لما فرغ عماد الدين زنكي من أمرِ البلاد الشامية، حلب وأعمالها، وما ملكه، وقرَّر قواعده؛ عاد إلى الموصل، وديار الجزيرة؛ ليستريح عسكره، ثم أمرهم بالتجهُّز للغَزاة، فتجهزوا وأعدُّوا واستعدوا، وعاد إلى الشام وقَصَد حلب، فقَوِيَ عَزمُه على قصد حصن الأثارب ومحاصرته؛ لشدة ضرره على المسلمين، وهذا الحصن بين حلب وبين أنطاكية، وكان مَن به من الفرنج يقاسمون حلب على جميع أعمالها الغربية، وكان أهل البلد معهم في ضرٍّ شديد وضيق كل يوم؛ قد أغاروا عليهم، ونهبوا أموالهم. فلما رأى زنكي هذه الحالَ صَمَّم العزمَ على حصر هذا الحصن، فسار إليه ونازله، فلما علمَ الفرنج بذلك جمعوا فارِسَهم وراجِلَهم، وعلموا أن هذه وقعة لها ما بعدها، فحشدوا وجمعوا ولم يتركوا من طاقتهم شيئًا إلا استنفدوه، فلما فرغوا من أمرهم ساروا نحوه، ثم ترك عماد الدين الحصن وتقدم إليهم، فالتقوا واصطفُّوا للقتال، وصبر كلُّ فريق لخصمه، واشتدَّ الأمر بينهم، ثم إن الله تعالى أنزل نصره على المسلمين فظفروا، وانهزم الفرنج أقبحَ هزيمة، ووقع كثيرٌ من فرسانهم في الأَسْر، وقُتِل منهم خلق كثير، فلما فرغ المسلمون من ظَفَرِهم عادوا إلى الحصن فتسلَّموه عَنوةً، وقتلوا وأسروا كل من فيه، وأخربه عماد الدين، وجعله دكًّا، ثم سار منه إلى قلعة حارم، وهي بالقرب من أنطاكية، فحصرها، وهي أيضًا للفرنج، فبذل له أهلها نصف دخل بلد حارم وهادنوه، فأجابهم إلى ذلك،وعاد عنهم وقد استقوى المسلمون بتلك الأعمال؛ قال ابن الأثير تعليقًا على انتصارات زنكي في حصن الأثارب وقلعة حارم: "وضعفت قُوى الكافرين، وعلموا أن البلاد قد جاءها ما لم يكن لهم في حساب، وصار قصاراهم حِفظَ ما بأيديهم بعد أن كانوا قد طَمِعوا في ملك الجميع".
هو الشَّيخُ الإمامُ العلَّامةُ، البَحرُ المتفنِّنُ: أبو عبد الله محمَّدُ بنُ عليِّ بنِ عُمَرَ بن محمد التميمي المازري (نسبةً إلى مازرة بصقليَّةَ) المالكي، الحافِظُ المحَدِّث المشهور. وُلِدَ بالمهدية بإفريقيَّة. كان إمامًا حافِظًا مُتقِنًا أحدَ الأذكياءِ الموصوفين، والأئمَّة المتبحِّرينَ، عارفًا بعلوم الحديثِ، سَمِعَ وسافَرَ كثيرًا وكتب الكثير. قيل: "إنَّه مَرِضَ مَرضةً، فلم يجِدْ مَن يعالجُه إلَّا يهوديٌّ، فلمَّا عُوفِيَ على يَدِه، قال اليهودي: لولا التزامي بحِفظِ صِناعتي، لأعدَمتُك، فأثَّرَ هذا عند المازري، فأقبَلَ على تعَلُّمِ الطبِّ، حتى فاق فيه، وكان ممَّن يُفتي فيه، كما يُفتي في الفِقهِ". قال القاضي عياض: "هو آخِرُ المتكَلِّمينَ مِن شُيوخِ إفريقيَّة بتحقيقِ الفِقهِ، ورتبةِ الاجتهادِ، ودِقَّةِ النظر. درَسَ أصولَ الفِقهِ والدِّينَ، وتقَدَّمَ في ذلك، فجاء سابقًا، لم يكُنْ في عصره للمالكيَّةِ في أقطارِ الأرضِ أفقَهُ منه، ولا أقوَمُ بمَذهَبِهم، سَمِعَ الحديث، وطالَعَ معانيَه، واطَّلَعَ على علومٍ كثيرة من الطِّبِّ والحسابِ والآداب، وغير ذلك، فكان أحدَ رجالِ الكمال، وإليه كان يُفزَعُ في الفُتيا في الفِقه، وكان حسَنَ الخُلُقِ، مليحَ المُجالَسةِ، كثيرَ الحكايةِ والإنشاد، وكان قَلَمُه أبلَغَ مِن لسانه" من أشهَرِ تصانيفِه: شرحُ صحيح مسلم، سَمَّاه " كتاب المُعْلِم بفوائد كتابِ مُسلِم" وعليه بنى القاضي عِياضٌ كِتابَ الإكمالَ، وهو تَكمِلةٌ لهذا الكتاب، وله إيضاحُ المحصولِ في برهانِ الأصول, والكَشفُ والإنباءُ في الرَّدِّ على الإحياءِ، كتاب الغزالي، وله شَرحُ كتاب (التلقين) لعبد الوهاب المالكي في عشرةِ أسفار، وهو مِن أنفَسِ الكُتُب. وله كتُبٌ أخرى في الأدب. حَدَّثَ عنه القاضي عِياضٌ، وأبو جعفر بن يحيى القُرطبي الوزغي. مات وله ثلاث وثمانون سنة, ودفن بالمنستير.
لَمَّا فرغ صلاحُ الدينِ مِن أمرِ قلعةِ صهيون، سار في ثالث جمادى الآخرة، فوصلَ إلى قلعة بكاس فرأى الفرنجَ قد أخلَوها، وتحصَّنوا بقلعة الشغر، فمَلَك قلعةَ بكاس بغيرِ قتالٍ، وتقَدَّمَ إلى قلعة الشغر وحصَرَها، وهي وبكاس على الطريقِ السَّهلِ المسلوكِ إلى اللاذقيَّة وجبلة، والبلاد التي افتتحها صلاحُ الدين من بلاد الشام الإسلاميَّة، فلما نازلها رآها منيعةً حصينة لا تُرام، ولا يُوصَلُ إليها بطريقٍ من الطرق، إلَّا أنَّه أمر بمزاحفتِهم ونَصْبِ منجنيقٍ عليهم، ففعلوا ذلك، ورمى بالمنجنيقِ، فلم يَصِلْ من أحجاره إلى القلعةِ شَيءٌ إلا القليل الذي لا يؤذي، فبقي المسلمونَ عليه أيامًا لا يَرَونَ فيه طمعًا، وأهلُه غير مهتمِّينَ بالقتال لامتناعِهم عن ضررٍ يتطَرَّقُ إليهم، وبلاءٍ ينزل عليهم، فبينما صلاحُ الدين جالِسٌ، وعنده أصحابُه إذ أشرف عليهم فرنجيٌّ ونادى بطَلَبِ الأمان لرسولٍ يحضُرُ عند صلاح الدين، فأجيبَ إلى ذلك، ونزل رسول، وسأل إنظارَهم ثلاثة أيام، فإن جاءهم من يمنَعُهم وإلَّا سَلَّموا القلعةَ بما فيها من ذخائِرَ ودوابَّ وغير ذلك، فأجابهم إليه وأخذ رهائِنَهم على الوفاءِ به، فلما كان اليوم الثالث سلموها إليه، واتَّفق يوم الجمعة سادس عشر جمادى الآخرة؛ وكان سبب استمهالتهم أنَّهم أرسلوا إلى البيمند، صاحِبِ أنطاكيَّةَ، وكان هذا الحِصنُ له، يُعَرِّفونَه أنهم محصورون، ويَطلُبونَ منه أن يدفَعَ عنهم المسلمين، فإن فعل وإلَّا سَلَّموها، وإنما فعلوا ذلك لرعبٍ قَذَفه اللهُ تعالى في قلوبهم، وإلَّا فلو أقاموا الدهرَ الطويلَ لم يصِلْ إليهم أحد، ولا بلغ المسلمونَ منهم غَرَضًا، فلمَّا تسلم صلاح الدين الحِصنَ سَلَّمه إلى أميرٍ يقال له قلج، وأمَرَه بعمارتِه ورحَلَ عنه.
مَلَك غياثُ الدين كيخسرو بن قلج أرسلان بلادَ الرومِ التي كانت بيد أخيه رُكن الدين سليمان وانتَقَلَت بعد موته إلى ابنه قلج أرسلان بن ركن الدين، وكان سبَبُ مِلك غياث الدين لها أنَّ ركنَ الدين كان قد أخذ ما كان لأخيه غياث الدين، وهي مدينةُ قونية، فهَرَب غياث الدين منه، وقَصَد الشامَ إلى المَلِك الظاهر غازي بن صلاح الدين، صاحب حلب، فلم يجد عنده قبولًا، وقصر به، فسار مِن عنده، وتقَلَّب في البلاد إلى أن وصل إلى القُسطنطينيَّة، فأحسن إليه مَلِكُ الروم وأقطَعَه وأكرَمَه، فأقام عنده، وتزوجَ بابنةِ بعض البطارقة الكبارِ، فأقام عنده، فلما مات أخوه ركن الدين سليمان سنة ستمائة، اجتمع الأمراءُ على ولده قلج، وخالَفَهم الأتراك الأوج، وهم كثيرٌ بتلك البلاد، وأنِفَ مِن اتباعهم، أرسل قلج إلى عَمِّه غياث الدين كيخسرو يستدعيه إليه ليُمَلِّكَه البلاد، فسار إليه، فوصَلَ في جمادى الأولى، واجتمع به، وكَثُرَ جَمعُه، وقصد مدينة قونيَّة ليَحصُرَها، وكان قلج والعساكرُ بها، فأخرجوا إليه طائفةً من العسكر، فلَقُوه فهزموه، فبَقِيَ حيران لا يدري أين يتوجَّهُ، فقصد بلدةً صغيرة يقالُ لها أوكرم بالقُربِ من قونية، فقَدَّرَ الله تعالى أن أهل مدينة أقصر وثبوا على الوالي فأخرجوه منها ونادَوا بشعار غياثِ الدين، فلَمَّا سَمِعَ أهل قونية بما فعله أهل أقصر قالوا: نحن أولى مَن فعل هذا؛ لأنَّه كان حَسَنَ السيرة فيهم لَمَّا كان مالكهم، فنادوا باسمِه أيضًا، وأخرجوا مَن عِندَهم، واستدعوه، فحضَرَ عندهم، ومَلَك المدينةَ وقبض على ابن أخيه ومَن معه.
هو مجد الدين أبو السعادات المبارك بن أبي الكرم محمد بن محمد بن عبد الكريم بن عبد الواحد الشيباني، المعروف بابن الأثير الجزري كانت ولادته بجزيرة ابن عمر سنة 544 ونشأ بها، ثم انتقل إلى الموصل سنة خمس وستين, ثم عاد إلى الجزيرة، ثم الموصل، وتنقل في الولايات بها واتصل بخدمة الأمير مجاهد الدين قايماز بن عبد الله الخادم الزيني، فكتب له, ثمَّ اتصل بخدمة عز الدين مسعود بن مودود صاحب الموصل، وتولى ديوان رسائله وكتب له إلى أن توفي، ثم اتصل بولده نور الدين أرسلان شاه فحَظِيَ عنده، وتوفَّرت حرمتُه لديه، وكتب له مدة, ثم عرض له مرض كفَّ يديه ورجليه فمنعه من الكتابة مطلقًا، وأقام في داره يغشاه الأكابرُ والعلماء، وأنشأ رباطًا بقرية من قرى الموصل ووقفَ أملاكَه عليه وعلى داره التي كان يسكنها بالموصل، وقيل: إنه صنف كتبه كلَّها في مدة العطلة، وكان عنده جماعة يعينونه عليها في الاختيار والكتابة. كان ابن الأثير عالِمًا في عدة علوم مبرزًا فيها، منها: الفقه، والأصولان، والنحو، والحديث، واللغة، وله تصانيف مشهورة في التفسير والحديث، والنحو، والحساب، وغريب الحديث، وله رسائل مدوَّنة، وهو صاحب جامع الأصول في الحديث، وله كتاب غريب الحديث والأثر، وغيرها من المصنفات، وهو غير صاحب الكامل في التاريخ، فهذا أخوه. قال أبو البركات ابن المستوفي في تاريخ إربل في حقه: أشهر العلماء ذِكرًا، وأكبر النبلاء قدرًا، وأحد الأفاضل المشار إليهم، وفرْد الأماثل المعتمد في الأمور عليهم، أخذ النحوَ عن شيخه أبي محمد سعيد بن المبارك الدهان، وسمع الحديث متأخرًا، ولم تتقدَّم روايته. وله المصنَّفات البديعة والرسائل الوسيعة " توفي في آخر ذي الحجة.
انهزم جلال الدين بن خوارزم شاه من عبد الله بن كيقباذ بن كيخسرو بن قلج أرسلان، صاحب بلاد الروم، ومن الملك الأشرف، صاحب دمشق، وسببُ ذلك أن جلال الدين كان قد أطاعه صاحب أرزن الروم، وهو ابن عم علاء الدين، ملك الروم، وبينه وبين ملك الروم عداوة مستحكمة، وحضر صاحبُ أرزن الروم عند جلال الدين على خلاط، وأعانه على حصرِها، فخافهما علاء الدين، فأرسل إلى الملك الكامل، وهو حينئذ بحرَّان، يطلبُ منه أن يحضر أخاه الأشرف من دمشق، فإنَّه كان مقيمًا بها بعد أن ملَكَها، وتابع علاء الدين الرسُلَ بذلك خوفًا من جلال الدين، فأحضر الملك الكامل أخاه الأشرفَ من دمشق، فحضر عنده، ورسُلُ علاء الدين إليهما متتابعةٌ، يحثُّ الأشرف على المجيء إليه والاجتماع به، فجمع عساكِرَ الجزيرة والشام وسار إلى علاء الدين، فاجتمعا بسيواس، وسارا نحو خلاط، فسمع جلال الدين بهما، فسار إليهما مجدًّا في السير، فوصل إليهما بمكان يعرف بباسي حمار، وهو من أعمال أرزنكان، فالتقوا هناك، وكان مع علاء الدين خلقٌ كثير، فلما التقوا، وجلال الدين لما رأى من كثرة العساكر، ولا سيما لما رأى عسكر الشام، ملئ صدرُه رعبًا، فأنشب عز الدين بن علي القتال، ومعه عسكر حلب، فلم يقُمْ لهم جلال الدين ولا صبَرَ، وولى منهزمًا هو وعسكرُه وعادوا إلى خلاط فاستصحبوا معهم من فيها من أصحابهم، وعادوا إلى أذربيجان فنزلوا عند مدينة خوي، ولم يكونوا قد استولوا على شيءٍ مِن أعمال خلاط سوى خلاط، ووصل المَلِكُ الأشرف إلى خلاط وقد استصحبوا معهم من فيها فبَقِيَت خاوية على عروشها، خاليةً من الأهل والسكان.
إن الناصر داودَ صاحب الكرك لما ضاقت به الأمورُ استخلف ابنَه الملكَ المعظم شرفَ الدين عيسى، وأخذ معه جواهِرَه، وسار في البر إلى حَلَب مستجيرًا بالملك الناصرِ يوسف بن الملك العزيز فأنزله وأكرَمَه وسيَّرَ النَّاصِرَ بجواهره إلى الخليفةِ المستعصم بالله؛ لتكون عنده وديعة، فقبض الخليفةُ ذلك، وسير إليه الخطَّ بقبضه وأراد الناصرُ بذلك أن يكون الجوهَرُ في مأمن، فإذا احتاج إليه طلَبَه، وكانت قيمتُه ما ينيِّف على مائة ألف دينار، فحنق ولدا الناصرِ وهما الملك الظاهر شادي والملك الأمجد حسن على أبيهما، لكونِه قَدَّمَ عليهما المعظَّم، وقبضا على المعظَّم، واستوليا على الكرك وأقام الملكُ الظاهر شادي- وهو أسنُّ إخوتِه- بالكرك وسار الملك الأمجدُ حَسَن إلى الملك الصالح نجم الدين، فوصل إلى العسكرِ بالمنصورة، يوم السبت لتسعٍ مَضَين من جمادى الآخرة، وبَشَّره بأنه هو وأخوه الظاهر أخذا الكرك له، فأكرمه السلطانُ، وأعطاه مالًا كثيرًا، وسيَّرَ الطواشي بدر الدين الصوابي إلى الكرك نائبًا بها وبالشوبك، فتسَلَّمَها بدر الدين، وسيَّرَ أولاد الناصر داود جميعهم، وأخويه الملك القاهر عبد الملك، والملك المغيث عبد العزيز، ونساءهم وعيالاتهم كُلَّها، إلى المعسكر بالمنصورة، فأقطعهم السلطانُ إقطاعًا جليلًا، ورتَّب لهم الرواتَب، وأنزل أولادَ الناصر في الجانب الغربيِّ قُبالة المنصورة، وكان استيلاءُ نائب السلطان على الكرك يوم الاثنين، لاثنتي عشرة بَقِيَت من جمادى الآخرة، وسُرَّ السلطان بأخذ الكرك سرورًا عظيمًا، وأمَرَ فزينت القاهرة ومصر، وضُرِبَت البشائر بالقلعتين، وجهَّزَ السلطان إلى الكرك ألف ألف دينار مصرية، وجواهر وذخائر وأسلحة، وشيئًا كثيرًا مما يعِزُّ عليه.
سار الملك المنصور صاحب حماة ومن معه، إلى حصن دير بساك ودخلوا الدربند، وقد بنى التكفور هيتوم بن قسطنطين بن باساك ملك الأرمن على رؤوس الجبال أبراجًا وهو الذي تزهَّد فيما بعد، وترك المُلكَ لولده ليفون فاستعد ووقف في عسكره، فعندما التقى الفريقان أُسِرَ ليفون بن ملك سيس، وقُتِلَ أخوه وعمه، وانهزم عمه الآخر، وقتل ابنه الآخر، وتمزق الباقي من الملوك, وكانوا اثني عشر ملكًا وقُتِلَت أبطالهم وجنودهم، وركب العسكر أقفيتهم وهو يقتل ويأسر ويحرق، وأخذ العسكر قلعة حصينة للداوية، فقُتِلَت الرجال وسُبِيت النساءُ وفُرِّقَت على العسكر وحُرِقت القلعة بما فيها من الحواصل، ودخلوا سيس فأخربوها وجعلوا عاليها سافلها، وأقاموا أيامًا يحرقون ويقتلون ويأسرون، وسار الأمير أوغان إلى جهة الروم، والأمير قلاوون إلى المصيصة وأذنة وأياس وطرسوس، فقتلوا وأسروا وهَدَموا عِدَّةَ قلاع وحرقوا، هذا وصاحب حماة مقيم بسيس، ثم عادوا إليه وقد اجتمع معهم من الغنائم ما لا يعد ولا يحصى، وذلك أن أهل سيس كانوا أضرَّ شيء على المسلمين زمن التتار، لما أخذوا مدينة حلب وغيرها أسروا من نساء المسلمين وأطفالهم خلقًا كثيرًا، ثم كانوا بعد ذلك يغيرون على بلاد المسلمين في زمن هولاكو، فكبته الله وأهانه على يدي أنصار الإسلام، هو وأميره كتبغا، وكان أخذ سيس يوم الثلاثاء العشرين من ذي القعدة من هذه السنة، وطلب صاحب سيس أن يفادي ولده، فقال السلطان لا نفاديه إلا بأسير لنا عند التتار يقال له سنقر الأشقر، فذهب صاحب سيس إلى ملك التتار فتذلل له وتمسكن وخضع له، حتى أطلقه له، فلما وصل سنقر الأشقر إلى السلطان أطلق ابن صاحب سيس.
هو العلامة أثير الدين أبو البقاء صالح بن يزيد بن صالح بن علي بن موسى بن أبي القاسم بن شريف النفزي الرندي من قبيلة نفزة البربرية أبو الطيب، شاعر أندلسي من أهل رندة من جزيرة الأندلس، ولِدَ برندة سنة 601, وهو من القضاة، وله علمٌ بالحساب والفرائض، وهو أحد الأدباء المجيدين من أهل الأندلس. أقام بمالقة شهرًا، وأكثر الترددَ إلى غرناطة يسترفد ملوكَها، قال عنه أبو عبد الله محمد المراكشي في الذيل والتكملة: "كان خاتمة أدباء الأندلس، بارع التصرف في منظوم الكلام ومنثوره، فقيهًا حافظًا فرَضيًّا متفنِّنًا في معارف جليلة، نبيل المنازع، متواضعًا مقتصدًا في أحواله، وله مقامات بديعة في أغراض شتى، وكلامه نظمًا ونثرًا مدون، وله تأليف في العَروض، وتأليف في صنعة الشعر سماه "الكافي في علم القوافي"، وأودعه جملة وافرة من نظمه" وهو الذي نظم القصيدة المشهورة في رثاء الأندلس والتي أولها:
لكل شيءٍ إذا ما تمَّ نقصانُ
فلا يُغَرَّ بطِيبِ العيش إنسانُ
رثى فيها الأندلس بعد انهيار دولة الموحدين في أعقاب هزيمتهم في معركة العقاب سنة 609 وانحسار المسلمين في غرناطة بعد أن استولى الفرنج على معظم مدن الأندلس الكبرى، كقرطبة وإشبيلية وبلنسية وغيرها، وعمل الفرنج على محو آثار الإسلام في هذه المدن, وكذلك عندما تنازل حاكم غرناطة الأمير محمد بن يوسف بن نصر لملك قشتالة الفونسو عن بعض المدن والحصون الإسلامية مصانعةً له, فأثارت هذه الأوضاع حميةَ أبي البقاء وغيَّرَتْه، فنظم هذه القصيدة المشهورة، والتي انتشرت في بلاد المسلمين وخاصة بلاد المغرب أرض العدوة، يرثي فيها حال المسلمين بالأندلس، ويستنجد بحكامها لإنقاذ إخوانهم في الأندلس.
في يومِ الخَميسِ أول شعبان خُلِعَ السُّلطانُ المَلِكُ الأشرف علاء الدين كجك من السُّلطة، وكانت مدته خمسة أشهر وعشرة أيام لم يكُنْ له فيها أمرٌ ولا نهي، وتدبيرُ أمورِ الدَّولةِ كُلِّها إلى قوصون، وكان إذا حضرت العلائِمُ أعطِيَ السُّلطانُ قَلمًا في يده وجاء فقيهُه المغربيُّ الذي يقرئ أولادَ السلطان ويكتبُ العلامةَ والقَلمُ في يد السلطانِ علاء الدين، فلما استولى الأميرُ أيدغمش على الدَّولةِ بعد قوصون، وقَرَّر مع الأمراء خَلْعَ الأشرف كجك في يوم الخميس أوَّلَ شعبان، بعث الأميرُ جنكلي بن البابا، والأميرُ بيبرس الأحمدي، والأمير قماري أمير شكار إلى السُّلطانِ أحمد بن النَّاصِر محمد بن قلاوون بالكرك بكُتُب الأمراءِ يُخبِرونَه بما وقع، ويستدعونَه إلى تخت مُلكِه، فلمَّا كان يومُ الأربعاء سابع عشر رمضان قَدِمَ قاصِدُ السلطان إلى الأمير أيدغمش بأنَّ السلطان يأتي ليلًا من باب القرافة، وأمَرَه أن يفتح له بابَ السِّرِّ حتى يعبُرَ منه، ففتحه، وجلس أيدغمش وألطنبغا المارداني حتى مضى جانِبٌ من ليلة الخميس الثامن عشر منه، أقبل السُّلطانُ في نحو العشرةِ رجالٍ من أهل الكرك، وقد تلَثَّمَ وعليه ثيابٌ مُفَرَّجة، فتلَقَّوه وسلموا عليه، فلم يقِفْ معهم، وأخذ جماعَتَه ودخل بهم، ورجع الأمراءُ وهم يتعَجَّبون من أمرِه، وأصبحوا فدُقَّت البشائِرُ بالقلعة، وزُيِّنَت القاهرةُ ومصر، فلما كان يوم الاثنين عاشر شوال أُلبِسَ السلطان، وجلس على تخت الملك، وقد حضر الخليفةُ الحاكِمُ بأمرِ الله وقضاة مصر الأربعة، وقُضاة دمشق الأربعة، وجميع الأمراء والمقدمين، وعهد إليه الخليفة، وقَبَّل الأمراء الأرض على العادة.
بعد أن أصبح السلطان العزيز يوسف بن برسباي سلطانًا أصبح الأمير الكبير جقمق هو نظام الملك؛ فله الأمر والنهي، وبيده كل شيء، وليس للسلطان سوى الاسم، وكان في هذه السنة حصلت فتن بين المماليك الأشرفية التابعين للسلطان، وبين الأمير جقمق ومن معه من الأمراء والمماليك الظاهرية والمؤيدية، فعزز الأمير جقمق مركزه وعلا شأنُه، حتى لما كان يوم الأربعاء التاسع عشر ربيع الأول قام الأمير الكبير جقمق بخلع السلطان العزيز يوسف بعد أن دام في السلطنة مدة أربعة وتسعين يومًا، وذلك باتفاق الأمراء وأعيان المملكة على سلطنته، ولما تم أمره استُدعي الخليفة المعتضد بالله داود والقضاة الأربعة والأمير قرقماس أمير سلاح وسائر الأمراء وجميع أعيان الدولة إلى الحراقة -نوع من السفن فيها مرامي نيران يرمى بها العدو- بباب السلسلة من الإسطبل السلطاني، وجلس كل واحد في مجلسه، فافتتح الأمير قرقماس الكلام مع الخليفة والقضاة بأن قال: السلطان صغير، والأحوال ضائعة؛ لعدم اجتماع الكلمة في واحد بعينه، ولا بد من سلطان ينظر في مصالح المسلمين وينفرد بالكلمة، ولم يكن يصلح لهذا الأمر سوى الأمير الكبير جقمق هذا, فقال جقمق: هذا لا يتم إلا برضا الأمراء والجماعة، فصاح الجميع: نحن راضون بالأمير الكبير؛ فعند ذلك مد الخليفة يده وبايعه بالسلطنة، ثم بايعه القضاة والأمراء على العادة، ثم قام مِن فَورِه إلى مبيت الحراقة، ولبس الخلعة الخليفتية السوداء، وتقلد بالسيف، وخرج راكبًا فرسًا أُعِدَّ له بأبهة السلطنة وشعار الملك، فأصبح السلطان الجديد هو السلطان الملك الظاهر سيف الدين أبو سعيد جقمق العلائي الظاهري الشركسي.
هو السلطان سليمان بن سليم الأول بن بايزيد الثاني بن محمد الفاتح بن مراد الثاني، عاشر سلاطين بني عثمان، وثاني من حمل لقب أمير المؤمنين، ولد في غرة شعبان سنة 900هـ في طرابزون, وهو من أشهر سلاطين آل عثمان؛ حيث تميَّز عصره بالقوة والنفوذ، كان الغرب يلقِّبه بسليمان العظيم، وفي الشرق يلقب بسليمان القانوني, وبلغت الدولة العثمانية في مدته أعلى درجات الكمال. وكانت باكورةُ أعماله بعد توزيع النقود على الانكشارية تعيين مربِّيه قاسم باشا مستشارًا خاصًّا، وإبلاغ توليته على عرش الخلافة العظمى إلى كافة الولاة وأشراف مكة والمدينة بخطابات مفعمة بالنصائح والآيات القرآنية المبيِّنة فضل العدل والقسط في الأحكام، ووخامة عاقبة الظلم، وكان يستهِلُّ خطاباته بالآية الشريفة (إنه من سليمان وإنه بسم الله الرحمن الرحيم) تولى السلطنة عام 926هـ وأضاف للدولة العثمانية الكثيرَ من الولايات والأراضي الواسعة التي شملت عددًا من عواصم الحضارات والدول، كأثينا وصوفيا وبغداد ودمشق وإسطنبول وبودابست وبلغراد والقاهرة وبوخارست وتبريز, حيث قاد القانوني الجيوشَ العثمانية لغزو معاقل وحصون الأوروبيين في أغلب أراضي المجر قبل أن يتوقَّف عند أسوار فيينا, كما ضمَّ أغلب مناطق البلاد العربية أثناء صراعه مع الصفويين ومناطق من شمال فريقيا حتى الجزائر، وسيطرت أساطيلُه على بحار المنطقة من البحر المتوسط إلى البحر الأحمر حتى الخليج العربي. تلقَّب بالقانوني؛ لأنَّه جمع الشرائع المؤسَّسية على أصل إسلامي، ورتبها في مجموعة ظلَّت بموجبها الشريعة الوحيدة المعمول بها، توفي في أثناء حصاره إحدى القلاع في النمسا في العشرين من صفر من هذا العام، بعد أن دامت مدة حكمه قرابة ثمانٍ وأربعين سنة، وتولى العرش بعده ابنه سليم وبدأ عصر الضعف في الدولة العثمانية.
هو الشيخ الفاضل محمد بن علي بن حامد بن صابر بن الفاروقي التهانوي الهندي الحَنَفي: أحدُ رجال العلم، اشتُهر بكتابه الشهير: كشاف اصطلاحات الفنون. عاش التهانوي في عصر سلاطين الدولة المغولية في الهند، فأدرك طَرَفًا من عهد الإمبراطور أورنغ زيب عالمكير الذي عرفت الهندُ في عصره حركةً علمية ثقافية نَشِطةً بتشجيعه لها. وقد قيل: إن التهانوي كان قاضيًا في قريته تهانة في عصر هذا الإمبراطور. نشأ التهانوي في بيئة علمية، نهل من ينابيعها؛ إذ كان والده من كبار العلماء حتى لُقِّب بقطب الزمان، في هذا الجوِّ المفعم بالزاد والنشاط العلميين عاش التهانوي، فنهل من ينابيع المعرفة وبحار العلم. وجال على الحواضِرِ يلتقي العلماءَ ويستمع إليهم يأخُذُ عنهم وينكبُّ على بحثِه, فلا عجب أن أورد في تقديمه الكشاف قوله: "لَمَّا فرغت من تحصيل العلوم العربية والشرعية من حضرة جناب أستاذي ووالدي، شمَّرت عن ساق الجِدِّ إلى اقتناء ذخائر العلوم الحكمية الفلسفية من الحكمة الطبيعية والإلهية والرياضية كعِلم الحساب والهندسة والهيئة والإسطرلاب ونحوها. فلم يتيسر لي تحصيلًا من الأساتذة، فصرفت شطرًا من الزمان إلى مطالعة مختصراتها الموجودة عندي، فكشفها الله عليَّ، فاقتبست منها المصطلحات وسطَّرتُها على حدة في كل بابٍ يليق بها" كان قرأ النحوَ والعربية على والده وتفَقَّه عليه, ثم طَفِق يقتني ذخائِرَ العلوم الحكمية، فجمع الكتب، ولم يتَّفِقْ له تحصيلُها على الأساتذة، فصرف شطرًا من الزمان في مطالعة الكتب الموجودة عنده, فجمع في مصنَّفِه الكشَّاف- الذي يعتبر معجمًا لغويًّا فنيًّا- مصطلحاتِ العلوم وتعريفَها، وشرَحَ الموضوعات العلمية الاصطلاحية حسب العلم ورتبه أبجديًّا. وقد فرغ من تصنيفه سنة 1158, وقد اختُلف في تاريخ وفاته، والمتَّفق عليه أنَّه توفي بعد سنة 1158.
هو الخليفةُ العثماني السلطان محمود خان الثاني بن عبد الحميد الأول بن أحمد الثالث بن محمد الرابع بن إبراهيم الأول بن أحمد الأول بن محمد الثالث بن مراد الثالث بن سليم الثاني بن سليمان القانوني بن سليم الأول بن بايزيد الثاني. تولى السلطنةَ في 20 يوليو 1785م، وكان السلطان الثلاثين للدولة العثمانية، شَهِدَ عَصرُه خطواتِ إصلاحٍ واسِعةً، وقد اتَّسم عهدُه بالتوجه للغرب العلماني، وهو الذي أمَرَ محمد علي باشا مصرَ أن يجهِّزَ الجيوش على الدَّولةِ السعودية الأولى بعد أن ضَمَّت بلاد الحجاز لحُكمِها، فأغار عليها الباشا محمد علي بجيوشِه المتتالية حتى قضى عليها ودمَّر الدرعيَّةَ مَقَرَّ الحكمِ فيها، ولا تزال جيوشُه تتابع على غزو نجد بعد استرجاعِ الإمام تركي بن عبد الله الحُكمَ السعودي في نجد. والسلطانُ محمود هو الذي تخلَّصَ من الانكشارية لَمَّا وقفوا ضِدَّ الإصلاحات والتنظيمات المدنية والعسكرية التي تبنَّاها، فقضى عليهم تمامًا عام 1240هـ، وفي عهده استقَلَّت اليونان عن الدولة العثمانية بدعمٍ وتأييدٍ فرنسي وروسي وبريطاني، كما أنهكت الدولةَ العثمانية كثرةُ الحروبِ مع روسيا، ومحمد علي باشا والي مصر الطَّموح الذي يتطَلَّعُ إلى ضَمِّ بلاد الشام إلى ولايته، ووقعت الجزائِرُ تحت الاحتلال الفرنسي في سنة 1245 هـ 1830م. تعَرَّض السلطان محمود للإصابةِ بعدوى السل، ولَمَّا اشتَدَّ به المرض نُقِلَ إلى إحدى ضواحي استانبول للاستشفاء بهوائها النقي، ثم لم يلبَثْ أن عاجلته المنية، فتوفي في التاسع عشر من ربيع الثاني من هذا العام عن عمر أربع وخمسين سنة، بعد أن دام في الحُكمِ ثلاثًا وعشرين سنة وعدة أشهر، وتولَّى ابنُه عبد المجيد الأول خلَفًا له، وعمرُه دون الثامنة عشرة.
حدثت أزمة حدودية بين نجد والكويت حول واحة البلبول جنوب الكويت والتي تبعد عن ميناء الجبيل عشرين ميلا عند ما بنى فيها سالم الصباح حاكم الكويت حصنا فاحتج الملك عبدالعزيز وكتب لابن الصباح يؤكد فيها أن البلبول ضمن أراضيه ويطلب منه وقف التوسع في بناء الحصون لكن ابن صباح رفض هذا التحذير فبنى الملك عبدالعزيز قرية بالقرب من البلبول وعلى الرغم من حدوث سلسلة من المراسلات والاتصالات التي توسطت بها بريطانيا بين الطرفين إلا أن المواجهة العسكرية قد حدثت بين الطرفين في الجهراء عندما هجم فيصل الدويش زعيم مطير وأحد قادة الإخوان (إخوان من أطاع الله) على الجهراء -قرية كبيرة في الكويت- ومعه أربعة آلاف مقاتل من الإخوان ووصل الدويش إلى الصبيحة شمالا وهجموا على قوات ابن الصباح الذين تقهقروا إلى القصر الأحمر، وقرر الإخوان الانسحاب والعودة إلى الصبيحة وعدم التوغل في الكويت، فطلب ابن الصباح نجدة السلطات البريطانية فوصلت طائرات بريطانية من العراق وحلقت فوق قوات الإخوان وألقت عليهم المنشورات تأمرهم بالتراجع عن الصبيحة فانسحب الدويش بقواته لما أدرك تصميم السلطات البريطانية على حماية الكويت، وأرسل برسي كوكس المعتمد البريطاني في الخليج إلى الملك عبدالعزيز يحتج على اعتداء الإخوان على الكويت وطلب منه أن يسحب قواته إلى أراضيه فوافق الملك عبدالعزيز وتعهد بعدم الهجوم على الكويت إذا ما كف سالم بابن الصباح عن التآمر على نجد والتعاون مع خصومه وخاصة ابن رشيد. ثم ارسل الملك عبدالعزيز إلى كوكس يؤكد له أنه لم يأمر الدويش بالهجوم على الجهراء وإنما تحشد سالم ابن الصباح قواته زاد من توتر الموقف ثم أغارت قوات ابن الصباح على أتباعه وسلبت الأموال والجمال وقتلت الرجال ثم عادت إلى الجهراء.