الموسوعة التاريخية

عدد النتائج ( 2872 ). زمن البحث بالثانية ( 0.012 )

العام الهجري : 902 الشهر القمري : شعبان العام الميلادي : 1497
تفاصيل الحدث:

هو الإمام العلامة شمس الدين أبو الخير محمد بن عبد الرحمن بن محمد السخاوي القاهري أصله من سخا من قرى مصر، ولد بالقاهرة في ربيع الأول سنة 831 بحارة مجاورة لمدرسة شيخ الإسلام البلقيني محل أبيه وجده، ثم تحول منه حين دخل في الرابعة مع أبويه لمِلْك اشتراه أبوه مجاور لسكن شيخه ابن حجر، وأدخله أبوه المكتب بالقرب من الميدان عند المؤدب الشرف عيسى بن أحمد المقسي الناسخ، فأقام عنده يسيرًا جدًّا، ثم نقله لزوج أخته الفقيه الصالح البدر حسين بن أحمد الأزهري فقرأ عنده القرآن وصلى بالناس التراويح في رمضان، ثم توجه به أبوه لفقيهه المجاور لسكنه الشيخ المفيد النفاع القدوة المؤدب الشمس محمد بن أحمد النحريري الضرير, ثم لازم شيخه إمام الأئمة الشهاب ابن حجر العسقلاني حيث كان يسمع منه مع والده ليلًا الكثير من الحديث، فكان أول ما وقف عليه من ذلك في سنة ثمان وثلاثين، وأوقع الله في قلبه محبته فلازم مجلسه وعادت عليه بركته في هذا الشأن فأقبل عليه بكليته إقبالًا يزيد على الوصف؛ بحيث تقلل مما عداه, وداوم الملازمة لشيخه ابن حجر حتى حمل عنه علمًا جمًّا اختص به كثيرًا بحيث كان من أكثر الآخذين عنه، وأعانه على ذلك قُرب منزله منه، فكان لا يفوته مما يقرأ عليه إلا النادر، إما لكونه حمله أو لأن غيره أهم منه وينفرد عن سائر الجماعة بأشياء. ولما علم شيخه ابن حجر شدة حرصه على ذلك كان يرسل خلفه أحيانًا بعض خدمه لمنزله يأمره بالمجيء للقراءة, وكان شيخه يأذن له في الإقراء والإفادة والتصنيف، وصلى به إمامًا التراويح في بعض ليالي رمضان, وتدرب به في طريق القوم ومعرفة العالي والنازل والكشف عن التراجم والمتون وسائر الاصطلاح, وأخذ عنه علم الحديث وبرع فيه، ولم ينفك عن ملازمته ولا عدل عنه بملازمة غيره من علماء الفنون؛ خوفًا على فقده، ولا ارتحل إلى الأماكن النائية، بل ولا حجَّ إلا بعد وفاة شيخه ابن حجر, ومع ذلك حمل السخاوي عن شيوخ مصر والواردين إليها كثيرًا من دواوين الحديث وأجزائه بقراءته وقراءة غيره في الأوقات التي لا تعارض أوقات شيخه، سيما حين اشتغال شيخه بالقضاء وتوابعه، حتى صار السخاوي أكثر أهل العصر مسموعًا وأكثرهم رواية، ولما عاد السخاوي سنة تسع وتسعين للقاهرة من الحج للمرة السادسة والمجاورة في المدينة انجمع عن الناس وامتنع من الإملاء لمزاحمة من لا يحسن فيها وعدم التمييز من جُل الناس أو كلهم, وراسل إلى من لامه على ترك الإملاء بما نصه: "إنه ترك ذلك عند العلم بإغفال الناس لهذا الشأن؛ بحيث استوى عندهم ما يشتمل على مقدمات التصحيح وغيره من جمع الطرق التي يتبين بها انتفاء الشذوذ والعلة أو وجودهما، مع ما يورد بالسند مجردًا عن ذلك، وكذا ما يكون متصلًا بالسماع مع غيره, وكذا العالي والنازل والتقيد بكتاب ونحوه مع ما لا تقيد فيه إلى غيرها، مما ينافي القصد بالإملاء وينادي الذاكر له العامل به على الخالي منه بالجهل". كما أنه التزم ترك الإفتاء مع الإلحاح عليه فيه حين تزاحم الصغار على ذلك واستوى الماء والخشبةَ، سيما وإنما يعمل بالأغراض، بل صار يكتُب على الاستدعاءات وفي عرض الأبناء من هو في عدادِ من يلتمس له ذلك حين التقيد بالمراتب والأعمال بالنيات، وقد سبقه للاعتذار بنحو ذلك شيخ شيوخه الزين العراقي وكفى به قدوة، بل وأفحش من إغفالهم النظر في هذا وأشد في الجهالة إيراد بعض الأحاديث الباطلة على وجه الاستدلال وإبرازها حتى في التصانيف والأجوبة، كل ذلك مع ملازمة الناس له في منزله للقراءة دراية ورواية في تصانيفه وغيرها، بحيث خُتم عليه ما يفوق الوصف من ذلك، وأخذ عنه من الخلائق من لا يُحصى" وقد حدث خلاف بين السخاوي ومعاصره جلال الدين السيوطي، وهو من خلاف الأقران الذي لا يُقبَل فيه نقد أحدهما في الآخر مع جلالة قدر كل منهما في علمه وعمله في خدمة العلم وأهله. وللسخاوي مصنفات كثيرة جدًّا منها ترجمة لشيخه ابن حجر في كتاب سماه الجوهر والدرر في ترجمة شيخ الإسلام ابن حجر، والقول البديع في الصلاة على الحبيب الشفيع، والمقاصد الحسنة في الأحاديث المشتهرة على الألسنة، وفتح المغيث بشرح ألفية الحديث للعراقي، ووجيز الكلام في الذيل على دول الإسلام، والضوء اللامع في أخبار أهل القرن التاسع، واستجلاب ارتقاء الغرف بحب أقرباء الرسول وذوي الشرف، وغيرها من الكتب والسؤالات المدونة له. توفي بالمدينة عصر يوم الأحد 28 من شعبان سنة 902 (1497م) وهو في الحادية والسبعين من عمره، ودُفِن بالبقيع بجوار الإمام مالك.

العام الهجري : 1342 العام الميلادي : 1923
تفاصيل الحدث:

مصطفى كمال من سلانيك أو سالونيك مدينة يونانية، وهي مهبِطُ اليهود ومقَرُّهم، ومنها خرج وفيها نشأ، لذلك عدَّه كثيرٌ من الكُتَّاب من يهود الدونمة؛ ثمَّ إن أدواره التي لَعِبَها توحي بالعمالة الغربية؛ فقد صنعه الغَربُ ليظهَرَ في صورة البطل؛ وليكونَ مقبولًا عند الأتراك، ويكفي أنَّ أعمالَه تدُلُّ على باطنه؛ فقد منع الخليفةَ مِن الخروج للصلاة، ثم خفض مخصَّصاته للنصف، وحكم مصطفى كمال البلادَ بالحديدِ والنار، وضَمِنَ تأييدَ الدول العظمى لسياستِه التعسفية، وقد نفَّذ مصطفى كمال المخطَّط كاملًا، وابتعد عن الخطوط الإسلامية، ودخلت تركيا لعمليَّات التغريب البَشِعة؛ فألغى الخلافةَ الإسلامية سنة 1342ه، ثم ألغى وزارة الأوقاف سنة 1343هـ/1924م، وعَهِدَ بشؤونها إلى وزارة المعارف. وفي عام 1344هـ أغلق المساجِدَ، وقضت حكومتُه في قسوةٍ بالغة على كلِّ تيَّار ديني، وواجهت كلَّ نقدٍ ديني لتدبيرها بالعُنفِ. أما الشريعة الإسلامية فقد استُبدِلَت وحلَّ محلها قانونٌ مدني أخذته حكومةُ تركيا من القانون السويسري عام 1345هـ/1926م، وغيَّرَ التقويمَ الهجريَّ واستخدم التقويم الجريغوري الغربي، فأصبح عام 1342هـ مُلغًى في كلِّ أنحاء تركيا وحلَّ محله عام 1926م! وفي دستور عام 1347هـ أغفل النصَّ على أن تركيا دولةٌ إسلامية، وغيَّرَ نَصَّ القسم الذي يقسِمُه رجال الدولة عند تولِّيهم لمناصبهم، فأصبحوا يُقسِمون بشَرَفِهم على تأدية الواجبِ بدلًا من أن يحلِفوا بالله كما كان عليه الأمر من قبل!! وفي عام 1348ه بدأت الحكومة تَفرِضُ إجباريًّا استخدامَ الأحرف اللاتينية في كتابة اللغة التركية بدلًا من الأحرُفِ العربية. وبدأت الصُّحُفُ والكتُبُ تَصدُرُ بالأحرف اللاتينية، وحُذِفَ من الكليات التعليمُ باللغة العربية واللغة الفارسية، وحُرِّم استعمال الحرف العربي لطبع المؤلفات التركية، وأما الكتُبُ التي سبق لمطابِعِ استانبول أن طبعتها في العهود السالفة فقد صُدِّرَت إلى مصر، وفارس، والهند، وهكذا قطعت حكومة تركيا ما بين تركيا وماضيها الإسلاميِّ من ناحية، وما بينها وبين المسلمين في سائر البلدان العربية والإسلامية من ناحية أخرى!! وفي عام (1350-1351هـ/1931-1932م) حدَّدَت عددَ المساجِدِ، ولم تسمَحْ بغير مسجد واحدٍ في كل دائرة من الأرض يبلغ محيطُها 500 متر مربع، وأعلن أنَّ الروح الإسلامية تعوقُ التقدُّمَ. وتمادى مصطفى كمال في تهجُّمه على المساجد، فخفض عددَ الواعظين الذين تدفَعُ لهم الدولة أجورَهم إلى ثلاثمائة واعظ، وأمَرَهم أن يفسحوا في خطبة الجمعة مجالًا واسعًا للتحدُّثِ على الشؤون الزراعية والصناعية وسياسة الدَّولة، وكَيْلِ المديحِ له. وأغلق أشهَرَ جامعين في استانبول، وحَوَّلَ أولهما وهو مسجد آيا صوفيا إلى متحف، وحول ثانيهما وهو مسجد الفاتح إلى مستودع، وأهملت الحكومةُ التعليم الديني كليَّةً في المدارس الخاصة، ثم تمَّ إلغاؤه. بل إنَّ كلية الشريعة في جامعة استانبول بدأت تقَلِّلُ من أعداد طلابها حتى أغلقت عام 1352هـ/1933م. وأمعنت حكومة مصطفى كمال في حركة التغريب، فأصدرت قرارًا بإلغاء لبس الطربوش، وأمَرَت بلُبس القبعة تشبهًا بالدول الأوروبية، وفي عام 1935م غيَّرَت الحكومة العطلة الرسمية فلم يعد الجمعة، بل أصبحت العطلة الرسمية للدولة يومَ الأحد، وأصبحت عطلةُ نهاية الأسبوعِ تبدأ منذ ظُهر يوم السبت وتستمر حتى صباح يوم الاثنين، وأخذ أتاتورك ينفُخُ في الشعب التركي روحَ القومية، واستغَلَّ ما نادى به بعضُ المؤرخين من أن لغة السومريين أصحاب الحضارة القديمة في بلاد ما بين النهرين كانت ذات صلةٍ باللغة التركية، فقال: إن الأتراك هم أصحاب أقدم حضارة في العالم؛ ليعَوِّضَهم عما أفقَدَهم إياه من قِيَمٍ، بعد أن حارب كلَّ نشاط إسلامي، وخلع مصطفى كمال على نفسه لقب (أتاتورك) ومعناه أبو الأتراك، وعملت حكومته على إلغاء حجاب المرأةِ وأمرت بالسفور، وأُلغيت قوامةُ الرجل على المرأة، وأُطلِقَ لها العِنان باسم الحرية والمساواة، وشجع الحفلاتِ الراقصة والمسارح المختلطة والرقص. وأمر بترجمة القرآن إلى اللغةِ التركية، ففقد كُلَّ معانيه ومدلولاته، وأمر أن يكونَ الأذان باللغة التركية، ثمَّ عَمِلَ على تغيير المناهج الدراسية، وأعيد كتابةُ التاريخ من أجل إبراز الماضي التركي القومي، وجرى تنقيةُ اللغة التركية من الكلمات العربية والفارسية، واستُبدِل بها كلمات أوروبية أو حثية قديمة.

العام الهجري : 767 الشهر القمري : محرم العام الميلادي : 1365
تفاصيل الحدث:

ورد الخبَرُ في يوم السبت رابع عشر محرم بمنازلة الفرنج الإسكندرية، وأنهم قدموا يوم الأربعاء حادي عشر، فسُرِّح الطائِرُ بذلك إلى الأمير يلبغا، فتوهَّمَ أن تكون هذه مكيدةً يُكادُ بها، فبادَرَ ودخل إلى داره خارِجَ القاهرة، وتَبِعَه السلطان، فصَعِدَ القلعة في يوم الأحد خامس عشر، فلما تحقَّق الأمير يلبغا الخبَرَ، عدى النيلَ مِن ساعته إلى البر الغربي، وتلاحق به أصحابُه، ونودِيَ بالقاهرة: من تأخَّرَ مِن الأجناد غدًا حَلَّ دَمُه ومالُه، فخرج الناس أفواجًا، وسار السلطانُ بعساكره إلى الطرانة، وقَدَّمَ عسكرًا عليه الأمير قطلوبغا المنصوري والأمير كوكنداي، والأمير خليل بن قوصون ليُدرِكوا أهلَ الثَّغرِ، فقَدَّر الله تعالى في ذلك أنَّ أهلَ الثغر كان قد بلَغَهم منذ أشهر اهتمام الفرنج بغزوهم، فكتب بذلك الأميرُ صلاح الدين خليل بن عرام- متولي الثغر- إلى السلطان والأمير يلبغا، فلم يكُنْ مِن الدولة اهتمامٌ بأمْرِهم، فلمَّا توجه ابنُ عرام إلى الحج، واستناب عنه في الثغر الأمير جنغرا- أحد أمراء العشرات- وجاء أوان قدوم مراكب البنادقة من الفرنج، لاح للناظور عِدَّة قلاع في البحر، ثم قَدِمَ في عسكره يوم الأربعاء الحادي والعشرين إلى الميناء، ثمانية أغربة، وتلاها من الأغربة والقراقر ما بلَغَت عدَّتُها ما بين سبعين إلى ثمانين قطعة، فأغلق المسلمون أبواب المدينة، ورَكِبوا الأسوار بآلةِ الحرب، وخرجت طائفةٌ إلى ظاهر البلد، وباتُوا يتحارسون، وخرجوا بُكرةً يوم الخميس يريدونَ لِقاءَ العَدُو، فلم يتحَرَّك الفرنجُ لهم طولَ يَومِهم، وليلة الجمعة، فقَدِمَ بكرة يوم الجمعة طوايفُ من عربان البحيرة وغيرهم، ومضوا جهةَ المنار، وقد نزل من الفرنجِ جَماعةٌ في الليل بخيولهم، وكَمَنوا في الترب التي بظاهر المدينة، فلما تكاثر جمعُ المسلمين من العربان، وأهل الثغر، عند المنار، برز لهم غرابٌ إلى بحر السلسلة، حتى قارب السورَ، فقاتله المسلمون قتالًا شديدًا، قُتِلَ فيه عدة من الفرنج، واستُشهِدَ جماعةٌ من المسلمين، وخرج إليهم أهلُ المدينة وصاروا فرقَتَين، فرقة مضت مع العربان، نحو المنار، وفرقة وقفت تقاتل الفرنج بالغراب، وخرجت الباعةُ والصبيان وصاروا في لهوٍ، وليس لهم اكتراثٌ بالعدو، فضرب الفرنج عند ذلك نفيرَهم، فخرج الكمينُ وحملوا على المسلمينَ حملة منكرة، ورمى الفرنجُ من المراكب بالسِّهام، فانهزم المسلمون، وركب الفرنجُ أقفِيَتَهم بالسيف، ونزل بقيَّتُهم إلى البَرِّ فملكوه، بغير مانعٍ، وقَدَّموا مراكبهم إلى الأسوار، فاستُشهِدَ خَلقٌ كثير من المسلمين، وهلك منهم في الازدحامِ عند عبور باب المدينة جماعةٌ، وخلت الأسوارُ من الحماة، فنصب الفرنجُ سلالم ووضعوا السور، وأخذوا نحو الصناعة، فحرقوا ما بها، وألقَوا النار فيها، ومضوا إلى باب السدرة، وعَلَّقوا الصليب عليه، فانحشر الناسُ إلى باب رشيد، وأحرقوه، ومَرُّوا منه على وجوهم، وتركوا المدينةَ مفتوحة بما فيها للفرنج، وأخذ الأميرُ جنغرا ما كان في بيت المال، وقاد معه خمسين تاجرًا من تجارِ الفرنج كانوا مسجونينَ عنده، ومضى هو وعامَّةُ الناس، إلى جهةِ دمنهور، فدخل وقتَ الضحى من يوم الجمعة مَلِكُ قبرص- واسمه ربير بطرس بن ريوك- وشق المدينةَ وهو راكب، فاستلم الفرنجُ النَّاسَ بالسيف، ونهبوا ما وجدوه من صامتٍ وناطق، وأسَرُوا وسَبَوا خلائق كثيرة، وأحرقوا عِدَّة أماكن، وهلك في الزحام بباب رشيد ما لا يقع عليه حَصرٌ، فأعلن الفرنجُ بدينهم، وانضَمَّ إليهم من كان بالثغر من النصارى، ودلُّوهم على دُور الأغنياء، فأخذوا ما فيها، واستمَرُّوا كذلك يقتلون، ويأسرون، ويَسْبُون وينهبون ويحرقون، من ضَحوة نهار الجمعة إلى بكرة نهار الأحد، فرفعوا السيفَ، وخرجوا بالأسرى والغنائم إلى مراكبهم، وأقاموا بها إلى يوم الخميس الثامن والعشرين، ثم أقلعوا، ومعهم خمسة آلاف أسير، فكانت إقامتُهم ثمانية أيام، وكانوا عِدَّة طوائف، فكان فيهم من البنادقة أربعةٌ وعشرون غرابًا، ومن الجنوية غرابان، ومن أهل رودس عشرة أغربة، والفرنسيين في خمسة أغربة، وبقية الأغربة من أهل قبرص، وكان مسيرهم عند قدوم الأمير يلبغا بمن معه، فلمَّا قَدِمَ عليه الأمير قطلوبغا المنصوري، لم يجد معه سوى عشرين فارسًا، وعليه إقامة مائة فارس، فغَضِبَ عليه، ووجد الأمر قد فات، فكتب بذلك إلى السلطان، فعاد إلى القلعةِ، وبعث بابنِ عرام، نائب الإسكندرية على عادته، بأمر الأمير يلبغا، بموارة من استُشهِدَ من المسلمين، ورَمِّ ما احتَرَق، وغضب على جنغرا وهَدَّده، وعاد فأخذ في التأهُّبِ لغزو الفرنج، وتُتُبِّعَت النصارى، فقُبِضَ على جميع من بديار مصر، وبلادِ الشام وغيرهما من الفرنج، وأُحضِرَ البِطريقُ والنصارى، وأُلزِموا بحَملِ أموالهم، لفِكاكِ أسرى المسلمين من أيدي الفرنج، وكُتِبَ بذلك إلى البلاد الشامية، وتُتُبِّعَت ديارات النصارى التي بأعمال مصر كلِّها، وأُلزِمَ سُكَّانُها بإظهار أموالهم وأوانيهم، وعُوقبوا على ذلك، فكانت هذه الواقعةُ من أشنَعِ ما مرَّ بالإسكندرية من الحوادث، ومنها اختلت أحوالها، واتَّضَع أهلها، وقَلَّت أموالهم، وزالت نِعَمُهم، وكان الناس في القاهرة منذ أعوام كثيرة تجري على ألسنتهم جميعًا: في يوم الجمعةِ تُؤخَذُ الإسكندرية، فكان كذلك.

العام الهجري : 785 الشهر القمري : ذي القعدة العام الميلادي : 1384
تفاصيل الحدث:

كُتِبَ بتَجريدِ عَسكَرِ دمشق وطرابلس وحماة وحلب، ونواب الثغور وتركمان الطاعة وأكرادها، إلى جهة التركمان العصاة بالبلاد السيسية، كالصارم بن رمضان نائب أدنه وبني أوزر، وابن برناص من طائفة الأجقية؛ لمقاتلتهم على تعديهم طريقَهم، وقطْعِهم الطرقات، ونهْبِهم حُجَّاج الروم، ولاتفاقهم مع الأمير علاء الدين علي بك بن قرمان صاحب لارندة على اقتلاع بلاد سيس، فتأهَّبت العساكِرُ لذلك ووافت حلب، فتقَدَّمها الأميرُ يلبغا الناصري نائب حلب، وركب من حَلَب في ثاني ذي القعدة يريد العُمقَ، وكتب إلى بني أوزر وبقية التركمان العصاة، ينذرهم ويحذرهم التخَلُّفَ عن الحضور إلى الطاعة، ويخَوِّفهم بأس العساكر، وإنَّهم إن أذعنوا وأطاعوا كانوا آمنينَ على أنفُسِهم وأموالِهم، ومن تخَلَّف كان غنيمةً للعساكرِ، وسار حتى نزل تحتَ عُقبة بغِراسٍ، فعرض العساكِرَ، وتَرَك الثِّقلَ وتوجَّه مُخِفًّا، وجاوز عقبةَ بغراس، وترك بها نائبي عينتاب وبغراس بخيَّالتهما ورجالهما؛ حِفظًا للدربند إلى أن تصل العساكِرُ الشاميَّة، ثم ركب في الثلث الأول من ليلة الأحد الخامس عشر وسار مجِدًّا، فوصل المصيصة عصرَ نهار الأحد فوجد الأميرين قد ملكا الجسرَ بعد أنْ هدم التركمانُ بَعضَه، وقطعوا منه جانبًا لا يمنع الاجتيازَ، وتوقَّدَت بينهم نارُ الحرب، وعَدت العساكر نهر جاهان إلى جانِبِ بلاد سيس، واقتَفَوا آثار من كان بالمصيصة من التركمان، فأدركوا بعض البيوت فانتهبوها، فتعلق الرِّجالُ بشعف الجبال، ثم حضرت قصاد التركمان على اختلاف طوائفِهم يسألون الأمان، فأجاب الأميرُ يلبغا الناصري سؤالَهم، وكتب لهم أمانًا، ولما أحس الصارمُ بن رمضان بالعساكر، ترك أذنة وفَرَّ إلى الجبال التي لا تُسلَك، ووصلت الأطلابُ والثقل إلى المصيصة في السابع عشر، فقَدِمَ من الغد الثامن عشر قاصد الأمير طَشبغا العزي نائب سيس بخبر وصول ابن رمضان إلى أطراف البلاد السيسية، وأنه ركب في أثَرِه ومعه طائفةٌ من التركمان القرمانيين، فأدركوا بيوتَه فانتهبوها، وأمسكوا أولادَه وحريمه ونجا بنفسه، ولَحِقَ بالتركمان البياضية مستجيرًا بهم، فأجمعت الآراءُ على التوجه بالعساكر إلى جهتهم وإمساكِه، فقَدِمَ الخبر من نائب سيس في آخر النهار بأنه استمَرَّ في طلب ابن رمضان إلى أن أدركه وأمسَكَه، وأمسك معه أخاه قرا محمد وأولاده وأمه وجماعته وعاد إلى سيس، فسُرَّت العساكر بذلك سرورًا زائدًا، ورحلت في التاسع عشر تريد سيس، وأحاطت بطائفةٍ من التراكمين اليراكية، فانتهبت كثيرًا من خيل ومتاع وأثاث، ثم أمنوهم بسؤالهم ذلك وتفَرَّقت جموع التركمان بالجبال، ومرت العساكر إلى جهة سيس، وأُحضِرَ ابنُ رمضان وأخوه قرا محمد ومن أُمسِك معهما، فوُسِّطوا، وعاد العسكرُ يريد المصيصة، وركبَ الأمير يلبغا الناصري بعسكرِ حلب وسَلَبِهم جَبلًا يُسَمَّى صاروجا شام، وهو مكانٌ ضَيِّقٌ حَرَجٌ وَعْرٌ به جبالٌ شوامخ وأودية عِظام، مُغَلَّقة بالأشجار والمياه والأوحال، وبه دربندات خطرة، لا يكادُ الراجل يسلُكُه، فكيف بالفارِسِ وفَرَسِه الموفرين حملًا باللَّبوس؟! وإذا هم بطائفةٍ مِن التركمان اليراكية، فجرى بينهم القتال الشديد، فقُتِلَ بين الفريقين جماعةٌ، وفُقِدَ الأمير يلبغا الناصري وجماعة من أمراء حلب، وإذا بهم قد تاهوا في تلك الأودية، ثم تراجع الناسُ وقد فُقِدَ منهم طائفة، ووصل الخبر بأن التركمان قد أحاطوا بدربند باب الملك، فالتجؤوا إلى مدينة إياس، ثم قَدِمَ يلبغا الناصري إلى إياس بعد انقطاع خبره، فتباشروا بقدومِه، وأقاموا عليها أيامًا ثم رحلوا، فلقيهم التركمان في جمع كبير، فكانت بينهم وقعةٌ لم يمُرَّ لهم مثلُها، قُتِلَ فيها خلق كثير، وانجَلَت عن كسرة التركمان بعد ما أبلى فيها الناصريُّ بلاء عظيمًا، وارتحل العسكرُ يوم عيد الأضحى إلى جهة بإياس، فما ضُرِبَت خيامهم بها حتى أحاط بهم التركمان وأنفذوا فرقةً منهم إلى باب الملك، فوقَفوا على دربندة ومنعوا عنهم الميرة، فعَزَّت الأقوات عند العسكر، وجاعت الخيولُ، وكَثُرَ الخوف وأشرفوا على الهلاك، إلَّا أن الله تداركهم بخَفِيِّ لُطفِه؛ فقَدِمَ عليهم الخبر بوصول الأمير سودن المظفري حاجِبِ الحجَّاب بحلب في عِدَّة من الأمراء، وقد استخدم من أهل حَلَبٍ ألفَ راجلٍ من شبان بانقوسا، ودفعوا لكل واحد منهم مائة درهم، وخرج العُلَماء والصلحاء وغالِبُ الناس، وقد بلغهم ما نزل بالعسكر، ونودي بالنفيرِ العام، فتَبِعَهم كثير من الرجَّالة والخيَّالة والأكراد ببلد القصير والجبل الأقرع وغيره من أعمال حلب، فقام بمؤنتهم الحاجِبُ ومن معه من الأمراء، وهجموا على باب الملك، فمَلَكوه وقتلوا طائفةً ممن كان به من التركمان، وهزموا بقيَّتَهم، ففرح العسكرُ بذلك فرحًا كبيرًا، وساروا إلى باب الملك حتى جاوزوا دربنده ونزلوا بغراس، ثم رحلوا إلى أنطاكية وقدموا حلب، فكانت سفرةً شديدةَ المشقةِ؛ بُلُوا فيها من كثرةِ تتابع الأمطار الغزيرة، وتوالي هبوب الرياح العاصفة، وكثرة الخوف، ومقاساة آلام الجوع- ما لا يمكِنُ وَصفُه.

العام الهجري : 859 الشهر القمري : جمادى الآخرة العام الميلادي : 1455
تفاصيل الحدث:

في يوم الاثنين آخر جمادى الآخرة كانت وقعةُ المماليك الظاهرية الجقمقية مع الملك الأشرف إينال، وسببُ هذه الفتنة ثورةُ المماليك الأجلاب أولًا، وأفعالُهم القبيحة بالناس، ثم عقب ذلك أنَّ السلطان كان عيَّنَ تجريدة إلى البحيرة، نحوًا من خمسمائة مملوك، وعليهم من أمراء الألوف الأمير خشقدم المؤيدي أمير سلاح، والأمير قرقماس رأسُ نوبة النوب، وعِدَّةٌ من أمراء الطبلخانات والعشرات، ورسم لهم السلطانُ بالسفر، ولم يفرِّقْ على المماليك المكتوبة للسفر الجمالَ على العادة، فعَظُم ذلك عليهم، وامتنَعوا إلى أن يأخذوا الجِمالَ، فسافر الأمير خشقدم في صبيحة يوم الاثنين المذكور، وتبعه الأمير قرقماس في عصر نهاره، وأقاما ببر منبابة تجاه بولاق، فلم يتبَعْهم أحد من المماليك المعيَّنة معهم، بل وقف غالبُهم بسوق الخيل تحت القلعة ينتظِرونَ تفرقةَ الجِمال عليهم، إلى أن انفَضَّ الموكب السلطاني ونزلت الأمراءُ إلى جهة بيوتهم، فلما صار الأميرُ يونس الدوادار بوسط الرميلة احتاطت به المماليك الأجلاب، وتحقق الغدرَ، فأمر مماليكه بإشهار سيوفِهم ففعلت ذلك، ودافعت عنه، وجرَحَ من المماليك الأجلاب جماعةً، وقطع أصابِعَ بعضِهم، وشقَّ بطنَ آخر على ما قيل، فعند ذلك انفرجت ليونس فرجةٌ خرج منها فارًّا إلى جهة داره، ونزل بها، ورمى عنه قماش الموكِبِ، ولَبِسَ قماشَ الركوبِ، وطلع من وقتِه إلى القلعةِ من أعلى الكبش، ولم يشق الرميلة، وأعلم السلطانَ بخبَرِه، فقامت لذلك قيامةُ المماليك الأجلاب، وقالوا: نحن ضربناهم بالدبابيس فضربونا بالسيوفِ، وثاروا على أستاذِهم ثورةً واحدةً، وساعدهم جماعةٌ من المماليك القرانيص وغيرِهم لِما في نفوسهم من السلطانِ لعدم تفرقةِ الجِمالِ وغيرها، ووقفوا بسوق الخيل وأفحشوا في الكلامِ في حقِّ السلطان، وهددوه إن لم يسلِّم لهم الأميرَ يونس، ثم ساقوا غارةً إلى بيت يونس الدوادار، فمنعهم مماليكُه من الدخول إلى داره، فجاؤوا بنار ليحرقوا الباب، فمنعوهم من ذلك أيضًا، فعادوا إلى سوق الخيل، فوافَوا المنادي ينادي من قبل السلطانِ بالأمان، فمالوا على المنادي بالدبابيس، فسكت من وقته، وهرب إلى حالِ سبيله، وقد طلعت جميعُ أمراء الألوف إلى السلطانِ، وهو على حالة السكوتِ غير أنه طلب بعضَ مماليكه الأجلاب الأعيان، وكلَّمه بأنَّه يعطي من جُرِحَ من الأجلاب ما يكفيه، وأنه يعطي للذي قُطِعَت أصابعه إقطاعًا ومائة دينار، فلم يقع الصلحُ، وانفضَّ الأمر على غير طائلٍ؛ لشدة حر النهار، ولما تفرقت المماليك نزلت الأمراءُ إلى دورهم ما خلا الأمير يونس الدوادار؛ فإنه بات في القلعة، فلما تضحى النهارُ أرسل إليهم السلطان بأربعة أمراء، وهم: الأمير يونس العلائي أحد مقدَّمي الألوف، وسودون الإينالي المؤيدي قراقاش رأس نوبة ثان، ويلباي الإينالي المؤيدي أحد أمراء الطبلخانات ورأس نوبة، وبردبك البجمقدار أحد الطبلخانات أيضًا ورأس نوبة، فنزلوا إليهم من القلعة؛ فما كان إلَّا أن وقع بصر المماليك الأجلاب على هؤلاء الأمراء احتاطوا بهم، وأخذوهم بعد كلامٍ كثير، ودخلوا بهم إلى بيتِ الأمير خشقدم أمير سلاح تجاه باب السلسلة، ورسموا عليهم بعضَهم، كلُّ ذلك والمماليك الظاهرية الجقمقية وقوفٌ على بُعدٍ، لا يختلفون بهم، لينظروا ما يصيرُ من أمرهم، فلما وقع ما ذُكِرَ تحققوا خروجَهم على أستاذهم، وثار ما عندهم من الكمائنِ التي كانت كامنةً في صدورهم من الملك الأشرف إينال لِما فَعَل بابن أستاذِهم الملك المنصور عثمان، وحَبْسِ خشداشيَّتِهم- زملائهم- وتقريب أعدائهم الأشرفية مماليك الأشرف برسباي، فانتهزوا الفرصة، وانضافوا إلى المماليك الأجلاب، وعرَّفوهم أن الأمر لا يتم إلا بحضرة الخليفةِ ولبس السلاح، فساق قاني باي المشطوب أحد المماليك الظاهريَّة من وقته إلى بيت الخليفة القائم بأمر الله حمزة، وكان في الخليفةِ خِفَّةٌ وطَيشٌ، فمال إليهم ظنًّا أنه يكون مع هؤلاء وينتَصِرُ أحدُهم ويتسلطنُ، فيستفحلُ أمره ثانيًا أعظَمَ من الأول، ولما حضر الخليفة عندهم، تكامل لُبسُهم السلاح، وانضافت إليهم خلائقُ من المماليك السيفية، وأوباش الأشرفية، وغيرُهم من الجياع الحرافيش، فلما رأت الأجلابُ أمر الظاهرية حسبوا العواقب، وخافوا زوالَ ملك أستاذهم، فتخلَّوا عن الظاهرية قليلًا بقليلٍ، وتوجه كل واحد إلى حالِ سبيله، فقامت الظاهريةُ بالأمر وحدهم، وما عسى يكونُ قيامهم من غير مساعدة، وقد تخلَّى عنهم جماعة من أعيانهم وخافوا عاقبةَ هذه الفتنة، وقد تعبَّأ السلطان لحربهم، ونزل من القلعة إلى باب السلسلة من الإسطبل السلطاني، وتناوش القومُ بالسهام، وأرادوا المصاففة، فتكاثر عليهم السلطانيةُ، وصدموهم صدمةً واحدة بدَّدوا شملهم، بل كانوا تشتَّتوا قبل الصدمة أيضًا، وهجم السلطانيةُ في الحال إلى بيت الأمير خشقدم أمير سلاح، وأخذوا الأمراءَ المرسَّم عليهم، وأخذوا فيمن أخذوا الخليفةَ معهم، وطلعوا بهم إلى السلطانِ، فلما رأى السلطان الخليفةَ وبَّخه بالكلام الخَشِن، وتفرقت من يوم ذاك أجلابُ السلطان فرقتين: فرقةٌ وهم الذين اشتراهم من كتابية الظاهر جقمق وابنه، وفرقةٌ اشتراهم هو في أيام سلطنته، وقويت الفرقةُ الذين اشتراهم على الفرقةِ الظاهرية، ومنعوهم من الطلوعِ إلى القلعة، والسكنى بالأطباق، ولما انتهت الوقعة أمسك جماعةً من المماليك الظاهرية وحبسهم بالبرج من قلعة الجبل، ونفى بعضَهم واختفى بعضُهم.

العام الهجري : 778 الشهر القمري : ذي القعدة العام الميلادي : 1377
تفاصيل الحدث:

هو السُّلطانُ الأشرف شعبان بن حسين الناصر بن المنصور قلاوون. بويِعَ للمَلِكِ الأشرف شعبان بعد عزل الملك المنصور، وله من العُمُرِ قَريبُ العشرين. كان الملِكُ الأشرف شعبان قد توعَّكَ، ومع ذلك أصر بالسَّفَرِ إلى الحج هذا العام وسافر وهو متوَعِّك، فلما كان يوم السبت ثالث ذي القعدة اتَّفق طشتمر اللفاف، وقرطاي الطازي، وأسندمر الصرغتمشي، وأينبك البحري، وجماعة من المماليك السلطانية، وجماعة من مماليك الأسياد أولادِ السلطان الملك الأشرف، وجماعةٌ من مماليك الأمراء المسافرين صحبة السلطان الملك الأشرف، ولَبِسوا السلاح، واتَّفَق معهم من بالأطباق من المماليك السلطانية، وهجم الجميعُ على القلعة، فدقُّوا الباب وقالوا: أعطونا سيدي أمير علي (هو ابنُ السلطان الأشرف) فقال لهم اللالا: مَن هو كبيرُكم حتى نسَلِّمَ لهم سيدي عليًّا وأبى أن يسَلِّمَهم سيدي عليًّا، وكثُرَ الكلام بينهم ومثقال الزمام يُصَمِّمُ على منع تسليم الأمير علي لهم، فقالوا له: السلطان الملك الأشرف مات، ونريد أن نُسلطِنَ وَلَدَه أمير علي، فلم يلتَفِتْ مثقال إلى كلامهم، فلما عَلِمَ المماليك ذلك، طلعوا جميعًا وكَسَروا شباك الزمام المطِلَّ على باب الساعات، ودخلوا منه ونهبوا بيتَ الزمام وقماشه، ثم نزلوا إلى رحبة باب الستارة ومسكوا مثقالًا الزَّمَّام وجلبان اللالا وفتحوا البابَ، فدخلت بقيَّتُهم وقالوا: أخرِجوا الأمير علي، حتى نُسلطِنَه؛ فإنَّ أباه توفِّيَ إلى رحمة الله تعالى فدخل الزمام على رَغمِ أنفه، وأخرج لهم الأميرَ عليًّا، فأُقعِدَ في باب الستارة، ثم أُحضِرَ الأمير أيدمر الشمسي فبوسوه الأرض للأمير علي، ثم أركبوا الأميرَ علي على بعض خيولهم وتوجَّهوا به إلى الإيوان الكبير، وأرسلوا خلفَ الأمراء الذين بالقاهرة، فركبوا إلى سوق الخيلِ، وأبوا أن يَطلَعوا إلى القلعة، فأنزلوا الأميرَ علي إلى الإسطبل السلطاني حتى رآه الأمراءُ، فلما رأوه طلعوا وقَبَّلوا له الأرض وحلفوا له، غيرَ أن الأمير طشتمر الصالحي وبلاط السيفي ألجاي الكبير وحطط رأس نوبة النوب لم يوافِقوا ولا طلعوا، فنزل إليهم المماليك ومسكوهم وحَبَسوهم بالقصر، وعَقَدوا للأمير علي بالسلطنةِ ولَقَّبوه بالملك المنصور، ثم نادوا بالديار المصرية بالأمان والبَيعِ والشراء، بعد أن أخذوا خُطوطَ سائر الأمراء المقيمين بمصر، فأقاموا ذلك النهارَ، وأصبحوا يوم الأحد رابع ذي القعدة من سنة 778 وهم لابسون آلة الحرب، واقفون بسوق الخيل، يتكَلَّمون في إتمامِ أمْرِهم، وأمَّا المَلِكُ الأشرف فإنه رجع إلى مصر بسَبَبِ كَسرتِه من مماليكه بالعقبة، حيث طلب المماليكُ السلطانية العليق، فقيلَ لهم اصبروا إلى منزلة الأزلم، فغَضِبوا وامتنعوا من أكلِ السماط عصرَ يوم الأربعاء واتفقوا على الركوبِ، فلما كانت ليلة الخميس ركبوا على السلطانِ ورؤوسُهم الأمير طشتمر العلائي، ومبارك الطازي، وصراي تمر المحمدي، وقطلقتمر العلائي الطويل، وسائر مماليك الأسياد، وأكثر المماليك السلطانية، فلما بلغ السلطانَ أمرُهم ركب بأمرائه وخاصكيته وتواقعوا فانكسر السلطان وهرب هو ومن كان معه من الأمراء، وصار السلطان بهؤلاء إلى قبة النصر خارج القاهرة، ثم توجه السلطان ويلبغا الناصري إلى القاهرةِ ليختفيَ بها، فقُتل الأمراء الذين كانوا معه في الحال، وحَزُّوا رؤوسهم، وأتَوا بها إلى سوق الخيل، ففرح بذلك بقيَّةُ الأمراء الذين هم أصلُ الفتنة، وعلموا أن الأشرف قد زال مُلكُه، فتوجه السلطان الأشرف تلك الليلة من عند أستادار يلبغا الناصري إلى بيت آمنة زوجة المشتولي فاختفى عندها، فقلق عند ذلك الأمراءُ الذين أثاروا الفتنة وخافوا عاقبةَ ظهور الأشرف، وبينما هم في ذلك في آخر نهار الأحد يوم قُتِلَ الأمراء المذكورين بقبة النصر، وقبل أن يمضِيَ النهار، جاءت امرأةٌ إلى الأمراء وذَكَرَت لهم أن السلطان مختفٍ عند آمنة زوجة المشتولي في الجودرية-إحدى الحارات- فقام ألطنبغا من فوره ومعه جماعةٌ وكبسوا بيت آمنة، فهرب السلطانُ واختفى في بادهنج البيت- المنفذ الذي يجيء منه الريح- فطلعوا فوجدوه في البادهنج وعليه قماش النساء، فمسكوه وألبَسُوه عُدَّة الحرب، وأحضروه إلى قلعة الجبل، فتسَلَّمه الأمير أينبك البدري وخلا به، وأخذ يقَرِّرُه على الذخائر، فأخبره الملك الأشرف بها، وقيل: إن أينبك ضربه تحت رجليه عِدَّةَ عِصِيٍّ، ثم أصبحوا في يوم الاثنين وخَنَقوه، وتولى خَنْقَه جاركس شاد عمائر ألجاي اليوسفي، فأعطى جاركس إمرة عشرة واستقَرَّ شاد عمائر السلطان، ثم بعد خنق الملك الأشرف لم يدفنوه، بل أخذوه ووضعوه في قُفَّة وخيطوا عليها ورَمَوه في بئر، فأقام بها أيامًا إلى أن ظَهَرت رائحته، فاطلع عليه بعضُ خُدَّامه من الطواشية، ثم أخرجوه ودفنوه عند كيمان السيدة نفيسة، وذلك الخادِمُ يَتبَعُهم مِن بُعدٍ حتى عرف المكان، فلما دخل الليلُ أخذ جماعة من إخوته وخَدَمِه ونقلوه في تلك الليلة من موضع دفنه ودفنوه بتربة والدته خوند بركة بمدرستها التي بخط التبانة في قُبَّةٍ وحده، بعد أن غسلوه وكفَّنوه وصلوا عليه، وكانت مدة سلطنة الملك الأشرف أربع عشرة سنة وشهرين وعشرين يومًا، ومات وعمره أربع وعشرون سنة، فلما كان يوم الخميس ثامِنَ ذي القعدة وذلك بعد قتل الملك الأشرف شعبان بثلاثة أيام، اجتمع الأمراءُ القائمون بهذا الأمر بالقلعة، واستدعوا الخليفةَ ومن كان بمصر من القضاة ونوَّاب من هو غائب من القضاة بالقدس، وحضر الأميرُ آقتمر الصاحبي نائب السلطنة بالديار المصرية، وقعد الجميعُ بباب الآدر الشريفة من قلعة الجبل، وجدَّدوا البيعة بالسلطنة للملك المنصور علي ابن الأشرف شعبان بعد قَتْلِ أبيه، وقَبِلَ له البيعة آقتمر الصاحبي، ولَبَّسوه السوادَ؛ خِلعةَ السلطنة، وكان عمرُ السلطان الملك المنصور يوم تَسَلْطَنَ نحو سبع سنين تخمينًا.

العام الهجري : 1334 الشهر القمري : شعبان العام الميلادي : 1916
تفاصيل الحدث:

كانت مُراسلاتُ "حسين - مكماهون" التي دارت بين شَريف مكةَ الشَّريفِ حسين، ونائبِ الملِكِ البريطاني في القاهرة هنري مكماهون، تمثِّلُ مقدِّماتِ الثورةِ العربية، ومن أبرزِ أسبابِها، والتي وعدت فيها بريطانيا الشريفَ حسينًا بالمساعدة وتنصيبِه ملكًا على العربِ، وإقامةِ خلافةٍ عربيةٍ إسلاميةٍ، كما أنَّ هناك أسبابًا أخرى، منها: الضَّعفُ الذي دَبَّ في أطرافِ الدولةِ العثمانية التي كانت تحكمُ المناطِقَ العربيةَ في الشامِ والحجازِ ومصر والمغرب، ومنها النعراتُ العُنصرية التي ظهرت على يدِ الاتحاديِّين القوميِّين بشكلٍ واضح، وانتشر الظلمُ في الدولةِ على نطاقٍ واسع؛ فسياسةُ الاتحاديِّينَ هي التي أيقظت الفكرةَ القوميَّةَ العثمانيةَ، بدأ بسوء الظنِّ بالعربِ، وأسهم في ذلك بعضُ الذين يريدون تخويفَ السلطانِ العثماني من العربِ، يُشيعُ أن العربَ يريدون أن يقيموا مملكةً عربية وحدهم، وكانت شكاوى العرب تنحصِرُ في إقصاء عدد كبير منهم عن وظائفهم بالأستانة، وعدمِ دعوة العربِ لأيِّ اجتماع للتأليف بين العناصِرِ العثمانية، ولا إدخالهم في الجمعياتِ الاتحادية ولا اللِّجان المركزية، ولا حتى تعيينهم على الولاياتِ والقضاءِ في البلاد العربية، ومعارضة الاتحاديين لكلِّ مشروعٍ علمي أو أدبي في البلاد العربية، ثم بدأت بعضُ الأحزاب العربية بالظهورِ كردَّةِ فِعلٍ للقومية العثمانية؛ فعُقِدَ في باريس أول مؤتمر عربي عام 1913م، ثم تفاقم أمرُ الاتحاديين وعَظُم تشدُّدهم إلى القومية التركية، وزاد الأمرُ عندما قام جمال باشا -الذي لقِّبَ بالسفاح- بقتل عددٍ مِن الذين كَشَف أنهم يتآمرون من خلال جمعياتٍ سرية على الاستقلال عن الدولة العثمانية، وكان القوميُّون العربُ قد رأوا أن يتجمَّعوا حولَ زعيم واحد ويشكِّلوا قوةً كبيرة عربية، فرأوا في الشريفِ حُسين بن علي -شريفِ مكة وأميرِها- الشخصَ المناسب لهذه الزعامة، فأجابهم، وكان التفاهمُ معه سرًّا بواسطةِ من تمكَّن مِن بعض أعضاء الجمعيات العربية الذين هربوا من جمال باشا ووصلوا للحجاز وغيرها، فتمَّ بين زعماء العرب وجمعيَّاتهم وبعضِ المقامات العالية، ومنهم الشريف حسين، أن قرَّروا إعلان الثورة في الحجاز، وكان الشريف حسين قد تعاقد مع مكماهون على أن يكون العرب حلفاءَ للإنجليز والفرنسيين خلال الحرب العالمية الأولى، وطبعا ضد الأتراك؛ لأنها كانت ضِدَّ الحلفاء، ووعدوا الشريف حسين أن يُبقوه مَلِكًا على العرب وأن يعطوا العربَ استقلالهم، وإن كان القوميون العربُ بعد اطِّلاعهم على مراسلات حسين مكماهون أغضبهم كثيرًا تنازل الشريف حسين عن بعض البلاد العربية للإنجليز أو للفرنسيين. أعلن الشريفُ حسين الثورةَ على الدولة العثمانية، وأطلق بنفسِه في ذلك اليوم أولَ رصاصةٍ على قلعةِ الأتراك في مكة؛ إيذانًا بإعلانِ الثورة، وعزَّز حركتَه بإذاعة منشورٍ اتَّهم فيه الاتحاديِّين في تركيا بالخروج على الشريعةِ الإسلامية، وجاء فيه: "وانفصلت بلادُنا عن المملكةِ العثمانية انفصالًا تامًّا، وأعلنَّا استقلالًا لا تشوبُه شائبةُ مُداخَلة أجنبية ولا تحكُّم خارجي"، واستطاعت القواتُ الثائرة أن تستوليَ في أقلَّ من ثلاثة أشهرٍ على جميعِ مدن الحجاز الكبرى، باستثناء المدينة النبوية التي بقيت محاصَرةً إلى نهاية الحرب العالمية الأولى، ولم يلبَثْ أن بويع الشريفُ حسين ملكًا على العرب. وقد نسفت القواتُ العربية بقيادةِ الأمير الشريف فيصل سكةَ حديد الحجاز، واحتلَّت ينبع والعَقَبة، واتخذوا من العَقَبة نُقطةَ ارتكازٍ لهم، ثم أخذ فيصل يتقدَّمُ لِيُحارِبَ الأتراكَ في منطقة شرقي الأردن، وبذلك قَدَّم للحُلفاء أكبرَ مساعدة؛ حيث استطاع اللورد اللنبي قائِدُ القوات الإنجليزية أن يدخُلَ القدسَ بمعاونة العرب، كما أنَّ احتلالَ القوات العربية لمنطقة شرقي معان قد حمى ميمنة القواتِ البريطانية في فلسطين من هَجَمات الأتراك عليها في منطقة بئر سبع والخليل، وحمى خطوطَ مواصلاتها، ولم تلبَث القواتُ العربيةُ أن تقدَّمت في (ذي الحجة 1336هـ/ سبتمبر 1918م) فاحتَلَّت دمشق واصطدمت بالأتراكِ قبل أن يدخُلَها اللنبي، ولم يمضِ أكثرُ من شهر حتى زال النفوذُ العثماني من سوريا بعد أن أمضى بها أربعة قرون. والواقع أن الكثيرين قد أُصيبوا بخيبةِ أمل كبيرة، وعلى رأسِهم الشيخ محمد رشيد رضا، وذلك عندما عَلِموا بتنازل حسين عن ولايتي إسكندرون ومرسين والمناطق الشمالية السورية، ووافق على مصالح فرنسا في ولاية بيروت لِما بعد الحرب، وعلى مصالح بريطانيا في البصرة وبغداد، وأنَّ الأسطول الإنجليزي هو الذي أسقط ثغورَ جدة ورابغ وينبع وغيرها من موانئ الحجاز، وأن ثغرَ بورسودان كان القاعدةَ التي انطلق منها الأسطول الإنجليزي لدعم ثورة الشريف حسين، وازداد شعورُهم بالخيبة عندما وجدوا ضباط إنجلترا وفرنسا مثل اللنبي وكوكس وكاترو وغورو والضابط الشهير لورانس هم الذين يقودون القبائِلَ العربية، ووصل الأمرُ ببعض هؤلاء الضبَّاط في النَّيلِ من المسلمين أنه لَمَّا دخل الجنرال اللنبي القدسَ يوم 9/12/1917م قال قولَته المشهورة: الآن انتهت الحروبُ الصَّليبية! ولَمَّا دخل الجنرال غورو دمشق يوم 21/7/1920م توجَّه إلى قبر صلاح الدين الأيوبي ووقف أمامَه قائلًا: ها قد عُدنا يا صلاحَ الدين! ثم تكرَّست المرارةُ والحسرة عندما ارتفعت أعلامُ بريطانيا وفرنسا على المناطق التي قاتَلَ فيها العرب، ولم يكن بينها عَلَمُ الدولة العربية المنتظَرة! وحاول الشيخ رشيد رضا أن يلفِتَ نظرَ الشريف حسين إلى خطورة ما أقدم عليه؛ لأن العدوَّ الحقيقيَّ هو الاستعمار الغربي لا الدولةُ العثمانية، إلا أنَّ بريقَ المصلحة وأحلامَ المُلك والعَرش كانا قد سيطرا على خيال الشريف حسين، فلم يستمِعْ إلى صوتِ ناصحٍ أو حكيمٍ! وإنما أمر بمنع دخول مجلة "المنار" التي يُصدِرُها الشيخ رشيد رضا من دخول مكة. ولم يعلم العربُ باتفاقِ (سايكس – بيكو) إلا عندما أعلنه البلاشفة بعد قيام ثورتهم في روسيا 1917م، وتأكَّد العربُ أنَّ الاتفاق أهمل تأسيسَ خلافة عربية، وأعطى بعضَ أجزاء من الدولة العربية المنتَظَرة لفرنسا، وأثار هذا الاتفاقُ حفيظةَ العرب، إلا أنَّهم مضوا في ثورتهم بعد طمأنةِ البريطانيين لهم، ونجح العثمانيُّون في تصوير الشريف حسين على أنَّه خائِنٌ للإسلام متحالِفٌ مع الدُّوَل النصرانية ضِدَّ دولة إسلامية، إلَّا أن الخلافاتِ الحقيقيةَ بين العرب والإنجليز تعمَّقت وظهرت مع إطلاقِ بريطانيا لوعدِ بلفور في (المحرم 1336هـ/نوفمبر 1917م) كانت غاية الإنجليز من ثورة العرب هو ضربَ الأتراك بالعرب، بدلًا أن يخوضوا هم غمار هذه الحرب، ويدلُّ على ذلك أن الإنجليز كانوا يضغطون على الشريف حسين لبدء الثورة عندما كانت جيوش الحلفاء تستسلم للأتراك عند كوت العمارة في نيسان 1916م، وكان الحلفاءُ غير قادرين على مواجهة القوات العثمانية عند قناة السويس واليمن، فكان التعجيل بالثورة ضِدَّ العثمانيين فيه تخفيف العبء عن الإنجليز، وفعلًا أدى إعلان الثورة إلى رجحان كفة الحلفاء، وبدأت الحاميات التركية في الاستسلام بعد أن حوصِرَت واستعمل معها رجال الجيش حربَ العصابات، ثم بدأ القتال فعلًا بين العرب وجيوش العثمانيين في الحجاز في التاسع من شعبان 10 يونيو، وأعلنوا استقلالهم، وهاجموا الثكناتِ التركيةَ في مكة، وحمِيَ القتال خلال يومين، حتى تعطَّلت الصلاةُ والطواف في المسجد الحرام، وكذلك الأمرُ في جدَّة؛ دام القتال ستة أيام حتى سقطت بيدِ قوات الشريف، وفي التاسع من رمضان استسلم الأتراك في مكة، وفي ذي القعدة سقطت الطائفُ، ثم أعلن الحجازُ استقلاله عن الاتحاديين، فانتهز الإنجليز والفرنسيون الفرصة وبدؤوا في إرسال التهاني، وحتى الدول الأوربية الأخرى كروسيا وسائر الدول غير المنحازة، أما السوريون واللبنانيون فلم ينَلْهم من الثورة إلا الحصارُ والاضطهاد؛ حيث كانت كفاءتُهم الحربية ضعيفة مقارنة مع كفاءات العثمانيين في هذه المنطقة، وكانت جيوش الثورة عبارة عن ثلاثة جيوش كل واحد بقيادة ولد من أولاد الحسين، وهم فيصل، وعبد الله، وعلي، وكان مع جيش فيصل لورنس وكان يتلقى أوامِرَه من الجنرال اللنبي، ثم تألَّفت أول وزارة عربية في السابع من ذي الحجة 1334هـ/ 5 أكتوبر 1916م، ثم أمر بتأليف مجلس الشيوخ الأعلى، هذا ولم تعين الحكومة العربية، ثم تمت مبايعةُ العربِ للشريف حسين بن علي ملكًا على العرب يوم الخميس السادس من محرم 1335هـ/ 6 تشرين الأول 1916م، علما أن استنكارًا إسلاميًّا قد ورد إلى الشريف حسين عن طريق شكيب أرسلان الذي قال له: أتقاتل العربَ بالعربِ أيها الأمير حتى تكون ثمرةُ دماء قاتِلِهم ومقتولِهم استيلاء إنجلترا على جزيرة العرب، وفرنسا على سوريا، واليهود على فلسطين، وهذا ما حصل بالفعل!!