هو الأمير أبو الليث نصر بن سيار المروزي, نائب مَرْوان بن محمَّد صاحب خراسان, خرج عليه أبو مسلم الخرساني صاحب الدعوة العباسية، وحاربه, فعجز عنه نصر, واستصرخ بمَرْوان غير مرة لكن مَرْوان عجز نجدته لاشتغاله باختلال أمر أذربيجان والجزيرة, فتقهقر نصر, وجاءه الموت على حاجة, فتُوفِّي بساوة, وقد ولي إمرة خراسان عشر سنين. وكان من رجال الدهر سؤددا وكفاءة.
استولى أهلُ الربض الهاربين من الأندلُسِ على الإسكندرية، فقام عبدُالله بن طاهر أميرُ مِصرَ بمحاصَرتِهم فأعطاهم الأمانَ بشَرطِ الرحيلِ إلى جزيرة كريت، فذهبوا واستولَوا على جزيرةِ كريت التي كانت في أيدي البيزنطيِّينَ وجعلوا عليهم واليًا هو أبو حفصٍ عمَرُ البلوطي، وأسَّسوا قاعدةً لهم بالجزيرةِ وأحاطوها بخندقٍ كبيرٍ، فأصبحت تُعرَفُ باسم الخندق، والتي تُعرَفُ كذلك بهراقليون، وبقيت هذه الجزيرةُ بأيدي المسلمين إلى سنة 350هـ
عندما تناهى المنصورُ بن أبي عامر في هذا الوقتِ على الاقتدار، والنَّصر على ملوك النصارى، سما إلى مدينة شنت ياقوب قاصية غلبسية، وأعظَمِ مَشاهِدِ النَّصارى الكائنةِ ببلاد الأندلُس وما يتَّصِلُ بها من الأرضِ الكبيرة. وكانت كَنيستُها عندهم بمنزلةِ الكَعبةِ عند المُسلِمينَ، فبِها يحلِفونَ وإليها يَحُجُّونَ مِن أقصى بلاد رومة وما وراءها، ويَزعُمونَ أنَّ القبر المزوَّرَ فيها قبر ياقوب أحد الحواريِّين الاثني عشر, ولم يطمَعْ أحدٌ من ملوك الإسلام في قَصْدِها قبل المنصور، ولا الوصول إليها؛ لصُعوبةِ مَدخَلِها وخشونةِ مكانِها، وبُعدِ شُقَّتِها, فخرج المنصورُ إليها من قرطبة غازيًا بالصائفة يومَ السبت لسِتٍّ بَقِينَ مِن جمادى الآخرة سنة 387، وهي غزوته الثامنة والأربعون- تجاوزت غزوات المنصورِ بنِ أبي عامر لنصارى الأندلُس أكثَرَ من خمسين غزوة مُدَّةَ حُكمِه نيِّفًا وعشرين سنة، انتصر فيها كلِّها- وكان المنصور قد أنشأ أُسطولًا كبيرًا في ساحل غرب الأندلس، وجهَّزه برِجالِه البَحريِّين وصنوف المترجِّلين، وحُمِلَت الأقواتُ والأطعِمةُ والعُدَد والأسلحة؛ استظهارًا على نفوذ العزيمة، إلى أن خرج بموضع برتقال على نهر دويره، فدخل في النهر إلى المكان الذي عَمِلَ المنصور على العبور منه، فعقد هناك من هذا الأسطول جسرًا بقرب الحصن الذي هناك، ووزع المنصور ما كان فيه من الميرة على الجُندِ، فتوسَّعوا في التزوُّدِ منه إلى أرض العدو, ثمَّ نهض يريد شنت ياقوب، فقطع أرضَينَ متباعدة الأقطار، وقطَعَ بالعبور عِدَّة أنهار كبار وخلجان يمدُّها البحر الأخضر, ثم أفضى إلى جبلٍ شامخ شديدِ الوعورة، لا مسلَكَ فيه ولا طريقَ، لم تهتَدِ الأدِلَّاء إلى سواه، فقَدَّمَ المنصورُ الفَعَلة بالحديد لِتَوسعةِ شِعابِه وتسهيلِ مَسالِكِه، فقطعه العسكَرُ وعبروا واديَ منية، وانبسط المسلمون بعد ذلك في بسائِطَ عريضة وأرضين أريضة، وانتهت مغيرتُهم إلى دير قسطان على البحر المحيط، وفتحوا حِصنَ شنت بلايه الذي استعصى على طارق بن زياد وموسى بن نُصير في حينِه؛ لحصانتِه، وغَنِموه، وعَبَروا سياخه إلى جزيرة من البحر المحيط لجأ إليها خلقٌ عظيم من أهل تلك النواحي، فسَبَوا مَن فيها ممَّن لجأ إليها، وانتهى العسكَرُ إلى جبل مراسية المتَّصِل من أكثَرِ جِهاتِه بالبحر المحيط، فتخَلَّلوا أقطارَه، واستخرجوا من كان فيه، وحازوا غنائِمَه, ثمَّ انتَهَوا إلى مدينة شنت ياقوب البائسة، وذلك يومَ الأربعاء للَيلتينِ خلتا من شعبان، فوجدها المسلمون خاليةً مِن أهلها، فحازوا غنائِمَها، وهَدَموا مصانِعَها وأسوارَها وكنيسَتَها، وعَفوا آثارَها, ووكل المنصورُ بقَبرِ ياقوب من يحفَظُه ويدفَعُ الأذى عنه، وكانت مصانِعُها بديعةً مُحكَمةً، فغودرت هشيمًا، كأنْ لم تغْنَ بالأمسِ، وانتشرت بعوثُه بعد ذلك سائر البسائط، وانتهت إلى جزيرةِ شنت مانكش مُنقطَعَ هذا الصِّقعِ على البحر المحيط، وهي غايةٌ لم يبلُغْها قبلهم مُسلِمٌ، ولا وَطِئَتها لغير أهلها قَدَمٌ، فلم يكُنْ بعدها للخَيلِ مجالٌ، ولا وراءها انتقال. وانكفأ المنصورُ عن باب شنت ياقوب، ولم يجِد المنصور بشنت ياقوب إلَّا شيخًا من الرَّهبان جالسًا على القبر، فسأله عن مقامِه، فقال: (أوانس يعقوب) فأمر المنصورُ بالكَفِّ عنه. قال الفتح من خاقان: "تمرس المنصور ببلاد الشِّركِ أعظَمَ تَمَرُّس، ومحا من طواغيتِها كُلَّ تَعَجرُف وتغَطرُس؛ وغادرهم صرعى البِقاع، وترَكَهم أذَلَّ مِن وَتدٍ بِقاع، ووالى على بلادهم الوقائع، وسَدَّد إلى أكبادهم سِهامَ الفجائع، وأغصَّ بالحِمام أرواحَهم، ونغَّصَ بتلك الآلامِ بُكورَهم ورَواحَهم ".
لمَّا دخَل المسلمون المدائنَ وفتحوها واتَّخذَ سعدُ بن أبي وَقَّاص قَصرَها مَسكنًا جعَل إيوانَها المشهورَ مَسجدًا ومُصَلَّى وتَلَا قولَه تعالى: {كَمْ تَرَكُوا مِنْ جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ (25) وَزُرُوعٍ وَمَقَامٍ كَرِيمٍ (26) وَنَعْمَةٍ كَانُوا فِيهَا فَاكِهِينَ (27) كَذَلِكَ وَأَوْرَثْنَاهَا قَوْمًا آخَرِينَ (28) فَمَا بَكَتْ عَلَيْهِمُ السَّمَاءُ وَالْأَرْضُ وَمَا كَانُوا مُنْظَرِينَ} [الدخان: 25 - 29] ثمَّ صلَّى الجُمُعَةَ في الإيوانِ.
كَتَبَ الوَزيرُ أبو شُجاعٍ محمدُ بن حُسينٍ الروذراوريُّ إلى الخَليفةِ يُعرِّفهُ باستِطالَةِ أَهلِ الذِّمَّةِ على المسلمين، وأن الواجِبَ تَمييزُهم عنهم؛ فأَمرَهُ الخَليفةُ أن يَفعلَ ما يَراهُ. فأَلزَمَهم الوَزيرُ لُبْسَ الغيارِ والزَّنانيرِ وتَعليقَ الدَّراهِم الرصاص في أَعناقِهم، مَكتوبٌ على الدَّراهِم "ذِمِّي" وتُجعَل هذه الدَّراهِم أيضًا في أَعناقِ نِسائِهم في الحَمَّاماتِ ليُعرَفنَ بها، وأن يَلبَسنَ الخِفافَ فَرْدًا أَسوَد وفَرْدًا أَحمَر، وجُلْجُلًا في أَرجُلِهِنَّ. فذُلُّوا وانقَمَعوا بذلك. وأَسلَم حينئذ عَدَدٌ منهم.
كانت سرقسطة بيد بني هود، وكان أميرها عبد الملك بن أحمد الثاني، وفي هذه السنة قام ألفونسو الأول ملك قشتالة الملقب بالمحارب، قام بالاستيلاء على سرقسطة وأخذها من أيدي بني هود، واتخذها عاصمة لمملكته وحوَّل مسجدها إلى كنيسة، فكان هذا السقوط وسقوط طليطلة من قبلها سببًا في انهيار أكبر معاقل المسلمين في الأندلس، وكان من أكبر أسباب ضعف قوة المرابطين فيها وخاصة بعد أن انضاف لهذا سقوط قلعة أيوب بيد النصارى.
استولى البريطانيون على مدينة "كانو" في شمالِ نيجيريا، وكان مُعظَمُ جنوب نيجيريا قد خضَعَ للحماية البريطانية منذ عام 1900م. كانت مدينة "كانو" تحتَ حُكم أميرٍ مُسلمٍ، وكانت مركزًا تجاريًّا وعسكريًّا مهمًّا في شمالِ نيجيريا. وهاجر عددٌ غير قليل من مواطنيها نتيجةً لهذا الغزو الاستعماري، من دارِ الكُفرِ إلى دار الإسلامِ (الحجاز والسودان) وتحمِلُ الولايةُ التي توجَدُ فيها هذه المدينةُ (وهي عاصمتها) هذا الاسم، ولاية "كانو"، ويبلغ تَعدادُ سكَّانِها حوالي (15) مليون نسمة.
هي هدى محمد سلطان المعروفة بهدى شعراوي؛ نِسبةً إلى لَقَبِ زَوجِها علي شعراوي على الطريقة الغربية؛ ولدت في المنيا من مصر الوسطى ونشأت في القاهرة، وكان أبوها رئيس أول مجلس نيابي في مصر، وهي التي خَرَجت بالمظاهرة النسائية سافرةً وحَرَقت حجابَها فتَبِعَها بعضُ النساء على ذلك! فكانت أولَ امرأةٍ مُسلِمةٍ في مصرَ تخلَعُ الحجابَ! مات زوجُها تاركًا لها ثروةً هائلةً كانت سبب بطرها، ألَّفَت جمعيةَ الاتحاد النسائي بمصر، وتوفِّيَت في القاهرة.
هو سُليمان بن عبدِ الملك بن مَرْوان بن الحَكَم بن أبي العاص بن أُمَيَّة بن عبدِ شَمس القُرشيُّ الأُمَويُّ، أبو أَيُّوب. كان مَولِده بالمدينة في بني جَذيلَة، وهو الخَليفَة الأُمَوي السَّابِع، ويُعَدُّ مِن خُلفاء بني أُمَيَّة الأقوِياء, وُلِدَ بدِمشق عام 54هـ ووَلِيَ الخِلافَة بعدَ أَخيه الوَليد عام 96هـ. ومُدَّة خِلافَتِه لا تَتَجاوز السَّنَتيْنِ وسَبعَة شُهور. كان النَّاس في دِمشق يُسَمُّونه مُفتاحَ الخَير، ذَهَبَ عنهم الحَجَّاجُ، فوَلِيَ سُليمان، أَحَبَّهُ النَّاسُ وتباركوا به، أَشاعَ العَدلَ، وأَنصفَ كُلَّ مَن وَقَف بِبابِه، كان فَصيحًا, ويَتَّصِفُ بالجَمالِ والوَقارِ، عَظيم الخِلْقَة، طَويل القامَة، أَبيض الوَجْه، مَقْرون الحاجِبَيْنِ، فصيحًا بليغًا، عَمِلَ في فَترةِ تَوْلِيَةِ الخِلافَة كُلَّ ما فيه مَصلحَة النَّاس، وحافَظَ على اتِّساع وقُوَّة الدَّولة الأُمويَّة، واهْتَمَّ بِكُلِّ ما يَعْنِي النَّاس، أَطلَق الأَسْرَى، وأَخلَى السُّجونَ، وأَحسَن مُعاملَة الجَميعَ، فكَسَب مَحَبَّتَهم، وكان مِن أَعدَل خُلفاء بني أُمَيَّة والمسلمين، واسْتَخْلَف عُمَرَ بن عبدِ العزيز مِن بَعدِه. مُحِبًّا للغَزْوِ، فَتَحَ في عَهدِه جُرجان وطَبَرِسْتان، وجَهَّزَ جَيشًا كَبيرًا مِن سَواحِل الشَّامِ بقِيادَة أَخيهِ مَسلمَة ومعه ابنُه داود، وسَيَّرَهُ في السُّفُن لِحِصارِ القُسطنطينيَّة، وسار سُليمان بن عبدِ الملك مع الحَمْلَة حتَّى بَلَغ دابِق، وعَزَم أن لا يَعود منها حتَّى تُفتَح القُسطنطينيَّة أو يموت، فمات مُرابِطًا في دابِق شَمالَ مَدينَة حَلَب.
سار أبو طاهر سليمان القرمطيُّ إلى الهَبِير في عسكرٍ عظيم ليلقى الحاجَّ في رجوعِهم من مكَّة، فأوقع بقافلةٍ تقدَّمت معظمَ الحاجِّ، وكان فيها خلقٌ كثيرٌ مِن أهل بغدادَ وغيرهم، فنهَبَهم، واتَّصل الخبر بباقي الحاجِّ وهم بفَيد، فأقاموا بها حتَّى فني زادُهم، فارتحلوا مسرعينَ، وكان أبو الهيجاء بن حَمدان قد أشار عليهم بالعَودِ إلى وادي القُرى، وأنَّهم لا يقيمون بفَيد، فاستطالوا الطريقَ، ولم يَقبَلوا منه، فلمَّا فني زادُهم ساروا على طريقِ الكوفة، فأوقع بهم القرامِطة، وأخذوهم، وأسروا أبا الهيجاءِ، وأخذ أبو طاهر جِمال الحُجَّاج جميعها، وما أراد من الأمتعةِ والأموالِ والنِّساء والصِّبيان، وعاد إلى هَجَر، وترك الحاجَّ في مواضعهم، فمات أكثَرُهم جوعًا وعطشًا، ومن حرِّ الشمس، وكان عُمْرُ أبي طاهرٍ حينئذ سبعَ عشرة سنة، وانقلبت بغداد، واجتمع حُرَم المأخوذين إلى حُرَم المنكوبينَ الذين نكبهم ابن الفرات، وجعلن ينادين: القرمطيُّ الصغيرُ أبو طاهر قتل المسلمينَ في طريق مكَّة، والقرمطيُّ الكبير ابن الفرات قد قتل المسلمين ببغداد، وكانت صورة فظيعةً شنيعة، وكسر العامَّةُ منابِرَ الجوامع، وسوَّدوا المحاريبَ يوم الجمعة لستٍّ خلون من صفر، وتقدَّم المقتَدِر إلى ياقوت بالمسيرِ إلى الكوفة ليمنَعَها من القرامطة، فخرج في جمعٍ كثير، ومعه ولداه المظفَّر ومحمَّد، فأنفق على ذلك العسكرِ مالٌ عظيم، وورد الخبرُ بعود القرامطة، فعطل مسير ياقوت، ووصل مؤنسٌ المظفَّر إلى بغداد.
دخل مَلِكُ الرُّومِ الشَّامَ، ولم يمنَعْه أحدٌ ولا قاتَلَه، فسار في البلادِ إلى طرابلس وأحرق بلدها، وحصَرَ قلعةَ عرقة، فمَلَكها ونَهَبها وسَبى من فيها، وكان صاحِبُ طرابلس قد أخرجه أهلُها لشِدَّةِ ظُلمِه، فقصد عرقة، فأخذه الرومُ وجميعَ مالِه، وكان كثيرًا، وقصَدَ مَلِكُ الروم حمصَ، وكان أهلُها قد انتقلوا عنها وأخلَوْها، فأحرقها ورجعَ إلى بلدانِ السَّاحِلِ فأتى عليها نهبًا وتخريبًا، ومَلَك ثمانية عشر منبرًا، فأمَّا القرى فكثيرٌ لا يُحصى، وأقام في الشام شهرين يقصِدُ أيَّ موضعٍ شاء، ويخَرِّبُ ما شاء، ولا يمنَعُه أحدٌ، إلَّا أنَّ بعضَ العَرَبِ كانوا يُغيرونَ على أطرافِهم، فأتاه جماعةٌ منهم وتنصَّروا وكادوا المُسلِمينَ مِن العَرَبِ وغَيرِهم، وصار للرُّومِ الهَيبةُ العظيمةُ في قلوبِ المُسلِمينَ، فأراد أن يقصِدَ أنطاكية وحلب، فبلَغَه أنَّ أهلها قد أعدُّوا الذخائِرَ والسِّلاحَ وما يحتاجون إليه، فامتنع من ذلك وعاد ومعه من السبيِ نحوُ مائة ألف رأسٍ، ولم يأخُذْ إلَّا الصِّبيان، والصبايا، والشبان، فأمَّا الكُهولُ، والشُّيوخُ والعجائز، فمنهم من قتَلَه، ومنهم من أطلَقَه، وكان بحلَبَ قرعويه، غلامُ سيف الدولة بن حمدان، فصانَعَ الرُّومَ عليها، فعادُوا إلى بلادهم، فقيل كان سببُ عَودِهم كثرةَ الأمراضِ والموت، وقيل ضَجِروا مِن طُولِ السَّفَر والغَيبةِ عن بلادهم، فعادوا على عزمِ العود، وسيَّرَ مَلِكُ الروم سريَّةً كثيرةً إلى الجزيرة، فبلغوا كفر توثا، ونهبوا وسَبَوا وأحرقوا وعادوا، ولم يكُنْ من أبي تغلب بن حمدان في ذلك نكيرٌ ولا أثَرٌ.
أغار مَلِكُ الرومِ على الرَّها ونواحيها، وسار في ديارِ الجزيرة الفراتية حتى بلغوا نصيبين، فغَنِموا، وسَبَوا، وأحرقوا وخرَّبوا البلاد، وفعلوا مثلَ ذلك بديارِ بكر، ولم يكُنْ من أبي تَغلِبَ بنِ حمدان في ذلك حركةٌ، ولا سعيَ في دَفعِه، لكنَّه حمل إليه مالًا كَفَّه به عن نفسِه، فسار جماعةٌ مِن أهل تلك البلادِ إلى بغداد مستنفرينَ، وقاموا في الجوامِعِ والمشاهِدِ، واستنفروا المسلمينَ، وذكروا ما فعَلَه الرومُ مِن النَّهب والقتل، والأسْرِ والسبيِ، فاستعظمه النَّاسُ، وخَوَّفَهم أهل الجزيرة من انفتاحِ الطَّريقِ وطَمَعِ الرُّومِ، وأنَّهم لا مانِعَ لهم عندهم، فاجتمع معهم أهلُ بغداد، وقصدوا دارَ الخليفة المطيع لله، وأرادوا الهُجومَ عليه، فمُنِعوا من ذلك، وأغلِقَت الأبوابُ، وكان بختيار عِزُّ الدولة بن معز البويهي حينئذٍ يتصَيَّدُ بنواحي الكوفة، فخرج إليه وجوهُ أهلِ بغداد مُستغيثين، مُنكِرينَ عليه اشتغالَه بالصَّيدِ، وقتالَ عِمرانَ بنِ شاهين وهو مُسلِمٌ, وتَركَ جِهادِ الروم، ومَنْعَهم عن بلادِ الإسلامِ حتى توغَّلوها، فوعدهم التجهُّزَ للغزاة، وأرسل إلى الحاجِبِ سبكتكين يأمُرُه بالتجهُّزِ للغَزوِ وأن يستنفِرَ العامَّةَ، ففعل سبكتكين ذلك، فاجتمَعَ مِن العامَّةِ عدَدٌ كثير لا يُحصَونَ كَثرةً، وكتب بختيار إلى أبي تغلِبَ بن حمدان، صاحِبِ الموصِل، يأمُرُه بإعدادِ الميرة والعُلوفات، ويُعَرِّفُه عَزْمَه على الغزاة، فأجابه بإظهارِ الفَرَحِ، وإعدادِ ما طلب منه. ولَمَّا تَجهَّزَت العامَّةُ للغَزاةِ، وقعت بينهم فتنةٌ شديدةٌ بين الرَّوافِضِ وأهلِ السُّنَّة، ولم تتِمَّ الغزوةُ.
حدثت وقعة بين طغتكين أتابك دمشق -أتابك يعني الأمير الوالد- وبين قمص -كبير القساوسة- كبير من قمامصة الفرنج، وسبب ذلك أنه تكررت الحروب بين عسكر دمشق وبغدوين، فتارة لهؤلاء وتارة لهؤلاء، ففي آخر الأمر بنى بغدوين حصنًا بينه وبين دمشق نحو يومين، فخاف طغتكين من عاقبة ذلك، وما يحدث به من الضرر؛ فجمع عسكره وخرج إلى مقاتلتهم، فسار بغدوين ملك القدس وعكا وغيرهما، إلى هذا القمص ليعاضده ويساعده على المسلمين، فعرَّفه القمص غناه عنه، وأنه قادر على مقارعة المسلمين إن قاتلوه، فعاد بغدوين إلى عكا، وتقدم طغتكين إلى الفرنج، واقتتلوا واشتد القتال، فانهزم أميران من عسكر دمشق، فتبعهما طغتكين وقتلهما، وانهزم الفرنج إلى حصنهم فاحتموا به، فقال طغتكين: مَن أحسنَ قتالَهم وطلب مني أمرًا فعلتُه معه، ومن أتاني بحجر من حجارة الحصن أعطيتُه خمسة دنانير، فبذل الرجَّالة نفوسهم، وصعدوا إلى الحصن وخربوه، وحملوا حجارته إلى طغتكين، فوفى لهم بما وعدهم، وأمر بإلقاء الحجارة في الوادي، وأسَروا من بالحصن، فأمر بهم فقُتلوا كلُّهم، واستبقى الفرسان أسراءَ، وكانوا مائتي فارس، ولم ينج ممَّن كان في الحصن إلا القليل، وعاد طغتكين إلى دمشق منصورًا، فزين البلد أربعة أيام وخرج منها إلى رفنية، وهو من حصون الشام، وقد تغلب عليه الفرنج، وصاحبه ابن أخت صنجيل المقيم على حصار طرابلس، فحصره طغتكين، وملكه، وقتل به خمسمائة رجل من الفرنج.
قَصَد نائِبُ حَلَب سيس لطَلَب الحملِ، وقد كان تكفور صاحِبُها قد كتب في الصالحِ إسماعيل بأنَّ بلادَه خَرِبَت، فسُومِحَ بنِصفِ الخراج، فلمَّا وصل إليه قاصِدُ نائب حلب جَهَّز الحمل، وحضر كبيرُ دولته ليحَلِّفوه أنَّه ما بقى أسيرٌ مِن المسلمين في مملكتِه، كما جَرَت العادة في كل سنةٍ بتَحليفِه على ذلك، وكان في أيديهم عِدَّةٌ من المسلمين أسرى، فبَيَّتَ مع أصحابِه قَتْلَهم في الليلةِ التي تكونُ خلفه في صبيحتِها، فقَتَل كُلُّ أحدٍ أسيرَه في أوَّلِ اللَّيلِ، فما هو إلَّا أن مضى ثلثا الليلِ فخرجت في الثلث الأخير من تلك الليلة ريحٌ سوادء، معها رعدٌ وبَرقٌ أرعَبَ القلوب، وكان من جملةِ الأسرى عجوزٌ من أهل حلب في أسرِ المنجنيقيِّ، ذبَحَها عند المنجنيق، وهي تقول: " اللهُمَّ خُذِ الحَقَّ منهم " فقام المنجنيقيُّ يشرَبُ الخَمرَ مع أهله بعد ذَبحِها، حتى غلَبَهم السُّكرُ وغابوا عن حِسِّهم، فسَقَطَت الشمعةُ وأحرَقَت ما حولها، حتى هَبَّت الريحُ، فتطاير شَرَرُ ما احترق من البيت حتى اشتعَلَ بما فيه، وتعلقت النيران مما حوله حتى بلَغَت مَوضِعَ تكفور، ففَرَّ بنفسه، واستمَرَّت النار مدة اثني عشَرَ يومًا، فاحترق أكثَرُ القلعة، وتلف المنجنيقُ كُلُّه بالنار، وكان هو حصن سيس، ولم يُعمَلْ مِثلُه، واحترق المنجنيقي وأولادُه الستَّة وزوجته، واثنا عشر رجلًا من أقاربه، وخَرِبَت سيس، وهُدِّمَ سُورُها ومساكِنُها، وهلك كثيرٌ مِن أهلِها، وعَجَز تكفور عن بنائِها.
لما كان النصف من شهر ربيع الثاني من هذا العام خرج ملك قشتالة إلى أرض المسلمين قاصدًا مدينة بلش مالقة، فلما سمع ملك غرناطة محمد الزغل بنزوله على مدينة بلش ندب أهل غرناطة ومن أطاعه من أهل تلك الجهات وترك طائفةً تقاتل أهل البيازين، وخرج يريد نصرة أهل بلش، وذلك يوم السبت الرابع والعشرين لربيع الثاني من عام التاريخ، فلما سار قريبًا منها وجد العدو قد سبقه بالنزول عليها، ودار بها من كل الجهات فقصد الأمير حصن منتميس فنزله بحملته وأقام به بعض الأيام فطلبه الناس أن يسير بهم نحو العدو للقائه فتوجه بهم إليه فرتبهم، وكان ذلك عشية النهار فدخل عليهم الليل بالطريق فبينما هم سائرون إذ قامت كرَّة ودهشة فانهزموا في ظلام الليل من غير لقاء عدو ولا قتال، وكانت على ذمة أمير غرناطة فنزلها فرجعوا منهزمين مفلولين إلى محلتهم، فباتوا ليلتهم تلك وفي الغد أتاهم الخبر أن العدو استخلص مدينة بلش فسُقط في أيديهم وانهزموا من غير أن يلقوا عدوًّا، ورجع كل واحد منهم إلى وطنه, ولما استولى العدو على مدينة بلش دخلت في ذمته جميع القرى التي تلي بلش وقرى جبل منتميس وحصن قمارش، وخرج أهل بلش من بلدهم مؤمَّنين وحملوا ما قدروا عليه، وذلك بعد قتال شديد وحرب عظيمة، فمنهم من جوزه العدو إلى أرض العدوة، ومنهم من أقام في بعض تلك القرى، ومنهم من سار إلى أرض المسلمين التي بقيت بالأندلس.