاف، سواء كانت سببه ومنشؤه هذه المعاهدة، أو تفسير كل أو بعض موادها، أم كان ناشئًا عن أي سبب آخر بالمراجعات الودِّية.
هو عُبَيدُ اللهِ بنُ عَبدِ اللهِ بنِ الحُسَين أبو القاسِمِ الخَفَّاف، المعروف بابنِ النَّقيبِ. كان مِن أئمَّةِ السُّنَّة، قال الخطيبُ: "سألتُه عن مولِدِه فقال في سنة 305، وأذكُرُ مِن الخُلَفاءِ: المُقتَدِر، والقاهِرَ، والرضيَّ، والمُتَّقيَ لله، والمُستكفيَ، والمُطيع، والطَّائِعَ، والقادِرَ، والغالِبَ بالله، الذي خطَبَ له بولايةِ العَهدِ". وقيل إنَّه مَكَث دَهرًا طَويلًا يُصَلِّي الفجرَ بوُضوءِ العِشاءِ. كان شديدًا في السُّنَّةِ، حين بلَغَه مَوتُ ابنِ المُعَلِّم فَقيهِ الشِّيعةِ، سجَدَ لله شُكرًا وجلَسَ للتَّهنئةِ، وقال: "ما أبالي أيَّ وقتٍ مِتُّ بعد أن شاهَدْتُ مَوتَ ابنِ المُعَلِّم". توفِّيَ عن مِئَة وعشر سنينَ.
هو السلطانُ إبراهيم بن مسعود بن محمود بن سبكتكين صاحب غزنة وغيرها من بلاد الهند. وكان ملِكًا عادلًا مُنصِفًا منقادًا إلى الخيرِ، كثير الصدقات، كريمًا مجاهدًا، عاقلًا شُجاعًا حازِمًا، حسنَ السيرة، ذا رأيٍ ودهاء متين. كان يقول: "لو كنتُ بعد وفاة جدي محمود لما ضعف مُلكُنا، ولكني الآن عاجِزٌ أن أستردَّ ما أُخِذَ منا من البلاد؛ لكثرة جيوشهم". كان لا يبني لنفسه مكانًا حتى يبنيَ لله مسجدًا أو مدرسة. قال الفقيه أبو الحسن الطبري: "أرسلني إليه بركيارق في رسالة، فرأيتُ في مملكته ما لا يتأتى وصفُه"، وقيل: كان يكتب بخطِّ يده كل سنة مصحفًا يرسِلُه مع الصدقات إلى مكة، ومات وقد جاوز السبعين. وأقام مَلِكًا ثنتين وأربعين سنة، ولما توفي خلفه ابنُه علاء الدولة أبو سعيد مسعود الثالث زوج بنت السلطان ملكشاه.
هو الشَّيخُ الإمامُ العلَّامة الحافِظُ شَمسُ الدين أبو عبد الله محمد بن أحمد بن عثمان بن قايماز الذهبي خاتمةُ الحُفَّاظ، كان من أسرة تُركمانيَّة الأصل، تنتهي بالولاءِ إلى بني تميم، سكنت مدينة ميافارقين من أشهَرِ مدن ديار بكر، ولِدَ في كفر بطنا قرب مدينة دمشق في شهرِ ربيع الآخر سنة 673, وهو حافِظٌ لا يُجارَى ولافِظٌ لا يُبارى، أتقَنَ عِلمَ الحديث ورجالَه، ونظَرَ عِلَلَه وأحوالَه، وعرف تراجم الناس وأزال الإبهام في تواريخهم, واشتهَرَ بالعِلمِ والورع؛ قال السيوطي: "حُكِيَ عن شيخ الإسلام أبي الفضلِ ابنِ حَجَر أنَّه قال: شَرِبتُ ماء زمزم لأصِلَ إلى مرتبة الذهبيِّ في الحفظِ, ثم قال السيوطي: والذي أقولُه: إن المحَدِّثين عيالٌ الآن في الرجالِ وغَيرِها من فنونِ الحديث على أربعةٍ: المِزِّي، والذَّهَبي، والعِراقي، وابن حجر" ومُصَنَّفاته كثيرةٌ جِدًّا تُنبِئ عن عِلمِه الزاخر في الحديث والرجال والتاريخ، فله كتب مشهورة، منها: كتاب تاريخ الإسلام وطبقات مشاهير الأعلام، وكتاب سير أعلام النبلاء، وله في الرجال كتب كثيرة أشهرها: ميزان الاعتدال في أحوال الرجال، وتذكرة الحُفَّاظ، وطبقات القُراء، وله تعليقات على المستدرك، وله كتاب الكبائر، والطب النبوي، وغيرها كثير يصعُب حَصرُه هنا، وقف الشيخ كمال الدين ابن الزملكاني على تاريخه الكبير المسمى بتاريخ الإسلام جزءًا بعد جزء إلى أن أنهاه مطالعةً وقال: "هذا كتابُ عَلَمٍ اجتمَعْتُ به وأخذتُ عنه وقرأتُ عليه كثيرًا من تصانيفه، ولم أجِدْ عنده جمودَ المحدِّثين، ولا كَودَنة النَّقلة، بل هو فقيهُ النَّظَر، له دُربة بأقوالِ النَّاسِ ومذاهِبِ الأئمة من السلف وأرباب المقالاتِ، وأعجبني منه ما يعانيه في تصانيفِه مِن أنه لا يتعدى حديثًا يورده حتى يبيِّنَ ما فيه من ضَعفِ مَتنٍ أو ظَلامِ إسنادٍ أو طَعنٍ في رواتِه، وهذا لم أرَ غَيرَه يراعي هذه الفائدةَ فيما يورده. توفي في ليلة الاثنين ثالث شهر ذي القعدة، وصُلِّيَ عليه يوم الاثنين صلاة الظهر في جامع دمشق ودُفِنَ بباب الصغير.
هو طاغيةُ التُّركِ والخطا، كوخان من أبطالِ مُلوك الترك المجوسِ، و"كو"، بلسان الصين: لقَبٌ لأعظَمِ ملوكهم. أقبل كوخان في ثلاثمئة ألف فارس وكسر السُّلطانَ سنجر السلجوقي في موقعة قطوان، واستولى كوخان على بخارى وسمرقند سنة 536، فما أمهله الله، فهلك في رجَبٍ مِن هذه السَّنَةِ. كان كوخان جميلًا، حسَنَ الصورةِ، لا يلبَسُ إلَّا الحريرَ الصيني، له هَيبةٌ عظيمةٌ على أصحابِه، وكان سائِسًا، محِبًّا للعدلِ، داهيةً, ولم يُمَلِّكْ أميرًا على أقطاعٍ بل كان يعطيهم مِن عنده، ويقول: متى أخذوا الأقطاعَ ظَلَموا، وكان لا يُقَدِّمُ أميرًا على أكثَرَ مِن مئة فارس حتى لا يَقدِرَ على العِصيانِ عليه، وكان ينهى أصحابَه عن الظُّلمِ، وينهى عن السُّكرِ ويُعاقِبُ عليه، ولا ينهى عن الزِّنا ولا يُقَبِّحُه، ومَلَك له بعدَه ابنةٌ له فلم تطُلْ مُدَّتُها حتى ماتت، فمَلَك بعدها أمُّها زوجة كوخان وابنةُ عَمِّه، وبَقِيَ ما وراء النهر بيَدِ الخطا إلى أنْ أخَذَه منهم علاء الدين محمد خوارزم شاه سنة 612.
الشَّيخُ المقرِئُ أبو هشام محمد بن طه سكر الدِّمَشقي، من كبارِ علماءِ القراءاتِ ومَشايِخ القُرَّاء بدِمَشق. وُلد الشيخُ في دمشق في حيِّ العفيف، بمِنطَقَة الصَّالِحِيَّة سنةَ (1340هـ-1922م) ونشأ يتيمًا في حِضن والِدَتِه الكريمةِ؛ فعَكَف الشيخُ رحمه الله منذ صِغَرِه على حَلَقات العلمِ؛ فقرأ على الشَّيخِ محمود فايز الدير عطاني (ت: 1385) ختمةً كاملةً برِواية حفصٍ عن عاصمٍ، وكان خِلالَ هذه الختمةِ يحفَظُ مُتونَ القِراءاتِ؛ فما أنْ خَتَم تلك الرِّوايةَ حتى أسمَعَه الشاطبيةَ والدُّرَّةَ كامِلَتَين، وشَرَع في الإفرادِ لكلِّ راوٍ ختمةً كاملةً؛ فقرأ نحوَ عشرينَ ختمةً متنوِّعةَ الرِّواياتِ، ثم شَرَع بالجَمعِ الكَبيرِ، الذي انتَهَى منه في سنِّ الخامِسَةَ عَشرَةَ. حَضَر دُروسَ العلامةِ الشَّيخِ عليٍّ التِّكريتيِّ (ت:1361)، وقرأ عليه بعضَ العلوم، ومنها كتاب (مِشكاة المصابيح) للتِّبريزيِّ. وقد كانت حياةُ الشيخِ حافلةً قضاها في التعلُّم والتعليم والقراءة والإقراء؛ فرَحِمَه الله رحمةً واسعةً.
لَمَّا مات سعدُ الدَّولةِ الحَمدانيُّ صاحِبُ حَلَب، سار الوزيرُ أبو الحسن المغربي من مَشهدِ عليٍّ إلى العزيز بمصرَ، وأطمَعَه في حلب، فسيَّرَ جيشًا وعليهم منجوتكين أحدُ أمرائه إلى حلب، فسار إليها في جيش ٍكثيفٍ فحَصَرها، وبها أبو الفضائلِ ولؤلؤٌ، فكتبا إلى بسيل مَلِكِ الرومِ يستَنجِدانِه، وهو يقاتِلُ البلغار، فأرسل بسيل إلى نائِبِه بأنطاكيةَ يأمُرُه بإنجاد أبي الفضائل، فسار في خمسينَ ألفًا، حتى نزل على الجسرِ الجديدِ بالعاصي، فلمَّا سَمِعَ منجوتكين الخبَرَ سار إلى الرومِ؛ ليلقاهم قبل اجتماعِهم بأبي الفضائلِ، وعبَرَ إليهم العاصي، وأوقعوا بالرُّومِ فهزموهم ووَلَّوا الأدبارَ إلى أنطاكيةَ، وكثُرَ القتلُ فيهم، وسار منجوتكين إلى أنطاكيةَ، فنهب بلَدَها وقُراها وأحرَقَها، وأنفذ أبو الفضائِلِ إلى بلَدِ حَلَب، فنَقَل ما فيه من الغِلالِ، وأحرق الباقيَ إضرارًا بعساكِرِ مِصرَ، وعاد منجوتكين إلى حلب فحصرها، فأرسل لؤلؤٌ إلى أبي الحسَنِ المغربي فبذل لهم مالًا ليَرُدُّوا منجوتكين عنهم هذه السَّنَة، بعِلَّةِ تَعَذُّرِ الأقوات، ففعلوا ذلك، وكان منجوتكين قد ضَجِرَ مِن الحرب، فأجابهم إليه وسار إلى دمشق، ولَمَّا بلغ الخبَرُ إلى العزيز، غَضِبَ وكتب بعَودِ العَسكرِ إلى حلب، وإبعاد المغربيِّ، وأنفذ الأقواتَ مِن مِصرَ في البحرِ إلى طرابلس، ومنها إلى العَسكرِ، فنازل العسكَرُ حَلَب، وأقاموا عليها ثلاثةَ عشَرَ شهرًا، فقَلَّت الأقواتُ بحَلَب، وعاد أبو الفضائِلِ إلى مراسلةِ مَلِك الرومِ والاعتضاد به، وقال له: متى أخِذَت حلب أخِذَت أنطاكية وعَظُم عليك الخَطبُ، وكان قد توسَّطَ بلادَ البلغار، فعاد وجَدَّ في السَّيرِ، وكان الزَّمانُ ربيعًا، وعسكَرُ مِصرَ قد أرسل إلى منجوتكين يعَرِّفُه الحال، وأتَتْه جواسيسُه بمِثلِ ذلك، فسار كالمنهَزِم عن حَلَب، ووصل مَلِكُ الرُّومِ، فنزل على باب حَلَب، وخرج إليه أبو الفضائلِ ولؤلؤ، وعاد إلى حَلَب، ورحَلَ بسيل إلى الشام، ففتح حِمصَ وشيزر ونهبَهما، وسار إلى طرابلس فنازَلَها، فامتنعت عليه، وأقام عليها نيفًا وأربعينَ يومًا، فلما أيِسَ منها عاد إلى بلادِ الروم، ولَمَّا بلغ الخبَرُ إلى العزيز عَظُم عليه، ونادى في النَّاسِ بالنَّفيرِ لِغَزوِ الروم، وبرز من القاهرةِ، وحدث به أمراضٌ مَنَعتْه، وأدركه الموتُ.
حضر الأمير علاء الدين ألطبغا نائب الملك الظاهر مجد الدين عيسى صاحب ماردين، فأنعم عليه وعلى من معه، وكان سببُ قدومه أنَّ الظاهِرَ عيسى لما قبض عليه تيمورلنك وأقام في أسْرِه، قام ألطبغا بأمر ماردين ومنع تيمورلنك منها، وكان الظاهر قد أقام في مملكة ماردين الملك الصاع شهاب الدين أحمد بن إسكندر بن الملك الصالح صالح، وهو ابنُ أخيه وزوجُ ابنته، فقاتل أصحاب تيمورلنك قتالًا شديدًا، وقتل منهم جماعة، فشقَّ هذا على تيمورلنك، ثم أفرج عن الظاهر بعد أن أقام في أسره سنتين وسبعة أشهر، وحَلَّفه على الطاعة له وإقامة الخُطبة باسمه، وضَرْب السكة له، والقَبْض على ألطبغا وحَمْله، فعندما حضر إلى ماردين فرَّ منه ألطبغا إلى مصر، فرتَّب له السلطان ما يليقُ به، وقَدِمَت رسل تيمور إلى دمشق فعُوِّقوا بها، وحُمِلت كتُبُهم إلى السلطان فإذا فيها طلب أطلمش، فأمر أن يُكتَب إلى أطلمش بما هو فيه ورفيقه من إحسان السلطان، وكتب جوابه بأنه متى أرسل من عنده من أصحاب السلطان خبر إليه أطلمش.
هو الشيخ الإمام العلامة الأوحد شيخ العصر حافظ الوقت شيخ المحدِّثين علم الناقدين عمدة المخرجين: أبو الفضل زين الدين عبد الرحيم بن الحسين بن عبد الرحمن بن أبي بكر العراقي المصري الشافعي، شيخ الحديث بالديار المصرية، وُلِدَ بمصر سنة 725, وسمع الكثير ورحل في البلاد، حدَّث وأملى سنين كثيرة وأفاد وتكلم على العلل والإسناد ومعاني المتون وفقهها، فأجاد وصنف التصانيف التي اشتهرت، وخرج تخاريج رُوِيت وانتشرت. كان وَلِيَ قضاء المدينة النبوية، وعدة تداريس، وانتهت إليه رئاسة علم الحديث في زمانه، له مصنفات عديدة منها: ألفية العراقي المسماة بـ: التبصرة والتذكرة في علوم الحديث، والتقييد والإيضاح شرح مقدمة ابن الصلاح، وتقريب الأسانيد وترتيب المسانيد، ومحجة القرب إلى محبة العرب، والمغني عن حمل الأسفار في الأسفار (تخريج الإحياء)، وتخريج أحاديث مختصر المنهاج في أصول الفقه، وغيرها كثير. توفي بمصر في يوم الأربعاء ثامن شعبان.
هو الشيخ الإمام الكبير العلَّامة جلال الدين أبو الفضل عبد الرحمن بن أبي بكر بن محمد السيوطي الخضيري القاهري الشافعي، صاحب التصانيف والمؤلفات الحافلة الجامعة التي تزيد على خمسمائة مصنف، وقد تداولها الناس واشتهرت, وعم النفعُ بها، وُلد في مستهل رجب سنة 849 في مصر بأسيوط وإليها نسبته، وأمُّه أَمَةٌ تركية، وكان أبوه قاضي أسيوط، ثم نشأ في القاهرة يتيمًا بعد وفاة والده، فاشتغل بالعلم فحفظ القرآن والعمدة والمنهاج الفرعي وبعض الأصلي وألفية النحو, ثم رحل إلى كثير من البلاد، فبرع في عدة فنون وشارك في كل العلوم تقريبًا، فله في كل فن مؤلفات مقبولة قد سارت في الأقطار مسير النهار، حتى اعتبر من أكثر العلماء تأليفًا، وأجاز له أكابر علماء عصره مَن سايَرَ وفاق الأقرانَ واشتهر ذكره وبعُد صيتُه, وقد وقع خلاف بينه وبين معاصره الإمام السخاوي رحمهما الله. قال الإمام الشوكاني عن السيوطي: "لكنه لم يسلَمْ من حاسدٍ لفضله، وجاحد لمناقبِه؛ فإن السخاوي في الضوء اللامع- وهو من أقرانه- ترجم له ترجمة مُظلِمة غالبها ثلبٌ فظيع وسبٌّ شنيع، وانتقاصٌ وغمط لمناقبه تصريحًا وتلويحًا، ولا جرم؛ فذلك دأبه في جميع الفضلاء من أقرانه، وقد تنافس هو وصاحب الترجمة منافسة أوجبت تأليف صاحب الترجمة لرسالة سمَّاها: الكاوي لدماغ السخاوي، فليعرف المطَّلع على ترجمة هذا الفاضل في الضوء اللامع أنها صدرت من خصمٍ له غير مقبول عليه" والحق أن السيوطي صاحب فنون وإمام في كثير منها، وهو أحفظ للمتون من السخاوي وأبصر باستنباط الأحكام الشرعية، وله الباع الطويل في اللغة العربية والتفسير بالمأثور وجمع المتون، والاطلاع على كثير من المؤلفات التي لم يطلع عليها علماء عصره، وقد وقع في بعض مؤلفاته الحديثية بعض التسامح والتناقض, أما السخاوي فهو في علم الحديث وعلوم الإسناد وما يتعلق بالرجال والعلل والتاريخ إمام لا يشاركه فيها أحد, ويعتبر صاحب فن واحد؛ ولذا يرجَّح قولُه في الحديث وعلومه على السيوطي، ومؤلفاته في ذلك مرجع المحققين، وهو وارث شيخه ابن حجر. ومن تصانيف السيوطي: الجامعين في الحديث، والدر المنثور في التفسير بالمأثور، وحسن المحاضرة في أخبار مصر والقاهرة، وتاريخ الخلفاء، واللآلئ المصنوعة في الأحاديث الموضوعة، والجامع الصغير وزيادته في الحديث، وأسباب النقول، وشرح على مسلم، وعلى الموطأ، وعلى النسائي، وألفية في المصطلح، وفي اللغة ألفية في النحو، والأشباه والنظائر، وفي علوم القرآن أسباب النزول، والإتقان في علوم القرآن، وغيرها كثير يصعب حصره. توفي السيوطي بعد أذان الفجر يوم الجمعة التاسع عشر جمادى الأولى.
هو شيخُ الفَلسفةِ الحَكيمُ أبو نصر محمَّدُ بنُ محمد بن طرخان بن أوزلغ التركي الفارابي المنطقيُّ، من كبار الفلاسفة، قال الذهبي: "أحدُ الأذكياء. له تصانيفُ مشهورة, من ابتغى الهُدى منها ضَلَّ وحار, منها تخرَّجَ ابنُ سينا, نسأل الله التوفيق". تعلَّم اليونانية, ولقِيَ متَّى بن يونس فأخذ عنه, وسار إلى حرَّان فلزم بها يوحنَّا بن جيلان النصراني فتعلَّمَ عليه المنطِقَ, وقد أحكم أبو نصرٍ العربيَّةَ بالعراقِ، رحل إلى دمشق ثم حلب، يُعتبَرُ مساويًا لأرسطو في الفلسفة، ويعتبِرُ البعض أنَّ الفارابي هو مترجِمٌ لِمَا كان عليه أرسطو، كما أنَّ له مُشاركةً في الطبِّ والموسيقى، وهو من اخترع آلةَ القانون الموسيقيَّة المعروفة اليوم، وكان يحِبُّ الوَحدةَ, وكان يتزهَّدُ زُهدَ الفلاسفة، ولا يحتفِلُ بملبسٍ ولا منزلٍ, أجرى عليه ابنُ حمدان في كلِّ يومٍ أربعة دراهم. من تصانيفِه: آراءُ أهل المدينة الفاضلة، وجوامع السياسة، والمدخل إلى صناعة الموسيقى، وغير ذلك من الكتُب، توفِّيَ في طريقه إلى عسقلان؛ حيث قتله اللصوصُ، فنُقِلَ إلى دمشق وصلَّى عليه سيفُ الدولة الحمداني، ودفن بظاهر دمشق عن عُمرٍ يناهز الثمانينَ.
في يوم الأربعاء الثامِنَ مِن رمضان كانت واقعةُ كنيسة ناحية بو النمرس من الجيزة؛ وذلك أنَّ رجلًا من فُقَراء الزيلع بات بناحية بو النمرس، فسَمِعَ لنواقيس كنيسَتِها صوتًا عاليًا، وقيل له إنَّهم يضربون بنواقيسهم عند خُطبةِ الإمام للجمعة، بحيث لا تكادُ تُسمَعُ خُطبة الخطيب، فوقف للسُّلطان الملك الأشرف شعبان، فلم يَنَل غَرَضًا، فتوجه إلى الحجاز وعاد بعد مدة طويلة، وبيده أوراق تتضَمَّنُ أنه تشفع برسول الله وهو نائم عند قبره المقَدَّس في هدم كنيسة بو النمرس، ووقف بها إلى الأميرِ الكبير برقوق الأتابك، فرسم للمُحتَسِب جمال الدين محمود العجمي أن يتوجَّه إلى كنيسة بو النمرس، وينظُرَ في أمرها، فسار إليها وكشف عن أمرها، فبَلَغه من أهل الناحية ما اقتضى عنده غَلْقَها، فأغلقها وعاد إلى الأمير الكبير وعَرَّفه ما قيل عن نصارى الكنيسة، فطلب متَّى بِطريقَ النصارى اليعاقبة وأهانه، فسعى النصارى في فَتحِ الكنيسة، وبذلوا مالًا كبيرًا، فعَرَّف المحتَسِبُ الأميرَ الكبير بذلك، فرسَمَ بهَدمِها بتحسين المحتَسِب له ذلك، فسار إليها وهَدَمها، وعمِلَها مَسجدًا.
قامت حكومةُ الاحتلال البريطاني بتشكيل لجنة عُرِفَت باسم "لجنة ملنر"؛ وذلك من أجل التحقيق في أسباب اشتعال الثورة المصرية المعروفة بثورة 1919م، على الرغم من أن الإنجليز هم من خطَّط لقيام ثورة احتجاجٍ على اعتقال أعضاء الوفد المزمَع سفرُهم للتفاوض في باريس؛ وذلك لمزيد من صناعة أعضاء الوفدِ سعد زغلول ورفاقه كزعماء وطنيين بدلًا من الزعامة الوطنية الموجودة في البلاد، كمصطفى كامل، فقدَّمت لجنة ملنر مقترحاتٍ لتنظيم الأحوال في مصر، ومن هذه المقترحات:1- لكي يبنى استقلال مصر على أساس متين دائم يلزم تحديدُ العلاقات بين بريطانيا العظمى ومصر تحديدًا دقيقًا، ويجب تعديلُ ما تتمتع به الدول ذوات الامتيازات في مصر من المزايا، وجعلها أقلَّ ضررًا بمصالح البلاد. 2- ولا يمكن تحقيقُ هذين الغرضين بغير مفاوضات جديدة تحصل للغرض الأول بين ممثِّلين معتَمَدين من الحكومة البريطانية وآخرين معتَمَدين من الحكومة المصرية، ومفاوضات تحصل للغرض الثاني بين الحكومة البريطانية وحكومات الدول ذوات الامتيازات، وهذه المفاوضات ترمي إلى الوصولِ إلى اتفاقات معيَّنة ومبنية على قواعِدَ مُعينةٍ.
لما بايع أهلُ مراكش أبا فارس بن أحمد المنصور الذهبي السعدي، عزم أخوه زيدان على النهوض إليه، فخرج من فاس يؤمُّ بلاد الحوز، واتصل الخبَرُ بأبي فارس فجهَّز لقتال أخيه زيدان جيشًا كثيفًا وأمَّر عليهم ولده عبد الملك، فقيل له: إن زيدان رجلٌ شجاع عارفٌ بمكايد الحرب وخُدَعه، وولدك عبد الملك لا يقدِرُ على مقاومته، فلو سرَّحت أخاك محمد الشيخ المأمون لقتالِه كان أقرب للرأي؛ لأن أهل الغرب لا يقاتلونَه؛ لأنه كان خليفةً عليهم مُدَّةً، فهُم آنَسُ به من زيدان، فأَطلق أبو فارس أخاه المأمونَ من السجن وأخذ عليه العهودَ والمواثيق على النصحِ والطاعة وعدمِ شَقِّ العصا، ثم سرَّحه في ستمائة من جيش المتفرِّقة الذين كان المنصور جمعَهم ليبعث بهم إلى كاغو من أعمال السودان، وقال له ولأصحابه: جِدُّوا السير الليلةَ؛ كي تُصبحوا بمحلة جؤذر على وادي أم الربيع، فلما انتهى الشيخ إلى محلة جؤذر وعلم الناسُ به هُرِعوا إليه واستبشروا بمَقدَمِه، ثم كانت الملاقاةُ بينه وبين السلطان زيدان بموضعٍ يقال له حواتة عند أم الربيع، ففرَّ عن زيدان أكثرُ جيشه إلى المأمون وحنُّوا إلى سالف عهدِه وقديمِ صحبتِه، فانهزم زيدان لذلك، ورجع أدراجَه إلى فاس فتحصَّنَ بها، وكان أبو فارس قد تقدَّم إلى أصحابه في القبضِ على الشيخ متى وقعت الهزيمةُ على زيدان، فلما فر زيدان انعزل الشيخُ فيمن انضمَّ إليه من جيشِ أهل الغرب وامتنع على أصحابِ أبي فارس فلم يقدِروا منه على شيءٍ، وانتعش أمرُه واشتدَّت شوكتُه، ثم سار إلى فاس يقفو أثرَ السلطان زيدان، ولما اتصل بزيدان خبرُ مجيئه إليه راود أهل فاس على القيامِ معه في الحصارِ والذبِّ عنه والوفاء بطاعته التي هي مقتضى بيعتِهم التي أعطَوا بها صفقتَهم عن رضًا منهم، فامتنعوا عليه وقلبوا له ظَهرَ المِجَنِّ، وأعلنوا بنصر الشيخ المأمون وبيعته لقديم صحبتِهم له، ولما آيسَ زيدان من نصرهم وقد أرهقه الشيخُ المأمون في جموعِه، خرج من فاس بحشَمِه وثِقلِه ناجيًا بنفسه وتبِعَه جمعٌ عظيم من أصحاب الشيخ فلم يقدروا منه على شيءٍ، وذهب إلى تلمسان فأقام بها، وأما الشيخ فإنه لما وصل إلى فاس تلقَّاه أهلها ذكورًا وإناثًا وأظهروا الفرحَ بمَقدَمِه، فدخلها ودعا لنفسِه فأجيبَ واستبَدَّ بمُلكِها، ثم أمرَ جيش أهل مراكش أن يرجِعوا إلى بلادهم، فانقلبوا إلى صاحبِهم مُخفِقين.