جرت معركةٌ حاميةُ الوطيس في بلدةِ بسل الواقعة بين الطائفِ وتربة بين قواتِ محمد علي باشا والقوات السعودية بقيادة فيصل بن سعود, وذلك أنَّ فيصلَ بن سعود لَمَّا قدم إلى الحجاز ليتولى قيادةَ جموع المسلمين نزل تربة واستنفر رعايا دولتِهم في الحجازِ، فقَدِمَ طامي بن شعيب في أهل عسير وألمع وزهران وغامد في عشرين ألفًا، فلما أقبلوا على تربة وأرسلوا إلى فيصل يخبرونه بقدومِهم خرج فيصل من تربة ومعه عشرةُ آلاف مقاتل فاجتمعوا بالقربِ مِن بئر غزال قريب من تربة، ثم رحلوا منه إلى بسل حيث الرومُ (قوات محمد علي) قد اجتمعوا بعددِهم وعُدَّتهم، فنازلهم فيصل بجموعِه، ووقع بينهم قتالٌ وطِراد، وقُتلَ من الرومِ عددٌ كثير, ثمَّ في اليوم التالي قَدِم محمد علي بعساكِرَ كثيرة، ووقع قتال بين الفئتين، فثبت فيصل ومن معه ووقع كسرٌ في ناحية غامد وزهران، ثم في قوم طامي وغيرهم، واتصلت الكسرة على جموع المسلمين لا يلوي أحدٌ على أحد، ووقى الله شَرَّ القتل وكفَّ أيدي الروم عنهم وعن ساقتِهم, ولم يُقتَل إلا أقل القليل، وبعدها زحَفَت هذه القواتُ واحتلت تربة ورنية التي أصبحت فيما بعد معسكرًا عامًّا لقوات الروم, ثم رحل محمد علي إلى بيشة ونازل أكلب، وأطاعوا له، ثم سار إلى تبالة فضربها بالمدافِعِ والقنابر وقتلَ أمير الفزع و100 رجلٍ ممن معه.
خلَّفَ المعتَضِدُ بالموصِلِ نصرًا القشوريَّ يَجبي الأموالَ ويُعينُ العُمَّال على جبايتها، فخرج عامل معلثايا - معلثايا قريةٌ غَربَ مدينة دهوك- إليها ومعه جماعةٌ مِن أصحاب نصرٍ، فوقع عليهم طائفةٌ مِن الخوارجِ، فاقتتلوا إلى أن أدرَكَهم الليلُ وفَرَّقَ بينهم، وقُتِلَ من الخوارج إنسان اسمُه جعفر، وهو من أعيان أصحابِ هارون، فعَظُم عليه قتلُه، وأمر أصحابَه بالإفسادِ في البلادِ، فكتب نصرٌ القشوري إلى هارونَ الخارجيِّ كتابًا يتهدَّدُه بقُرب الخليفة، فلما قَدِمَ المعتَضِد، جَدَّ في قَصدِه، وولَّى الحسَنَ بن عليٍّ كورةَ المَوصِل، وأمره بقصدِ الخوارج، وأمرَ مُقدَّمِي الولاياتِ والأعمالِ كافةً بطاعتِه، فجَمَعَهم، وسار إلى أعمال المَوصِل، وخندقَ على نفسِه، وأقام إلى أن رفعَ النَّاسُ غُلاتَهم، ثم سار إلى الخوارج، وعبَرَ الزابَ إليهم، فلَقِيَهم قريبًا من المغلَّة، وتصافُّوا للحرب، فاقتتلوا قتالًا شديدًا، وانكشف الخوارجُ عنه ليفَرِّقوا جمعيَّتَه ثم يَعطِفوا عليه، فأمر الحسَنُ أصحابَه بلزومِ مواقِفِهم، ففعلوا فرجعَ الخوارِجُ وحَمَلوا عليهم سبعَ عشرةَ حملةً، فانكشفت ميمنةُ الحسَنِ، وقُتِلَ من أصحابه، وثبت هو، فحمَلَ الخوارجُ عليه حملةَ رجلٍ واحدٍ، فثبت لهم وضُرِبَ على رأسِه عِدَّةُ ضربات فلم تؤثِّرْ فيه. فلما رأى أصحابُه ثباتَه تراجعوا إليه وصبَرُوا، فانهزم الخوارجُ أقبَحَ هزيمةٍ، وقُتِلَ منهم خلقٌ كثيرٌ، وفارقوا موضِعَ المعركة، ودخلوا أذربيجان. وأمَّا هارون فإنَّه تحيَّرَ في أمره، وقصَدَ البرِّية، ونزل عند بني تغلِب، ثم عاد إلى معلثايا ثم عاد إلى البرِّية، ثم رجع عبْرَ دجلة إلى حزةَ، وعاد إلى البرية. وأمَّا وجوهُ أصحابه، فإنَّهم لَمَّا رأوا إقبالَ دولة المعتَضِد وقوَّتَه، وما لَحِقَهم في هذه الوقعةِ، راسلوا المعتضِدَ يطلُبون الأمانَ فأمَّنَهم، فأتاه كثيرٌ منهم، يبلُغون ثلاثَمائة وستينَ رجُلًا، وبقي معه بعضُهم يجولُ بهم في البلادِ، إلى أن قُتِلَ سنة 383هـ، حيث لاحَقَه الحسينُ بنُ عبدانَ التغلِبيُّ حتى قبَضَ عليه وأرسلَه للمعتَضِد الذي قتله وصَلَبه.
خرج السلطانُ قلاوون من دمشق إلى طرابلس فنازلها، وقد قَدِمَ لنجدة أهلِها أربعة شوان- سفن حربية كبيرة- من جهةِ متمَلِّك قبرص، فوالى السلطانُ الرميَ بالمجانيق عليها والزَّحفِ والنُّقوب في الأسوار، حتى افتَتَحها عَنوةً في الساعة السابعة من يوم الثلاثاء رابع ربيع الآخر، بعدما أقام عليها أربعة وثلاثين يومًا، ونصب عليها تسعةَ عشر منجنيقًا، وعَمِلَ فيها ألف وخمسمائة نفسٍ من الحجَّارين الزرَّاقين- رُماة الرماح- وفرَّ أهلُها إلى جزيرة تجاه طرابلس، فخاض الناس فرسانًا ورجالًا وأسَرُوهم وقتلوهم وغَنِموا ما معهم، وظَفِرَ الغلمان والأوشاقية- مسؤولو ركوب السلطان للأحصنة للمتعة والرياضة- بكثيرٍ منهم كانوا قد ركبوا البحرَ فألقاهم الريحُ بالساحل، وكَثُرت الأسرى حتى صار إلى زردخاناه السلطان ألف ومائتا أسير، واستشهد من المسلمين الأميرُ عِزُّ الدين معن، والأميرُ ركن الدين منكورس الفارقاني، وخمسة وخمسون من رجال الحلقة، وأمر السلطان بمدينة طرابلس فهُدِمت، وكان عرض سورها يمرُّ عليه ثلاثةُ فرسان بالخيل، ولأهلها سعاداتٌ جليلة منها أربعة آلاف نول قزازاة، وأقر السلطان بلدةَ حبيل مع صاحِبِها على مالٍ أخذه منه، وأخذ بيروت وجبلة وما حولها من الحصون، وعاد السلطانُ إلى دمشق في نصف جمادى الأولى، ثم عمر المسلمون مدينة بجوار النهر فصارت مدينة جليلة، وهي التي تعرف اليوم بطرابلس، وقد كان لها في أيدي الفرنج من سنة 503 إلى هذا التاريخ، وقد كانت قبل ذلك في أيدي المسلمين من زمان معاوية، فقد فتحها سفيانُ بن نجيب لمعاوية، فأسكنها معاويةُ اليهود، ثم كان عبدُ الملك بن مروان جدَّدَ عِمارَتَها وحَصَّنَها وأسكنها المسلمين، وصارت آمنةً عامرة مطمئنة، وبها ثمارُ الشام ومصر، فإنَّ بها الجوز والموز والثلج والقصب، والمياه جارية فيها تصعدُ إلى أماكِنَ عالية، وقد كانت قبل ذلك ثلاثَ مدن متقاربةً، ثم صارت بلدًا واحدًا، ثم حُوِّلت من موضعها ثمَّ أمر السلطان الملك المنصور قلاوون أن تهَدَّمَ البلد بما فيها من العمائِرِ والدور والأسوار الحصينة التي كانت عليها، وأن يبنى على ميل منها بلدةٌ غيرُها أمكَنُ منها وأحسَنُ، ففعل ذلك، فهي هذه البلدة التي يقال لها طرابلس.
هو تيودور هرتزل (بنيامين زئيف هرتزل) صحفيٌّ يهوديٌّ نمساويٌّ مَجَري، مؤسِّسُ الصهيونية السياسية المعاصِرة. ولِدَ في بودابست 1860م، وتلقَّى تعليمًا يطابقُ روحَ التنوير الألماني اليهودي السائدِ في تلك الفترة، الذي يغلِبُ عليه في صُلبِه الطابَعُ الغربي النصراني حتى سنة 1878م. اشتغل هرتزل بالصحافةِ في باريس كمراسِلٍ للصحيفة الفيينية المهمَّة آنذاك من عام 1891 إلى 1896م وحينها تشكَّلَت أفكارُه الصهيونية بعد أن عايش قضيَّةَ دريفوس، وهو نقيبٌ فرنسي يهودي اتُّهِمَ بالخيانةِ العُظمى بأنَّه أرسل ملفاتٍ فرنسيَّةً سرِّيةً إلى ألمانيا, فانقسم المجتمَعُ الفرنسي بين مؤيِّد له ومقتَنِعٍ ببراءتِه، ومعارضٍ يصِفُه بالخيانِة والعَمالة. كان المجتَمَعُ الفرنسي حينها يعادي الساميةَ وشديدَ الكراهية للإمبراطورية الألمانية. تابع هرتزل أحداثَ قضيةَ دريفوس في مراسلاتِه الصحفية, وهرتزل اليهوديُّ المندمج مع الأوربيين أصبح يفكِّرُ في المشكلة اليهودية وفي ضرورةِ إيجاد حلٍّ غيِر اندماج وانصهار اليهودِ في مجتمعات أوروبا الشرقيَّة والغربية، فالتيارُ المعادي للسَّامية، ورغبةُ اليهود في إثبات وجودِهم كشعب، يدعوان إلى البحثِ عن بديلٍ للاندماج، فجاءت الإجابةُ في الكُتَيِّب الذي انتهى من تأليفه يوم 17 يونيو 1895 والذي نُشِرَ سنة 1896 تحت عنوان: (الدولة اليهودية). وإن لم يجِدِ الكُتَيِّب صدًى واسعًا في البداية إلَّا أنه وَضَع فعلًا حجرَ الأساس لظهورِ الصهيونية السياسيَّة وتأسيسِ الحركة الصهيونية بعد انعقادِ المؤتمر الصهيوني الأول في بازل بسويسرا عام 1897م، والذي دعا لعقده هرتزل، وجمع له أساطينَ اليهود من حاخامات يهود وسياسيين وإعلاميين ورجال أعمال، وانتُخِبَ فيه هرتزل رئيسًا للمنظَّمة الصهيونية العالمية، وأُعطِيَ الصلاحيَّات في السعيِ لإقامة وطنٍ قومي لليهود في فلسطين، ووُعِدَ بالدعم المادي لتحقيقِ هذا الغرض، وبدأ بمقابلة عددٍ مِن شخصيات عديدةٍ من دول مختلفة، مثل: القيصر الألماني، و السلطان العثماني عبد الحميد الثاني؛ بحثًا عن مؤيدين للمشروع الصهيوني. لكنَّ جهودَه فَشِلت وتَرَكت المجال مفتوحًا لمواصلة العمل على تأسيس الدولة اليهودية, وهلك هرتزل هذا العامَ بمدينةِ فيلاخ في النمسا.
كانت بنغلاديش جُزءًا من الهند في ظِلِّ الإسلامِ الذي وصَلَ إلى تلك المِنطَقةِ في القرن العاشر الميلادي. وفي النصف الثاني من القرن الثامنَ عشَرَ، احتلَّ المستعمِرُ البريطانيُّ القارة الهنديَّةَ، ومن ضِمنها بنغلاديشُ وباكستانُ وجامو وكشمير تحت نير الإمبراطوريَّة الاستعماريَّة البريطانيَّة في جنوب آسيا. ناضلتِ (الرابطة الإسلاميَّة) التي ضمَّتِ المسلمينَ في القارة الهنديَّةِ تحت راية الكِفاح ضدَّ الاستعمار البريطانيِّ، وتوَّجَ الإسلاميُّون نِضالَهم بقيام باكستان عام 1947م، وأصبحت بلاد البنغال تُدعى باكستان الشرقية وجزء من دولة باكستان، وقامتِ الحكومة الباكستانيَّة بمُحاولاتٍ لإلغاء لُغة الهندوس الأقليَّة الموجودة بين الأغلبية الإسلاميَّة إلا أن قُوَّة الديمقراطية قد حالت دون ذلك. وتشكَّل حِزب سياسيٌّ بنغاليٌّ هو «رابطة عوامي» أي: «حزب العامَّة» بزعامة مُجيب الرحمن دعا فيه إلى استقلال بنغلاديش. وفي انتخابات 1970م فاز هذا الحزبُ بأكثريَّة المقاعِدِ في برلمان الباكستان. إلا أن الحكومة الباكستانية قامت بحلِّ البرلمانِ مما أثار نِقمةً شعبيَّةً، فقام الجيش الباكستاني بقَمعِها واعتقَلَ مجيب الرحمن. وفي عام 1971م اندلعتِ الحربُ الكارثيَّة بين الهند -التي كانت تُساند انفصالَ بنغلاديش- وباكستان. نتيجةً لهذه الحرب انتصر الجيشُ الهنديُّ ودخل مدينة دكا، وفي العام نفسه أُعلن عن استقلال بنغلاديش، وأصبح مجيب الرحمن أوَّلَ رئيس جمهوريةٍ. وقُتل مجيب الرحمن وأفرادُ عائلته عام 1975م نتيجةَ انقلابٍ عسكريٍّ، فتسلَّم الرئاسةَ أحمدُ مُشتاق، ثم بعد ذلك توالت سلسلةُ الانقلاباتِ العسكريَّةِ، فخلف مُشتاق العميدُ خالد مشرف، ثم محمد صايم، ثم ضياء الرحمن والدُ رئيسة الوزراء خالدة ضياء. وأعلَنَ الجنرال ضياء الرحمن منذ بداية حُكمه، أنه سوف يُحول نظام البلاد من الدكتاتوريَّةِ إلى الديمقراطيَّةِ. فأجرى انتخاباتٍ رئاسيَّةٍ عام 1978م وفاز بها. واُغتيل ضياء الرحمن في 30 أيار 1981م، وتلا ذلك انتخاباتٌ رئاسيَّةٌ فاز بها عبد الستار، مُرشَّح الحزب الوطني البنغالي. وفي أواخر عام 1983م أعلن قائدُ الجيش حسين محمد إرشاد نفسه رئيسًا للدولة، وفي 15 تشرين الأول عام 1986م أُعيد انتخابُ الرئيس إرشاد.
أُنشِئَت هذه المكتبةُ في القرن الثاني الهجري ( الثامن الميلادي) على يدِ هارونَ الرشيد، وذلك بعد أن ضاقت مكتبةُ القَصرِ بما فيها من كتُبٍ, وعَجَزت عن احتواءِ القُرَّاء المتردِّدين عليها؛ ممَّا جعله يفكِّرُ في إخراجِها من القصر, وإفرادِها بمبنًى خاصٍّ بها, يَصلُحُ لاستيعابِ أكبَرِ عدَدٍ مِن الكتُبِ, ويكون مفتوحًا أمام كلِّ الدارسينَ وطُلَّابِ العِلمِ. فاختار لها مكانًا مُناسِبًا, وأقام عليه مبنًى مكَوَّنًا من عدَّةِ قاعات؛ قاعة للاطِّلاع, وقاعة للمُدارَسة, وقاعة لنَسخِ الكتُبِ الجديدة وتجليدِها, وقاعة للتَّرويحِ عن النَّفسِ وللاستراحةِ. ومسجِدًا للصلاةِ, ومكانًا يَبيتُ فيه الغُرَباء, تتوفَّرُ فيه مقوِّماتُ الحياةِ مِن طعامٍ وشَرابٍ وغَيرِه, ومخزنًا للكتُب, نظمَت فيه بحيثُ صار لكُلِّ فَنٍّ مِن الفنون العِلميَّة مكانٌ خاصٌّ به, وتُوضَعُ فيه مُرَتَّبةً في دواليبَ، ثم زوَّدها بما تحتاجُ إليه من أثاثٍ ومرافِقَ, وأحبارٍ وأوراقٍ للدارسين, وعيَّنَ لها المُشرِفينَ على إدارتِها, والعُمَّالَ القائمينَ على خدمة ورعايةِ زائريها. وواصلَ ابنُه المأمونُ بعده الاهتمامَ بتلك المكتبةِ، فأحضر مئاتِ النُّسَّاخ والشُّرَّاح والمُترجِمينَ مِن شَتَّى اللُّغات؛ لتعريبِ ونَقلِ الكتُبِ من لغَتِها الأصلية, حتى غَدَت من أعظَمِ المكتبات في العالَم, ووضع بها مرصدًا؛ ليكون تعليمُ الفلَكِ فيها تعليمًا عمليًّا، يجَرِّبُ فيها الطلابُ ما يدرُسونَه من نظريَّاتٍ عِلميَّةٍ, وبنى بها مستشفًى لعلاجِ المرضى وتعليمِ الطِّبِّ؛ إذ كان يؤمِنُ بأن العِلمَ النظري وحده لا جَدوى منه. وكتب إلى ملكِ الرومِ يسألُه الإذنَ في إنفاذِ ما عنده من العلومِ القديمة المخزونةِ المورَّثة عن اليونان, واجتمع لدى المأمونِ بذلك ثروةٌ هائلةٌ مِن الكتبِ القديمة, فشَكَّلَ لها هيئةً مِن المترجمينَ المَهَرة والشُّرَّاح والورَّاقينَ؛ للإشرافِ على ترميمِها ونَقلِها إلى العربيَّة, وعيَّنَ مسؤولًا لكلِّ لغةٍ يُشرِفُ على من يُترجِمونَ تُراثَها, وأجرى عليهم الرواتبَ العظيمة, حيث جعل لبعضِهم خمسَمائة دينارٍ في الشهر, أي ما يساوي 2كيلو جرام ذهبًا تقريبًا, بالإضافة إلى الأعطيات الأخرى, إذ أعطى على بعضِ الكتُبِ المُترجَمة وزنَها ذهبًا. وبعضُهم كان يقومُ بترجمة الأصلِ إلى لُغتِه هو, ثم يقومُ مترجِمٌ آخَرُ بنَقلِه إلى العربيَّةِ وغيرِها, ولم يقتَصِرْ دَورُ المترجمينَ على الترجمةِ فقط، وإنما قاموا بالتعليقِ على هذه الكتب، وتفسيرِ ما فيها من نظريَّات, ونَقْلها إلى حيِّز التطبيق, وإكمالِ ما فيها من نَقْصٍ, وتصويبِ ما فيها من خطأٍ؛ حيث كان عمَلُهم يُشبِهُ ما يسمَّى بالتحقيقِ الآن, وما إن انتهى عصرُ المأمون حتى كانت معظَمُ الكتُبِ اليونانيَّة والهنديَّة والفارسية وغيرِها من الكتب القديمة في علومِ الرياضةِ والفَلَك والطبِّ والكيمياءِ والهندسةِ موجودةً بصورتها العربيَّة الجديدةِ بمكتبة بيتِ الحكمةِ. كان للترجمةِ التي عَمِلَ عليها المأمونُ أثَرٌ واضِحٌ في تطوُّرِ الحركة العلميَّة لدى المسلمين إلَّا أنَّها نقَلَت معها بعضَ مُعتَقداتِ الأُمَم السابقة، وأفسدت على بعضِ المُسلِمين دينَهم. يقولُ شيخُ الإسلامِ ابنُ تيميَّة: "أظهر اللهُ مِن نورِ النبوةِ شَمسًا طَمَسَت ضوءَ الكواكبِ، وعاش السَّلَفُ فيها بُرهةً طويلةً، ثم خَفِيَ بعضُ نورِ النبوة؛ فعُرِّبَ بعضُ كتُبِ الأعاجِمِ الفلاسفةِ مِن الرومِ والفُرس والهند في أثناءِ الدولة العباسيَّة، ثم طُلِبَت كتُبُهم في دولة المأمونِ مِن بلاد الروم فعُرِّبَت، ودَرَسَها الناسُ وظهر بسبب ذلك من البِدَعِ ما ظهر، وكان أكثَرُ ما ظهر من علومِهم الرياضيَّة كالحسابِ والهيئةِ، أو الطبيعةِ كالطبِّ أو المنطقيَّة، فأمَّا الإلهيَّةُ: فكلامُهم فيها نَزْرٌ، وهو مع نزارتِه ليس غالِبُه عندهم يقينًا، وعند المسلمينَ من العلومِ الإلهيَّة الموروثة عن خاتَمِ المُرسَلين ما ملأ العالمَ نُورًا وهدًى". وقال أيضًا رحمه الله: "إنَّ أمَّتَنا- أهلَ الإسلامِ- ما زالوا يَزِنون بالموازينِ العَقليَّة, ولم يسمَعْ سَلَفًا بذكرِ هذا المنطقِ اليوناني, وإنَّما ظهر في الإسلامِ لَمَّا عُرِّبَت الكتبُ الروميَّة في عهد دولة المأمونِ"
في سادس جمادى الآخرة، فتح أتابك عمادُ الدين زنكي بن آقسنقر مدينةَ الرَّها من الفرنج، وفتَحَ غَيرَها مِن حُصونِهم بالجزيرةِ أيضًا، وكان ضَرَرُهم قد عَمَّ بلادَ الجزيرة وشَرَّهم قد استطار فيها، ووصَلَت غاراتُهم إلى أدانيها وأقاصيها، وبلَغَت آمِدَ ونصيبين ورأسَ عَين والرقَّة، وكانت مملكَتُهم بهذه الديارِ مِن قَريبِ ماردين إلى الفُرات مثل الرَّها، وسروج، والبيرة، وسن ابن عطير، وحملين، والموزر، والقرادي، وغير ذلك. وكانت هذه الأعمالُ مع غيرِها ممَّا هو غَرْبَ الفرات لجوسلين، وكان صاحِبَ رأي الفرنجِ والمُقَدَّم على عساكِرِهم؛ لِما هو عليه من الشَّجاعةِ والمكرِ، وكان زنكي يَعلَمُ أنَّه متى قَصَد حَصْرَ الرَّها، اجتمع فيها مِن الفرنجِ مَن يَمنَعُها، فيتعَذَّر عليه مِلكُها لِما هي عليه من الحَصانةِ، فاشتغل بقِتالِ الملوك الأرتقيَّة بديارِ بَكرٍ ليُوهِمَ الفرنجَ أنَّه غيرُ مُتفَرِّغٍ لقَصدِ بلادِهم، فلمَّا رأَوْا أنَّه غيرُ قادر على تَرْكِ الملوك الأرتقيَّة وغيرِهم من ملوكِ ديارِ بَكرٍ، حيث إنَّه محارب لهم، اطمأنُّوا، وفارق جوسلين الرَّها وعبَرَ الفراتَ إلى بلاد الغربية، فجاءت عيونُ أتابك إليه فأخبَرَته فنادى العسكَرَ بالرحيلِ وألَّا يتخَلَّفَ عن الرَّها أحَدٌ مِن غَدِ يَومِه، وجمَعَ الأمراءَ عنده، وقال: قَدِّموا الطعامَ، وقال: لا يأكُلْ معي على مائدتي هذه إلَّا مَن يَطعنُ غدًا معي على بابِ الرَّها، فلم يتقَدَّمْ إليه غيرُ أميرٍ واحدٍ وصَبيٍّ لا يُعرَف؛ لِما يَعلَمونَ مِن إقدامِه وشجاعته، وأنَّ أحدًا لا يَقدِرُعلى مُجاراتِه في الحَربِ، فقال الأميرُ لذلك الصبي: ما أنت في هذا المقامِ؟ فقال أتابك: دَعْه فواللهِ إنِّي أرى وجهًا لا يتخَلَّفُ عني، وسار والعساكِرُ معه، ووصل إلى الرَّها، وكان هو أوَّلَ مَن حمل على الفرنجِ ومعه ذلك الصبيُّ، وحمَلَ فارِسٌ مِن خَيَّالة الفرنج على أتابك عرضًا، فاعتَرَضه ذلك الأميرُ فطَعَنَه فقَتَلَه، وسَلِمَ الشهيدُ، ونازل البَلَدَ، وقاتله ثمانيةً وعشرين يومًا، فزحَفَ إليه عِدَّةَ دَفعاتٍ، وقَدَّم النقَّابينَ فنَقَبوا سورَ البَلَدِ، وطَرَحوا فيه الحَطَب والنَّارَ فتهَدَّمَ، ودخلها فحاربهم، ولجَّ في قتالِه خَوفًا من اجتماعِ الفرنج والمسيرِ إليه واستنقاذِ البلد منه، فأخذ البَلَدَ عَنوةً وقهرًا، وحَصَرَ قلعةَ الرَّها فمَلَكها أيضًا, فنصَرَ اللهُ المُسلمينَ وغَنِموا غنائِمَ عَظيمةً، وخَلَّصوا أُسارى مُسلِمينَ يَزيدونَ على خمسِمئة. ونهب النَّاسُ الأموالَ وسَبَوا الذُّريَّةَ وقَتَلوا الرجالَ، فلمَّا رأى أتابك زنكي البلدَ أعجَبَه، ورأى أنَّ تَخريبَ مِثلِه لا يجوزُ في السِّياسة، فأمَرَ فنُودِيَ في العساكِرِ برَدِّ مَن أخذوه من الرِّجالِ والنِّساءِ والأطفالِ إلى بُيوتِهم، وإعادةِ ما غَنِموه من أثاثِهم وأمتِعَتِهم، فرَدُّوا الجميعَ عن آخِرِهم لم يُفقَدْ منهم أحَدٌ إلَّا الشَّاذُّ النَّادِرُ الذي أُخِذَ وفارَقَ مَن أخَذَه العَسكَرُ، فعاد البلدُ إلى حالِه الأوَّلِ، وجعَلَ فيه عسكرًا يَحفَظُه، وكان جمالُ الدين أبو المعالي فضلُ الله بن ماهان رئيسُ حرَّان هو الذي يحُثُّ أتابك في جميعِ الأوقاتِ على أخْذِ الرَّها، ويُسَهِّلُ عليه أمْرَها, ثمَّ رَحَل إلى سروجٍ ففَتَحَها، وهَرَب الفرنجُ منها، وتسَلَّمَ سائِرَ الأماكِنِ التي كانت بيَدِ الفِرنجِ شَرقيَّ الفُراتِ ما عدا البيرةَ؛ فإنَّها حصينةٌ مَنيعةٌ، وعلى شاطئِ الفُراتِ، فسار إليها وحاصَرَها، وكانوا قد أكثَروا مِيرتَها ورِجالَها، فبَقِيَ على حِصارِها إلى أن رحَلَ عنها عندما جاءَه الخبَرُ مِن المَوصِل أنَّ نَصيرَ الدِّينِ جقر نائبه بالموصِلِ قُتِلَ، فخاف عليها، وتَرَك البيرةَ بعد أن قارَبَ أخْذَها, وسار جِهةَ المَوصِلِ، ولَمَّا بلَغَ زنكي خبَرُ قَتْلِ مَن قَتَلَ جقر، سكَنَ جأشُه واطمأنَّ قَلبُه.
بعد رحيلِ صلاح الدين عن عكَّا إلى الخروبة لِمَرَضِه، سمع الفرنج أنَّ صلاح الدين قد سار للصيد، ورأوا أنَّ عسكر اليزك- اليزك كلمة فارسية تعني مقدِّمة الجيش- عندهم قليلًا، وأنَّ الوحل الذي في مرج عكا كثيرٌ يمنع من سلوكه من أراد أن ينجدَ اليزك، فاغتنموا ذلك، وخرجوا من خندَقِهم على اليزك وقت العصر، فقاتلهم المسلمونَ، وقُتِلَ من الفريقين جماعة كثيرة، وعاد الفرنجُ إلى خندقهم، ولما عاد صلاح الدين إلى المعسكر سَمِعَ خبر الوقعة، فندب الناسَ إلى نصر إخوانهم، فأتاه الخبَرُ أن الفرنج عادوا إلى خندقهم، فأقام، ثم إنه رأى الشتاء قد ذهب، وجاءته العساكِرُ من البلاد القريبة منه دمشق وحمص وحماة وغيرها، فتقدم من الخروبة نحو عكَّا، فنزل بتل كيسان، وقاتل الفرنجَ كُلَّ يومٍ لِيَشغَلَهم عن قتال من بعكَّا من المسلمين، فكانوا يقاتِلون الطائفتَينِ ولا يسأمون، وكان الفرنجُ، في مدة مقامهم على عكا، قد عملوا ثلاثة أبراج من الخَشَب عالية جدًّا، وعملوا كل برج منها خمسَ طبقات، كل طبقة مملوءة من المقاتلة، وغَشُوها بالجلود والخل والطين والأدوية التي تمنَعُ النار من إحراقها، وأصلحوا الطرُقَ لها، وقدَّموها نحو مدينة عكا من ثلاثِ جِهات، وزحفوا بها في العشرين من ربيع الأول، فأشرَفَت على السور، وقاتَلَ من بالأبراج العالية مِن على السور، فانكشف المُسلمون، وشرع الفرنجُ في طم خندق المدينة، فأشرف البلدُ على أن يملِكَه الفرنج عَنوةً وقهرًا، فأرسل أهلُ عكا إلى صلاح الدين إنسانًا سبَحَ في البحر، فأعلمه ما هم فيه من الضيقِ، وما قد أشرفوا عليه من أخْذِهم وقَتْلِهم، فركب هو وعساكره وتقدموا إلى الفرنجِ وقاتلوهم من جميعِ جهاتهم قتالًا عظيمًا دائمًا يشغَلُهم عن مكاثرة البلد، فافترق الفرنجُ فرقتين: فرقةٌ تقاتل صلاح الدين، وفِرقةٌ تقاتل أهل عكا، إلَّا أنَّ الأمر قد خَفَّ عمن بالبلد، ودام القتالُ ثمانية أيام متتابعة، آخِرُها الثامن والعشرون من الشهر، وسَئِمَ الفريقان القتال، وملُّوا منه لملازمته ليلًا ونهارًا، والمسلمون قد تيقَّنوا استيلاء الفرنج على البلد؛ لِما رأوا من عَجزِ مَن فيه عن دفع الأبراج، فإنَّهم لم يتركوا حيلةً إلَّا وعملوها، فلم يُفِدْ ذلك ولم يُغنِ عنهم شيئًا، وتابَعوا رميَ النفطِ الطيار عليها، فلم يؤثِّرْ فيها، فأيقنوا بالبوارِ والهلاك، فأتاهم الله بنصرٍ مِن عنده وإذنٍ في إحراقِ الأبراج، فلما احترق البرجُ الأوَّلُ انتقل إلى الثاني، وقد هَرَب مَن فيه لخوفِهم، فأحرقوه، وكذلك الثالث، وأرسل صلاحُ الدين يطلب العساكِرَ الشرقيَّة، فأول من أتاه عماد الدين زنكي بن مودود بن زنكي، وهو صاحِبُ سنجار وديار الجزيرة، ثم أتاه علاء الدين ولد عز الدين مسعود بن مودود بن زنكي، سيَّرَه أبوه مقدَّمًا على عسكره وهو صاحِبُ الموصل، ثم وصل زين الدين يوسف صاحِبُ إربل، وكان كل منهم إذا وصل يتقَدَّم إلى الفرنج بعسكره، وينضَمُّ إليه غيرهم ويقاتلونهم، ثم ينزلون، ووصل الأسطول من مصر، فلما سَمِعَ الفرنج بقُربِه منهم جَهَّزوا إلى طريقه أسطولًا ليلقاه ويقاتِلُه، فركب صلاح الدين في العساكر جميعِها، وقاتلهم من جهاتهم ليشتَغِلوا بقتاله عن قتالِ الأسطول ليتمَكَّنَ مِن دخول عكا، فلم يشتغلوا عن قَصدِه بشيء، فكان القتالُ بين الفريقين برًّا وبحرًا، وكان يومًا مشهودًا لم يؤرَّخْ مِثلُه، وأخذ المسلمونَ من الفرنج مركبًا بما فيه من الرِّجالِ والسلاح، وأخذ الفرنجُ من المسلمين مثلَ ذلك، إلا أن القتلَ في الفرنج كان أكثَرَ منه في المسلمين، ووصل الأسطولُ الإسلاميُّ- بحمد الله- سالِمًا.
بعث الصِّدِّيقُ خالدَ بنِ الوليدِ إلى قِتالِ مُسَيلِمةَ الكَذَّابِ وقَومِه من بني حَنيفةَ باليمامةِ، وأوعب معه المسلمون، وعلى الأنصارِ ثابتُ بنُ قيسِ بنِ شماسٍ، فسار لا يمُرُّ بأحدٍ مِن المرتدِّين إلَّا نكَّل بهم، وقد اجتاز بخُيولٍ لأصحابِ سَجاحٍ فشَرَّدهم وأمَرَ بإخراجِهم مِن جزيرةِ العَرَبِ، وأردف الصِّدِّيقُ خالِدًا بسَرِّيةٍ لتكونَ رِدءًا له من ورائِه، فلمَّا سَمِع مُسَيلِمةُ بقدومِ خالدٍ عَسكَرَ بمكانٍ يقالُ له عقربا في طَرَفِ اليمامةِ، والريفُ وراء ظهورِهم، ونَدَب النَّاسَ وحَثَّهم، فحَشَد له أهلُ اليمامةِ، فاصطدم المسلِمون والكُفَّارُ، فكانت جولةٌ عظيمة وجَعَلت الصَّحابةُ يتواصَون بينهم ويقولون: يا أصحابَ سُورةِ البَقَرةِ، بَطَل السِّحرُ اليومَ، ودارت رحى المسلمين، وقد مَيَّز خالِدٌ المهاجرينَ من الأنصارِ من الأعرابِ، وكُلُّ بني أبٍ على رايتِهم، يقاتِلون تحتَها، حتى يَعرِفَ النَّاسُ مِن أين يُؤتَون، وصَبَرَت الصَّحابةُ في هذا الموطِنِ صبرًا لم يُعهَدْ مِثْلُه، ولم يزالوا يتقدَّمون إلى نحورِ عَدُوِّهم حتى فتح اللهُ عليهم، ووَلَّى الكُفَّارُ الأدبارَ، ودخل المسلِمونَ الحديقةَ مِن حيطانِها وأبوابِها يقتُلونَ من فيها من المرتَدَّةِ من أهلِ اليمامةِ، حتى خَلَصوا إلى مُسَيلِمةَ، فتقَدَّم إليه وَحشِيُّ بنُ حَربٍ مولى جُبَيرِ بنِ مُطعِمٍ، فرماه بحَرْبتِه فأصابه وخَرَجَت من الجانِبِ الآخَرِ، وسارع إليه أبو دُجانةَ سِماكُ بنُ خَرشةَ، فضَرَبه بالسَّيفِ فسقط، فكان جملةُ مَن قُتِلوا في الحديقةِ وفي المعركةِ قريبًا مِن عَشرةِ آلافِ مُقاتِلٍ. وقيل: أحدٌ وعشرون ألفًا، وقُتِل من المسلمين سِتُّمائةٍ، وقيل: خمسُمائةٍ.
غَزَا قُتيبةُ بن مُسلِم كاشْغَر, وهي أَدْنَى مَدائِن الصِّين، وحَمَل مع النَّاسِ عِيالَهُم لِيَضَعَهُم في سَمَرْقَنْد فلمَّا بَلَغ النَّهْرَ اسْتَعمَل رَجُلًا مِن مَوالِيه يُقالُ له الخَوارِزْمي على مَقْطَع النَّهْر، وقال: لا يَجُوزَنَّ أَحَدٌ إلَّا بِجَوازٍ منه، ومَضَى إلى فَرْغانَة، وأَرسَل مَن يُسَهِّل له الطَّريقَ إلى كاشْغَر، وبَعَث جَيْشًا مع كَبيرِ بن فُلان إلى كاشْغَر، فغَنِمَ وسَبَى سَبْيًا، فخَتَمَ أَعْناقَهُم، وأَوْغَل حتَّى بَلَغ قَرِيبَ الصِّين، ثمَّ بَعَث قُتيبةُ إلى مَلِك الصِّين رُسُلًا يَتَهَدَّدُه ويَتَوَعَّدُه ويُقْسِم بالله لا يَرجِع حَتَّى يَطَأَ بِلادَه ويَخْتِم مُلوكَهُم وأَشْرافَهُم، ويَأخُذ الجِزْيَةَ منهم أو يَدخُلوا في الإسلام. فكَتَب إليه مَلِكُ الصِّين: أن ابْعَث إِلَيَّ رَجُلًا شَريفًا يُخْبِرُني عنكم وعن دِينِكُم. فانْتَخَب قُتيبةُ عَشرةً لهم جَمالٌ وأَلْسُن وبَأْسٌ وعَقْلٌ وصَلاحٌ، فأَمَر لهم بِعُدَّةٍ حَسَنَة، ومَتاعٍ حَسَن مِن الخَزِّ والوَشْي وغَيرِ ذلك، وخُيولٍ حَسَنَة، وكان منهم هُبيرَةُ بن مُشَمْرِج الكِلابي، فقال لهم: إذا دَخَلْتُم عليه فأَعْلِموه أَنِّي قد حَلَفْتُ أَنِّي لا أَنْصَرِف حَتَّى أَطَأَ بِلادَهم، وأَخْتِم مُلوكَهُم وأَجْبِي خَراجَهُم. سار الوَفْدُ وعليهم هُبيرَة، فلمَّا دَخَلوا على المَلِك وَجَدوا مَمْلَكَة عَظِيمَة حَصِينَة ذاتَ أَنهارٍ وأَسواقٍ وحُسْنٍ وبَهاءٍ، فدَخَلوا عليه في قَلْعَة عَظِيمَة حَصِينَة، بِقَدْرِ مَدينَةٍ كَبيرَة، فقال المَلِكُ لِتُرْجُمانِه: قُل لهم: ما أنتم؟ وما تُريدون؟ فقالوا: نحن رُسُل قُتيبةَ بن مُسلِم، وهو يَدعوك إلى الإسلامِ، فإن لم تَفعَل فالجِزْيَة، فإن لم تَفعَل فالحَرْب, فأَعطَى الجِزْيَة فقَبِلَها منه قُتيبةُ.
خرج المعتَصِمُ إلى سامِرَّا لبنائِها، وكان سببُ ذلك أنَّه قال إني أتخوَّفُ هؤلاء الحربيَّةَ أن يَصيحوا صيحةً فيَقتُلوا غِلماني، فأريدُ أن أكونَ فوقهم، فإن رابني منهم شيءٌ أتيتُهم في البَرِّ والماء، حتى آتيَ عليهم، فخرج إليها فأعجَبَه مكانَها، وقيل: كان سببُ ذلك أنَّ المعتصِمَ كان قد أكثَرَ مِن الغِلمان الأتراك، فكانوا لا يزالونَ يَرَون الواحِدَ بعد الواحدِ قتيلًا، وذلك أنَّهم كانوا جفاةً، يركبون الدوابَّ، فيَركُضونَها إلى الشوارع، فيَصدِمون الرجُلَ والمرأةَ والصبيَّ، فيأخُذُهم الأبناءُ عن دوابِّهم، يَضرِبونَهم، وربما هلك أحَدُهم فتأذَّى بهم الناس. ثمَّ إن المعتَصِمَ رَكِبَ يومَ عيد، فقام إليه شيخٌ فقال له: يا أبا إسحاق، فأراد الجندُ ضَربَه، فمنعهم وقال: يا شيخُ، ما لك، ما لك؟ قال: لا جزاك اللهُ عن الجِوارِ خَيرًا، جاوَرْتَنا وجِئتَ بهؤلاء العُلوجِ مِن غِلمانِك الأتراك، فأسكَنْتَهم بيننا، فأيتمْتَ صِبيانَنا وأرمَلْتَ بهم نسوانَنا وقتَلْتَ رِجالَنا؛ والمعتَصِمُ يسمع ذلك، فدخل منزلَه، ولم يُرَ راكبًا إلى مثل ذلك اليومِ، فخرج فصلى بالناس العيدَ، ولم يدخُل بغداد، بل سار إلى ناحيةِ القاطول، ولم يرجِعْ بغداد. قال مسرور الكبير: سألني المعتَصِمُ أين كان الرشيدُ يتنَزَّه إذا ضَجِرَ ببغداد، قلت: بالقاطول، وكان قد بنى هناك مدينةً آثارُها وسورُها قائم، وكان المعتصِمُ قد اصطنع قومًا من أهلِ الحوف بمصر، واستخدمهم وسمَّاهم المغاربة، وجمع خَلقًا من سمرقند، وأشروسنة، وفرغانة، وسمَّاهم الفراغنة، فكانوا من أصحابِه، وبَقُوا بعده، فبُني بها الجامِعُ المشهورُ بمنارته الملْتَوية ذات الدَّرج الخارجي الملتَفِّ على المنارة، ويُذكَرُ أنَّ أصلَ الكلمةِ هو سُرَّ مَن رأى، ثم صارت سامِرَّا.
أوقَعُ يمينُ الدَّولةِ محمودُ بنُ سبكتكين بجيبال ملِكِ الهند وقعةً عَظيمةً، وسببُ ذلك أنَّه لَمَّا اشتغَلَ بأمر خراسان ومَلِكِها، وفرغ منها ومِن قتال خلَفِ بنِ أحمد، وخلا وجهُه مِن ذلك؛ أحَبَّ أن يغزوَ الِهندَ غزوةً تكونُ كَفَّارةً لِما كان منه من قتالِ المُسلِمينَ، فثنى عنانَه نحو تلك البلادِ، فنزل على مدينة برشور، فأتاه عدوُّ الله جيبال مَلِكُ الهند في عساكِرَ كثيرةٍ، فالتَقَوا في المحرَّمِ مِن هذه السنة، فاقتتلوا، وصبَرَ الفريقان، فلما انتصَفَ النَّهارُ انهزم الهندُ، وقُتِلَ فيهم مقتلة عظيمة، وأُسِرَ جيبال ومعه جماعةٌ كثيرة من أهلِه وعَشيرتِه، وغَنِمَ المسلمون منهم أموالًا جليلةً، وغَنِموا خمسَمئة ألف رأسٍ من العبيد، وفَتَح من بلادِ الهند بلادًا كثيرةً، فلَمَّا فرغ من غزواته أحَبَّ أن يُطلِقَ جيبال ليراه الهنودُ في شِعارِ الذُّلِّ، فأطلقه بمالٍ قرَّرَه عليه، فأدَّى المال، ومن عادةِ الهندِ أنَّهم مَن حصَلَ منهم في أيدي المُسلِمينَ أسيرًا لم ينعَقِدْ له بعدها رئاسةٌ، فلما رأى جيبال حالَه بعد خلاصِه حلَق رأسَه، ثم ألقى نفسَه في النَّارِ، فلمَّا فرَغَ يمينُ الدولة مِن أمرِ جيبال رأى أن يغزوَ غَزوةً أخرى، فسار نحو ويهند، فأقام عليها مُحاصِرًا لها، حتى فتحها قهرًا، وبلغَه أنَّ جماعةً مِن الهند قد اجتمعوا بشِعابِ تلك الجبال عازِمينَ على الفسادِ والعناد، فسيَّرَ إليهم طائفةً مِن عَسكَرِه، فأوقعوا بهم، وأكثَروا القتلَ فيهم، ولم ينجُ منهم إلَّا الشَّريدُ الفريدُ، وعاد إلى غزنةَ سالِمًا ظافِرًا.
فسَدَ أمرُ أنوشتكين الدزبري، نائبِ المستنصِرِ بالله الفاطميِّ، صاحِبِ مصر، بالشَّام، وكان الوزيرُ أبو القاسم الجرجرائي يقصِدُه ويَحسدُه، إلَّا أنَّه لا يجِدُ طريقًا إلى الوقيعةِ فيه، وأحسَّ الدزبري بما يجري، فأظهر ما في نفسِه، وأحضر نائبَ الجرجرائي عنده، وأمر بإهانتِه وضَرْبِه، ثمَّ إنه أطلق لطائفةٍ مِن العسكَرِ يَلزَمونَ خِدمَتَه أرزاقَهم، ومنع الباقينَ، فحَرَّك ما في نُفوسِهم، وقوِيَ طَمَعُهم فيه، بما كوتبوا به من مِصرَ، فأظهروا الشَّغبَ عليه، وقصَدوا قصْرَه، وهو بظاهِرِ البلد، وتَبِعَهم من العامَّة من يريد النَّهبَ، فاقتتلوا، فعَلِمَ الدزبري ضَعْفَه وعَجْزَه عنهم، ففارق مكانَه، وسار إلى بعلبك، فمنعه مستحفِظُها، وأخذ ما أمكَنَه أخذُه مِن مال الدزبري، وتَبِعَه طائفةٌ من الجند يَقفُونَ أثره، وينهبون ما يَقدِرونَ عليه، وسار الدزبري إلى مدينةِ حماة، فمُنِعَ عنها، وقُوتِلَ، وكاتب المقَلَّد الكناني الكفرطابي، واستدعاه، فأجابه وحضر عنده في نحو ألفَي رجلٍ مِن كفرطاب وغيرها، فاحتمى به، وسار إلى حلب، ودخلها، وأقام بها مُدَّةً، وتوفي في منتصَفِ جمادى الأولى من هذه السنة، فلما توفِّيَ فسدَ أمر بلاد الشام، وزال النِّظامُ، وطَمِعَت العرب، وخرجوا في نواحيه، فخرج حَسَّان بن المفرج الطائي بفلسطين، وخرج مُعِزُّ الدَّولة بن صالح الكلابي بحَلَب، وقصَدَها وحصرها، ومَلَك المدينةَ، وامتنع أصحابُ الدزبري بالقلعة، وكتبوا إلى مصرَ يَطلُبونَ النجدة، فلم يفعلوا، واشتغَلَ عَساكِرُ دمشق ومُقَدَّمُهم الحسين بن أحمد الذي ولي أمرَ دمشق، بعد الدزبري، بحَربِ حسَّان، ووقع الموت في الذين في القَلعةِ، فسَلَّموها إلى مُعِزِّ الدَّولة بالأمانِ.
غزا الرُّومَ إبراهيم ينال أخو طغرل بك لأمه وأحد قادة السلاجقة، فظَفِرَ بهم وغَنِمَ، وكان سببُ ذلك أنَّ خلقًا كثيرًا من الغزِّ بما وراء النهر قَدِموا عليه، فقال لهم: بلادي تضيقُ عن مُقامِكم والقيامِ بما تحتاجون إليه، والرأيُ أن تَمضُوا إلى غَزوِ الروم، وتُجاهِدوا في سبيل الله، وتغنَموا، وأنا سائِرٌ على أثَرِكم، ومساعِدٌ لكم على أمْرِكم. ففعلوا، وساروا بين يديه، وتَبِعَهم، فوصلوا إلى ملازكرد، وأرزن الروم، وقاليقلا، وبلغوا طرابزون وتلك النواحيَ كلَّها، ولَقِيَهم عسكَرُ عَظيمِ الروم والأبخاز يبلغونَ خمسين ألفًا، فاقتتلوا، واشتد القتالُ بينهم، وكانت بينهم عِدَّةُ وقائِعَ، تارةً يظفَرُ هؤلاء، وتارة هؤلاء، وكان آخِرَ الأمر الظَّفَرُ للمسلمين، فأكثروا القتلَ في الروم وهزموهم، وأسَروا جماعةً كثيرةً مِن بطارقتهم، وممَّن أُسِرَ قاريط ملِكُ الأبخاز، فبذل في نفسِه ثلاثَمِئَة ألف دينار، وهدايا بمِئَة ألفٍ، فلم يجبه ينال إلى ذلك، ولم يَجُس تلك البلادَ وينهَبْها إلى أن انهزموا وبَقِيَ بينه وبين القُسْطَنطينية خمسةَ عشر يومًا، واستولى المسلمونَ على تلك النواحي فنهبوها، وغَنِموا ما فيها، وسَبَوا أكثَرَ مِن مِئَة ألف رأس، وأخذوا من الدوابِّ والبغالِ والغنائم والأموال ما لا يقَعُ عليه الإحصاءُ، وقيل: إن الغنائِمَ حُمِلَت على عشرة آلاف عجلة، وإنَّ في جملة الغنيمةِ تِسعةَ عشر ألف درع، وكان قد دخل بلدَ الروم جمعٌ مِن الغز يَقدُمُهم نسيب طغرلبك، فلم يؤثِّرْ كَبيرَ أثَرٍ، وقُتِلَ من أصحابه جماعة، وعاد، ودخل بعده إبراهيم ينال، فانتصر عليهم.
هو المُعِزُّ بن باديس بن المنصور بن بلكين بن زيري بن مناد الحِميريُّ الصَّنهاجيُّ، صاحبُ إفريقية وما والاها مِن بلادِ المَغرب، وكانت وِلادتُه بالمَنصوريَّة، ويُقال لها صبرة، من أَعمالِ إفريقية، يومَ الخميسِ لِخَمسٍ مَضَيْنَ من جمادى الأُولى سنةَ 398هـ، ومَلَكَ بعدَ أَبيهِ باديس سنةَ 406هـ, وكان الحاكمُ العُبيدي صاحبُ مصر قد لَقَّبَهُ شَرَفَ الدَّولةِ، وسَيَّرَ له تَشريفًا وسِجِلًّا يَتضمَّن اللَّقب سنةَ 447هـ, وكان مَلِكًا جَليلًا عالي الهِمَّة، مُحِبًّا لأهلِ العِلمِ كَثيرَ العَطاءِ، وكان واسطة عقد بيته, ومَدحَه الشُّعراءُ وانتَجعَه الأُدباءُ، وكانت حَضرتُه مَحَطَّ الآمالِ. وكان مَذهبُ أبي حنيفة بإفريقية أَظهرَ المذاهِب، فحَمَلَ المُعِزُّ جميعَ أَهلِ المَغربِ على التَّمَسُّكِ بمَذهبِ الإمامِ مالك، وحَسَمَ مادةَ الخِلافِ في المَذاهبِ, خَلَعَ طاعةَ العُبيديِّين الإسماعيلية، وخَطَبَ للقائمِ بأَمرِ الله العبَّاسي، فبَعَثَ إليه المُستَنصِر يَتهدَّدهُ، فلم يَخَفْهُ، فجَهَّزَ لمُحارَبتِه من مصر العَربَ، فخَرَّبوا حُصونَ برقة وإفريقية، وأَخذوا أماكنَ، واستَوطَنوا تلك الدِّيارَ, من هذا الزمانِ لم يُخطَب لِبَني عُبيدٍ بعدَها. تُوفِّي من مَرضٍ أَصابهُ، وهو ضَعْفُ الكَبِدِ، وكانت مُدَّةُ مُلكِه سبعًا وأربعين سنةً، ولمَّا تُوفِّي مَلَكَ بعدَه ابنُه تُميمٌ، ولمَّا استَبَدَّ بالمُلْكِ بعدَ أَبيهِ سَلَكَ طَريقَه في حُسْنِ السِّيرةِ، ومُحَبَّةِ أَهلِ العِلمِ، إلَّا أنه كان أصحاب البلاد إلَّا أنَّ أصحابَ البِلادِ قد طَمِعوا بَسببِ العَربِ، وزالت الهَيبةُ والطَّاعةُ عنهم في أَيامِ المُعِزِّ، فلمَّا مات ازدادَ طَمعُهم، وأَظهرَ كَثيرٌ منهم الخِلافَ.