عن جابرٍ رضي الله عنه قال: سِرْنا مع رسولِ الله صلى الله عليه وسلم في غَزوةِ بَطْنِ بُواطٍ، وهو يَطلُبُ المَجْدِيَّ بنَ عَمرٍو الجُهَنيَّ، وكان النَّاضِحُ يَعْتَقِبُهُ مِنَّا الخمسةُ والسِّتَّةُ والسَّبعةُ، فَدارتْ عُقْبَةُ رجلٍ مِنَ الأنصارِ على ناضِحٍ له، فأناخَهُ فركِبَهُ، ثمَّ بَعثَهُ فتَلَدَّنَ عليه بَعضَ التَّلَدُّنِ، فقال له: شَأْ، لَعنَك الله. فقال رسولُ الله صلى الله عليه وسلم: «مَن هذا اللَّاعِنُ بَعيرَهُ؟». قال: أنا، يا رسولَ الله. قال: «انْزِلْ عنه، فلا تَصْحَبْنا بِمَلعونٍ، لا تَدعوا على أَنفُسِكُم، ولا تَدعوا على أَولادِكُم، ولا تَدعوا على أَموالِكُم، لا تُوافِقوا مِنَ الله ساعةً يُسأَلُ فيها عَطاءٌ، فَيسْتَجيبُ لكم». وبُواطٌ: جبلٌ مِن جبالِ جُهَينةَ، بِقُربِ يَنْبُعَ.
وُلِدَت حليمةُ يعقوب يومَ 23 أغسطس 1954 في سنغافورةَ، والدُها كان حارسًا، وهو مُسلِمٌ من أصلٍ هنديٍّ، وعانَت حليمةُ الفَقرَ في طُفولتِها؛ إذ تُوفِّيَ والدُها وهي في سنِّ الثامنةِ، واضطُرَّتْ في سنِّ العاشرةِ من عُمرِها إلى أنْ تُساعِدَ والدتَها العاملةَ في دُكَّانٍ لبيعِ الأطعمةِ، وفي عملياتِ التنظيفِ والغسيلِ، وفي توزيعِ الأكلِ على الزبائنِ! وبرَغمِ ظُروفِها الصعبةِ واصلَت دِراستَها حتى تخرَّجَت عامَ 1978 في جامعةِ سنغافورةَ الوطنيةِ، تزوَّجَت عامَ 1980 من محمد عبد الله الحبشي، وهو رجلُ أعمالٍ يَمنيٌّ، ولهما خَمسةُ أبناءٍ. حصلَت حليمةُ على شهادةِ بكالوريوس في القانونِ بدرجةِ شرَفٍ، وفي عامِ 2001 حصلت على شهادةِ ماجستير بالقانون، وفي عامِ 2016 مُنحت شهادةَ دكتوراه فَخريَّةٍ في القانونِ من نفسِ الجامعةِ، ثم اقتحمَت حليمةُ عالَمَ السياسةِ عامَ 2001 بطلَبٍ من رئيسِ الوزراءِ وقتَها غوه تشوك تونغ الذي أخبَرَها بأنها يُمكِنُ أنْ تلعَبَ دورًا كبيرًا في الحياةِ السياسيَّةِ بالبلادِ، وكان ذلك قبلَ الانتخاباتِ العامَّةِ. وانتُخِبَت بعد ذلك نائبةً في الدائرةِ الانتخابيَّةِ للتمثيلِ الجماعيِّ "جيورونغ"، وتدرَّجَت في المناصبِ حتى أصبحت في أعقابِ الانتخاباتِ العامَّةِ عامَ 2011 وزيرةً للدولةِ في وزارةِ التنميةِ المجتمعيَّةِ والشبابِ والرياضةِ، وبعد تعديلٍ وَزاريٍّ في نوفمبر 2012 أصبحت وزيرةَ دولةٍ في وزارةِ التنميةِ الاجتماعيَّةِ والأُسريَّةِ. وفي 14 يناير 2013 عُيِّنَت حليمةُ متحدثةً باسمِ البرلمانِ، وكانت أولَ امرأةٍ تَشغَلُ هذا المنصِبَ في تاريخِ البلادِ؛ لتتولَّى منصِبَ رئيسةِ البرلمان بين عامي 2013 و2017. وفي 6 أغسطس 2017 أعلنت حليمةُ أنَّها ستستقيلُ من منصِبِ متحدثةٍ باسم البرلمانِ؛ لخوضِ سِباقِ الانتخاباتِ الرئاسيَّةِ لعامِ 2017 لتفوزَ فيها بمنصبِ رئاسةِ الدولةِ لتصبحَ أوَّلَ رئيسةٍ لدولةِ سنغافورةَ.
هو السُّلطانُ الأشرف شعبان بن حسين الناصر بن المنصور قلاوون. بويِعَ للمَلِكِ الأشرف شعبان بعد عزل الملك المنصور، وله من العُمُرِ قَريبُ العشرين. كان الملِكُ الأشرف شعبان قد توعَّكَ، ومع ذلك أصر بالسَّفَرِ إلى الحج هذا العام وسافر وهو متوَعِّك، فلما كان يوم السبت ثالث ذي القعدة اتَّفق طشتمر اللفاف، وقرطاي الطازي، وأسندمر الصرغتمشي، وأينبك البحري، وجماعة من المماليك السلطانية، وجماعة من مماليك الأسياد أولادِ السلطان الملك الأشرف، وجماعةٌ من مماليك الأمراء المسافرين صحبة السلطان الملك الأشرف، ولَبِسوا السلاح، واتَّفَق معهم من بالأطباق من المماليك السلطانية، وهجم الجميعُ على القلعة، فدقُّوا الباب وقالوا: أعطونا سيدي أمير علي (هو ابنُ السلطان الأشرف) فقال لهم اللالا: مَن هو كبيرُكم حتى نسَلِّمَ لهم سيدي عليًّا وأبى أن يسَلِّمَهم سيدي عليًّا، وكثُرَ الكلام بينهم ومثقال الزمام يُصَمِّمُ على منع تسليم الأمير علي لهم، فقالوا له: السلطان الملك الأشرف مات، ونريد أن نُسلطِنَ وَلَدَه أمير علي، فلم يلتَفِتْ مثقال إلى كلامهم، فلما عَلِمَ المماليك ذلك، طلعوا جميعًا وكَسَروا شباك الزمام المطِلَّ على باب الساعات، ودخلوا منه ونهبوا بيتَ الزمام وقماشه، ثم نزلوا إلى رحبة باب الستارة ومسكوا مثقالًا الزَّمَّام وجلبان اللالا وفتحوا البابَ، فدخلت بقيَّتُهم وقالوا: أخرِجوا الأمير علي، حتى نُسلطِنَه؛ فإنَّ أباه توفِّيَ إلى رحمة الله تعالى فدخل الزمام على رَغمِ أنفه، وأخرج لهم الأميرَ عليًّا، فأُقعِدَ في باب الستارة، ثم أُحضِرَ الأمير أيدمر الشمسي فبوسوه الأرض للأمير علي، ثم أركبوا الأميرَ علي على بعض خيولهم وتوجَّهوا به إلى الإيوان الكبير، وأرسلوا خلفَ الأمراء الذين بالقاهرة، فركبوا إلى سوق الخيلِ، وأبوا أن يَطلَعوا إلى القلعة، فأنزلوا الأميرَ علي إلى الإسطبل السلطاني حتى رآه الأمراءُ، فلما رأوه طلعوا وقَبَّلوا له الأرض وحلفوا له، غيرَ أن الأمير طشتمر الصالحي وبلاط السيفي ألجاي الكبير وحطط رأس نوبة النوب لم يوافِقوا ولا طلعوا، فنزل إليهم المماليك ومسكوهم وحَبَسوهم بالقصر، وعَقَدوا للأمير علي بالسلطنةِ ولَقَّبوه بالملك المنصور، ثم نادوا بالديار المصرية بالأمان والبَيعِ والشراء، بعد أن أخذوا خُطوطَ سائر الأمراء المقيمين بمصر، فأقاموا ذلك النهارَ، وأصبحوا يوم الأحد رابع ذي القعدة من سنة 778 وهم لابسون آلة الحرب، واقفون بسوق الخيل، يتكَلَّمون في إتمامِ أمْرِهم، وأمَّا المَلِكُ الأشرف فإنه رجع إلى مصر بسَبَبِ كَسرتِه من مماليكه بالعقبة، حيث طلب المماليكُ السلطانية العليق، فقيلَ لهم اصبروا إلى منزلة الأزلم، فغَضِبوا وامتنعوا من أكلِ السماط عصرَ يوم الأربعاء واتفقوا على الركوبِ، فلما كانت ليلة الخميس ركبوا على السلطانِ ورؤوسُهم الأمير طشتمر العلائي، ومبارك الطازي، وصراي تمر المحمدي، وقطلقتمر العلائي الطويل، وسائر مماليك الأسياد، وأكثر المماليك السلطانية، فلما بلغ السلطانَ أمرُهم ركب بأمرائه وخاصكيته وتواقعوا فانكسر السلطان وهرب هو ومن كان معه من الأمراء، وصار السلطان بهؤلاء إلى قبة النصر خارج القاهرة، ثم توجه السلطان ويلبغا الناصري إلى القاهرةِ ليختفيَ بها، فقُتل الأمراء الذين كانوا معه في الحال، وحَزُّوا رؤوسهم، وأتَوا بها إلى سوق الخيل، ففرح بذلك بقيَّةُ الأمراء الذين هم أصلُ الفتنة، وعلموا أن الأشرف قد زال مُلكُه، فتوجه السلطان الأشرف تلك الليلة من عند أستادار يلبغا الناصري إلى بيت آمنة زوجة المشتولي فاختفى عندها، فقلق عند ذلك الأمراءُ الذين أثاروا الفتنة وخافوا عاقبةَ ظهور الأشرف، وبينما هم في ذلك في آخر نهار الأحد يوم قُتِلَ الأمراء المذكورين بقبة النصر، وقبل أن يمضِيَ النهار، جاءت امرأةٌ إلى الأمراء وذَكَرَت لهم أن السلطان مختفٍ عند آمنة زوجة المشتولي في الجودرية-إحدى الحارات- فقام ألطنبغا من فوره ومعه جماعةٌ وكبسوا بيت آمنة، فهرب السلطانُ واختفى في بادهنج البيت- المنفذ الذي يجيء منه الريح- فطلعوا فوجدوه في البادهنج وعليه قماش النساء، فمسكوه وألبَسُوه عُدَّة الحرب، وأحضروه إلى قلعة الجبل، فتسَلَّمه الأمير أينبك البدري وخلا به، وأخذ يقَرِّرُه على الذخائر، فأخبره الملك الأشرف بها، وقيل: إن أينبك ضربه تحت رجليه عِدَّةَ عِصِيٍّ، ثم أصبحوا في يوم الاثنين وخَنَقوه، وتولى خَنْقَه جاركس شاد عمائر ألجاي اليوسفي، فأعطى جاركس إمرة عشرة واستقَرَّ شاد عمائر السلطان، ثم بعد خنق الملك الأشرف لم يدفنوه، بل أخذوه ووضعوه في قُفَّة وخيطوا عليها ورَمَوه في بئر، فأقام بها أيامًا إلى أن ظَهَرت رائحته، فاطلع عليه بعضُ خُدَّامه من الطواشية، ثم أخرجوه ودفنوه عند كيمان السيدة نفيسة، وذلك الخادِمُ يَتبَعُهم مِن بُعدٍ حتى عرف المكان، فلما دخل الليلُ أخذ جماعة من إخوته وخَدَمِه ونقلوه في تلك الليلة من موضع دفنه ودفنوه بتربة والدته خوند بركة بمدرستها التي بخط التبانة في قُبَّةٍ وحده، بعد أن غسلوه وكفَّنوه وصلوا عليه، وكانت مدة سلطنة الملك الأشرف أربع عشرة سنة وشهرين وعشرين يومًا، ومات وعمره أربع وعشرون سنة، فلما كان يوم الخميس ثامِنَ ذي القعدة وذلك بعد قتل الملك الأشرف شعبان بثلاثة أيام، اجتمع الأمراءُ القائمون بهذا الأمر بالقلعة، واستدعوا الخليفةَ ومن كان بمصر من القضاة ونوَّاب من هو غائب من القضاة بالقدس، وحضر الأميرُ آقتمر الصاحبي نائب السلطنة بالديار المصرية، وقعد الجميعُ بباب الآدر الشريفة من قلعة الجبل، وجدَّدوا البيعة بالسلطنة للملك المنصور علي ابن الأشرف شعبان بعد قَتْلِ أبيه، وقَبِلَ له البيعة آقتمر الصاحبي، ولَبَّسوه السوادَ؛ خِلعةَ السلطنة، وكان عمرُ السلطان الملك المنصور يوم تَسَلْطَنَ نحو سبع سنين تخمينًا.
هو أستاذ دار الخلافة الصاحِبُ القاضي محيي الدين يوسف ابن الشيخ جمال الدين أبي الفرج بن الجوزي عبد الرحمن بن علي بن محمد بن علي بن عبد الله بن حماد بن أحمد بن يعقوب بن جعفر بن عبد الله بن القاسم بن النصر بن محمد بن أبي بكر الصديق، المعروفُ بابنِ الجوزيِّ القرشيِّ التيمي البكري البغدادي الحنبلي، ولد في ذي القعدة سنة 580 ونشأ شابًّا حسنًا وحين توفِّيَ والِدُه وعَظَ في موضعه فأجاد وأحسن وأفاد، ثم تقَدَّمَ وولِيَ حِسبةَ بغداد مع الوَعظِ الرائِقِ والأشعار الحسنة الرائعة، وولي تدريسَ الحنابلة بالمستنصرية سنة 632 وكانت له مدارس أخرى، صار محيي الدين رسولَ الخلفاءِ إلى الملوكِ بأطرافِ البلادِ ولا سيَّما إلى بني أيوبَ بالشَّامِ وقد حصل منهم من الأموالِ والكراماتِ ما ابتغى من ذلك بناءَ المدرسة الجوزيَّة التي بالنشابين بدمشق, ولما وَلِيَ مؤيِّدُ الدين بن العلقمي الوزارةَ سنة 640 وشغر عنه الأستادارية، وَلِيَها عنه محيي الدين وانتصب ابنه عبد الرحمن للحسبة والوعظِ، فأجاد فيها وسار سيرةً حسنةً، ثم كانت الحسبةُ تنتَقِلُ في بنيه الثلاثة: جمال الدين عبد الرحمن، وشرف الدين عبد الله، وتاج الدين عبد الكريم، وقد قُتِلوا معه في هذه السَّنة, ولمحيي الدين مُصَنَّف في مذهب الإمام أحمد، وذكر له ابنُ الساعي أشعارًا حسنة يهنِّئ بها الخليفةَ في المواسم والأعياد تدُلُّ على فضيلةٍ تامةٍ وفصاحةٍ بالغة، وقد وقَفَ المدرسةَ الجَوزيَّةَ بدِمشقَ، وكان كثيرَ المحفوظ قويَّ المشاركة في العلومِ، وافر الحُرمةِ، ضُرِبَت عُنُقُه هو وأولاده تاج الدين والمحتسب جمال الدين وشرف الدين مع الخليفةِ المُستَعصِم بالله عام هولاكو ببغدادَ في صَفَر.
قُتِلَ إبراهيم الأسداباذي الباطني ببغداد، وهرب ابن أخته بهرام داعية الباطنية إلى الشام، وملكَ قلعة بانياس، وسار إليها، والتحق بدمشق فدعمه المزدقاني وزير تاج الملوك صاحب دمشق، ولما فارق بهرام دمشق أقام له بها خليفةً يدعو الناس إلى مذهبه، فكثُروا وانتشروا، وملك هو عدةَ حصون من الجبال منها القدموس وغيره، وكان بوادي التيم، من أعمال بعلبك، أصحاب مذاهب مختلفة من النصيرية، والدرزية، والمجوس، وغيرهم، وأميرُهم اسمه الضحاك، فسار إليهم بهرام سنة 522 وحصرهم وقاتلهم، فخرج إليه الضحاكُ في ألف رجل، وكبس عسكر بهرام فوضع السيف فيهم، وقتل منهم مقتلة كثيرة، وقُتِل بهرام وانهزم مَن سَلِمَ، وعادوا إلى بانياس على أقبح صورة، وكان بهرام قد استخلف في بانياس رجلًا من أعيان أصحابه اسمه إسماعيل، فقام مقامه، وجمع شمل من عاد إليه منهم، وبثَّ دُعاتَه في البلاد، وعاضده المزدقاني أيضًا، وقوَّى نفسه على ما عنده من الامتعاض بهذه الحادثة والهمِّ بسببها، ثم إن المزدقاني أقام بدمشق عِوَضَ بهرام إنسانًا اسمُه أبو الوفاء، فقَوِيَ أمرُه وعلا شأنه وكثُر أتباعه، وقام بدمشق، فصار المستوليَ على من بها من المسلمين، وحُكمُه أكثَرَ مِن حُكمِ صاحبها تاج الملوك. ثم إن المزدقاني راسل الفرنجَ ليسلم إليهم مدينة دمشق، ويسلِّموا إليه مدينة صور، واستقرَّ الأمر بينهم على ذلك، وتقرَّر بينهم الميعاد يوم جمعة ذكروه، وقرَّر المزدقاني مع الإسماعيلية أن يحتاطوا ذلك اليومَ بأبواب الجامع، فلا يُمكِّنوا أحدًا من الخروج منه؛ ليجيء الفرنج ويملكوا البلاد، وبلغ الخبر تاج الملوك، صاحب دمشق، فاستدعى المزدقاني إليه، فحضر وخلا معه، فقتله تاج الملوك، ثم أحرق بدنه وعلَّق رأسه على باب القلعة، ونادى في البلد بقَتلِ الباطنية، وانقلب البلدُ بالسرور وحَمْد الله، وثارت الأحداث والشطَّار في الحال بالسيوف والخناجر يقتلون من رأوا من الباطنية وأعوانهم. ومن يُتَّهمُ بمذهبهم، وتتبَّعوهم حتى أفنوهم، وامتلأت الطرق والأسواق بجِيَفِهم، فقُتِل منهم ستة آلاف نفس، وكان يومًا مشهودًا أعزَّ الله فيه الإسلامَ وأهله، وأُخِذ جماعة أعيان منهم شاذي الخادم تربية أبي طاهر الصائغ الباطني الحلبي، وكان هذا الخادِمُ رأسَ البلاء، فعُوقِبَ عقوبة شَفَت القلوب، ثم صُلِب هو وجماعةٌ على السور. وبقي حاجب دمشق يوسف فيروز، ورئيس دمشق أبو الذواد مفرج بن الحسن ابن الصوفي يلبسان الدروع، ويركبان وحولهما العبيد بالسيوف، لأنهما بالغا في استئصال شأفة الباطنية. وكان ذلك منتصفَ رمضان، وكفى الله المسلمين شرهم، وردَّ على الكافرين كيدَهم، ولما تمَّت هذه الحادثة بدمشق على الإسماعيلية خاف إسماعيل والي بانياس أن يثور به وبمن معه الناسُ فيهلكوا، فراسل الفرنج، وبذل لهم تسليمَ بانياس إليهم، والانتقالَ إلى بلادهم، فأجابوه، فسَلَّم القلعة إليهم، وانتقل هو ومن معه من أصحابه إلى بلادِهم، ولَقُوا شدةً وذِلَّةً وهوانًا، وتوِّفي إسماعيل أوائل سنة أربع وعشرين وخمسمائة، وكفى الله المؤمنين شَرَّهم.
وقَعَت في هذه السَّنةِ وَقعةٌ عَظيمةٌ في أهل طليطِلة، وذلك أنَّهم خرجوا إلى طلبيرة، فخرج إليهم قائِدُها مسعود بن عبد الله العريف، بعد أن كمَنَ لهم الكمائِنَ، فقتلهم قتلًا ذريعًا، وبعث إلى قُرطبةَ بسَبعمائة رأسٍ مِن رؤوس أكابِرِهم، ثم في سنة 244هـ خرج الأميرُ محمَّد بنَفسِه إلى طليطلة، وعدَدُهم قد قَلَّ، بتواتر الوقائِعِ عليهم، ونزولِ المصائبِ بهم، فلم تكن لهم حربٌ إلا بالقنطرة. ثم أمر الأميرُ بقَطع ِالقنطرة، وجَمَع العُرَفاء من البنَّائين والمُهندسين، وأداروا الحيلةَ مِن حيث لا يشعُرُ أهل طليطلة. ثم نزلوا عنها، فبينما هم مجتَمِعونَ بها، إذ اندَقَّتْ بهم، وتهدَّمَت نواحيها، وانكفأتْ بمن كان عليها من الحُماة والكُماة، فغَرَقوا في النهرِ عن آخرهم. فكان ذلك من أعظَمِ صُنعِ اللهِ فيهم. ثم في سنة 245هـ دعا أهلُ طليطلة إلى الأمانِ، فعقَدَه الأميرُ لهم، وهو الأمانُ الأوَّلُ.
هو الظاهِرُ لإعزازِ دينِ الله أبو الحَسَن عليُّ بن أبي علي المنصور الحاكم الفاطمي العُبيدي الإسماعيليُّ الباطنيُّ, أمُّه أم ولد تدعى رقية، وُلِدَ بالقاهرة سنة 395، وبويع بالحُكمِ بعد أبيه في يوم عيد الأضحى سنة 411، وله من العمرِ 16 سنة و3 أشهر، وكان له مِصرُ، والشام، والخطبة له بإفريقيَّة، وكان جميلَ السِّيرةِ، حَسَن السياسةِ، مُنصِفًا للرعية، إلَّا أنَّه مُشتَغِلٌ بلذَّاته محِبٌّ للدَّعَة والراحة، قد فوَّض الأمورَ إلى وزيره أبي القاسِمِ عليِّ بنِ أحمد الجرجرائي- وكان مقطوعَ اليدينِ مِن المِرفَقينِ- لِمَعرفته بكفايته وأمانته، في سنة ثماني عشرة، فاستمَرَّ في الوزارة مدةَ ولايةِ الظاهر، ثمَّ لوَلَده المُستنصِر، توفِّي الظاهِرُ في منتصف شعبان بمصر وكان عمُره ثلاثًا وثلاثين سنة، وكانت مُدَّة حُكمِه خَمسَ عشرة سنة وتسعةَ أشهر وسبعة عشر يومًا، ولَمَّا مات الظاهِرُ ولِيَ بعده ابنُه تميم معد، ولقب المستنصر بالله، وتكَفَّل بأعباء المملكة بين يديه الأفضَلُ أميرُ الجيوش، واسمُه بدر بن عبد الله الجمالي، وكان عمرُ المستنصرِ يومَ نُصِّبَ حاكِمًا سبعَ سنينَ وعِدَّة أشهر، وبقي حاكمًا أكثَرَ مِن ستين سنةً.
هو أميرُ المؤمنين الخليفة العباسي المستظهر بالله أبو العباس أحمد بن المقتدي بأمر الله أبي القاسم عبد الله بن الذخيرة محمد بن القائم بأمر الله عبد الله بن القادر الهاشمي، العباسي، البغدادي. ولد في شوال سنة 470، وأمه أمُّ ولدٍ، واستُخلِف عند وفاة أبيه في تاسع عشر المحرم وله ست عشرة سنة وثلاثة أشهر، وذلك في سنة 487. كان خيِّرًا فاضلًا ذكيًّا بارعًا كريم الأخلاق، ليِّن الجانب، سخيَّ النفس، مؤثرًا للإحسان، حافظًا للقرآن، محبًّا للعلم، منكرًا للظلم، فصيح اللسان، كتب الخط المنسوب, وكانت أيامه ببغداد كأنها الأعياد، وكان راغبًا في البر والخير، مسارعًا إلى ذلك، لا يرُدُّ سائلًا، وكان جميل العشرة لا يُصغي إلى أقوال الوُشاة من الناس، ولا يثق بالمباشرين، وقد ضبط أمور الخلافة جيدًا، وأحكمها وعلمها، وكان لديه علم كثير، وله شِعر حسن. قال ابن النجار: "كان المستظهر موصوفًا بالسخاء والجود، ومحبة العلماء، وأهل الدين، والتفقد للمساكين، مع الفضل والنُّبل والبلاغة، وعلو الهمة، وحسن السيرة، وكان رضي الأفعال، سديد الأقوال". ولما بويع بالخلافة استوزر أبا منصور ابن جهير، وقال له: "الأمور مفوَّضة إليك، والتعويل فيها عليك؛ فدبِّرها بما تراه. فقال: هذا وقتٌ صعب، وقد اجتمعت العساكر ببغداد مع السلطان الذي عندنا، ولا بد من بذل الأموال التي تستدعي إخلاصهم وطاعتهم. فقال له: الخزائن بحُكمك؛ فتصرَّفْ فيها عن غير استنجاز ولا مراجعة ولا محاسبة. فقال: ينبغي كتمان هذه الحال إلى أن يصلح نشرها". توفي المستظهر بالله سحرَ ليلة الخميس سادس عشرين ربيع الآخر؛ مَرِض ثلاثة عشر يومًا من تراقي –دمَّل يطلع في الحلق- ظهر به، وبلغ إحدى وأربعين سنة وستة أيام، وكانت خلافته أربعًا وعشرين سنة وثلاثة أشهر وأحد عشر يومًا، وقد ولي غسله ابن عقيل أبو الوفا الحنبلي، وابن السني، وصلى عليه ولده أبو منصور الفضل، ودفن في حجرة كان يسكنها، ومن غريب الاتفاق أنه لما توفي السلطان ألب أرسلان توفي بعده الخليفة القائم بأمر الله، ولما توفي السلطان ملكشاه توفي بعده الخليفة المقتدي بأمر الله، ولما توفي السلطان محمد توفي بعده الخليفة المستظهر بالله. لما توفي المستظهر بالله بويع ولدُه المسترشد بالله أبو منصور الفضل بن أبي العباس أحمد بن المستظهر بالله، وكان وليَّ عهد أبيه, وقد خُطب له وليًّا للعهد ثلاثًا وعشرين سنة، فبايعه أخواه ابنا المستظهر بالله، وهما أبو عبد الله محمد، وأبو طالب العباس، وعمومته بنو المقتدي بأمر الله، وغيرهم من الأمراء والقضاة والأئمة والأعيان، وكان المتولي لأخذ البيعة القاضي أبو الحسن الدامغاني، وكان نائبًا عن الوزارة فأقرَّه المسترشد بالله عليها.
كان الأميرُ الناصر غزا إلى دار الحرب، وهي غزاة مويش، والحشودُ والعساكر تتلاحَقُ به من سائر أقطار الأندلس، وجميع جهاتها، ونزل على مدينةِ طُلَيطلة، وخرج إليه لبُّ بن الطربيشة صاحِبُها، مبادرًا إليه، وغازيًا معه، وكان يظهر طاعةً تحتها معصيةٌ، حتى نزل بمدينة الفرج، فنظر لأهلها، وخرج للجهاد أكثَرُهم، حتى احتَلَّ بثغر مدينة سالم، وأظهَرَ التوجه إلى الثغر الأقصى. وقَدِمَت المُقَدِّمة نحوه. ثم عرجَ بالجيوش إلى طريقِ آلية والقلاع، وطوى من نهارِه ثلاث مراحل، حتى احتَلَّ بوادي دوبر؛ فاضطربت العساكر فيه، وباتت عليه. ثم أخرج صباحَ تلك الليلة سعيد بن المنذر الوزير، في جرائد الخيل وسرعان الفرسان، إلى حصن وخشمة؛ فأغذَّ السيرَ حتى قَرُب من الحصن، وسرَّحَ الخيل المُغيرة يَمنة ويَسرة، والمشركون في سكونٍ وغفلة؛ إذ كان العِلجُ الذي يلي أمورَهم قد كاتبَ النَّاصِرَ مكايدًا له في إزاحته عن بلدِه بمواعيدَ وعدها من نفسه، فأظهر الناصر قَبولَ ذلك منهم، وأضمَرَ الكيد بهم، فغشيتهم الخيلُ المُغيرةُ على حينِ غَفلةٍ، وأصابوا نَعَمهم وسوامَهم ودوابَّهم مُسرحةً مُهملةً؛ فاكتسحوا جميع ذلك، وانصرفوا إلى العسكرِ سالمين غانمين. فلما كان في صباحِ يوم الجمعة لاثنتي عشرة ليلة بقيت من صفر، اندفعت الخيلُ إلى حصن وخشمة، ففر عنه الكفرة، وأخلوه، ولاذوا بالغياض الأشبة –المواضعُ التي يكثُرُ فيه الشجرُ ويلتفُّ-، والصخور المنقطعة. ودخل المسلمون الحِصنَ، وغنموا جميعَ ما فيه وأضرموه نارًا. ثم رحل عنها في اليومِ الثاني إلى حصن قاشتر مورش، وهي شنت أشتبين، بيضة المفرة وقاعدتُهم، فخرجوا هاربين عنه، فدخله المسلمون وغنموا جميعَ ما فيه، وخَرَّبوا حِصنَ القبيلة المجاور له، ولم يترك لأعداء اللهِ في تلك الجهة نعمةً يأوونَ إليها، واضطرب العسكرُ بشرقي حصن قاشتر مورش. وبات المسلمونَ ليلة الأحد بأسرِّ ليلة كانوا بها، والحمدُ لله. ثم انتقل الناصر في صبيحة اليوم الثاني من مكانِ المُضطَّرَب شرقيَّ الحصن إلى غربيِّه، ولم يكن بين الموضعين إلا قدرُ ميل، فكسر العسكرُ في ذلك المكانِ يوم الأحد متقصيًا لآثار الكفرة، ومستبيحًا لنَعَمِهم. ثم ارتحل إلى مدينةٍ لهم أولية تعرف بقلونية، وكانت من أمهَّات مُدُنِهم، فلم تمرَّ الجيوش إليها إلَّا على قرًى منتظمة وعمارة بسيطة، فغَنِمَت جميع ما كان بها، وقتلت من أدرَكَت فيها، حتى أوفت العساكِر على المدينة، فأُلقِيَت خالية، قد شُرِّدَ عنها أهلُها إلى الجبالِ المجاورة لهم، فغنم المسلمون جميعَ ما أصابوا فيها، وعَمِلَت الأيدي في تخريبِ ديارِها وكنائسها، وكسر الناصر عليها ثلاثةَ أيَّام، مطاولًا لنكايةِ المُشرِكين، وانتساف نَعَمِهم. ثم ارتحل من مدينة قلونية يوم السبت لخمس بقينَ من صفر إلى ثغر تطيلة، لغِياثِ صريخِ المسلمين به، إذ كان العِلجُ شانجه قد ضايقهم، وتردَّد بكَفَرته عليهم، ثم احتَلَّ الناصر حوز تطيلة ثم قدَّم الخيل مع محمَّد بن لبّ عاملها إلى حصن قلهرة الذي كان اتَّخذه شانجه على أهلها. فلما قصَدَته الخيلُ أخلاه مَن كان فيه، وضَبَطه المسلمون. ثم نهض الناصر إلى حِصن قلهرة. وكان شانجة قد اتخذه معقِلًا، وتبوَّأه مسكنًا. فلما فجَأته العساكِرُ أخلاه العِلجُ، وزال عنه؛ فغَنِمَه المسلمون بأسرِه، ثم رحل بالجيوشِ يوم الأحد لأربعٍ خَلَون من ربيع الأول إلى دي شره، وأجاز إليها وادي إبره، فخرج شائجة من حصن أرنيط في جموعه وكفَرَته، متعرضًا لمن كان في مُقدِّمة العسكر، فتبادر إليه شُجعان الرِّجال، تبادر رشق النبال، فانهزم الكفرة، وركِبَتْهم الخيلُ، تقتل وتجرَحُ، حتى توارَوا في الجبال، ولاذُوا بالشعاب وأيقنوا بالدمارِ والهلاك. وحِيزَ كثيرٌ من رؤوسِ المشركين؛ فتلقوا بها الناصر، ولا علم عنده بالمعركةِ التي دارت بينهم وبين أعداء الله. واضطرب العسكرُ بهذا الموضع، وبات المسلمون ظاهرينَ على عَدُوِّهم، ومنبسطين في قُراهم ومزارعهم، وورد الخبرُ على الناصر باجتماع العِلجَينِ أرذون وشانجة، واستمداد بعضِهما ببعض، طامعينِ في اعتراضِ المقَدِّمة، أو انتهاز فرصة في السَّاقة. فأمر الناصرُ بتعبئة العساكر، وضبْطِ أطرافِها، ثم نهض بها موغِلًا في بلاد الكَفَرة، فتطلَّلوا على كُدًى مشرفةٍ وجبالٍ منيعة؛ ثم تعرضوا من كان في أطرافِ الجيش، وجعلوا يتصايحون، ويولوِلون لِيُضعِفوا من قلوب المسلمين، فعهد الناصر بالنزولِ والاضطراب وإقامةِ الأبنية. ثم تبادر الناسُ إلى محاربة الكفرة، وقد أسهلوا من تلك الجبالِ، فواضعوهم القتالَ، واقتحم عليهم حتى انهزم المشركونَ، والمسلمون على آثارِهم، يقتلون من أدركوا منهم، حتى حجز الظَّلامُ بينهم، ولجأ عند الهزيمةِ ما يزيد على ألفٍ مِن العلوج إلى حصن مويش، ورجوا التمنُّع فيه. فأمر الناصرُ بتقديم المظل وأبنية العسكرِ إلى الحصن، فأحيط به من جميعِ جِهاتِه، وحُوربوا داخِلَه حتى تغلَّب عليه، واستخرج جميعَ العُلوج منه، وقُدِّموا إلى الناصر، فضُرِبَت رقابُ جميعهم بين يديه، وأصيب في الحصنِ والمحلة التي كانت للكَفَرة بقربه من الأمتعةِ والأبنية والحِليةِ المُتقَنة والآنية ما لا يحصى كثرةً، وأصيب لهم نحوُ ألف وثلاثمائة فرس، ثم انتقل الناصرُ يوم الأحد لإحدى عشرة ليلة خلت من ربيع الأول إلى حصنٍ كان اتَّخذه شانجة على أهل بقيرة فألقاه خاليًا، قد فرَّ عنه أهلُه، فعَهِدَ بهَدمِه، ولم يبرح الناصرُ مِن محلَّتِه هذه حتى نُقِلَ إلى حصنِ بقيرة من أطعمة الكَفَرة ألفُ مُدٍّ تقويةً لأهله. ثم انتقل إلى حصونِ المُسلمين يسكِّنُها وينظر في مصالحِ أهلها، فكلما ألفى بقربها مَعقلًا للمشركين، هدمه وأحرق بسيطَه، حتى اتصل الحريقُ في بلاد المشركين عشرةَ أميال في مثلها. واجتمع عند الناس من الأطعمةِ والخيرات ما عجزوا عن حَملِه، ولم يجدوا لها ثمنًا تباع به، وقفل الناصر يوم الثلاثاء. لثلاثٍ بقين من ربيع الأول، حتى انتهى إلى مدينة أنتيشة؛ وبعث إلى قرطبةَ مِن رؤوس الكَفَرة التي أصيبت في المعارك المذكورة أعدادًا عظيمة، حتى لقد عجَزَت الدواب عن استيفاءِ حَملِها. ودخل الناصرُ القصر بقرطبة يوم الخميس الثالث عشر من ربيع الآخر، وقد استكمل في غزاتِه هذه تسعين يومًا.
هو هارونُ الرَّشيدُ أميرُ المؤمنينَ ابنُ المهديِّ محمد بن أبي جعفر المنصور، أبو محمد، ويقال أبو جعفر. وأمُّه الخَيزُران أمُّ ولَدٍ. كان مولِدُه في شوَّال سنة 147هـ وقيل غيرُ ذلك, وبويِعَ له بالخلافةِ بعد موت أخيه الهادي في ربيع الأوَّل سنة 170هـ، بعهدٍ مِن أبيه المهدي. وكان الرشيدُ أبيضَ طويلًا سمينًا جَميلًا، وقد غزا الصائفةَ في حياة أبيه مرارًا، وعقد الهدنةَ بين المسلمين والرومِ بعد محاصرتِه القُسطنطينيَّة، ثمَّ لَمَّا أفضَت إليه الخلافةُ في سنة سبعين كان من أحسَنِ النَّاسِ سِيرةً وأكثَرِهم غَزوًا وحَجًّا، وكان يتصَدَّقُ مِن صُلبِ مالِه في كلِّ يومٍ بألفِ دِرهمٍ، وإذا حَجَّ أحَجَّ معه مائةً من الفُقَهاء وأبنائِهم، وإذا لم يحُجَّ أحَجَّ ثلاثَمائة بالنَّفقةِ السابغةِ والكُسوةِ التَّامَّة، وكان يحِبُّ التشَبُّهَ بجَدِّه أبي جعفرٍ المنصورِ إلَّا في العطاءِ؛ فإنَّه كان سريعَ العَطاءِ، جزيلَه، وكان يحِبُّ الفُقَهاءَ والشُّعَراءَ ويُعطيهم. كان هارونُ الرَّشيد قد سار إلى خراسانَ لقِتالِ رافِعِ بنِ الليثِ، وكان مريضًا ثم اشتَدَّ مَرَضُه عند دخولِهم طوس- قرية من قرى سناباذ- ومات ودفُنَ فيها عن عمر سبع وأربعين سنة, بعد أن دامَت خلافتُه عشرين عامًا، وقيل: ثلاثةً وعشرين, وقد كانت حافِلةً بالفتوحِ والعِمارة.
هو محَدِّثُ الحرَمِ المكِّي، الحافِظُ المشهورُ: سُفيان بن عُيَينة بن أبي عمران يكنَّى أبا محمد. وهو مولى لبني عبد الله بن رويبة، وُلِد سنةَ سبعٍ ومائة بالكوفةِ، انتقل إلى مكَّةَ وبقي فيها، قال الشافعي: لولا مالِكٌ وسفيان لذهب عِلمُ الحجاز، كان واسِعَ العِلم، كبيرَ القَدرِ، مع زهدٍ وورَعٍ، له المُسند الجامِعُ، وتفسير القرآن، توفِّي في مكَّة- رحمه الله وجزاه عن الإسلامِ والمسلمين خيرًا.
هو أَحَدُ الفُقَهاء السَّبْعة في المَدينَة (ومنهم مَن يَعُدُّ بَدَلَهُ سالِمَ بن عبدِ الله بن عُمَرَ)، سَيِّد التَّابِعين، جَمَع بين الحَديثِ والفِقْهِ والوَرَعِ والزُّهْدِ، رَوَى مَراسِيل عن النَّبِيِّ صلَّى الله عليه وسلَّم كَثيرةً، كان الحَسَنُ البَصريُّ إذا أُشْكِلَ عليه شَيءٌ كَتَبَ إليه يَسألُه، كان يَحفَظ أَحكامَ عُمَرَ بن الخَطَّاب وأَقْضِيَتَهُ، كان مَهِيبًا عند الخُلَفاء، تَعَرَّض للأَذَى بسَببِ البَيْعَة بِوِلايَة العَهْد للوَليد بن عبدِ الملك، وضُرِبَ بِسَببِ ذلك بالسِّياطِ، وتُوفِّي في المَدينَة رَحِمَه الله تعالى وجَزاهُ عن المسلمين خيرًا.
هو الأديبُ المؤرِّخُ صلاحُ الدين أبو الصفاء، خليل ابن الأمير عز الدين أيبك بن عبد الله الألبكي الصفدي, ولد سنة 696 في صفد بفلسطين، وإليها نُسِبَ، وكان والِدُه أحد أمراء المماليك، وكان إمامًا بارعًا كاتبًا ناظمًا ناثرًا شاعرًا، له مصنفات كثيرة في التاريخ والأدب والبديع وغير ذلك، وتاريخه المسمى: الوافي بالوفيات، وهو مشهورٌ مُعتَمَد، وله تاريخ آخر أصغر من هذا سماه أعوان النصر في أعيان العصر، وله شَرحُ لامية العَجَم، ونكت الهميان في نكت العميان، وكتاب جناس الأجناس، وغيرها من كتب اللغة والتاريخ. توفي بدمشق في ليلة الأحد عاشر شوال.
زحف الملك فرديناند ملك قشتالة على غرناطة سنة 895 وحاصرها وشدد الحصار عليها, وامتدَّ الحصار إلى هذه السنة وقعت خلاله ملاحم كثيرة، والمسلمون كانوا يلحُّون على حمايتها, فلم يزالوا يدافعون عنها ويقاتلون من قصَدَها حتى قصر عنها العدو؛ لكثرة ما قُتل له عليها من خيل ورجال، ولم تزل الحرب متصلة وقد أصيب فيها كثير من أنجاد فرسان المسلمين بالجراحات، واستشهد آخرون، ومن النصارى أضعاف ذلك, والمسلمون فوق ذلك صابرون محتسبون واثقون بنصر الله تعالى، يقاتلون عدوهم بنية صادقة وقلوب صافية, وكان يُغيرُ منهم رجال في الليل على النصارى فيغنموا ما وجدوا عندهم من خيل وبغال وحمير وبقر وغنم ورجال، حتى صار اللحم بالبلد من كثرته الرطل بدرهم, والحرب متصلة بينهم والقتل والجراح فاشيان في الفريقين سبعة أشهر إلى أن فنيت خيل المسلمين بالقتل، ولم يبق منها إلا القليل، وفني أيضًا كثير من نجدة الرجال, وفي هذه المدة انجلى كثير من الناس إلى بلاد البشرة لما نالهم من الجوع والخوف وكانت الطريق للبشرة على جبل شلير، وكان يأتي للبلد من البشرة على ذلك الطريق خير كثير من القمح والشعير والذرة والزيت والزبيب والفواكه والسلع، وما زال حال البلد يضعف ويقل من الطعام والرجال إلى أن دخل محرم سنة 897 ودخل فصل الشتاء والثلج نازل بالجبل، وقُطع الطريق من البشرة، فقل الطعام في أسواق المسلمين بغرناطة واشتد الغلاء، وأدرك الجوع كثيرًا من الناس، وكثر السُّؤَّال والعدو ساكن ببلده ومحلته، ولقد منع المسلمين من الحرث والزراعة وانقطعت الحرب في هذه المدة بين الفريقين، فلما دخل صفر اشتد الحال على الناس بالجوع وقلة الطعام وأدرك الجوع كثيرًا من الناس الموسرين، فاجتمع أعيان الناس من الخاصة والعامة والفقهاء والأمناء والأشياخ والعرفاء ومن بقي من أنجاد الفرسان، ومن لهم النظر بغرناطة، وساروا إلى أميرهم أبي عبد الله الصغير، فأعلموه بحال الناس وما هم فيه من الضعف وشدة الجوع وقلة الطعام، وأن بلدهم بلد كبير لا يقوم به طعام مجلوب، فكيف ولم يُجلَب إليه شيء، وأن الطريق التي كانت يأتيهم عليها الطعام والفواكه من البشرة انقطعت بسبب الثلوج، وأن أنجاد الفرسان هلكوا وفنوا، ومن بقي منهم أُثخِن بالجراحات، وقد امتنع عنهم الطعام والزرع والحرث، وأن رجالهم هلكوا في تلك الملاحم، ثم قالوا له: إن إخواننا المسلمين من أهل عدوة المغرب بعثنا إليهم فلم يأتنا أحد منهم لنُصرتنا وإغاثتنا، وعدُوُّنا قد بنى علينا وسكَنَ معنا وهو يزداد قوةً ونحن نزداد ضعفًا والمَدَد يأتيه من بلاده ونحن لا مدد لنا، وهذا فصل الشتاء قد دخل وحملة عدونا تفرقت وضعفت، وقد قطع عنا الحرب، وإن تكلمنا مع الملك فرديناند الآن قَبِلَ منا وأعطانا كل ما نطلب منه، وإن بقينا حتى يدخل فصل الربيع تجتمع عليه جيوشُه مع ما يلحقنا نحن من الضعف والقلة، فلن يعود يقبلُ منا ما نطلبه منه، ولا نأمن نحن على أنفسنا منه؛ فقد هرب لحملته من بلدنا أناس كثيرون يدلونه على عوراتنا ويستعين بهم علينا، فقال لهم أبو عبد الله الصغير: انظروا ما يظهر لكم وما تتفقون عليه من الرأي الذي فيه صلاحكم، فاتفق رأي الجميع من الخاصة والعامة أن يبعثوا للملك فرديناند من يتكلم معه في أمرهم،وقد زعم كثير من الناس أن أمير غرناطة ووزيره وقواده كان قد تقدم بينهم وبين فرديناند الكلام في إعطائه البلد، إلا أنهم خافوا من العامة وكانوا يحتالون عليهم ويلاطفونهم، فحين أتوهم بما كانوا أضمروا عليه أسعفوهم من حينهم, فأرسل أبو عبد الله الصغير المندوبين لهذه المهمة، فوجدوا الملك فرديناند راغبًا في الصلح بالتسليم، فأنعم لهم بجميع ما طلبوا منه وما شرطوا عليه, فتمت المفاوضة بوضع معاهدة التسليم، ووقَّع الطرفان عليها وتضمنت ستة وخمسين بندًا تعهد فيها الأمير أبو عبد الله الصغير ووزراؤه والفقهاء والعلماء بتسليم المدينة في ظرف ستين يومًا ابتداء من تاريخ المعاهدة التي بدأت في الثاني من محرم 897 الموافق لتشرين الثاني 1491م ومن جملة الشروط التي شرط أهل غرناطة على فرديناند: أن يؤمِّنَهم على أنفسهم وبلادهم ونسائهم وصبيانهم ومواشيهم ورباعهم وجناتهم ومحارثهم، وجميع ما بأيديهم، ولا يغرمون إلا الزكاة والعُشر لمن أراد الإقامة ببلده غرناطة، ومن أراد الخروج منها يبيع أصله بما يرضاه من الثمن لمن يريده من المسلمين والنصارى من غير غَبن، ومن أراد الجواز لبلاد العدوة بالغرب يبيع أصله ويحمل أمتعته ويحمله في مراكبه إلى أي أرض أراد من بلاد المسلمين من غير كراء ولا شيء يلزمه لمدة ثلاث سنين، ومن أراد الإقامة بغرناطة من المسلمين فله الأمان على نحو ما ذُكر، وقد كتب لهم فرديناند ملك قشتالة بذلك كتابًا وأخذوا عليه عهودًا ومواثيق في دينه مغلَّظة على أنه يوفِّي لهم بجميع ما شرطوه عليه, فلما تمت هذه العقود والمواثيق قُرئت على أهل غرناطة, فلما سمعوا ما فيها اطمأنوا إليها وانقادوا لطاعته، وكتبوا بيعتهم وأرسلوها لصاحب قشتالة وسمحوا له في الدخول إلي مدينة الحمراء وإلى غرناطة, فعند ذلك أمر أمير غرناطة أبو عبد الله الصغير محمد بن علي بإخلاء مدينة الحمراء فأُخليت دُورها وقصورها ومنازلها، وأقاموا ينتظرون دخول النصارى لقبضها، فلما كان اليوم الثاني لربيع الأول سنة897 أقبل فرديناند بجيوشه فبعث جناحًا من جيشه فدخلوا مدينة الحمراء وبقي هو ببقية الجيش خارج البلد؛ لأنه كان يخاف من الغدر، وكان طلب من أهل البلد حين وقع بينهم الاتفاق رهونًا من أهل البلد ليطمئن بذلك، فأعطوه خمسمائة رجل منهم, فلما اطمأن من أهل البلد ولم ير منهم غدرًا سرَّح جنوده لدخول البلد والحمراء، فدخل منهم خلق كثير وبقي هو خارج البلد وأشحن الحمراء بكثير من الدقيق والطعام والعدة، وترك بها قائدًا من قواده وانصرف راجعًا إلى محلته، وأخذ يبعث بالدقيق والعلوفات وأنواع الطعام والعدة وما يحتاجون إليه, فلما سمع أهل البشرة أن أهل غرناطة دخلوا تحت ذمة النصارى أرسلوا بيعتهم إلى الملك فرديناند ودخلوا في ذمته، ولم يبق حينئذ للمسلمين موضع بالأندلس، فإنا لله وإنا إليه راجعون! ولما اطمأن الملك فرديناند من غدر أهل غرناطة سرَّح الذين كانوا عنده مرتهنين مؤمَّنين في أموالهم وأنفسهم مكرَّمين، ثم أقبل في جيوشه فدخل مدينة الحمراء في بعض خواصه، وبقي الجند خارج المدينة وبقي هو يتنزه في الحمراء في القصور والمنازل المشيدة إلى آخر النهار، ثم خرج بجنده وصار إلى محلته, ومن غدٍ أخذ في بناء الحمراء وتشييدها وتحصينها وإصلاح شأنها وفتح طرقها، وهو مع ذلك يتردد إليها بالنهار ويرجع بالليل لمحلته، فلم يزل كذلك حتى ازداد اطمئنانًا من غدر المسلمين، فسرَّح للمسلمين الجواز إلى أرض العدوة فأتاهم بالمراكب في الساحل, فصار كل من أراد الجواز يبيع ماله ورباعه ودوره، فكان الواحد منهم يبيع الدار الكبيرة الواسعة المعتبرة بالثمن القليل وكذلك يبيع جنانه وأرض حرثه وكرمه وفدانه بأقل من ثمن الغلة التي كانت فيه، فمنهم من اشتراه من المسلمين الذين عزموا على الدجن- المداهنة- ومنهم من اشتراه من النصارى وكذلك جميع الحوائج والأمتعة، وأمرهم بالمسير إلى الساحل بما معهم فيرفعهم النصارى في البحر محترمين مكرمين، ويجوزونهم إلى عدوة المغرب آمنين مطمئنين.
هو الصوفي إبراهيم بن علي بن عمر برهان الدين الأنصاري المتبولي ثم القاهري الأحمدي، قدم من بلده متبول من الغربية إلى طنطا، فأقام بضريحها مدة ثم تحول إلى القاهرة ونزل بظاهر الحسينية، فكان يدير بها مزرعة ويباشر بنفسه العمل فيها من عزق وتحويل وغير ذلك من مصالحها، وكان يجتمع إذ ذاك بالشيخ إبراهيم الغنام ونزل بزاوية هناك بدرب التتر، تعرف بالشيخ رستم ثم قطن زاوية غيرها بالقرب من درب السباع، وصار الفقراء يَرِدون عليه فيها ويقوم بكلفتِهم من زرعه وغيره، فاشتهر أمره وتزايد خبره وحج غير مرة وانتقل لبركة الحاج، وأنشأ هناك زاوية كبيرة للجمعة والجماعات وبستانًا متسعًا وسبيلًا على الطريق هائلًا عم الانتفاعُ به سيما في أيام الحج، وكذا أنشأ جامعًا كبيرًا بطنطا وبرجًا بدمياط وأماكن غير ذلك، وكثرت أتباعه بحيث صار يُخبَز لهم كل يوم زيادة على أردب، وربما بلغ ثلاثة أرادب سوى عليق البهائم التي بلغت ثمانية أرادب، وهرع الأكابر فضلًا عمن دونهم لزيارته والتبرك به، ونسب إليه جماعته من الكرامات الكثير واستفيض بينهم أنه لم يجب عليه غُسلٌ قط لا من جماع فإنه لم يتزوج، ولا احتلام، بل كان- فيما قيل- يذكر ذلك عن نفسه، ويقول إنه أخذ عن الشيخ يوسف البرلسي الأحمدي وانتفع بصحبته وإنه فتح عليه في سطح جامع الظاهر؛ لأنه أقام فيه مدة وتزاحم الناس عليه في الشفاعات وكان يرفدهم برسائله، بل ربما توجه هو بنفسه في المهم منها، كل ذلك مع أميته ومداومته على الإهداء لكثير من الأمراء ونحوهم من فاكهة بستانه ونحوها، والناس فيه فريقان. مات وقد توجه لزيارة القدس والخليل بعد توعكه مدة بمكان بين غزة والرملة يقال له سدود بالقرب من المقام المنسوب للسيد سليمان، في ليلة الاثنين الثامن عشر ربيع الأول سنة سبع وسبعين، ودفن هناك وسنُّه ظنًّا يزيد على الثمانين.