بعد إعلان قرارِ التقسيم تزايدَ الصِّراعُ مع اليهود أكثَرَ، ثم بلغ أوْجَهُ عند انتهاء الانتداب البريطاني على فلسطين، وكانت الأوضاعُ العربيةُ وشعوبُها المستقِلَّة استقلالًا صوريًّا غير قادرة على أعمالٍ موازية لِما يقوم به اليهود وبجانبهم بريطانيا، وخاصة من ناحية التسليح؛ حيث وصل عدد اليهود الذين يستطيعون القتال أكثر من سبعين ألفًا مقابل عشرين ألفًا من الجيوش العربية، بالإضافة للفلسطينيين والمتطوِّعين من المسلمين، وبعد الخامس من أيار/ يوليو 1948م حدثت نكبةُ 48 حين دخلت الجيوشُ العربية فلسطينَ وأهمُّها الجيش المصري، والأردني، والعراقي، والسوري، وكانت المدنُ الفلسطينية حيفا ويافا وصفد وطبريا وعكا وغيرها من القرى الصغيرة بأيدي اليهودِ، ثم توزَّعت الجيوشُ العربية على الجبَهاتِ؛ فالجنوبية للمصريين، والشرقية للأردنيين والعراقيين، والشمالية للسوريين، ولم يكن هناك تنسيقٌ مُنظَّمٌ بين هذه الجبهات، فكُلُّ جيش خاض المعركةَ وحده بدون دعم الجيوش الأخرى، فلم ينجَح الجيش السوري في التقَدُّم من جهة الشمال، وأما الجيش الأردني والعراقي فاحتفظا بالضَّفة الغربية، وقاتل الجيشُ الأردني في القدس الشرقية في باب الواد والجيش العراقي في جنين، أما الجيش المصري فحُوصِرَ في الفالوجة وعراق المنشية، ثم انسحب واحتفظ بقطاعِ غزَّة، وفشل الجيش الأردني في المحافظة على اللد والرملة وأم الرشراش (إيلات) على الرَّغمِ من أنه أكثر الجيوش العربية تطورًا وتكتيكًا، وكان يقوده مجموعةٌ من الضباط البريطانيين!، ثم أخطأت الجيوشُ العربية بقَبولِها الهدنة الأولى في أواسط صيف 1948م، فأحضر اليهود مزيدًا من الأسلحة والمقاتلين والطائرات، وفكُّوا خلالها حصارَ القدس الغربية؛ حيث كان فيها مائة ألف يهودي على وَشْك الاستسلام، فكانت نسبةُ الأراضي التي أصبحت بعد هذه الحرب في يد اليهودِ أكثَرَ من ثلاثة أرباع فلسطين، فكانت نكبةً حقيقية على العرب وجيوشِهم التي مُنِيَت بالخسائر الفادحة دون أن تحَقِّقَ شيئا، هذا بالإضافةِ لهجرة الكثير من الفلسطينيين إلى الدول العربية المجاورة والذين لم يستطيعوا العودةَ إلى الآن، وهم المعروفون بعربِ الثماني والأربعين، فهاجر منهم أكثر من 750 ألفًا ما بين سوريا والأردن وكذلك عدد لا بأس به منهم في مصر، وأقل منه في العراق والسعودية.
هو قَدْري بن صَوْقَل بن عَبْدُول بن سِنَان المشهور بعبد القادر الأرناؤوط، وُلد سنةَ 1347هـ بقرية «فريلا» في «إقليم كوسوفا» من بلاد الأرنؤوط في ما كان يُعرف بيوغوسلافيا، والألبانيون يُسمُّون هذا الإقليم: كوسوفا، والصرب يقولون: كوسوفو، والأرنؤوط جِنسٌ يندَرِجُ تحته شعوبٌ كثيرةٌ من الألبان واليوغسلاف وغيرهم هاجَرَ سنةَ 1353هـ من جرَّاء اضطهاد المحتلِّين الصرب إلى دِمَشقَ بصحبةِ والدِه وبقيَّةِ عائلته، وكان عمرُه آنذاكَ ثلاثَ سنواتٍ، ترعرع الشيخ في دِمَشق الشام، وتلقَّى تعليمَه أولَ الأمر في مدرسة «الإسعاف الخيري» بدِمَشق بعد دراسة سَنتينِ في مدرسة «الأدب الإسلامي» بدِمَشق. وبعد نهاية المرحلة الابتدائية تركَ العلم لغرض العمَلِ لحاجته للمال، فعمِلَ «ساعاتيًّا» في تصليح الساعات في محلة «المسكية» بدِمَشق، وكان يعمل في النهارِ، ويدرُس القرآنَ والفقهَ مساءً، وانضمَّ إلى حلقة الشيخ عبد الرزاق الحلبي، رغبةً في تعلُّم علوم الشرعِ واللغةِ والأدبِ، تقلَّد الخطابة، فكان خطيبًا في جامع «الدِّيوانية البَرَّانيَّة» بدِمَشق، ثم خطيبًا في جامع «عمر بن الخطاب»، ثم انتقَلَ إلى منطقة «الدحاديل» بدِمَشق، وكان خطيبًا في جامع «الإصلاح»، ثم انتقل إلى جامع «المُحمَّدي» بحيِّ الـمِـزَّة، لكنَّ الشيخَ بَقيَ يُلقي دروسَه في معهد الأمينية (وهي مدرسة قديمة للشافعية)، وبَقيَ يقوم بالتدريس والوعظ، ويُنبِّهُ الناس إلى السُّنة الصحيحة، ويَدْعوهم إلى ضرورة ترك البِدَع والمخالَفات في الشريعة، هذا مع انكبابه على التحقيق والتأليف وتدريسه العلمَ للناس، وإلقاء المحاضرات، كان الشيخ سَلَفيَّ العقيدة، لا يلتزم مذهبًا فقهيًّا مُعيَّنًا، وإنَّما يعمَل بالكتابِ والسُّنة على منهج السلَف الصالحِ -رِضوانُ الله عليهم- ومن كُتبه وتحقيقاته: إتمام تحقيق كتاب ((غاية المنتهى)) في الفقه الحنبلي، وتحقيق كتاب ((جامع الأصول)) لابن الأثير، وتحقيق كتاب ((زاد المعاد)) لابن القَيِّم، و((زاد المسير في علم التفسير)) لابن الجَوْزي، و((المبدع في شرح المقنع)) لابن مفلح، و((رَوْضة الطالبين)) للنووي، و((الشفا)) للقاضي عياض، و((قاعدة جليلة في التوسل والوسيلة))، وغيرها، تُوفيَ في دِمَشق فجرَ الجمُعة 13شوال 1425، ودُفن بمقبرة الحقلة، وكانت جنازته مشهودةً رحمه اللهُ.
هو محمَّد بنُ الأمين بنِ عبد الله بن أحمدَ الحَسَني الإدريسيِّ العَمْراني، كُنْيتُه (بُوخُبْزة)، وُلِد بتِطْوانَ في المغربِ عام1351هـ / 1932م، وكانت تحْت الاحتلالِ الأسبانيِّ.
أتمَّ حِفظَ القرآنِ، ثم أتمَّ حِفظَ بعضِ المتون العِلمية، كالآجُروميةِ، والمرشِد المُعِين على الضَّروري من عُلوم الدِّين، ومُختصَر خَليلٍ في الفِقه المالكي، ثم الْتحَقَ بالمعهد الدِّيني بالجامع الكبيرِ، ومكَث فيه نحْوَ عامينِ تلقَّى خلالَها دُروسًا نِظاميةً مختلِفةً، وأخَذ عن والدِه رحمه الله النَّحْوَ بالآجُرومية وجُزءٍ من الألْفية، وتلقَّى العِلم على عددٍ من عُلماءِ ومَشايخِ المغربِ، مِن أشهَرِهم محمَّد تقي الدِّين الهلالي الحُسَيني، وحضَر دُروسًا في الحديث والسِّيرة على الفقيهِ الحاج أحمد بن محمَّد الرُّهوني.
وكان رحِمه الله مِن عُلماء أهلِ السُّنة في المغرب، ومِن العلماء المشهودِ لهم بالموسوعيَّةِ العِلمية والإحاطة بمُحتويات الكُتب مَخطوطِها ومَطبوعِها.
عَمِل كاتبًا مع القاضي أحمد بن تاوَيْت في وزارة العدْل، وأصدَر عددًا مِن المجلَّات والصُّحف، منها: مجلَّة الحديقة، ومجلة أفكارِ الشَّباب، وصَحيفة البُرهان، وكتَب في مجلة "لِسان الدِّين" التي كان يُصدِرها تقيُّ الدين الهلاليُّ، والذي خلَفه على رئاسة تَحريرِها بعْد سَفرِه عبد الله كنّون، ومجلة "النصر"، و"النِّبراس"، وصحيفة "النور"، وغيرها.
اهتمَّ بالمحدِّث أحمد بن الصِّدِّيق الغُماري، وأُعجِب بسَعةِ اطِّلاعه ورُسوخ قدَمِه في عُلوم الحديث، فكاتَبه وجالَسه وأجازه إجازةً عامةً. كما أجازه مُشافهةً كثيرٌ مِن العلماء، مِن أشهَرِهم الشَّيخ عبد الحيِّ الكَتانيُّ، والشَّيخ عبد الحفيظِ الفاسيُّ الفهْري، والشيخ الطاهرُ بن عاشورٍ.
الْتَقى بالشيخ الألبانيِّ أكثرَ مِن ثَلاثِ مراتٍ: مرةً في المدينةِ المنوَّرة، ومرَّتَين في المغربِ، وتأثَّر بدَعوتِه السَّلفية، وكان سَببًا في اتباعِه المنهجَ السَّلَفيَّ.
له مؤلَّفاتٌ كثيرة؛ منها: (الشَّذرات الذهبية في السِّيرة النَّبوية)، و(فتْح العَلِي القديرِ في التفسير)، و(نظَرات في تاريخ المذاهب الإسلامي)، و(مَلامح من تاريخ عِلم الحديث بالمغرِب)، و(الأدلَّة المحرَّرة على تحْريم الصلاة في المقبرة).
وحقَّق عددًا من الكُتب؛ منها: تَحقيق جزءٍ من كتاب التمهيدِ لابن عبد البَرِّ، تحقيق أجزاءٍ مِن الذَّخيرة للقِرافي، تَحقيق سِراج المهتَدِين لابن العرَبيِّ.
لمَّا امْتَنع عَمرُو بن سعيدِ بن العاصِ على عبدِ الملك خرَج أيضًا قائدٌ مِن قُوَّادِ الضَّواحي في جبلِ اللُّكَّامِ وتَبِعَهُ خَلْقٌ كثيرٌ مِن الجَراجِمَة (نسبة لقبيلة جرجم)، والأَنباطِ (مجموعة من العرب ينتمون إلى نبط بن ‘سماعيل)، وآباقِ عَبيدِ المسلمين، وغَيرِهم، ثمَّ سار إلى لُبنان، فلمَّا فرَغ عبدُ الملك مِن عَمرِو بن سعيدِ أَرسَل إلى هذا الخارِج فبَذَل له كُلَّ جُمُعةٍ ألفَ دِينارٍ، فرَكَن إلى ذلك ولم يُفسِد في البِلادِ، ثمَّ وضَع عليه عبدُ الملك سُحيمَ بن المُهاجِر، فتَلَطَّفَ حتَّى وصَل إليه مُتَنَكِّرًا فأظهَر له مُمالأتَه وذَمَّ عبدَ الملك وشَتَمَه ووَعَدهُ أن يَدُلَّهُ على عَوْراتِه، وما هو خيرٌ له مِن الصُّلْح. فوَثِقَ به. ثمَّ إنَّ سُحيمًا عَطَفَ عليه وعلى أَصحابِه وهم غَارُون غافِلون بجيشٍ مع مَوالي عبدِ الملك وبَنِي أُمَيَّة وجُنْدٍ مِن ثِقاتِ جُنْدِهِ وشُجْعانِهم كان أَعَدَّهم بمكانٍ خَفِيٍّ قريبٍ وأَمَر فنُودِي: مَن أتانا مِن العَبيدِ -يعني الذين كانوا معه- فقَتَل الخارِجَ ومَن أعانَهُ مِن الرُّومِ، وقُتِلَ نَفَرٌ مِن الجَراجِمَة والأنباط، ونادَى المُنادِي بالأمانِ فيمَن لَقِيَ منهم، فتَفَرَّقوا في قُراهُم، وسُدَّ الخَلَلُ، وعاد سُحيمُ بن المُهاجِر إلى عبدِ الملك، ووَفَّى للعَبيدِ.
خرج الحسَنُ بن زيد بن محمد بن إسماعيل بن الحسَن بن زيد بن الحسن بن علي بن أبي طالب بناحية طبرستان، وكان سبب خُروجِه أنَّه لَمَّا قُتِلَ يحيى بن عمر أقطع المستعينُ لمحمد بن عبد الله بن طاهر طائفةً مِن أرض تلك الناحية، فبعث كاتبًا له يقال له جابر بن هارون، وكان نصرانيًّا، ليتسَلَّم تلك الأراضي، فلما انتهى إليهم كرهوا ذلك جدًّا، وأرسلوا إلى الحسن بن زيد هذا، فجاء إليهم فبايعوه والتَفَّ عليه جملةُ الديلم وجماعةٌ من الأمراء في تلك النواحي فركِبَ فيهم ودخل آمل بطبرستان وأخذها قهرًا، وجبى خراجَها، واستفحل أمرُه جِدًّا، ثم خرج منها طالبًا لقتال سليمان بن عبد الله أمير تلك الناحية، فالتقيا هنالك فكانت بينهما حروبٌ، ثم انهزم سليمان هزيمةً مُنكرة، وترك أهلَه وماله ولم يرجِعْ دون جرجان فدخل الحسنُ بن زيد سارية إحدى مدن طبرستان، فأخذ ما فيها من الأموالِ والحواصل، ثم سيَّرَ أهل سليمان إليه مكَرَّمين على مراكب، واجتمع للحسن بن زيدٍ إمرة طبرستان بكمالِها، ثم بعَثَ إلى الري فأخذها وأخرجَ منها الطاهرية، وصار إلى جند همذان، ولَمَّا بلغ خبَرُه المستعينَ بالله، اغتمَّ لذلك جدًّا، واجتهد في بعض الجيوش والأمداد لقتالِ الحسن بن زيد.
لَمَّا رجَعَ سَيفُ الدولة إلى حَلَب من غزو الروم، كان لحِقَه في الطريق غشيةٌ أرجَفَ عليه الناسُ بالموت، فوثب هبةُ الله ابنُ أخيه ناصر الدولة بن حمدان بابنِ دنجا النصراني فقتَلَه، وكان خصيصًا بسيفِ الدولة، وإنما قتَلَه لأنَّه كان يتعَرَّضُ لغلام له، فغار لذلك، ثمَّ أفاق سيفُ الدولة، فلَمَّا عَلِمَ هِبةُ الله أن عمه لم يمُتْ هَرَب إلى حرَّان، فلما دخلها أظهر لأهلِها أنَّ عَمَّه مات، وطلب منهم اليمينَ على أن يكونوا سِلْمًا لِمَن سالَمَه، وحَرْبًا لِمَن حاربه، فحَلَفوا له، واستثنَوا عَمَّه في اليمين، فأرسل سيفُ الدَّولةِ غُلامَه نجا إلى حرَّانَ في طلَبِ هبةِ الله، فلما قاربها هربَ هِبةُ الله إلى أبيه بالمَوصِل، فنزل نجا على حَرَّان في السابع والعشرين من شوال، فخرج أهلُها إليه من الغدِ، فقبض عليهم وصادَرَهم على ألف ألف درهم، ووكلَ بهم حتى أدَّوها في خمسة أيام، بعد الضَّربِ الوجيع بحضرةِ عِيالِهم وأهليهم، فأخرجوا أمتعتَهم فباعوا كلَّ ما يساوي دينارًا بدِرهمٍ؛ لأنَّ أهلَ البلد كلَّهم كانوا يبيعون ليس فيهم مَن يشتري؛ لأنَّهم مُصادَرون، فاشترى ذلك أصحابُ نجا بما أرادوا، وافتقَرَ أهل البلد، وسار نجا إلى ميافارقين، وترك حرَّان شاغرةً بغير والٍ، فتسَلَّط العيارون على أهلِها.
لَمَّا استقَرَّ المُلكُ لمسعود بن سبكتكين بعد أبيه أقرَّ بما كان قد فتَحَه أبوه من الهندِ نائبًا يُسمَّى أحمد ينالتكين، وقد كان أبوه محمَّد استنابه بها ثقةً بجَلَدِه ونَهضَتِه، فرَسَخت قَدَمُه فيها، وظَهَرت كِفايته. ثمَّ إنَّ مسعودًا بعد فراغِه مِن تقرير قواعِدِ المُلك، والقَبضِ على عَمِّه يوسف والمخالفين له، سار إلى خراسان عازمًا على قَصدِ العراق، فلمَّا أبعد عصى ذلك النائِبُ بالهند، فاضطُرَّ مسعودٌ إلى العودة، فأرسَلَ إلى علاء الدَّولة بنِ كاكويه. وأمَّرَه على أصبهان على مالٍ يؤدِّيه إليه كلَّ سنة، وكان علاء الدَّولة قد أرسل يطلُبُ ذلك، فأجابه إليه، وأقَرَّ ابنَ قابوس بن وشمكير على جرجان وطبرستان على مالٍ يؤدِّيه إليه، وسَيَّرَ أبا سهل الحمدوني إلى الرَّيِّ للنظَرِ في أمورِ هذه البلاد الجبليَّة، والقيامِ بحفظها، ولَمَّا سار أبو سهل إلى الريِّ أحسَنَ إلى النَّاسِ، وأظهَرَ العدل، فأزال الأقساطَ والمصادراتِ، وكان تاش فراش والي الرَّيِّ السابقِ قد ملأ البلادَ ظُلمًا وجَورًا، حتى تمنَّى الناسُ الخلاصَ منه ومِن دولة ابن سبكتكين، وخَرِبت البلادُ، وتفَرَّق أهلُها، فلمَّا وَلِيَ الحمدوني، وأحسن وعَدَل، عادت البلادُ فعَمَرت، والرَّعيَّة أمِنَت، وكان الإرجافُ شديدًا بالعراق لَمَّا كان المَلِك مسعود بنيسابور، فلمَّا عاد سكن النَّاس واطمأنُّوا.
اجتمع ثلاثةُ مُلوكٍ مِن ملوك الهند، وقَصَدوا لاهور وحَصَروها، فجمع مُقَدَّم العساكر الإسلامية بتلك الديار مَن عندَه منهم، وأرسل إلى صاحِبِه مودود يستنجِدُه، فسَيَّرَ إليه العساكِرَ فاتَّفَقَ أنَّ بعض أولئك الملوك فارَقَهم وعاد إلى طاعةِ مودود، فرحل الملكانِ الآخران إلى بلادِهما، فسارت العساكرُ الإسلاميَّة إلى أحدهما، ويُعرَفُ بدوبال هرباته، فانهزم منهم، وصَعِدَ إلى قلعةٍ له منيعةٍ هو وعساكِرُه، فاحتَمَوا بها، وكانوا خمسةَ آلاف فارس وسبعين ألف راجلٍ، وحصرهم المسلمونَ وضَيَّقوا عليهم، وأكثروا القتلَ فيهم، فطلب الهنودُ الأمانَ على تسليم الحِصنِ، فامتنع المسلمونَ مِن إجابتِهم إلى ذلك إلَّا بعد أن يُضيفوا إليه باقيَ حصونِ ذلك المَلِك الذي لهم، فحَمَلهم الخوفُ وعدمُ الأقواتِ على إجابتِهم إلى ما طلبوا وتسَلَّموا الجميع، وغَنمَ المسلمونَ الأموال، وأطلقوا ما في الحصونِ مِن أسرى المسلمين، وكانوا نحو خمسةِ آلاف، فلمَّا فَرَغوا من هذه الناحية قَصَدوا ولايةَ المَلِك الثاني، واسمه تابت، بالرَّيِّ، فتقدم إليهم ولَقِيَهم، فاقتَتَلوا قتالًا شديدًا، وانهزمت الهنودُ، وأجْلَت المعركةُ عن قتلِ مَلِكِهم وخمسةِ آلاف قتيل، وجُرِحَ وأُسِرَ ضِعفُهم، وغَنِمَ المسلمونَ أموالهم وسلاحَهم ودوابَّهم. فلما رأى باقي الملوكِ مِن الهند ما لقي هؤلاء أذعنوا بالطاعةِ، وحملوا الأموالَ، وطَلَبوا الأمانَ والإقرارَ على بلادهم، فأُجيبوا إلى ذلك.
استولى الخوارجُ المُقيمونَ بجبال عُمان على مدينةِ الولاية، وسبَبُ ذلك أنَّ صاحِبَها الأمير أبا المُظَفَّر ابن الملك أبي كاليجار كان مُقيمًا بها، ومعه خادِمٌ له قد استولى على الأمورِ، وحَكَم على البلاد، وأساء السيرةَ في أهلها، فأخذ أموالَهم، فنفروا منه وأبغَضوه، وعَرَفَ إنسانٌ من الخوارجِ- يقالُ له ابنُ راشدٍ- الحالَ، فجمع مَن عنده منهم فقَصَد المدينةَ، فخرج إليه الأميرُ أبو المُظَفَّر في عساكِرِه، فالتَقَوا واقتَتَلوا، فانهزمت الخوارجُ وعادوا إلى موضِعِهم، وأقام ابنُ راشد مدَّةً يجمَعُ ويحتَشِدُ، ثم سار ثانيًا، وقاتله الديلم فأعانه أهلُ البلد لسوءِ سِيرةِ الديلم فيهم، فانهزم الديلم، وملَكَ ابنُ راشد البلد وقتل الخادِمَ وكثيرًا من الديلم، وقبض على الأميرِ أبي المظفَّر وسَيَّرَه إلى جباله مُستَظهرًا عليه، وسَجَن معه كُلَّ مَن خَطَّ بقلمٍ مِن الديلم، وأصحابَ الأعمال، وأخرب دارَ الإمارة، وقال: هذه أحقُّ دارٍ بالخراب، وأظهَرَ العدل، وأسقَطَ المكوسَ، واقتصر على رَفعِ عُشرِ ما يَرِدُ إليهم، وخطَبَ لنَفسِه، وتلقَّبَ بالراشد بالله، ولَبِسَ الصوف، وبنى موضعًا على شَكلِ مسجد، وقد كان هذا الرجلُ تَحَرَّك أيضًا أيامَ أبي القاسم بن مكرم، فسَيَّرَ إليه أبو القاسِمِ مَن منعه وحصَرَه وأزال طَمَعَه.
سارَ السُّلطانُ ملكشاه في إثْرِ يعقوبَ لِقَتلِه مُقدِّمَ الجَكليَّة, والذي دَخلَ إلى أَخيهِ بكاشغر مُستجِيرًا به، فسَمِعَ السُّلطانُ بذلك، فأَرسلَ إلى مَلِكِ كاشغر يَتوعَّدُه، إن لم يُرسِلهُ إليه، أن يَقصِد بِلادَه، ويَصيرُ هو العَدُوَّ، فخافَ أن يَمنَع السُّلطانَ، فأَدَّاهُ اجتِهادُه إلى أن قَبَضَ على أَخيهِ يعقوبَ، وأَظهرَ أنه كان في طَلَبِه، فظَفَرَ به، وسَيَّرَهُ مع وَلَدِه، وجَماعةٍ من أَصحابِه، وكَّلَهم بيعقوب، وأَرسلَ معهم هَدايا كَثيرةً للسُّلطانِ، وأَمَرَ وَلدَه أنه إذا وَصلَ إلى قَلعةٍ بقُربِ السُّلطانِ أن يَسْمُلَ يعقوبَ ويَتركهُ، فإن رَضِيَ السُّلطانُ بذلك، وإلَّا سَلَّمَه إليه، فحَدثَ أن طغرل بن ينال استَولى على كاشغر وأَخَذَ صاحبَها أخا يعقوب, فأَطلَقوا يعقوبَ، فلمَّا رأى السُّلطانُ ذلك ورأى طَمَعَ طغرل بن ينال، ومَسيرَه إلى كاشغر، وقَبْضَ صاحِبِها، ومِلْكِه لها مع قُرْبِه منه، خاف أن يَنحَلَّ بَعضُ أَمرِه وتَزولَ هَيبتُه، وعَلِمَ أنه متى قَصدَ طغرل سار من بين يَديهِ، فإن عادَ عنه رَجعَ إلى بِلادِه، وكذلك يعقوب أخو صاحِبِ كاشغر، وأنه لا يُمكِنُه المَقامُ لِسِعَةِ البِلادِ وراءَهُ وخَوْفِ الموتِ بها، فوَضعَ تاجَ المُلْكِ على أن يَسعَى في إصلاحِ أَمرِ يعقوب معه، ففَعلَ ما أَمرَهُ به السُّلطانُ، فاتَّفَقَ هو ويعقوبُ، وعاد إلى خراسان، وجَعلَ يعقوبَ مُقابِلَ طغرل يَمنعُه من القُوَّةِ، ومِلْكِ البلادِ، وكلٌّ منهما يقوم في وَجهِ الآخرِ.
سار يوسُفُ بن عبد المؤمن إلى إفريقيَّةَ، وملك قفصة، وكان سبب ذلك أنَّ صاحِبَها علي بن عبد المعز بن المعتز لَمَّا رأى دخولَ الترك إلى إفريقيَّة واستيلاءهم على بعضها، وانقياد العرب إليهم؛ طَمِعَ أيضًا في الاستبدادِ والانفراد عن يوسف وكان في طاعته، فأظهر ما في نفسه وخالفه وأظهر العِصيان، ووافقه أهلُ قفصة، فقتلوا كلَّ من كان عندهم مِن الموحِّدين أصحابه، وكان ذلك في شوال سنة 572، فأرسل والي بجاية إلى يوسفَ بن عبد المؤمن يخبِرُه باضطراب أمور البلاد، واجتماعِ كثيرٍ من العرب إلى بهاء الدين قراقوش القائد الأيوبي الذي دخل إلى إفريقيَّة, فشرع يوسف بن عبد المؤمن في سدِّ الثغور التي يخافُها بعد مسيره، فلما فرغ من جميع ذلك جهَّز العسكر وسار نحو إفريقيَّة سنة خمس وسبعين، ونزل على مدينة قفصة وحَصَرها ثلاثة أشهر وهي بلدة حصينة، وأهلها أنجاد، وقطَعَ شَجَرَها، فلما اشتد الأمرُ على صاحبها وأهلها خرج منها مستخفيًا وطلب عفوَ أمير المؤمنين واعتذر، فَرَقَّ له يوسف فعفا عنه وعن أهل البلد، وتسلم المدينة أول سنة ست وسبعين وسيَّرَ علي بن المعز صاحِبَها إلى بلاد المغرب، فكان فيها مُكرمًا عزيزًا، وأقطعه ولايةً كبيرة؛ ورتَّب يوسف لقفصة طائفةً من أصحابه الموحِّدين.
لَمَّا فرغ صلاحُ الدينِ مِن أمْرِ قلعةِ دَربِ ساك سار إلى قلعة بغراس، فحصرها، وجعل أكثَرَ عَسكَرِه يزكًا- اليزك كلمة فارسية تعني مقدِّمة الجيش- مقابل أنطاكية، يُغيرونَ على أعمالها، وكانوا حَذِرينَ مِن الخوف من أهلِها إن غفلوا؛ لقربهم منها، وصلاحُ الدين في بعض أصحابِه على القلعة يقاتِلُها، ونصَبَ المجانيقَ، فلم يؤثِّرْ فيها شيئًا لعُلُوِّها وارتفاعها، فغلب على الظُّنونِ تعذُّرُ فَتحِها وتأخُّر مِلكِها، وشَقَّ على المسلمين قِلَّةُ الماء عندهم، إلَّا أنَّ صلاحَ الدين نَصَب الحِياضَ، وأمَرَ بحَملِ الماء إليها، فخَفَّف الأمرَ عليهم، فبينما هو على هذه الحال إذ قد فُتِحَ باب القلعة، وخرجَ منه إنسانٌ يطلُبُ الأمانَ ليحضُرَ، فأُجيبَ إلى ذلك، فأذِنَ له في الحضور، فحضر وطلب الأمان لِمَن في الحِصنِ حتى يسَلِّموه إليه بما فيه على قاعدة قلعةِ درب ساك، فأجابَهم إلى ما طلبوا، فعاد الرسول ومعه الأعلامُ الإسلاميَّة، فرُفِعَت على رأس القلعة، ونَزَل من فيها، وتسَلَّم المسلمون القلعةَ بما فيها من ذخائرَ وأموالٍ وسلاحٍ، وأمَرَ صلاح الدين بتخريبِه، فخُرِّبَ، وكانت مضَرَّتُه عظيمةً على المسلمين؛ فإنَّ ابن ليون صاحِبَ الأرمن خرج إليه من ولايتِه وهو مجاوِرُه، فجَدَّد عِمارَتَه وأتقَنَه، وجعل فيه جماعةً مِن عسكره يُغيرونَ منه على البلاد، فتأذَّى بهم السوادُ الذي بحلب.
سار صلاحُ الدين إلى شقيف أرنون، وهو من أمنَعِ الحصون، ليحصُرَه، فنزل بمرج عيون، فنزل صاحِبُ الشقيف، وهو أرناط صاحب صيدا، وكان أرناط هذا من أعظَمِ النَّاسِ دهاءً ومكرًا، فدخل إليه واجتمع به، وأظهر له الطاعةَ والمودة، وقال إنَّه سيُسَلِّمُ له الحِصنَ، فظن صلاحُ الدين صِدقَه، فأجابه إلى ما سأل، فاستقر الأمرُ بينهما أن يسلِّمَ الشقيفَ في جمادى الآخرة، وأقام صلاح الدين بمرج عيون ينتظر الميعاد، وكان أرناط في مدة الهدنة يشتري الأقواتَ مِن سوق العسكَرِ والسلاحَ وغير ذلك مما يُحصِّن به شقيف، فلما قارب انقضاءُ الهدنة تقدَّمَ صلاح الدين من مُعسكَرِه إلى القرب من شقيف أرنون، وأحضر عنده أرناط وقد بَقِيَ من الأجل ثلاثة أيام، فقال له في معنى تسليمِ الشقيف، فاعتذر بأولادِه وأهله، وأنَّ المركيس لم يمكِّنْهم من المجيء إليه، وطلب التأخيرَ مُدَّةً أخرى، فحينئذ عَلِمَ السلطان مَكْرَه وخداعه، فأخذه وحبسه، وأمَرَه بتسليم الشقيف، فطلب قسيسًا- ذكَرَه- لحَملِه رسالةً إلى من بالشقيف ليُسَلِّموه، فأحضروه عنده، فسارَّه بما لم يعلموا، فمضى ذلك القسيسُ إلى الشقيف، فأظهر أهلُه العصيان، فسيَّرَ صلاح الدين أرناط إلى دمشقَ وسَجَنَه، وتقَدَّم إلى الشقيف فحصَره وضَيَّقَ عليه، وجعل عليه من يحفَظُه ويمنَعُ عنه الذخيرة والرِّجال.
هو أبو الملوكِ السلطانُ الغازي فخرُ الدين عثمانُ بك خان الأول بن أرطغرل بن سليمان شاه القايوي التُركماني، لما توفِّيَ أرطغرل سنة 687 هـ ( 1288م) تولى عُثمانُ زعامةَ القبائِلِ التُّركمانيَّة في المقاطعة التي منحهم إيَّاها السلطان علاء الدين السلجوقي والتي كانت قريبةً من بحر مرمرة التابع للبحرِ الأسود بالقُربِ من مدينة بورصة، كان عثمان قد تمكَّن في البلاد حتى إنَّه بدأ يدعو أمراءَ الروم في آسيا الصغرى إلى الإسلامِ أو الجزيةِ أو الحَربِ؛ ممَّا أدى إلى استعانتهم بالمغول للقضاءِ عليه، ولكنَّه كان قد هيأ جيشًا بإمرة ابنه أورخان فسَيَّرَه لقتال المغول فشَتَّت شَملَهم وعاد فاتَّجَه إلى بورصة فاستطاع أن يدخُلَها عام 717, وكانت بورصة تعَدُّ من الحصون الروميَّة المهمَّة في آسيا الصغرى، فأمَّنَ أهلَها وأحسَنَ إليهم فدفعوا له ثلاثين ألفًا مِن عملتهم الذهبيَّة وأسلمَ حاكِمُها أفرينوس فمنحه عثمانُ لَقَب بيك، وأصبحَ مِن القادة البارزين، ثمَّ إن عثمان توفي في 21 رمضان من هذه السنة بعد معاناتِه من مرض النقرس، وكان قد عَهِدَ لابنه أورخان بالحكم وكان عمرُه تسعة وثلاثين عامًا وليس هو بأكبر أولادِ عثمان، وكان أكبَرُهم علاء الدين الذي رضي بأن يكون وزيرًا لأخيه فاهتَمَّ بالشؤون الداخليَّة وأما أورخان فاهتَمَّ بالشؤون الخارجيَّة.
سَبَبُه أنَّه لَمَّا قُبِضَ على الوزير منجك، خرج الأميرُ قمارى الحموي، وبيده ملطفات لأمراء صفد بالقَبضِ على أحمد، فبلغه ذلك من هجان جَهَّزه إليه أخوه، فندب الأمير أحمد الساقي طائفةً من مماليكه لتلَقِّي قمارى، وطلب نائب قلعة صفد وديوانه، وأمره أن يقرأَ عليه كم له بالقلعة من غَلَّة، فأمر لمماليكه منها بشيءٍ فَرَّقه عليهم إعانةً لهم على ما حصَل من المحْلِ في البلاد، وبعثهم ليأخذوا ذلك، فعندما طلعوا القلعة شَهَروا سيوفهم ومَلَكوها، فقَبَض الأمير أحمد الساقي على عِدَّة من الأمراء، وطلع بحريمِه إلى القلعة وحَصَّنَها، وأخذ مماليكُه قمارى، وأتوه به فكتب السلطان لنائب غزة ونائب الشام تجريدَ العسكر إليه، ورسَمَ بالإفراج عن فياض بن مهنا وعيسى بن حسن الهجان أمير العايد، وخلَعَ عليه وجهَّزه، وأخذت الهجن من جمال الدين بقر أمير عرب الشرقية، وأعيدت إلى علي بن حسن، وكانت الأراجيفُ قد كثرت بأن الأمير طاز قد تحالف هو والأمير بيبغا روس بعقبة أيلة، فخرج الأمير فياض وعيسى بن حسن أمير العايد؛ ليقيما على عقبة أيلة، بسبب بيبغا روس، وكتب لعرب شطي وبني عقبة وبني مهدي بالقيامِ مع الأمير فضل، وكتب لنائب غزَّة بإرسال السوقة إلى العقبة.