وقَّعت روسيا اتفاقًا سريًّا مع الأفلاق والبغدان (رومانيا) وضَعَت رومانيا بموجِبِه جميع إمكانياتها تحت تصرُّف روسيا، ثم قطعت روسيا العلاقاتِ السياسية مع الدولةِ العثمانية، وأعلنت الحربَ عليها بناءً على رفضِ البابِ العالي للائحةِ لندن-البابُ العالي هو قصرٌ في استانبول يقيمُ فيه السلاطين العثمانيون- وأخبر الباب العالي دولَ أوربا ثانيةً عمَّا تصرَّفت به روسيا فلم يَلقَ أيَّ موقف إيجابي، وذلك عام 1294هـ رغم المعاهدة السابقة التي وُقِّعَت بعد حرب القرم، وكانت روسيا قد اختَرَقت حدودَ رومانيا وانتصَرَت على العثمانيين في عِدَّةِ مواقِعَ، ثم توقَّفَت بعد المقاومة التي اعترضتها، وانقلب وضعُ الجيوش العثمانية من مُدافَعةٍ إلى مُهاجَمةٍ، وبعد تقدُّمٍ بسيطٍ عاد النصرُ إلى جانب الروس، واضطر القائِدُ العثماني عثمان باشا إلى الاستسلامِ وهو جريحٌ، وتوقَّفَ القتال في الجبهة الأوربية، أمَّا في شرقيَّ الأناضولِ فقد حاصر الروسُ عِدَّةَ مدن وقلاعٍ، ومنها قارص وباطوم، إلا أنهم اضطروا لفكِّ الحصار عنها والتراجُعِ، بجهود أحمد مختار باشا، وإسماعيل حقي باشا، وانتصر العثمانيون على الروس في ستة وقائع، وقد طلب الروسُ إمداداتٍ فجاءتهم جيوشٌ جرَّارة، ولم يتمكَّن العثمانيون من إرسال الإمدادات إلى الجبهةِ، وجاء الهجوم الروسي الثاني فتراجعت الجيوشُ العثمانية؛ حيث انسحب أحمد مختار باشا، وبسقوطِ قارص في جبهة الأناضول وسقوط بلافنا بعدها بشهرٍ على الجبهة الأوربية استأسَدَ الصرب فأعلنوا الحربَ على الدولة العثمانية بعد لقاءٍ بين إمبراطور روسيا وأمير الصرب، كما تابع سكانُ الجبل الأسود قتالَهم للعثمانيين، فأصدر الباب العالي منشورًا يُعلِنُ عزل أمير الصرب عن إمارتِه ويوضِّحُ للسكان هذه الخيانةَ، فلم يُجْدِ ذلك نفعًا! وتقَدَّم الروس فاحتلوا صوفيا عاصمة بلغاريا اليوم، ومنها ساروا إلى أدرنة فدخلوها وانطلقوا منها نحو استانبول، ولم يبقَ بينهم وبينها سوى خمسين كَيلًا وعندما اقتربت الجيوشُ الروسية من أراضي البلغار انقَضَّ النصارى على المسلمين يفتِكون بهم ذبحًا وقتلًا، وفرَّت أعدادٌ كبيرة من المسلمين متَّجِهة نحو استانبول، وأرسل البابُ العالي وفدًا عسكريًّا من نامق باشا وسرور باشا لوقفِ القتال، فقابل الوفدَ الروسيَّ وتوقَّف القتالُ في مطلع هذا العام، وأعلن الباب العالي عن رفع الحصارِ عن سواحل البحر الأسود، ولما علمت إنكلترا أنَّ قوات روسيا أصبحت على مَقرُبة من استانبول أمرت قطعاتها البحرية بدخول مضيق البوسفور ولو بالقوةِ، وقد تم ذلك وأرادت روسيا مقابِلَ ذلك أن ترسِلَ قوات إلى استانبول بحجَّة حماية النصارى، ثم اتفقت الدولتان وهدأت الأوضاع.
شرع المنصورُ في بناء الرصافة لابنه المهدي بعد مَقدَمِه من خراسان، وكان سبب بنائِها أنَّ بعضَ الجند شغَّبوا على المنصور وحاربوه على باب الذَّهبِ، فدخل عليه قُثَمُ بنُ العبَّاس، وهو شيخُهم، وله الحرمةُ والتقدُّم عندهم، فاستشاره المنصور، فقال له أن يتركَ الأمرَ له، فقام قُثَم بحيلةٍ فافترق الجند، فصارت مُضَرُ فِرقةً، وربيعةُ فرقة، والخراسانية فرقة. فقال قُثَم للمنصور: قد فرَّقتُ بين جُندِك وجعلتُهم أحزابًا، كلُّ حزبٍ منهم يخافُ أن يُحدِثَ عليك حدثًا فتضرِبَه بالحزبِ الآخر، وقد بقيَ عليك في التدبير بقيَّة، وهي أن تعبُرَ بابنِك المهدي فتُنزِلَه في ذلك الجانب، وتحَوِّل معه قطعةً من جيشِك فيصير ذلك بلدًا وهذا بلدًا، فإن فسدَ عليك أولئك ضربتَهم بهؤلاء، وإن فسدَ عليك هؤلاء ضربتَهم بأولئك، وإن فسد عليك بعضُ القبائل ضربتَهم بالقبيلة الأخرى (على مبدأ: فَرِّقْ تَسُد)، فقَبِلَ رأيه واستقام مُلكُه، وبنى الرصافة وهي في الجانب الشرقي من بغداد، وجعل لها سورًا وخندقًا، وعَمِلَ عندها ميدانًا وبستانًا، وأجرى إليها الماءَ مِن نهرِ المهدي
هو إمامُ دار الهجرة، أبو عبدِ الله مالكُ بنُ أنس بن مالك بن أبي عامر بن عمرو بن الحارث بن غيمان بن خثيل بن عمرو بن الحارث الأصبحي، ثم المدني، جَدُّه الصحابيُّ أبو عامرٍ الأصبحيُّ، كان طويلًا عظيمَ الهامةِ أصلعَ أبيضَ الرأسِ واللِّحية. أبيضَ شديدَ البياضِ إلى الشُّقرة. وُلِدَ بالمدينة سنة ثلاث وتسعين، عام موتِ أنسِ بنِ مالكٍ خادمِ رَسولِ الله صلى الله عليه وسلم، ونشأ في أسرةٍ ذاتِ صَونٍ ورفاهيةٍ وتجَمُّل. أحدُ الأئمَّة الأربعة المشهورين، إليه تُنسَبُ المالكيَّة، كان إمامًا في الحديثِ بلا منازعٍ، له كتابُ الموطأ المشهور. تعرَّضَ للفتنة أيَّامَ المنصورِ؛ بسبب فتوى له في قتالِ البُغاة، أقام في المدينةِ، وكان يُعظِّمُ ما جرى عليه عمَلُ أهلِ المدينةِ في الفِقهِ، وروى عن نافعٍ مولى ابنِ عُمَرَ، وأكثَرُ مَن رحل إليه للعلمِ المصريُّونَ والمغربيونَ، فكان هذا سببَ انتشارِ مَذهَبِه في تلك البقاعِ، توفي في المدينة ودُفِنَ في البقيعِ- رَحِمَه اللهُ تعالى وجزاه عن الإسلامِ والمُسلمِينَ خَيرًا.
لَمَّا توفِّيَ السري أميرُ مصرَ للمأمونِ، وليَ بعدَه ابنُه عُبيدالله، ولَّاه الجُندُ وبايعوه، ثم حدَّثَته نفسُه الخروجَ عن طاعة المأمونِ وجَمَع وحَشَد، فبلغ المأمونَ ذلك وطلب عبدَ الله بنَ طاهرٍ لقتالِه وقتالِ الخوارج بمصرَ، فسار إليه ابنُ طاهر فتهَّيأ عُبيد الله بن السري لحَربِه وعبَّأ جيوشَه وحفَرَ خندقًا عليه، ثم تقدَّم بعساكِرِه إلى خارج مصرَ والتقى مع عبد اللهِ بنِ طاهر وتقاتلا قتالًا شديدًا، وثبت كلٌّ من الفريقينِ ساعةً كبيرةً حتى كانت الهزيمةُ على عُبيد الله بن السري أميرِ مصر، وانهزم إلى جهةِ مِصرَ، وتَبِعَه عبد الله بن طاهر بعساكِرِه فحاصره عبدُ الله بن طاهر وضيَّقَ عليه حتى أباده وأشرف على الهلاكِ، فطلب عُبيد الله بن السري الأمانَ مِن عبد الله بن طاهر بشُروطِه، فأمَّنَه عبدُ الله بن طاهر بعد أمورٍ صَدَرت، فخرج إليه عُبيد الله بن السري بالأمانِ، وبذل إليه أموالًا كثيرةً، وأذعن له وسلَّمَ إليه الأمرَ.
أقام أحمد بن طولون مسجدًا ضخمًا أنفق في بنائه 120 ألف دينار، وقد اهتمَّ بالأمور الهندسية في بنائه، ويُعَدُّ مسجد ابن طولون المسجِدَ الوحيدَ بمصرَ الذي غلَبَ عليه طرازُ سامِرَّاء؛ حيث المئذنةُ الملوية المُدرَّجة. وقام السلطان لاجين بإدخالِ بعض الإصلاحات فيه، وعيَّنَ لذلك مجموعةً من الصناع، كما أمر بصناعةِ ساعة فيه، فجُعِلَت قبةً فيها طيقانٌ صغيرة على عددِ ساعاتِ الليل والنهار وفتحة، فإذا مَرَّت ساعة انغلقت الطاقةُ التي هي لتلك الساعة وهكذا، ثم تعود كلَّ مرة ثانية. وفي عهد الأيوبيين أصبح جامع ابن طولون جامعةً تُدَرَّسُ فيه المذاهِبُ الفقهيَّة الأربعة، وكذلك الحديثُ والطِّبُّ، إلى جانب تعليم الأيتام, وكان أحمد بن طولون قد بنى قصره عند سَفحِ المقَطَّم، وأنشأ الميدانَ أمامه، وبعد أن انتهى من تأسيس مدينة القطائع، شَيَّد جامِعَه على جبل يشكر, وتمَّ بناؤه سنة 265ه، وهذا التاريخُ مُدَوَّن على لوحٍ رُخاميٍّ مُثبت على أحدِ أكتاف رُواق القبلة, والجامِعُ وإن كان ثالِثَ الجوامِعِ التي أُنشِئَت بمصر، يعَدُّ أقدَمَ جامِعٍ احتفظَ بتخطيطِه وكثيرٍ مِن تفاصيلِه المعماريَّة الأصليَّة.
حصر الرُّومُ مع الدُّمُسْتُق بن الشمشقيق المصيصةَ، وقاتلوا أهلَها، ونَقَبوا سورَها، واشتد قتالُ أهلِها على النَّقبِ حتى دفعوهم عنه بعد قتالٍ عظيمٍ، وأحرق الرومُ بيوتها ومزارعها ومزارع أذنة وطرسوس لِمُساعدتهم أهلَها، فقُتِلَ من المسلمين خمسةَ عشرَ ألفَ رجل، وأقام الروم في بلادِ الإسلام خمسة عشر يومًا لم يَقصِدْهم من يقاتِلُهم، فعادوا لغلاءِ الأسعارِ وقِلَّة الأقوات، ثمَّ قَدِمَ إلى الشام من خُراسان جيشٌ نحو خمسة آلاف رجلٍ يريد الغزاة، وكان طريقُهم على أرمينية وميارفارقين، فلمَّا وصلوا إلى سيفِ الدولة في صفر أخذهم سيفُ الدولة وسار بهم نحوَ بلادِ الرومِ؛ لِدَفعِهم عن المسلمين، فوجدوا الرومَ قد عادوا، فتفَرَّقَ الغزاةُ الخُراسانيَّة في الثغورِ لشِدَّةِ الغلاء، وعاد أكثَرُهم إلى بغداد ومنها إلى خراسان، ولَمَّا أراد الدُّمُسْتُق العودَ إلى بلاد الروم أرسَلَ إلى أهل المصيصة وأذنة وطرسوس: إنِّي مُنصَرِفٌ عنكم لا لِعَجزٍ، ولكن لضِيقِ العلوفةِ وشِدَّة الغلاء، وأنا عائِدٌ إليكم، فمن انتقلَ منكم فقد نجا، ومن وجَدْتُه بعد عودي قتَلْتُه.
هو الإمامُ العلَّامةُ اللُّغَويُّ المُحَدِّثُ، أبو الحُسَين: أحمَدُ بنُ فارسِ بنِ زكريَّا بنِ محمَّد بن حبيب القزوينيُّ، المعروفُ بالرَّازيِّ، المالكي، اللُّغَوي الأديب، نزيلُ همذان، وصاحِبُ كِتابِ "المُجمَل". مولِدُه بقزوين, ومرباه بهمذان، وأكثَرُ الإقامةِ بالرَّيِّ. وكان رأسًا في الأدَبِ، بصيرًا بفِقهِ مالكٍ، مناظِرًا متكَلِّمًا على طريقةِ أهل الحق، ومذهَبُه في النَّحوِ على طريقةِ الكوفيِّينَ، جمَعَ إتقانَ العِلمِ إلى ظَرْفِ أهل الكتابةِ والشِّعرِ. رحَلَ ابنُ فارس إلى قزوين وبغداد طالبًا للحديثِ، ثمَّ عاد إلى همذان، ثمَّ إلى الريِّ، والتقى الصاحِبَ إسماعيلَ بنَ عَبَّاد الذي أخَذَ عنه اللُّغةَ والأدبَ، وقد غَلَب على عِلمِ ابنِ فارس الاهتِمامُ باللُّغةِ. وصَنَّف مع ذلك تصانيفَ في تفسيرِ القُرآنِ والنَّحوِ والتَّاريخِ والفِقهِ، وردَّ على الشُّعوبيَّةِ ردًّا قويًّا. مِن كُتُبِه: "مقاييسُ اللُّغةِ"، و"الإتباعُ والمُزاوَجة"، و"المُجْمَل" في اللُّغة، و"الصَّاحِبي" في فِقهِ اللُّغةِ. وقد ألّفَهُ لِخزانةِ الصَّاحِبِ بنِ عَبَّاد. كان أبو الحُسَين من الأجوادِ, حتى إنَّه يهَبُ ثيابَه وفُرُشَ بَيتِه، وكان من رؤوسِ أهلِ السُّنَّة المُجَرَّدين على مذهَبِ أهل الحديثِ. مات بالرَّيِّ.
استمَرَّ محمَّدُ بنُ هشامِ بنِ عبدِ الجبَّار بن عبد الرحمن النَّاصر المهدي في خِلافةِ الأندلُسِ، إلى أن خرجَ عليه سُلَيمانُ بنُ الحَكَم بنِ سليمان بن عبد الرحمن النَّاصر، فهرب المهديُّ مُحمَّدُ بنُ هشام، واستولى سُلَيمانُ على الخلافة في أوائِلِ شوَّال سنة 400هـ، ثم جمع المهديُّ مُحمَّدُ بنُ هشامٍ جمعًا وقصَدَ سُلَيمانَ بقُرطُبةَ، فهَرَب سُلَيمانُ وعاد المهديُّ إلى الخلافةِ في منتصف شوال، ثم اجتمَعَ كِبارُ العَسكَرِ وقبضوا على المهديِّ، وأخرجوا المؤيَّدَ مِن الحَبسِ، وأعادوه إلى الخلافةِ في سابِعَ ذي الحِجَّة من هذه السَّنة، وأحضروا المهديَّ بين يَدَيه، فأمَرَ بقَتلِه، فقُتِلَ، واستمَرَّ المؤيَّدُ في الخلافة، وقام بتدبيرِ أمْرِه واضِحُ العامريُّ، ثمَّ قبض المؤيَّدُ على واضحٍ العامريِّ وقَتَله، فكَثُرَت الفِتَنُ على المؤَيَّد، واتَّفَقَت البربرُ مع سليمانَ بنِ الحَكَمِ بنِ سُلَيمان بن عبد الرحمن الناصر، وسار وحَصَر المؤيَّدَ بقُرطُبة، ومَلَكَها سليمانُ عَنوةً، وأخرَجَ المُؤَيَّدَ من القَصرِ، ولم يتحَقَّقْ للمُؤَيَّد خَبَرٌ بعد ذلك، وبُويع لسُلَيمانَ بالخلافةِ في منتصف شوال من سنة ثلاث وأربعمِئَة، وتلَقَّب بالمستعين باللهِ.
سار طُغرلبك إلى أذربيجان، فقَصدَ تبريزَ، وصاحبُها الأميرُ أبو منصور وهسوذان بن محمد الرَّوادي، فأَطاعَه وخَطَب له وحَمَلَ إليه ما أَرضاهُ به، وأَعطاهُ وَلَدَهُ رَهينةً، فسار طُغرلبك عنه إلى الأميرِ أبي الأسوارِ، صاحبِ جنزة - بَلدَة من بلادِ أذربيجان- فأَطاعَهُ أيضًا وخَطَب له، وكذلك سائرُ تلك النَّواحي أَرسَلوا إليه يَبذُلون الطَّاعةَ والخُطبةَ، وانقادَت العَساكرُ إليه، فأَبقَى بِلادَهم عليهم، وأَخذَ رَهائِنَهم وسار إلى أَرمينية، وقَصدَ ملازكرد، وهي للرُّومِ، فحَصَرها وضَيَّقَ على أَهلِها، ونَهبَ ما جاوَرَها من البلادِ وأَخرَبَها، وهي مدينةٌ حَصينَة، فأَرسلَ إليه نَصرُ الدَّولةِ بن مَروان، صاحبُ دِيارِ بَكْرٍ، الهدايا الكثيرة والعَساكِر، وقد كان خَطَبَ له قبلَ هذا الوَقتِ وأَطاعَهُ، وأَثَّرَ السُّلطانُ طُغرلبك في غَزْوِ الرُّومِ آثارًا عظيمةً، ونال منهم مِن النَّهْبِ والقَتْلِ والأَسْرِ شَيئًا كثيرًا، وبلغَ في غَزوتِه هذه إلى أرزن الرُّومِ، وعاد إلى أذربيجان، لمَّا هَجمَ الشِّتاءُ، من غير أن يَملِك ملازكرد، وأَظهَر أنَّه يُقيم إلى أن يَنقَضي الشِّتاءُ، ويَعودُ يُتِمُّ غَزاتِه، ثم تَوجَّه إلى الرَّيِّ فأقامَ بها إلى أن دخلت سَنةُ سَبعٍ وأربعين وعاد نحوَ العراق.
بَعثَ ناصرُ الدولةِ حُسينُ بن حمدان الفقيه أبا جَعفرٍ محمدَ بن أحمدَ بن البُخاريِّ رَسولًا منه إلى السُّلطانِ ألب أرسلان، مَلِكِ العِراقِ، يَسألهُ أن يُسَيِّرَ إليه العَساكرَ لِيُقيمَ الدَّعوةَ العبَّاسيَّةَ بدِيارِ مصر، وتكون مصر له. فتَجَهَّزَ ألب أرسلان مِن خُراسان في عِساكرَ عَظيمةٍ، وبَعثَ إلى محمودِ بن ثمال بن صالحِ بن مرداس، صاحبِ حَلَب، أن يَقطعَ دَعوةَ المُستَنصِر ويُقيمَ الدَّعوةَ العبَّاسيَّة، فقُطِعَت دَعوةُ المُستَنصِر من حَلَب ولم تَعُد بعدَ ذلك. وانتهى ألب أرسلان إلى حَلَب في جُمادى الأُولى سَنةَ 463هـ وحاصَرَها شَهرًا، فخَرجَ إليه صاحبُها محمودُ بن ثمال بن صالحِ بن مرداس، فأَكرَمه وأَقَرَّهُ على وِلايَتِه. وأَخذَ يُريدُ المَسيرَ إلى دِمشقَ لِيَمُرَّ منها إلى مصر، وإذا بالخَبَرِ قد طَرَقَهُ أنَّ مُتَمَلِّكَ الرُّومِ قد قَطعَ بِلادَ أرمينية يُريدُ أَخْذَ خُراسان، فشَغَلهُ ذلك عن الشامِ ومصر ورَجعَ إلى بِلادِه؛ فواقَعَ جَمائِعَ الرُّومِ على خلاط وهَزمَهُم. وكان قد تَركَ طائفةً من عَسكرِه الأتراكِ ببلادِ الشامِ فامتَدَّت أَيدِيهم إليها ومَلَكَتْهَا كُلَّها، فخَرجَت عن أَيدِي الفاطِميِّين ولم تَعُد إليهم.
سَيَّرَ السُّلطانُ ألب أرسلان وَزيرَهُ نِظامَ المُلْكِ في عَسكرٍ إلى بِلادِ فارِس، وكان بها حِصْنٌ من أَمنَعِ الحُصونِ والمَعاقِلِ، وفيه صاحبُه فضلون الكُرديُّ، وهو لا يُعطِي الطَّاعةَ، فنازَلَهُ وحَصرَهُ، ودَعاهُ إلى طَاعةِ السُّلطانِ فامتَنَع، فقاتَلَهُ فلم يَبلُغ بقِتالِه غَرَضًا لِعُلُوِّ الحِصنِ وارتِفاعِه، فلم يَطُل مَقامُهم عليه حتى نادَى أَهلُ القَلعةِ بَطَلَبِ الأَمانِ لِيُسَلِّموا الحِصنَ إليه، فعَجبَ الناسُ من ذلك، وكان السببُ فيه أنَّ جَميعَ الآبارِ التي بالقَلعةِ غارَت مِياهُها في لَيلةٍ واحدةٍ فقادَتهُم ضُرورةُ العَطَشِ إلى التَّسليمِ، فلمَّا طَلَبوا الأَمانَ أَمَّنَهُم نِظامُ المُلْكِ، وتَسلَّمَ الحِصنَ، والْتَجَأَ فضلون إلى قُلَّةِ القَلعَةِ، وهي أَعلَى مَوضِعٍ فيها، وفيه بِناءٌ مُرتفِعٌ، فاحتَمَى فيها، فسَيَّرَ نِظامُ المُلْكِ طائِفةً من العَسكرِ إلى المَوضِعِ الذي فيه أَهلُ فضلون وأَقارِبُه لِيَحمِلوهُم إليه ويَنهَبوا مالَهم، فسَمِعَ فضلون الخَبَرَ، ففارَقَ مَوضِعَه مُستَخفِيًا فيمَن عنده من الجُنْدِ، وسار لِيمنَع عن أَهلِه، فاستَقبَلَتهُ طلائِعُ نِظامِ المُلْكِ، فخافَهُم فتَفَرَّقَ مَن معه، واختَفَى في نَباتِ الأَرضِ، فوَقعَ فيه بَعضُ العَسكرِ، فأَخذَه أَسيرًا، وحَملَه إلى نِظامِ المُلْكِ، فأَخَذَهُ وسارَ به إلى السُّلطانِ فأَمَّنَهُ وأَطلَقَهُ.
لمَّا جُرِحَ السُّلطانُ ألب أرسلان أَوصَى لابنِه ملكشاه، وكان معه، وأَمرَ أن يَحلِف له العَسكرُ، فحَلَفوا جَميعُهم، وكان المُتَوَلِّي للأَمرِ في ذلك نِظامُ المُلْكِ، وأَرسلَ ملكشاه إلى بغداد يَطلُب الخُطبةَ له، فخُطِبَ له على مَنابِرِها، وأَوصَى ألب أرسلان ابنَه ملكشاه أيضًا أن يُعطِي أَخاهُ قاروت بك بن داود أَعمالَ فارس وكرمان، وشَيئًا عَيَّنَهُ من المالِ، وأن يُزَوَّجَ بِزَوجَتِه، وكان قاروت بك بكرمان، وأَوصَى أن يُعطَى ابنَه إياز بن ألب أرسلان ما كان لأَبيهِ داودَ، وهو خمسمائة ألف دِينارٍ، وقال: كلُّ مَن لم يَرضَ بما أَوصَيتُ له فقاتِلُوهُ، واستَعينوا بما جَعلتُه له على حَربِه، وعاد ملكشاه من بِلادِ ما وراءَ النَّهرِ، فعَبرَ العَسكرُ الذي قَطعَ النَّهرَ في نَيِّفٍ وعشرين يومًا في ثلاثة أيامٍ، وقام بوِزارَةِ ملكشاه نِظامُ المُلْكِ، وزاد الأَجنادَ في مَعايِشِهم سبعَ مائةِ ألفِ دِينارٍ، وعادوا إلى خُراسان، وقَصَدوا نَيسابور، وراسَلَ ملكشاه جَماعةَ المُلوكِ أَصحابَ الأَطرافِ يَدعوهُم إلى الخُطبَةِ له والانقِيادِ إليه، وأَقامَ إياز أرسلان بِبَلخ وسار السُّلطانُ ملكشاه في عَساكرِه من نَيسابور إلى الرَّيِّ.
في أيامِ السُّلطانِ ملكشاه، فإنه اجتَمعَ منهم ثمانية عشر رجلًا، فصَلُّوا صلاةَ العِيدِ في ساوة، ففَطَنَ بهم الشِّحْنَةُ –المسؤول عن ضبط أمن ساوة-، فأَخَذَهم وحَبَسَهم، ثم سُئِلَ فيهم فأَطلَقَهم، فهذا أَوَّلُ اجتِماعٍ كان لهم، ثم إنهم دَعوا مُؤذِّنًا من أَهلِ ساوة كان مُقيمًا بأصبهان، فلم يُجِبهُم إلى دَعوَتِهم، فخافوه أن يَنِمَّ عليهم، فقَتَلوه، فهو أَوَّلُ قَتيلٍ لهم، وأَوَّلُ دَمٍ أَراقوهُ، فبَلغَ خَبرُه إلى نِظامِ المُلْكِ، فأَمَرَ بأَخْذِ مَن يُتَّهَم بِقَتلِه، فوَقعَت التُّهمَةُ على نَجَّارٍ اسمُه طاهِر، فقُتِلَ، ومُثِّلَ به، وجَرُّوا بِرِجْلِه في الأَسواقِ، فهو أَوَّلُ قَتيلٍ منهم، وأَوَّلُ مَوضِعٍ غَلَبوا عليه وتَحصَّنوا به بَلدٌ عند قاين، كان مُتَقَدِّمُه على مَذهَبِهم، فاجتَمَعوا عنده، وُقُووا به، فتَجَرَّدَ للانتِقامِ منهم أبو القاسم مَسعودُ بنُ محمدٍ الخجنديُّ، الفَقيهُ الشافعيُّ، وجَمَعَ الجَمَّ الغَفيرَ بالأَسلِحَةِ، وأَمَرَ بحَفْرِ أخاديد، وأَوْقَدَ فيها النِّيرانَ، وجَعلَ العامَّةَ يَأتون بالباطِنيَّة أَفواجًا ومُنفَرِدين، فيُلقَونَ في النارِ، وجَعَلوا إنسانًا على أخاديد النِّيران وسَمَّوهُ مالِكًا، فقَتَلوا منهم خَلْقًا كَثيرًا.
								 لَمَّا رحَلَ صَلاحُ الدين من حلب، قصدَ بلادَ الإسماعيليَّة في مصياف؛ ليقاتِلَهم بما فعلوه من الوثوبِ عليه وإرادة قتلِه، وحصر قلعةَ مصياف، وهي أعظمُ حصونِهم، وأحصَنُ قلاعِهم، فنصَبَ عليها المجانيقَ، وضيَّقَ على مَن بها، فنَهَب بلَدَهم وخَرَّبه وأحرَقَه، فقَتَل وسبى وحرَّق، وأخذ أبقارَهم، ولم يزَلْ كذلك، فأرسل سنان مُقَدَّم الإسماعيلية إلى شهابِ الدين الحارمي، صاحِبِ حماة، وهو ابنُ خال صلاح الدين، يسألُه أن يِدخُلَ بينهم ويُصلِحَ الحال ويَشفَعَ فيهم، ويقول له: إن لم تفعَلْ قتلناك وجميعَ أهلِ صلاح الدين وأمراءَه، فحضر شهابُ الدين عند صلاح الدين وشَفَع فيهم وسأل الصفحَ عنهم، فأجابه إلى ذلك، وصالَحَهم، ورحل عنهم، وكان عسكَرُه قد مَلُّوا من طول الحَربِ، وقد امتلأت أيديهم من غنائِمِ عسكَرِ الموصل، ونَهْب بلدِ الإسماعيليَّة، فطلبوا العودَ إلى بلادهم للراحة، فأَذِنَ لهم، وسار هو إلى مصر مع عسكَرِها، لأنَّه قد طال بُعدُه عنها، ولم يمكِنْه المضيُّ إليها فيما تقدَّمَ؛ خوفًا على بلاد الشام؛ فلما انهزم سيفُ الدين، وحَصَر هو حلب، ومَلَك بلادها، واصطلحوا، أمِن على البلاد، فسار إلى مصر.
 			
هو المَلِكُ رُكن الدين سليمان بن قلج أرسلان بن مسعود بن قلج أرسلان بن سليمان بن قتلمش بن سلجوق، صاحب ديار الروم، ما بين ملطية وقونية، وكان موته بمرض القولنج في سبعة أيام، وكان قبل مرضه بخمسة أيام قد غدر بأخيه صاحب أنكورية (أنقرة) وهي مدينة منيعة، وكان مُشاقًّا لركن الدين، فحصَرَه عِدَّة سنين حتى ضَعُفَ وقَلَّت الأقوات عنده، فأذعن بالتسليمِ على عِوَضٍ يأخذه، فعَوَّضَه قلعة في أطراف بلده وحَلَفَ له عليها، فنزل أخوه عن مدينة أنقرة، وسَلَّمَها، ومعه ولدان له، فوضع ركن الدين عليه مَن أخَذَه، وأخذ أولادَه معه، فقَتَلَه، فلم يمضِ غيرُ خمسة أيام حتى أصابه القولنج، فمات في سادس ذي القعدة، واجتمع الناس على ولده قلج أرسلان، وكان صغيرًا، فبَقِيَ في الملك إلى بعض سنة إحدى وستمائة، وأُخِذَ منه، وكان ركنُ الدين شديدًا على الأعداءِ، قيِّمًا بأمرِ المُلك، إلَّا أنه فاسِدُ الاعتقاد. قال ابن كثير: "المَلِك ركن الدين بن قلج أرسلان، كان يُنسَبُ إلى اعتقاد الفلاسفة، وكان كهفًا لِمَن يُنسَبُ إلى ذلك، وملجأً لهم"