اشتدَّ الغلاء بأنطاكية وحلب؛ لأن الزرع عرق ولحقه هواء عند إدراكه فأتلفه، وهرب الفلاحون للخوف، واستدعى أهل حلب ابن قراجا من حمص، فرتب الأمور بها، وحصنها، وسار إلى حلب، ونزل في القصر خوفًا من إيلغازي لِما كان بينهما. وخرج أتابك طغتكين من دمشق إلى حمص، ونهب أعمالها وشعثها، وأقام عليها مدة، وعاد إلى دمشق لحركة الفرنج. وخرجت قافلة من حلب إلى دمشق فيها تجار وغيرهم، وحملوا ذخائرهم وأموالهم لما قد أشرف عليه أهل حلب. فلما وصلوا إلى القبة نزل الفرنج إليه، وأخذوا منهم المكس، ثم عادوا وقبضوهم وما معهم بأسرهم، ورفعوهم إلى القبة، وحملوا الرجال والنساء بعد ذلك إلى أفامية، ومعرة النعمان، وحبسوهم ليُقِروا عليهم مالًا؛ فراسلهم أبو المعالي بن الملحى ورغَّبهم في البقاء على الهدنة وألَّا ينقضوا العهد، وحمل إلى صاحب أنطاكية مالًا وهدية، فردَّ عليهم الأحمال والأثقال وغير ذلك، ولم يُعدَم منه شيء. وقَوِيَ طمع الفرنج في حلب؛ لعدم نجدتها، وضعفها، وغدروا ونقضوا الهدنة، فأغاروا على حلب، وأخذوا مالًا لا يحصيه إلا الله، فراسل أهل حلب أتابك طغتكين، فوعدهم بالإنجاد، فكسره جوسلين وعساكر الفرنج، وراسلوا صاحب الموصل وكان أمره مضطربًا بعد عوده من بغداد. ونزل الفرنج بعد عودهم من كسرة أتابك على عزاز، وضايقوها، وأشرفت حلب على الأخذ، وانقطعت قلوب أهلها؛ إذ لم يكن بقي لحلب معونة إلا من عزاز وبلدها وبقية بلد حلب في أيدي الفرنج، والشرقي خراب مجدب، والقوت في حلب قليل جدًّا، ومكوك الحنطة بدينار، وكان إذ ذاك لا يبلغ نصف مكوك بمكوك حلب الآن، وما سوى ذلك مناسب له.
لما فرغ عماد الدين زنكي من أمرِ البلاد الشامية، حلب وأعمالها، وما ملكه، وقرَّر قواعده؛ عاد إلى الموصل، وديار الجزيرة؛ ليستريح عسكره، ثم أمرهم بالتجهُّز للغَزاة، فتجهزوا وأعدُّوا واستعدوا، وعاد إلى الشام وقَصَد حلب، فقَوِيَ عَزمُه على قصد حصن الأثارب ومحاصرته؛ لشدة ضرره على المسلمين، وهذا الحصن بين حلب وبين أنطاكية، وكان مَن به من الفرنج يقاسمون حلب على جميع أعمالها الغربية، وكان أهل البلد معهم في ضرٍّ شديد وضيق كل يوم؛ قد أغاروا عليهم، ونهبوا أموالهم. فلما رأى زنكي هذه الحالَ صَمَّم العزمَ على حصر هذا الحصن، فسار إليه ونازله، فلما علمَ الفرنج بذلك جمعوا فارِسَهم وراجِلَهم، وعلموا أن هذه وقعة لها ما بعدها، فحشدوا وجمعوا ولم يتركوا من طاقتهم شيئًا إلا استنفدوه، فلما فرغوا من أمرهم ساروا نحوه، ثم ترك عماد الدين الحصن وتقدم إليهم، فالتقوا واصطفُّوا للقتال، وصبر كلُّ فريق لخصمه، واشتدَّ الأمر بينهم، ثم إن الله تعالى أنزل نصره على المسلمين فظفروا، وانهزم الفرنج أقبحَ هزيمة، ووقع كثيرٌ من فرسانهم في الأَسْر، وقُتِل منهم خلق كثير، فلما فرغ المسلمون من ظَفَرِهم عادوا إلى الحصن فتسلَّموه عَنوةً، وقتلوا وأسروا كل من فيه، وأخربه عماد الدين، وجعله دكًّا، ثم سار منه إلى قلعة حارم، وهي بالقرب من أنطاكية، فحصرها، وهي أيضًا للفرنج، فبذل له أهلها نصف دخل بلد حارم وهادنوه، فأجابهم إلى ذلك،وعاد عنهم وقد استقوى المسلمون بتلك الأعمال؛ قال ابن الأثير تعليقًا على انتصارات زنكي في حصن الأثارب وقلعة حارم: "وضعفت قُوى الكافرين، وعلموا أن البلاد قد جاءها ما لم يكن لهم في حساب، وصار قصاراهم حِفظَ ما بأيديهم بعد أن كانوا قد طَمِعوا في ملك الجميع".
هو المَلِكُ سَيفُ الإسلام أبو الفوارِسِ طغتكين بن أيوب بن شاذي بن مروان المنعوتُ بالملك العزيز ظهير الدين، صاحِب اليمن بزبيد، أخو صلاح الدين الأيوبي، لَمَّا ملك صلاحُ الدين الدِّيارَ المصريَّةَ سَيَّرَ أخاه شمسَ الدولة توران شاه إلى بلادِ اليمن، فمَلَكَها واستولى على كثيرٍ مِن بلادها، ورجع عنها، ثمَّ سَيَّرَ السلطان إليها بعد ذلك أخاه سيفَ الإسلام، وذلك في سنة 577, وكان رجلًا شجاعًا شديدَ السيرة، مُضَيِّقًا على رعيَّتِه، يشتري أموالَ التجار لنفسه ويبيعُها كيف شاء، وأراد مِلكَ مَكَّةَ، فأرسل الخليفةُ الناصر لدين الله إلى أخيه صلاح الدين في المعنى، فمَنَعَه من ذلك، وجمعَ مِن الأموال ما لا يحصى، حتى إنَّه مِن كثرته كان يَسبِكُ الذهب ويجعلُه كالطاحون ويدَّخِرُه، لما قدم للديارِ المصرية وسلطانها يومئذٍ ابنُ أخيه الملك العزيز عماد الدين عثمان بن السلطان صلاح الدين، ألزمه أربابُ ديوان الزكاة بدَفعِ الزكاة من المتاجِرِ التي وصلت بصُحبتِه، حارب الزيدية في اليمن، وبعد أعوامٍ أخَذَ صنعاء, وكانت دولتُه أربع عشرة سنة، ولَمَّا توفي مَلَكَ اليَمنَ بعده ابنُه المعز إسماعيل، وكان أهوج كثير التخليط، بحيث إنَّه ادَّعى أنه قُرَشيٌّ من بني أمية، وخَطَب لنفسه بالخلافة، وتلقَّبَ بالهادي، فلمَّا سَمِعَ عمُّه الملك العادل ذلك ساءه وأهمَّه، وكتب إليه يلومُه ويوبِّخُه، ويأمُرُه بالعود إلى نسَبِه الصحيح، وبتَرْك ما ارتكبه ممَّا يُضحِكُ الناس منه، فلم يلتَفِت إليه ولم يرجِعْ، وبقي كذلك، وحارب رأسَ الزيديَّة وهزمه، وأنشأ بزبيد مدرسة، ولَمَّا أساء السيرة مع أجناده وأمرائه، وثَبَوا عليه فقتلوه، وملَّكوا عليهم بعده أميرًا من مماليك أبيه.
سار الملك المنصور صاحب حماة ومن معه، إلى حصن دير بساك ودخلوا الدربند، وقد بنى التكفور هيتوم بن قسطنطين بن باساك ملك الأرمن على رؤوس الجبال أبراجًا وهو الذي تزهَّد فيما بعد، وترك المُلكَ لولده ليفون فاستعد ووقف في عسكره، فعندما التقى الفريقان أُسِرَ ليفون بن ملك سيس، وقُتِلَ أخوه وعمه، وانهزم عمه الآخر، وقتل ابنه الآخر، وتمزق الباقي من الملوك, وكانوا اثني عشر ملكًا وقُتِلَت أبطالهم وجنودهم، وركب العسكر أقفيتهم وهو يقتل ويأسر ويحرق، وأخذ العسكر قلعة حصينة للداوية، فقُتِلَت الرجال وسُبِيت النساءُ وفُرِّقَت على العسكر وحُرِقت القلعة بما فيها من الحواصل، ودخلوا سيس فأخربوها وجعلوا عاليها سافلها، وأقاموا أيامًا يحرقون ويقتلون ويأسرون، وسار الأمير أوغان إلى جهة الروم، والأمير قلاوون إلى المصيصة وأذنة وأياس وطرسوس، فقتلوا وأسروا وهَدَموا عِدَّةَ قلاع وحرقوا، هذا وصاحب حماة مقيم بسيس، ثم عادوا إليه وقد اجتمع معهم من الغنائم ما لا يعد ولا يحصى، وذلك أن أهل سيس كانوا أضرَّ شيء على المسلمين زمن التتار، لما أخذوا مدينة حلب وغيرها أسروا من نساء المسلمين وأطفالهم خلقًا كثيرًا، ثم كانوا بعد ذلك يغيرون على بلاد المسلمين في زمن هولاكو، فكبته الله وأهانه على يدي أنصار الإسلام، هو وأميره كتبغا، وكان أخذ سيس يوم الثلاثاء العشرين من ذي القعدة من هذه السنة، وطلب صاحب سيس أن يفادي ولده، فقال السلطان لا نفاديه إلا بأسير لنا عند التتار يقال له سنقر الأشقر، فذهب صاحب سيس إلى ملك التتار فتذلل له وتمسكن وخضع له، حتى أطلقه له، فلما وصل سنقر الأشقر إلى السلطان أطلق ابن صاحب سيس.
في يومِ الخَميسِ أول شعبان خُلِعَ السُّلطانُ المَلِكُ الأشرف علاء الدين كجك من السُّلطة، وكانت مدته خمسة أشهر وعشرة أيام لم يكُنْ له فيها أمرٌ ولا نهي، وتدبيرُ أمورِ الدَّولةِ كُلِّها إلى قوصون، وكان إذا حضرت العلائِمُ أعطِيَ السُّلطانُ قَلمًا في يده وجاء فقيهُه المغربيُّ الذي يقرئ أولادَ السلطان ويكتبُ العلامةَ والقَلمُ في يد السلطانِ علاء الدين، فلما استولى الأميرُ أيدغمش على الدَّولةِ بعد قوصون، وقَرَّر مع الأمراء خَلْعَ الأشرف كجك في يوم الخميس أوَّلَ شعبان، بعث الأميرُ جنكلي بن البابا، والأميرُ بيبرس الأحمدي، والأمير قماري أمير شكار إلى السُّلطانِ أحمد بن النَّاصِر محمد بن قلاوون بالكرك بكُتُب الأمراءِ يُخبِرونَه بما وقع، ويستدعونَه إلى تخت مُلكِه، فلمَّا كان يومُ الأربعاء سابع عشر رمضان قَدِمَ قاصِدُ السلطان إلى الأمير أيدغمش بأنَّ السلطان يأتي ليلًا من باب القرافة، وأمَرَه أن يفتح له بابَ السِّرِّ حتى يعبُرَ منه، ففتحه، وجلس أيدغمش وألطنبغا المارداني حتى مضى جانِبٌ من ليلة الخميس الثامن عشر منه، أقبل السُّلطانُ في نحو العشرةِ رجالٍ من أهل الكرك، وقد تلَثَّمَ وعليه ثيابٌ مُفَرَّجة، فتلَقَّوه وسلموا عليه، فلم يقِفْ معهم، وأخذ جماعَتَه ودخل بهم، ورجع الأمراءُ وهم يتعَجَّبون من أمرِه، وأصبحوا فدُقَّت البشائِرُ بالقلعة، وزُيِّنَت القاهرةُ ومصر، فلما كان يوم الاثنين عاشر شوال أُلبِسَ السلطان، وجلس على تخت الملك، وقد حضر الخليفةُ الحاكِمُ بأمرِ الله وقضاة مصر الأربعة، وقُضاة دمشق الأربعة، وجميع الأمراء والمقدمين، وعهد إليه الخليفة، وقَبَّل الأمراء الأرض على العادة.
بعد أن أصبح السلطان العزيز يوسف بن برسباي سلطانًا أصبح الأمير الكبير جقمق هو نظام الملك؛ فله الأمر والنهي، وبيده كل شيء، وليس للسلطان سوى الاسم، وكان في هذه السنة حصلت فتن بين المماليك الأشرفية التابعين للسلطان، وبين الأمير جقمق ومن معه من الأمراء والمماليك الظاهرية والمؤيدية، فعزز الأمير جقمق مركزه وعلا شأنُه، حتى لما كان يوم الأربعاء التاسع عشر ربيع الأول قام الأمير الكبير جقمق بخلع السلطان العزيز يوسف بعد أن دام في السلطنة مدة أربعة وتسعين يومًا، وذلك باتفاق الأمراء وأعيان المملكة على سلطنته، ولما تم أمره استُدعي الخليفة المعتضد بالله داود والقضاة الأربعة والأمير قرقماس أمير سلاح وسائر الأمراء وجميع أعيان الدولة إلى الحراقة -نوع من السفن فيها مرامي نيران يرمى بها العدو- بباب السلسلة من الإسطبل السلطاني، وجلس كل واحد في مجلسه، فافتتح الأمير قرقماس الكلام مع الخليفة والقضاة بأن قال: السلطان صغير، والأحوال ضائعة؛ لعدم اجتماع الكلمة في واحد بعينه، ولا بد من سلطان ينظر في مصالح المسلمين وينفرد بالكلمة، ولم يكن يصلح لهذا الأمر سوى الأمير الكبير جقمق هذا, فقال جقمق: هذا لا يتم إلا برضا الأمراء والجماعة، فصاح الجميع: نحن راضون بالأمير الكبير؛ فعند ذلك مد الخليفة يده وبايعه بالسلطنة، ثم بايعه القضاة والأمراء على العادة، ثم قام مِن فَورِه إلى مبيت الحراقة، ولبس الخلعة الخليفتية السوداء، وتقلد بالسيف، وخرج راكبًا فرسًا أُعِدَّ له بأبهة السلطنة وشعار الملك، فأصبح السلطان الجديد هو السلطان الملك الظاهر سيف الدين أبو سعيد جقمق العلائي الظاهري الشركسي.
هو السلطان الأشرف أبو النصر قانصوه بن بيبردى الغوري الجركسي الجنس, وهو من سلاطين المماليك البرجية. ولِدَ سنة 850 امتلكه الأشرف قايتباي وأعتقه وعيَّنه في عدة وظائف في خدمته. كان في أوائل الأمر أميًّا لا يعرف شيئًا؛ لأنه جُلب من بلاده وهو كبير قد شَرَع فيه الشيب، وصار السلطان قايتباي يرقِّيه لكونه أخًا لزوجته، وهي التي بذلت الأموال للجند ومكَّنَته من الخزائن حتى ملَّكوه بعد السلطان قايتباي، فاستمر سلطانًا سنة وسبعة أشهر، ثم خلعوه وكان قد تلقب بالأشرف وأخرجوه من المملكة سنة 905 وولي بعده أميران لم يثبت قدمُهما في السلطنة، ثم أجمع الأجناد على تولية السلطان قانصوه الغوري، وكان من أقَلِّ الأمراء شأنًا وأحقرهم مكانةً، لكن الأمراء الكبار تحامَوا الإقدام على السلطنة خوفًا من بعضهم البعض، فولوا قانصوه فقَبِلَ بعد أن شرَطَ عليهم أنهم لا يقتلونه إذا أرادوا خلعَه، فقبلوا منه ذلك فولي السلطنة سنة 906 وكان عظيم الدهاء قويَّ التدبير، فثبت قدمه في السلطنة ثباتًا عظيمًا، وما زال يقتل أكابِرَ الأمراء حتى أفناهم وصَفَت له المملكة ولم يبقَ له فيها منازعٌ، ولكنه مال إلى الظلم والعسف وانتهب أموال الناس وانقطعت بسببه المواريثُ، فضجَّ أهلُ مصر ومَن تحت طاعتِه؛ مِن أخذِه لأموالهم، فسلط الله عليه السلطان سليم الأول سلطانَ العثمانيين؛ فإنه غزاه إلى دياره ووقع بينهما مصاف، فقُتِل قانصوه الغوري تحت سنابك الخيل في معركةِ مرج دابق وعمرُه إذ ذاك يقارب الثمانين عامًا، وكانت مدة سلطنته ستة عشر سنة وعدة أشهر، فاختار المصريون سلطانًا جديدًا هو نائبه الذي تركه السلطان قانصوه على مصر: طومان باي، الذي تلقَّب بالملك الأشرف بعد أن أقسَمَ له الأمراء بالطاعة وبايعوه، وبايعه الخليفة كذلك.
هو السلطان سليمان بن سليم الأول بن بايزيد الثاني بن محمد الفاتح بن مراد الثاني، عاشر سلاطين بني عثمان، وثاني من حمل لقب أمير المؤمنين، ولد في غرة شعبان سنة 900هـ في طرابزون, وهو من أشهر سلاطين آل عثمان؛ حيث تميَّز عصره بالقوة والنفوذ، كان الغرب يلقِّبه بسليمان العظيم، وفي الشرق يلقب بسليمان القانوني, وبلغت الدولة العثمانية في مدته أعلى درجات الكمال. وكانت باكورةُ أعماله بعد توزيع النقود على الانكشارية تعيين مربِّيه قاسم باشا مستشارًا خاصًّا، وإبلاغ توليته على عرش الخلافة العظمى إلى كافة الولاة وأشراف مكة والمدينة بخطابات مفعمة بالنصائح والآيات القرآنية المبيِّنة فضل العدل والقسط في الأحكام، ووخامة عاقبة الظلم، وكان يستهِلُّ خطاباته بالآية الشريفة (إنه من سليمان وإنه بسم الله الرحمن الرحيم) تولى السلطنة عام 926هـ وأضاف للدولة العثمانية الكثيرَ من الولايات والأراضي الواسعة التي شملت عددًا من عواصم الحضارات والدول، كأثينا وصوفيا وبغداد ودمشق وإسطنبول وبودابست وبلغراد والقاهرة وبوخارست وتبريز, حيث قاد القانوني الجيوشَ العثمانية لغزو معاقل وحصون الأوروبيين في أغلب أراضي المجر قبل أن يتوقَّف عند أسوار فيينا, كما ضمَّ أغلب مناطق البلاد العربية أثناء صراعه مع الصفويين ومناطق من شمال فريقيا حتى الجزائر، وسيطرت أساطيلُه على بحار المنطقة من البحر المتوسط إلى البحر الأحمر حتى الخليج العربي. تلقَّب بالقانوني؛ لأنَّه جمع الشرائع المؤسَّسية على أصل إسلامي، ورتبها في مجموعة ظلَّت بموجبها الشريعة الوحيدة المعمول بها، توفي في أثناء حصاره إحدى القلاع في النمسا في العشرين من صفر من هذا العام، بعد أن دامت مدة حكمه قرابة ثمانٍ وأربعين سنة، وتولى العرش بعده ابنه سليم وبدأ عصر الضعف في الدولة العثمانية.
هو الشيخ الفاضل محمد بن علي بن حامد بن صابر بن الفاروقي التهانوي الهندي الحَنَفي: أحدُ رجال العلم، اشتُهر بكتابه الشهير: كشاف اصطلاحات الفنون. عاش التهانوي في عصر سلاطين الدولة المغولية في الهند، فأدرك طَرَفًا من عهد الإمبراطور أورنغ زيب عالمكير الذي عرفت الهندُ في عصره حركةً علمية ثقافية نَشِطةً بتشجيعه لها. وقد قيل: إن التهانوي كان قاضيًا في قريته تهانة في عصر هذا الإمبراطور. نشأ التهانوي في بيئة علمية، نهل من ينابيعها؛ إذ كان والده من كبار العلماء حتى لُقِّب بقطب الزمان، في هذا الجوِّ المفعم بالزاد والنشاط العلميين عاش التهانوي، فنهل من ينابيع المعرفة وبحار العلم. وجال على الحواضِرِ يلتقي العلماءَ ويستمع إليهم يأخُذُ عنهم وينكبُّ على بحثِه, فلا عجب أن أورد في تقديمه الكشاف قوله: "لَمَّا فرغت من تحصيل العلوم العربية والشرعية من حضرة جناب أستاذي ووالدي، شمَّرت عن ساق الجِدِّ إلى اقتناء ذخائر العلوم الحكمية الفلسفية من الحكمة الطبيعية والإلهية والرياضية كعِلم الحساب والهندسة والهيئة والإسطرلاب ونحوها. فلم يتيسر لي تحصيلًا من الأساتذة، فصرفت شطرًا من الزمان إلى مطالعة مختصراتها الموجودة عندي، فكشفها الله عليَّ، فاقتبست منها المصطلحات وسطَّرتُها على حدة في كل بابٍ يليق بها" كان قرأ النحوَ والعربية على والده وتفَقَّه عليه, ثم طَفِق يقتني ذخائِرَ العلوم الحكمية، فجمع الكتب، ولم يتَّفِقْ له تحصيلُها على الأساتذة، فصرف شطرًا من الزمان في مطالعة الكتب الموجودة عنده, فجمع في مصنَّفِه الكشَّاف- الذي يعتبر معجمًا لغويًّا فنيًّا- مصطلحاتِ العلوم وتعريفَها، وشرَحَ الموضوعات العلمية الاصطلاحية حسب العلم ورتبه أبجديًّا. وقد فرغ من تصنيفه سنة 1158, وقد اختُلف في تاريخ وفاته، والمتَّفق عليه أنَّه توفي بعد سنة 1158.
قام أهل بلبيس بالحضور إلى الشيخ وشكَوا إليه محمد بيك الألفي وظُلم أتباعه، فذهب الشيخ الشرقاوي للأزهر وجمع المشايخ وقفَّلوا أبواب الجامع، وذلك بعدما خطب مراد بيك وإبراهيم بيك، وفعلوا مثل ذلك اليوم الثاني، وأمروا الناسَ بغلق الأسواق والحوانيت، ثمَّ ركبوا مع جمعٍ كبير من العامَّةِ إلى بيت الشيخ السادات، وازدحم الناسُ فحضر الدفتردار أيوب بيك، فقالوا له إنَّ مرادهم هو رفعُ الظلم والجَور، وتطبيقُ العدل وإقامة الشرع وإبطال الحوادث والمكوس المبتدعة، فقال: الدفتردار: إن ذلك لا يمكِنُ لأنَّه يضيِّقُ على معيشة المماليك، فقيل له: هذا ليس بعذرٍ عند الله ولا عند الناسِ، ولا داعي للإكثارِ مِن النفقات وشراء المماليك، ثم عاد المشايخ إلى الأزهر ومعهم أهل الأطراف وباتوا في المسجد، وأرسل إبراهيم بيك يشجعهم وأرسل إلى أيوب بيك يخوِّفه عاقبة الأمر، فأجاب إلى جميع ما ذكروه إلَّا شيئين: ديوان بولاق، وطلب المنكسر من الجامكية، وما عدا ذلك من المكوس والحوادث والظلم فيُرفع، ثم اجتمع الأمراءُ وأرسلوا إلى المشايخ، فحضر الشيخ الشرقاوي والبكري والنقيب والسادات، ودار الكلام بينهم والتزموا بما شرطه العلماءُ عليهم وانعقد الصلحُ على أن يدفعوا سبعمائة وخمسين كيسًا موزعة وأن يرسِلوا غلال الحرمين ويَصرِفوا غلالَ الشون وأموال الرزق، ويُبطلوا المظالم المحدَثة والتفاريدَ والمكوس ما عدا بولاق، وأن يكفُّوا أتباعهم عن مدِّ أيديهم إلى أموالِ الناس وأن يسيروا في الناس سيرةً حسنة، وكتب حجَّةً بذلك وفرمن عليها الباشا، وختم عليها إبراهيم بيك وأيوب بيك، وانجَلَت الفتنة، ولكنَّ الحالَ لم يدُمْ أكثر من شهر حتى عاد ما كان على ما كان وزيادة.
حدثت أزمة حدودية بين نجد والكويت حول واحة البلبول جنوب الكويت والتي تبعد عن ميناء الجبيل عشرين ميلا عند ما بنى فيها سالم الصباح حاكم الكويت حصنا فاحتج الملك عبدالعزيز وكتب لابن الصباح يؤكد فيها أن البلبول ضمن أراضيه ويطلب منه وقف التوسع في بناء الحصون لكن ابن صباح رفض هذا التحذير فبنى الملك عبدالعزيز قرية بالقرب من البلبول وعلى الرغم من حدوث سلسلة من المراسلات والاتصالات التي توسطت بها بريطانيا بين الطرفين إلا أن المواجهة العسكرية قد حدثت بين الطرفين في الجهراء عندما هجم فيصل الدويش زعيم مطير وأحد قادة الإخوان (إخوان من أطاع الله) على الجهراء -قرية كبيرة في الكويت- ومعه أربعة آلاف مقاتل من الإخوان ووصل الدويش إلى الصبيحة شمالا وهجموا على قوات ابن الصباح الذين تقهقروا إلى القصر الأحمر، وقرر الإخوان الانسحاب والعودة إلى الصبيحة وعدم التوغل في الكويت، فطلب ابن الصباح نجدة السلطات البريطانية فوصلت طائرات بريطانية من العراق وحلقت فوق قوات الإخوان وألقت عليهم المنشورات تأمرهم بالتراجع عن الصبيحة فانسحب الدويش بقواته لما أدرك تصميم السلطات البريطانية على حماية الكويت، وأرسل برسي كوكس المعتمد البريطاني في الخليج إلى الملك عبدالعزيز يحتج على اعتداء الإخوان على الكويت وطلب منه أن يسحب قواته إلى أراضيه فوافق الملك عبدالعزيز وتعهد بعدم الهجوم على الكويت إذا ما كف سالم بابن الصباح عن التآمر على نجد والتعاون مع خصومه وخاصة ابن رشيد. ثم ارسل الملك عبدالعزيز إلى كوكس يؤكد له أنه لم يأمر الدويش بالهجوم على الجهراء وإنما تحشد سالم ابن الصباح قواته زاد من توتر الموقف ثم أغارت قوات ابن الصباح على أتباعه وسلبت الأموال والجمال وقتلت الرجال ثم عادت إلى الجهراء.
هو الشيخُ المجاهِدُ عُمَرُ بنُ مختار بن عمر المنفي، نسبةً إلى قبيلة منفة في بادية برقة بليبيا، تعلم في الزوايا السنوسية، وجعله محمد المهدي السنوسي شيخًا على زاوية القصور بالجبل الأخضر، خرج لجهادِ الطليان بعد أن احتلُّوا مدينة بنغازي عام 1329هـ وصَمَد للعدو صمودًا منقَطِعَ النظير جعَلَه في أوائل الأبطال في الجهاد الليبي ضِدَّ الطليان، كانت منطقة المختار برقة ثابتةً منيعةً. وتهادن الإيطاليون والطرابلسيون سنة 1340هـ، ودبَّ الخلافُ في زعماء طرابلس وبرقة، وتجدَّدت المعركة مع الإيطاليين، فتولى عمَرُ قيادة الجبل الأخضر وتلاحقت به القبائِلُ، واتفق الرؤساءُ على أن يكون هو القائِدَ العامَّ والرئيس الأعلى للمجاهدين. وهاجمتهم القوى الإيطالية، فردُّوا هجومها، وغَنِموا منها آلاتٍ حربية ومؤنًا غير قليلة. وأشهر ما نشب من المعارك معركة الرحيبة وعقيرة المطمورة وكرِسة، يقول غراتسياني القائد العام الإيطالي في بيان له عن الوقائع التي نشبت بين جنوده والسيد عمر المختار: إنها "كانت 263 معركةً في خلال عشرين شهرًا" هذا عدا ما خاضه المختار من المعارك في خلال عشرين سنة قبلَها. وبينما هو في سرية من رجالِه تُقدَّر بخمسين فارسًا بناحية سلطنة بالجبل الأخضر يستطلع مواقِعَ العدو فوجئ بقوةٍ مِن الأعداء أحاطت به فقاتَلَها، واستُشهِدَ أكثَرُ من كان معه، وأصيب هو بجراحٍ بعد أن عُقِرَ جَوادُه، فانقض عليه الطليان وحُمِل أسيرًا وهو لا يُعرَف، ثم حمل إلى سوسة فعرفوه، فنقل بطراد إلى بنغازي وسُجِنَ أربعة أيام ثم حقَّقوا معه، ثم أُعدِمَ شنقًا في مركز سلوق ببنغازي في 4 جمادى الأولى وعمره يومها خمسة وسبعون عامًا، ومع ذلك كان يجاهِدُ على جواده يقوم بنفسه بالاستطلاع، فرَحِمَه اللهُ وقَبِلَه عنده في الشهداءِ.
هو الشيخُ محمد محمد الراوي عضوُ مَجمَعِ البحوثِ الإسلاميةِ، وعضوُ هيئةِ كِبارِ العلماءِ بالأزهرِ. وُلِدَ في قريةِ "ريفا" محافظةَ أسيوطَ غُرَّةَ فبرايرَ 1928م. حَفِظَ القرآنَ الكريمَ في سنٍّ مُبكِّرةٍ في القريةِ، حيثُ كانت المعاهدُ الأزهريةُ لا تَقبَلُ الطالبَ في السنةِ الأولى إلا بحِفظِ القرآنِ الكريمِ كُلِّه. وبعد الانتهاءِ من الدراسةِ في معهدِ أسيوطَ تقدَّم إلى كُليَّةِ أصولِ الدينِ بالقاهرةِ، وحصَلَ منها على الشهادةِ العالِميَّةِ عامَ 1954م. وحصَلَ على الشهادةِ العالِميَّةِ مع تخصُّصِ التدريسِ من كُليَّةِ اللُّغةِ العربيةِ عامَ 1956م. وعمِلَ بعد تخرُّجِه بقسمِ الدعوةِ في وزارةِ الأوقافِ، ثم أصبَحَ مُفتِّشًا عامًّا في مراقبةِ الشُّؤونِ الدينيةِ. نُقِلَ بعدها إلى مَجمَعِ البحوثِ الإسلاميةِ بالقاهرةِ، وعَمِلَ بالمكتبِ الفنِّيِّ بالمَجمَعِ. وابتُعِثَ من الأزهرِ إلى نيجيريا لتدريسِ اللغةِ العربيةِ وعُلومِ القرآنِ، وطُلِبَ لجامعةِ الإمامِ محمدِ بنِ سعودٍ الإسلاميةِ بالرياضِ، وانتَقَلَ إليها بدايةً من العامِ الدراسيِّ 1390هـ، واستمرَّ بها مدةً تزيدُ على خمسٍ وعشرين سنةً عَمِلَ خلالها في: كليَّةِ اللغةِ العربيةِ مُدرِّسًا للتفسيرِ والحديثِ، وكليةِ العلومِ الاجتماعيةِ من بدايةِ إنشائِها، وأسهَمَ في قيامِ كليَّةِ أصولِ الدِّينِ، وعمِلَ بها أستاذًا للقرآنِ وعلومِه، ورئيسًا لقسمِ القرآنِ أكثَرَ من ثلاثةَ عشَرَ عامًا، وأسهَمَ في إنشاءِ المعهدِ العالي للدعوةِ الإسلاميةِ، وقام بإلقاءِ المُحاضَراتِ فيه، وأشرَفَ على كثيرٍ من الرسائلِ العلميَّةِ ما بين ماجستير ودكتوراه في كليةِ أصولِ الدينِ وغيرِها من كليَّاتِ الجامعةِ. واشترك في مناقشةِ كثيرٍ من الرسائلِ العِلميةِ في جامعةِ الإمامِ محمدِ بن سعودٍ، وجامعةِ أمِّ القُرى بمكةَ المكرمةِ، والجامعةِ الإسلاميةِ بالمدينةِ المنوَّرةِ، وجامعةِ الملكِ سعودٍ. تُوفِّيَ -رحمه الله- في القاهرةِ عن عمرٍ ناهزَ 89 عامًا. وصُلِّيَ عليه في الجامعِ الأزهرِ.
ولِدَ الشيخُ الدكتورُ محمد أديب الصالح في مدينةِ قطنا -جنوبَ غَربِ دِمَشقَ- في العامِ 1926 م، وعاش يتيمًا، ولكنَّ والدتَه عوَّضَتْه عن عنايةِ الوالدِ بانقطاعِها لرِعايتِه، والاهتمامِ بشَأنِه، وقد بدأ تعليمَه في إحدى مدارسِ قطنا الابتدائيةِ، ومنها انتقل إلى دِمَشقَ، حيثُ أحرَزَ شهادةَ الكفاءةِ العامَّةِ ثم شَهادةَ الكليةِ الشرعيةِ، التي كانتْ تُعَدُّ مَعهدًا عِلميًّا رفيعَ المستوى، ثم حصَلَ على الثانويةِ الشرعيةِ مع الثانويةِ العامَّةِ عامَ 1946م، وبذلك تهيَّأ للدراسةِ الجامعيةِ، ثم أُوفد إلى الأزهَرِ عامَ 1947م، والتحَقَ بكليَّةِ أصولِ الدِّينِ، ثم تفرَّغَ للتدريسِ، فعَمِلَ في ثانويَّاتِ حلَبَ ودِمَشقَ ودُورِ المعلِّمين ما بين العامَينِ 1949 و1956. وأُسنِدَت إليه مُهمَّةُ مُعيدٍ في كليَّةِ الشريعةِ بجامعةِ دِمَشقَ، وأُوفِدَ إلى جامعةِ القاهرةِ لتحضيرِ الإجازةِ العليا -الدكتوراه- في كليةِ الحقوقِ، وكان موضوعُ أُطروحَتِه (تفسيرَ النصوصِ في الفقهِ الإسلاميِّ- دراسة مقارِنة) التي أحرَزَ بها مرتبةَ الشَّرَفِ الأولى مع التبادلِ بين الجامعاتِ. من شُيوخِه: الشيخُ محمد أبو زهرة، والشيخُ علي الخفيف، والشيخُ فرج السنهوريُّ. ثم عادَ إلى دمشقَ ليستأنِفَ عمَلَه في جامِعَتِها والتدريسَ فيها، ثم أُعيرَ إلى الجامعةِ الأردنيَّةِ لتدريسِ التفسيرِ والحديثِ والثقافةِ الإسلاميةِ على مدى سنتَينِ، ثم استُقدِمَ بعدَها أستاذًا زائرًا إلى جامعةِ الملكِ سُعودٍ -الرياض آنَذاك-، وكذلك دُعِيَ زائرًا إلى جامعةِ الإمامِ محمدِ بنِ سعودٍ الإسلاميةِ، وإلى كليةِ التربيةِ للمعلمين والمعلمات في قطَرَ، حتى استقرَّ أخيرًا في جامعةِ الإمامِ محمد بنِ سعودٍ الإسلاميةِ. تولى فيها رئاسةَ قِسمِ السُّنَّة وعلومِها، إلى جانبِ مُشاركاتِه في مناقشةِ رسائلِ الماجستير والدكتوراه فيها، وفي كلٍّ من الجامعةِ الإسلاميةِ في المدينةِ المُنوَّرةِ، وجامعةِ أمِّ القرى بمكةَ المكرمةِ، إلى أنْ تُوفِّيَ -رحمه الله- بمدينةِ الرياضِ.
طالب الوزيرُ عليُّ بنُ عيسى الحُسَينَ بنَ حمدانٍ بمالٍ كان عليه من ديارِ ربيعة، وهو يتولَّاها، فدافَعَه، فأمره بتسليمِ البلاد إلى عُمَّالِ السلطان، فامتنع، وكان مُؤنِسٌ الخادِمُ غائبًا بمصرَ لمحاربة عسكر المهديِّ، صاحب إفريقية، فجهَّز الوزيرُ رائقًا الكبير في جيشٍ وسيَّرَه إلى الحسين بن حمدان، وكتب إلى مؤنسٍ يأمرُه بالمسير إلى ديار الجزيرة لقتال الحسينِ، بعد فراغه من أصحاب المهديِّ، فسار رائِقٌ إلى الحسين بن حمدان، وجمع لهم الحُسَينُ نحو عشرين ألفَ فارس، وسار إليهم، فلمَّا رأوا كثرة جيش الحُسين عَلِموا عَجْزَهم عنه؛ لأنَّهم كانوا أربعة آلاف فارس، فانحازوا إلى جانبِ دجلة، ونزلوا بموضعٍ ليس له طريقٌ إلَّا من وجه واحد، وجاء الحُسَينُ فنزل عليهم وحصَرَهم، ومنع الميرةَ عنهم من فوقَ ومن أسفلَ، فضاقت عليهم الأقواتُ والعلوفات، فأرسلوا إليه يبذُلونَ له أن يولِّيَه الخليفةُ ما كان بيده ويعودَ عنهم، فلم يُجِب إلى ذلك، ولَزِمَ حصارهم، وأدام قتالَهم إلى أن عاد مُؤنِسٌ من الشام، فلمَّا سمع العسكرُ بقُربِه قَوِيَت نفوسُهم وضَعُفَت نفوسُ الحسين ومَن معه، فخرج العسكرُ إليه ليلًا وكبَسوه، فانهزم وعاد إلى ديارِ ربيعة، وسار العسكرُ فنزلوا على الموصِل، وسمع مؤنِسٌ خبرَ الحسين، وجدَّ مؤنِسٌ في المسير نحو الحسين، واستصحب معه أحمدَ بنَ كيغلغ، فلمَّا قَرُبَ منه راسله الحسين يعتذر، وتردَّدت الرسُل بينهما، فلم يستقِرَّ حال، فرحل مؤنِسٌ نحو الحسين حتّى نزل بإزاء جزيرة ابن عمر، ورحل الحسينُ نحو أرمينيَّة مع ثقلِه وأولادِه، وتفرَّق عسكرُ الحُسينِ عنه، وصاروا إلى مؤنسٍ ثمَّ إنَّ مُؤنِسًا جهَّز جيشًا في أثَرِ الحسين، فأدركوه فقاتلوه، فانهزم من بقيَ معه من أصحابه، وأُسِرَ هو ومعه ابنُه عبد الوهَّاب وجميعُ أهله وأكثر مَن صَحِبَه، وقبض أملاكه، وعاد مؤنِسٌ إلى بغداد على طريق الموصل والحسين معه، فأُركبَ على جمل هو وابنُه وحُبس الحُسَين وابنه عند زيدان القهرمانة، وقبض المقتَدِر على أبي الهيجاءِ بنِ حمدان وعلى جميع إخوته وحُبسوا، وكان قد هرب بعضُ أولاد الحُسَين بن حمدان، فجمَعَ جمعًا ومضى نحو آمِد، فأوقَعَ بهم مستحفِظُها، وقتَلَ ابنَ الحسين وأنفذ رأسَه إلى بغداد.