هو الشيخُ الزَّاهِدُ العابدُ، رسلان بن يعقوب بن عبد الله بن عبد الرحمن الجعبري، ثم الدمشقي، صوفي مشهورٌ تعتقد فيه العامَّةٌ كراماتٍ كما هو شأنُهم في المتصَوِّفة، فنَسَبوا له الطيرانَ في الهواء وأنه ما جلس تحت شجرةٍ يابسةٍ إلَّا اخضَرَّت، بل نسب جهلةُ العوامِّ إليه أنه هو السَّبَبُ في انحسار التتار عن دمشق وأنه هو حامي البَرِّ والشام، بل إن بعُضهم إلى اليوم يذكُرُ ذلك عنه!! توفي في دمشق ودُفِنَ فيها وقَبرُه فيها معروفٌ، وله عنده مسجدٌ يُعرَفُ به.
دارت مَعركةٌ بين "محمود غازان" سلطانِ الدولةِ الإيلخانية المغوليَّة, والذي أعلن هو وكثيرٌ من التتار دخولَهم في الإسلام سنة 694, و"النَّاصر قلاوون" سلطانُ دولة المماليك، وكانت معركةً هائلةً أسفرت عن انتصار غازان وجنودِه؛ بسَبَبِ تفَوُّقِهم في العِدَّة والعتاد، وتعَرَّض السلطانُ الناصر محمد قلاوون لمؤامرةٍ لخَلعِه, فقد تحرَّك غازان متَّجِهًا إلى بلاد الشام فقَطَع الفرات، وكانت الأخبارُ قد وصلت إلى السلطنةِ وتجهَّزَ العسكرُ مِن مصر ووصل إلى دمشقَ وتجهز عسكر دمشق، ووصلت الأخبارُ أن غازان قد وصل قريبًا من حلب في جيشٍ عظيم، حتى هرب كثيرٌ من أهل حلب وحماة إلى دمشق، ووصل العسكرُ المصري إلى دمشق، ثم خرج السلطانُ بالجيش من دمشق يوم الأحدِ سابع عشر ربيع الأول، ولم يتخَلَّف أحد من الجيوش، وخرج معهم خلقٌ كثير من المتطَوِّعة، فلما وصل السلطانُ إلى وادي الخزندار عند وادي سلمية قريبًا من حمص، التقى مع التَّتَر هناك يوم الأربعاء السابع والعشرين من ربيع الأول وتصادما، وقد كَلَّت خيولُ السلطان وعساكِرُه مِن السَّوْق؛ والتحم القتالُ بين الفريقين، وحمَلَت ميسرةُ المسلمين عليهم فكسَرتَهم أقبحَ كَسرةٍ، وقَتَلوا منهم جماعة كثيرة نحو خمسةِ آلاف أو أكثر، ولم يُقتَل من المسلمين إلا اليسير، ثم حملت القلبُ أيضًا حملةً هائلة وصَدَمت العدوَّ أعظمَ صَدمةٍ، وثبت كلٌّ من الفريقين ثباتًا عظيمًا، ثم حصل تخاذلٌ في عسكَرِ الإسلام بعضُهم في بعضٍ؛ بلاءً مِن الله تعالى، - فانهزمت ميمنةُ السلطان بعد أن كان لاح لهم النصرُ، فلا قوةَ إلا بالله، ولما انهزمت الميمنةُ انهزم أيضًا من كان وراء السناجق- الرايات- السلطانية من غير قتالٍ، وألقى الله تعالى الهزيمةَ عليهم فانهزم جميعُ عساكر الإسلام بعد النصر، وساق السلطان في طائفة يسيرةٍ من أمرائه ومدبري مملكتِه إلى نحو بعلبك وترَكوا جميع الأثقال مُلقاةً، فبقيت العُدَد والسِّلاح والغنائم والأثقالُ ملأت تلك الأراضي حتى بقيت الرماحُ في الطرقِ كأنَّها القَصَبُ لا ينظر إليها أحدٌ، ورمى الجندُ خُوذَهم عن رؤوسِهم وجواشنَهم وسلاحَهم تخفيفًا عن الخيلِ لتنجيَهم بأنفسهم، وقصد الجميعُ دمشق، وكان أكثَرُ من وصل إلى دمشق من المنهزمين من طريق بعلبك، ولما بلغ أهلَ دمشق وغيرها كسرةُ السلطانِ عَظُمَ الضجيج والبكاء، وخرجت المخَدَّراتُ حاسراتٍ لا يعرفن أين يذهبن والأطفالُ بأيديهن، وصار كل واحد في شغلٍ عن صاحِبِه إلى أن ورد عليهم الخبَرُ أن ملك التتار قازان مسلِمٌ، وأن غالِبَ جَيشِه على ملَّة الإسلام، وأنهم لم يتْبَعوا المنهزمين، وبعد انفصال الوقعة لم يقتلوا أحدًا ممن وجَدوه، وإنما يأخذونَ سلاحَه ومركوبَه ويُطلِقونه، فسكن بذلك روعُ أهل دمشق قليلًا، ثم صار من وصل إلى دمشق أخذَ أهلَه وحواصِلَه بحيث الإمكان وتوجَّه إلى جهة مصر، وبقي من بقيَ بدمشق في خمدةٍ وحَيرةٍ لا يدرون ما عاقبةُ أمرهم؛ فطائفةٌ تغَلَّب عليهم الخوفُ، وطائفةٌ يترجَّونَ حَقنَ الدماء، وطائفةٌ يترجَّون أكثَرَ من ذلك من عَدلٍ وحُسنِ سيرة.
بعد أن انهزم جيشُ المماليك من التتار في موقعةِ السلمية في ربيع الأول، وبعد ما حصل لأهل دمشق من الخوفِ الشديد، زاد الأمر أنَّه في ليلة الأحد ثاني ربيع الآخر كسر المحبوسون بحَبسِ أبي الصغير الحبسَ وخرجوا منه على حميةٍ، وتفرقوا في البلدِ، وكانوا قريبًا من مائتي رجل فنَهَبوا ما قدروا عليه وجاؤوا إلى باب الجابية فكسروا أقفالَ الباب البراني وخرَجوا منه إلى بر البلد، فتفَرَّقوا حيث شاؤوا لا يقدِرُ أحد على رَدِّهم، وعاثت الحرافشة- كالشُّطَّار والعيَّارين في بغداد- في ظاهرِ البلد، فكسروا أبواب البساتين وقلعوا من الأبوابِ والشبابيك شيئًا كثيرًا، وباعوا ذلك بأرخَصِ الأثمان، هذا وسلطانُ التتار قد قصد دمشقَ بعد الوقعة، فاجتمع أعيانُ البلد والشيخ تقي الدين ابنُ تيميَّةَ في مشهدِ عليٍّ، واتفقوا على المسير إلى قازان لتلَقِّيه، وأخْذِ الأمانِ منه لأهل دمشق، فتوجَّهوا يوم الاثنين ثالث ربيع الآخر فاجتَمَعوا به عند النبك، وكلَّمَه الشيخُ تقي الدين كلامًا قويًّا شديدًا فيه مصلحةٌ عظيمةٌ عاد نفعُها على المسلمين. ذكر ابن كثير: "أنَّ شَيخَ الإسلامِ تقيَّ الدينِ ابن تيميَّةَ قال لترجمانِ قازان: قل للقان: أنت تزعُمُ أنَّك مسلِمٌ ومعك مؤذِّنونَ وقاضٍ وإمامٌ وشَيخٌ على ما بلَغَنا، فغزَوْتَنا وبلَغْتَ بلادَنا على ماذا؟! وأبوك وجَدُّك هولاكو كانا كافرينِ وما غزَوَا بلادَ الإسلام، بل عاهَدوا قومَنا، وأنت عاهَدْتَ فغَدَرْتَ وقُلْتَ فما وفَيْتَ! قال: وجَرَت له مع قازان وقطلوشاه وبولاي أمور ونُوَب، قام ابن تيمية فيها كُلِّها لله، وقال الحَقَّ ولم يخشَ إلا الله عزَّ وجَلَّ. قال: وقَرَّب إلى الجماعةِ طَعامًا فأكلوا منه إلَّا ابنَ تيميَّةَ، فقيل له: ألا تأكُلُ؟ فقال: كيف آكُلُ مِن طعامِكم وكلُّه مما نهَبْتُم من أغنامِ النَّاسِ وطَبَختُموه بما قطَعْتُم من أشجارِ النَّاسِ؟! قال: ثمَّ إن قازان طلَبَ منه الدعاءَ، فقال في دعائه: "اللهم إن كان هذا عبدُك محمود إنَّما يقاتِلُ لتكونَ كَلِمَتُك هي العُليا وليكونَ الدِّينُ كُلُّه لك، فانصُرْه وأيِّدْه ومَلِّكْه البِلادَ والعبادَ، وإن كان إنما قام رياءً وسُمعةً وطَلبًا للدنيا ولتكونَ كَلِمتُه هي العليا ولِيُذِلَّ الإسلامَ وأهلَه، فاخذُلْه وزلزِلْه ودَمِّرْه واقطَع دابِرَه" قال: وقازان يؤمِّنُ على دعائه، ويَرفَعُ يديه. قال: فجعَلْنا نجمَعُ ثيابَنا خوفًا من أن تتلوَّثَ بدَمِه إذا أمَرَ بقَتلِه!! قال: فلمَّا خرجنا من عنده قال له قاضي القضاة نجم الدين بن صصرى وغيره: كدتَ أن تُهلِكَنا وتُهلِكَ نَفسَك، واللهِ لا نَصحَبُك من هنا، فقال: وأنا واللهِ لا أصحَبُكم. قال: فانطلَقْنا عُصبةً وتأخَّرَ هو في خاصَّةِ نَفسِه ومعه جماعةٌ من أصحابه، فتسامَعَ به الأمراءُ من أصحاب قازان فأتوه يتبَرَّكونَ بدعائه، وهو سائِرٌ إلى دمشق، وينظُرونَ إليه، قال: والله ما وصل إلى دمشقَ إلَّا في نحو ثلثمائةِ فارسٍ في رِكابِه، وكنت أنا من جملةِ مَن كان معه، وأمَّا أولئك الذين أبوا أن يصحبوه فخرج عليهم جماعةٌ من التتر فشَلحوهم عن آخِرِهم!!"، ودخل المسلمونَ ليلتئذٍ مِن جهة قازان فنزلوا بالبدرانيَّة وغُلِّقَت أبوابُ البلد سوى باب توما، وخَطَب الخطيبُ بالجامع يوم الجمعةِ، ولم يَذكُرْ سُلطانًا في خُطبتِه، وبعد الصلاةِ قَدِمَ الأمير إسماعيل ومعه جماعةٌ مِن الرسُلِ فنزلوا ببستان الظاهر عند الطرن، وحضر الفرمان بالأمان وطِيفَ به في البلد، وقرئ يومَ السبتِ ثامِنَ الشهر بمقصورة الخطابة، ونُثِرَ شَيءٌ من الذهب والفضة، وفي ثاني يوم من المناداة بالأمان طُلِبَت الخيولُ والسلاح والأموال المخبَّأة عند الناس من جهةِ الدولة، وجلس ديوان الاستخلاصِ إذ ذاك بالمدرسة القيمريَّة، وفي يوم الاثنين عاشِرَ الشهر قَدِمَ سيف الدين قبجق المنصوري الذي كان هرب إلى التتارِ، فنزل في الميدان واقترب جيشُ التتر وكَثُرَ العَيثُ في ظاهر البلد، وقُتِلَ جماعةٌ وغَلَت الأسعارُ بالبلد جِدًّا، وأرسل قبجق إلى نائب القلعة ليسَلِّمَها إلى التتر فامتنع أرجواش من ذلك أشدَّ الامتناع، فجمع له قبجق أعيانَ البلد فكَلَّموه أيضًا فلم يجبهم إلى ذلك، وصَمَّمَ على ترك تسليمِها إليهم وبه عَينٌ تَطرفُ؛ فإنَّ الشَّيخَ تقيَّ الدين ابن تيمية أرسل إلى نائب القلعةِ يقول له ذلك، لو لم يبقَ فيها إلَّا حَجَرٌ واحِدٌ فلا تسَلِّمْهم ذلك إن استطعْتَ، وكان في ذلك مصلحةٌ عظيمة لأهل الشامِ؛ فإن الله حَفِظَ لهم هذا الحِصنَ والمَعقِلَ الذي جعله الله حِرزًا لأهل الشام التي لا تزال دارَ إيمانٍ وسُنَّةٍ، حتى ينزِلَ بها عيسى بنُ مريم، وفي يوم دخول قبجق إلى دمشقَ دخل السلطانُ ونائبُه سلار إلى مصرَ، كما جاءت البطاقة بذلك إلى القلعة، ودُقَّت البشائرُ بها، فقَوِيَ جأش الناس بعضَ قُوَّةٍ، وفي يوم الجمعة رابع عشر ربيع الآخر خُطِبَ لقازان على منبر دمشقَ بحضور المغول بالمقصورةِ ودُعِيَ له على السُّدَّة بعد الصلاة، وقرئ عليها مرسومٌ بنيابة قبجق على الشام، وذهب إليه الأعيان فهنَّؤوه بذلك، فأظهر الكرامةَ وأنه في تعَبٍ عظيمٍ مع التتر، وفي يوم السبت النصف من ربيع الآخر شرعت التتارُ وصاحب سيس في نهب الصالحيَّة ومسجدِ الأسديَّة ومسجد خاتون ودار الحديث الأشرفيَّة بها، واحترق جامعُ التوبة بالعقيبية، وكان هذا من جهةِ الكرج والأرمن من النصارى الذين هم مع التَّتارِ قَبَّحَهم الله، وسَبَوا من أهلِها خلقًا كثيرًا وجمًّا غفيرًا، وجاء أكثَرُ الناس إلى رباط الحنابلة، فاحتاطت به التتار فحماه منهم شيخُ الشيوخ، وأعطى في الساكِنِ مال له صورة ثم اقتحموا عليه فسَبَوا منه خلقًا كثيرًا من بنات المشايخ وأولادِهم، ولما نُكِب دير الحنابلة في ثاني جمادى الأولى قتلوا خلقًا من الرجال وأسَروا من النساء كثيرًا، ونال قاضيَ القضاةِ تقيَّ الدين ابنَ تيميَّةَ أذًى كثيرٌ، ويقال إنَّهم قتلوا من أهل الصالحية قريبًا من أربعمائة، وأسَروا نحوًا من أربعة آلاف أسير، ونُهِبَت كتب كثيرة من الرباط الناصري والضيائية، وخزانة ابن البزوري، وكانت تباعُ وهي مكتوبٌ عليها الوقفيَّة، وفعلوا بالمزَّة مثل ما فعلوا بالصالحية، وكذلك بداريا وبغيرها، وتحصَّن الناسُ منهم في الجامِعِ بداريا ففتحوه قسرًا وقتلوا منهم خلقًا وسَبَوا نساءَهم وأولادهم، وخرج الشيخُ ابنُ تيمية في جماعةٍ مِن أصحابه يوم الخميس العشرين من ربيع الآخر إلى مَلِك التتر قازان، وعاد بعد يومينِ ولم يتَّفِق اجتماعُه به، حجَبَه عنه الوزير سعد الدين والرشيد مشير الدولة المسلماني ابن يهودي، والتزما له بقضاءِ الشغلِ، وذكرَا له أن التَّتر لم يحصل لكثيرٍ منهم شيءٌ إلى الآن، ولا بُدَّ لهم من شيءٍ، واشتهر بالبلد أن التتر يريدون دخولَ دمشقَ، فانزعج الناسُ لذلك وخافوا خوفًا شديدًا، وأرادوا الخروجَ منها والهرب على وجوههم، وأين الفرارُ ولات حينَ مَناصٍ!! وقد أُخِذَ من البلد فوق العشرةِ آلاف فرس، ثمَّ فُرِضَت أموال كثيرة على البلدِ مُوزَّعةً على أهل الأسواقِ، كلُّ سوقٍ بحَسَبِه من المال، وشرع التتر في عمل مجانيقَ بالجامِعِ لِيَرموا بها القلعةَ مِن صحن الجامِعِ، وغُلِّقَت أبوابُه ونزل التتار في مشاهِدِه يحرسونَ أخشاب المجانيق، وينهَبونَ ما حوله من الأسواقِ، وأهلُ البلدِ قد أذاقَهم اللهُ لباسَ الجوعِ والخَوفِ بما كانوا يصنعونَ، فإنَّا لله وإنا إليه راجعون، والمصادراتُ والتراسيمُ والعقوباتُ عمالة في أكابِرِ أهلِ البلدِ ليلًا ونهارًا، حتى أُخِذَ منهم شيء كثير من الأموال والأوقاف، كالجامِعِ وغيره، ثم جاء مرسومٌ بصيانة الجامِعِ وتوفيرِ أوقافه وصَرْف ما كان يؤخذُ من خزائن السلاحِ إلى الحجاز، وقرئ ذلك المرسومُ بعد صلاة الجمعة بالجامع في تاسع عشر جمادى الأولى، وفي ذلك اليوم توجَّه السلطان قازان وترك نوَّابَه بالشام في ستين ألف مقاتلٍ نحو بلاد العراق، وجاء كتابُه: إنا قد تركنا نوَّابَنا بالشامِ في ستين ألف مقاتلٍ، وفي عَزْمنا العودُ إليها في زمن الخريف، والدخولُ إلى الديار المصرية وفَتْحُها، وقد أعجَزَتْهم القلعةُ أن يصلوا إلى حجَرٍ منها، وخرج سيف الدين قبجق لتوديع قطلوشاه نائب قازان وسار وراءه وضُرِبَت البشائر بالقلعة فرحًا لرحيلهم، ولم تُفتَح القلعة، وأرسل أرجواش ثاني يومٍ من خروج قبجق إلى الجامعِ، فكسروا أخشاب المنجنيقات المنصوبةِ به، وعادوا إلى القلعةِ سريعًا سالمين، واستصحبوا معهم جماعةً ممَّن كانوا يلوذون بالتتر قهرًا إلى القلعة، منهم الشريفُ القمي، وهو شمس الدين محمد بن محمد بن أحمد بن أبي القاسم المرتضي العلوي، وجاءت الرسلُ من قبجق إلى دمشق، فنادوا بها: طَيِّبوا أنفُسَكم وافتَحوا دكاكينَكم وتهيَّؤوا غدا لتلقِّي سلطان الشام سيف الدين قبجق، فخرج الناسُ إلى أماكنهم فأشرفوا عليها فرأوا ما بها من الفسادِ والدَّمارِ، وانفَكَّ رؤساء البلد من التراسيمِ بعد ما ذاقوا شيئًا كثيرًا!!
رحل المغولُ مِن دمشق على أنَّهم سيعودون زمن الخريف ليدخلوا مصر أيضًا، وعاد سيف الدين قبجق إلى دمشقَ يوم الخميس بعد الظهر خامس عشرين جمادى الأولى ومعه الألبكي وجماعة، وبين يديه السيوفُ مُسَلَّلة وعلى رأسه عصابةٌ، فنزل بالقصر ونودي بالبَلَدِ: نائبُكم قبجق قد جاء فافتَحوا دكاكينَكم واعملوا معاشَكم، ولا يغرر أحدٌ بنفسه هذا الزَّمان والأسعارُ في غاية الغلاءِ والقِلَّة، ولما كان في أواخر الشهر نادى قبجق بالبلد أن يخرُجَ الناس إلى قُراهم، وأمر جماعة وانضاف إليه خلقٌ من الأجناد، وكَثُرت الأراجيف على بابه، وعَظُم شأنه ودُقَّت البشائر بالقلعة، وركب قبجق بالعصائبِ في البلد والشاويشية بين يديه، وجهز نحوًا من ألف فارس نحو خربة اللصوصِ، ومشى مشيَ الملوك في الولاياتِ وتأمير الأمراءِ والمراسيم العالية النافذة، ثم إنَّه ضمن الخماراتِ ومواضِعَ الزنا من الحاناتِ وغيرها، وجُعِلَت دارُ ابن جرادة خارج من باب توما خمارةً وحانة أيضًا، وصار له على ذلك في كلِّ يومٍ ألفُ درهم، وهي التي دمَّرَتْه ومحقت آثارَه، وأخذ أموالًا أخرى من أوقاف المدارس وغيرها، ورجع بولاي من جهة الأغوار وقد عاث في الأرض فسادًا، ونهب البلادَ وخَرَّب ومعه طائفةٌ من التتر كثيرة، وقد خربوا قرًى كثيرة، وقتلوا من أهلها وسَبَوا خلقًا من أطفالها، وجبى لبولاي من دمشق أيضًا جباية أخرى، وخرج طائفةٌ من القلعة فقَتَلوا طائفة من التتر ونهبوهم، وقُتِلَ جماعة من المسلمين في غبون ذلك، وأخذوا طائفةً ممن كان يلوذ بالتتر، ورَسَمَ قبجق لخطيبِ البلَدِ وجماعة من الأعيان أن يدخُلوا القلعة فيتكَلَّموا مع نائِبِها في المصالحةِ، فدخلوا عليه يومَ الاثنين ثاني عشر جمادى الآخرة، فكلَّموه وبالغوا معه فلم يجِب إلى ذلك، وقد أجاد وأحسن وأرجل في ذلك بيَّضَ اللهُ وَجهَه، وفي ثامن رجب طلب قبجق القضاةَ والأعيان فحَلَّفَهم على المناصحة للدولة المحمودية- يعني قازان- فحلفوا له، وفي هذا اليوم خرج الشيخ تقيُّ الدين ابن تيمية إلى مخيَّم بولاي فاجتمع به في فكاكِ مَن كان معه من أسارى المُسلمين، فاستنقذ كثيرًا منهم من أيديهم، وأقام عنده ثلاثةَ أيامٍ ثم عاد، ثم راح إليه جماعةٌ من أعيان دمشق ثم عادوا من عنده فشُلحوا عند باب شرقي وأخَذَ ثيابَهم وعمائِمَهم ورجعوا في شرِّ حالة، ثم بعَثَ في طلبهم فاختفى أكثَرُهم وتغيَّبوا عنه.
في ثالث رجب نودي بجامِعِ دمشق بعد الصلاةِ مِن جهة نائب القلعةِ بأنَّ العساكِرَ المِصريَّة قادِمةٌ إلى الشام، وفي عشيَّة يوم السبت رحل بولاي وأصحابُه من التتر وانشمروا عن دمشق، وقد أراح الله منهم وساروا من على عقبة دمر، فعاثوا في تلك النواحي فسادًا، ولم يأت سابع الشهر وفي حواشي البلد منهم أحدٌ، وقد أزاح الله عز وجل شَرَّهم عن العباد والبلاد، ونادى قبجق في الناسِ: قد أَمِنَت الطرقاتُ ولم يبقَ بالشَّامِ مِن التتر أحد، وصلى قبجق يومَ الجمعة عاشر رجب بالمقصورة، ومعه جماعةٌ عليهم لَأْمةُ الحرب من السيوفِ والقِسِيِّ والتراكيش فيها النشَّاب، وأَمِنَت البلاد، وخرج الناسُ للفرجة في غيضِ السفرجل على عادتهم، فعاثت عليهم طائفةٌ مِن التتر، فلمَّا رأوهم رجعوا إلى البلدِ هاربين مُسرِعينَ، ونهب بعضُ النَّاسِ بَعضًا، ومنهم من ألقى نفسَه في النَّهرِ، وإنما كانت هذه الطائفة مجتازين ليس لهم قرار، وتقلَّقَ قبجق من البلَدِ ثمَّ إنَّه خرج منها في جماعةٍ مِن رؤسائها وأعيانِها، منهم عز الدين بن القلانسي ليتلَقَّوا الجيش المصري، وذلك أن جيش مصر خرج إلى الشام في تاسع رجب وجاءت البريديَّة بذلك، وبقي البلدُ ليس به أحد، ونادى أرجواش في البلد: احفَظوا الأسوارَ وأخرِجوا ما كان عندكم من الأسلحةِ، ولا تهملوا الأسوارَ والأبواب، ولا يبيتَنَّ أحدٌ إلا على السور، ومن بات في داره شُنِقَ، فاجتمع الناس على الأسوار لحفظ البلاد، وكان الشيخُ تقي الدين ابن تيمية يدورُ كُلَّ ليلة على الأسوارِ يُحَرِّضُ النَّاسَ على الصبر والقتال، ويتلو عليهم آياتِ الجهادِ والرِّباطِ، وفي يوم الجمعة سابع عشر رجب أعيدت الخطبةُ بدمشق لصاحب مِصرَ، ففرح الناسُ بذلك، وكان يُخطَبُ لقازان بدمشق وغيرها من بلاد الشام مائةَ يومٍ سواء، وفي بكرةِ يوم الجمعة المذكور دار الشيخُ تقي الدين ابن تيمية رحمه الله وأصحابُه على الخَمَّارات والحانات، فكَسَّروا آنيةَ الخُمورِ وشَقَّقوا الظروفَ وأراقوا الخمورَ، وعَزَّروا جماعةً مِن أهل الحانات المتَّخَذة لهذه الفواحِشِ، ففرح الناسُ بذلك، ونودي يوم السبتِ ثامِنَ عشر رجب بأن تُزَيَّن البلد لقدوم العساكِرِ المصرية، وفُتِحَ باب الفرج مضافًا إلى باب النصر يوم الأحد تاسع عشر رجب، ففرح النَّاسُ بذلك وانفرجوا.
هو الإمامُ المفتي الزاهِدُ جمال الدين أبو محمد عبد الرحيم بن عبد المنعم بن عمر بن عثمان الباجربقي الموصلي الشافعي شيخٌ فقيهٌ محَقِّقٌ نقَّال طويل مهيب ساكِنٌ، كثيرُ الصلاة يلازم الجامِعَ، له حلقة تحت النسر إلى جانب البرادة، منقبض عن الناس، اشتغل بالموصل وأفاد وخطَبَ بجامِعِ دمشق نيابةً، ودرس بالغزالية نيابةً، وولي تدريس الفتحية، وحدَّث بجامع الأصول لابن الأثير عن واحد عن المصنَّف، وله نظم ونثر ووعظٌ، وقد نظم كتابَ التعجيز وعَمِلَه برموز, وقد وَلِيَ قَضاءَ غَزَّة سنة تسع وسبعين. وهو والدُ الزاهد محمد الباجربقي المنحرفِ صاحِبِ الملحمة الباجربقيَّة الذي حكم المالكيُّ بقَتلِه لزندقتِه وضَلالِه، توفي الشيخُ جمال الدين في خامس شوال وصُلِّيَ عليه عقيبَ الجمعة
في يومِ الجمعة العشرين من شوَّالٍ ركِبَ نائب السلطنة جمال الدين آقوش الأفرم في جيش دمشقَ إلى جبال الجرد وكسروان (وهي من مناطق الساحل اللبناني كان يسكنُها الدروز والروافض) وخرج الشيخُ تقي الدين ابن تيميَّة ومعه خلقٌ كثير من المتطَوِّعة والحوارنة لقتال أهل تلك الناحية؛ بسبب فساد نيَّتِهم وعقائدِهم وكُفرِهم وضَلالِهم، وما كانوا عامَلوا به العساكِرَ لَمَّا كسرهم التَّتَرُ، وهربوا حين اجتازوا ببلادهم، ووثَبوا عليهم ونهَبوهم وأخذوا أسلحتَهم وخيولهم، وقتلوا كثيرًا منهم، فلما وصلوا إلى بلادِهم جاء رؤساؤُهم إلى الشيخ تقي الدين ابن تيمية فاستتابَهم وبيَّنَ للكثيرِ منهم الصوابَ وحصل بذلك خيرٌ كثيرٌ، وانتصارٌ كبير على أولئك المُفسِدين، والتزموا بردِّ ما كانوا أخَذوه من أموال الجيش، وقَرَّر عليهم أموالًا كثيرة يحملونَها إلى بيت المال، وأُقطِعَت أراضيهم وضياعُهم، ولم يكونوا قبل ذلك يدخُلونَ في طاعة الجُندِ ولا يلتَزِمونَ أحكام المِلَّة، ولا يدينونَ دينَ الحَقِّ، ولا يحَرِّمونَ ما حرم اللهُ ورسوله، وعاد نائبُ السلطنة يوم الأحد ثالث عشر ذي القعدة وتلقاه الناسُ بالشموع إلى طريق بعلبك وسطَ النَّهار.
اختلف عربانُ البحيرة واقتَتَل طائفتا جابر وبرديس حتى فني بينهما بشرٌ كثير، واستظهرت برديس، فخرج الأميرُ بيبرس الدوادار في عشرين أميرًا من الطبلخاناه إلى تروجة، فانهزم العربُ منهم، فتَبِعوهم إلى الليونةِ وأخذوا جمالَهم وأغنامَهم، واستدعوا أكابِرَهم ووفَقَّوا بينهم وعادوا، فخرج الوزيرُ شمس الدين سنقر الأعسر في عدة مائة من المماليك السلطانية إلى الوجهِ القبلي لحَسمِ العربانِ، وقد كان كَثُرَ عَيثُهم وفسادُهم، ومَنَع كثيرٌ منهم الخراج لِما كان من الاشتغالِ بحركات قازان التتري، فأوقع الوزيرُ شمس الدين بكثير من بلاد الصعيد الكَبَساتِ، وقتل جماعاتٍ مِن المفسدين، وأخذ سائِرَ الخيول التي ببلاد الصعيد، فلم يَدَعْ بها فرسًا لفلاحٍ ولا بدويٍّ ولا قاضٍ ولا فقيهٍ ولا كاتب، وتتَّبَع السلاحَ الذي مع الفلاحين والعربان فأخذه عن آخِرِه، وأخذ الجِمالَ، وعاد من قوص إلى القاهرة، ومعه ألف وستون فرسًا، وثمانمائة وسبعون جملًا، وألف وستمائة رمح، وألف ومائتا سيف، وسبعمائة درقة، وستة آلاف رأسٍ من الغنم، فسكن ما كان بالبلادِ مِن الشَّرِّ، وذَلَّ الفلاحون، وأعطوا الخراجَ.
في مستهَلِّ صَفَر وردت أخبارٌ بقَصدِ التتر بلادَ الشام، وأنهم عازمونَ على دخول مصر، فانزعج الناسُ لذلك وازدادوا ضعفًا على ضعفهم، وشرعَ الناسُ في الهرب إلى بلادِ مِصرَ والكرك والشوبك والحصون المنيعة، وجلس الشيخُ تقي الدين ابن تيمية في ثاني صفر بمجلِسِه في الجامع وحَرَّضَ الناسَ على القتال، وساق لهم الآياتِ والأحاديثَ الواردة في ذلك، ونهى عن الإسراعِ في الفرار، ورغَّبَ في إنفاق الأموال في الذَّبِّ عن المسلمين وبلادِهم وأموالِهم، وأنَّ ما يُنفَقُ في أجرةِ الهَرَبِ إذا أُنفِقَ في سبيل الله كان خيرًا، وأوجب جهاد التتر حتمًا في هذه الكَرَّة، وتابع المجالِسَ في ذلك، ونودِيَ في البلادِ لا يسافِرْ أحدٌ إلا بمرسومٍ وورقةٍ، فتوقَّفَ النَّاسُ عن السير وسكَنَ جأشُهم، وتحَدَّث الناس بخروج السلطانِ مِن القاهرة بالعساكرِ، وفي أول ربيع الآخر قَوِيَ الإرجاف بأمر التتر، وجاء الخبَرُ بأنهم قد وصلوا إلى البيرة ونودِيَ في البلد أن تخرج العامَّةُ من العسكر، وجاء مرسومُ النائب من المرج بذلك، فاستعرضوا في أثناء الشَّهرِ فعرض نحو خمسةِ آلاف من العامة بالعُدَّة والأسلحة على قدر طاقتِهم، وأشاع المرجفونَ بأن التتر قد وصلوا إلى حَلَب وأن نائب حلب تقهقَرَ إلى حماة، ونودي في البلد بتطييبِ قُلوبِ الناس وإقبالِهم على معايِشِهم، وأن السلطانَ والعساكر واصلةٌ، وأُبطلَ ديوان المستخرج, وكانوا قد استخرجوا أكثَرَ مِمَّا أمروا به، وبقيت بواقٍ على الناس الذين قد اختَفَوا، فعُفي عما بَقِي، ولم يَرُدَّ ما سَلف، لا جرم أن عواقِبَ هذه الأفعال خَسَرٌ ونُكرٌ، وأن أصحابها لا يُفلِحون، ثم جاءت الأخبار بأن سلطان مصر رجع عائدًا إلى مصر بعد أن خرج منها قاصدًا الشام، فكثر الخوفُ واشتد الحال، وكثرت الأمطار جدًّا، وخرج كثير من الناس خفافًا وثِقالًا يتحمَّلونَ بأهليهم وأولادهم، واستهَلَّ جمادى الأولى والناسُ على خطَّة صعبة من الخوف، وتأخَّرَ السلطان واقترَبَ العدُوُّ، وخرج الشيخ تقي الدين ابن تيمية في مستهَلِّ هذا الشهرِ وكان يوم السبت إلى نائبِ الشامِ في المرج فثَبَّتَهم وقَوَّى جأشَهم وطَيَّبَ قلوبهم ووعَدَهم النصرَ والظَّفَرَ على الأعداء، وتلا قولَه تعالى: {ذَلِكَ وَمَنْ عَاقَبَ بِمِثْلِ مَا عُوقِبَ بِهِ ثُمَّ بُغِيَ عَلَيْهِ لَيَنْصُرَنَّهُ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ لَعَفُوٌّ غَفُورٌ} [الحج: 60] وبات عند العسكَرِ ليلةَ الأحد ثم عاد إلى دمشق وقد سأله النائِبُ والأمراء أن يركَبَ على البريدِ إلى مِصرَ يستَحِثُّ السلطانَ على المجيءَ، فساق وراء السلطانِ، وكان السلطانُ قد وصل إلى الساحِلِ فلم يدرِكْه إلَّا وقد دخل القاهرةَ وتفارط الحال، ولكنَّه استحَثَّهم على تجهيز العساكر إلى الشامِ إن كان لهم به حاجةٌ، وقال لهم فيما قال: إن كنتم أعرضتُم عن الشامِ وحمايتِه أقَمْنا له سلطانًا يحوطُه ويحميه ويستغِلُّه في زَمَنِ الأمن، ولم يَزَلْ بهم حتى جُرِّدَت العساكِرُ إلى الشام، ثم قال لهم: لو قُدِّرَ أنكم لستُم حكامَ الشَّامِ ولا ملوكَه واستنصركم أهلُه، وجب عليكم النصرُ، فكيف وأنتم حكَّامُه وسلاطينُه وهم رعاياكم وأنتم مسؤولونَ عنهم؟! وقَوَّى جأشَهم وضَمِنَ لهم النصر هذه الكَرَّةَ، فخرجوا إلى الشام، فلما تواصَلَت العساكِرُ إلى الشام فرح الناسُ فَرَحًا شديدًا بعد أن كانوا قد يَئِسوا من أنفُسِهم وأهليهم وأموالهم، ثمَّ قَوِيت الأراجيف بوصول التتر، وتحقُّقِ عَودِ السلطان إلى مصر، ونادى ابنُ النحاس متولي البلد في الناسِ: من قَدَرَ على السَّفَرِ فلا يقعُدْ بدمشق، فتصايح النِّساءُ والوِلدان، ورهق الناسَ ذِلَّةٌ عظيمةٌ وخَمدةٌ، وزُلزِلوا زلزالًا شَديدًا، وغُلِّقَت الأسواقُ وتيَقَّنوا أنْ لا ناصِرَ لهم إلا اللهُ عزَّ وجَلَّ، ودخل كثير من الناس إلى البراري والقِفار والمغر بأهاليهم من الكبارِ والصغار، ونودي في الناسِ من كانت نيتُه الجهادَ فليلتَحِقْ بالجيش؛ فقد اقترب وصول التتر، ولم يبق بدمشقَ مِن أكابرها إلا القليل، وجاءت الأخبارُ بوصول التتر إلى سرقين، وخرج الشيخ زين الدين الفارقي والشيخ إبراهيم الرقي وابن قوام وشرف الدين ابن تيمية وابن خبارة إلى نائب السلطنة الأفرم، فقَوَّوا عَزمَه على ملاقاةِ العدو، واجتمعوا بمهنا أمير العرب فحَرَّضوه على قتال العدو، فأجابهم بالسَّمعِ والطاعة، وقَوِيَت نياتهم على ذلك، وخرج طلبُ سلار من دمشق إلى ناحية المرج، واستعدوا للحَربِ والقتال بنيَّات صادقة، ورجع الشيخُ تقي الدين ابن تيمية من الديارِ المِصريَّة في السابع والعشرين من جمادى الأولى على البريد، وأقام بقلعة مصرَ ثمانيةَ أيَّامٍ يَحُثُّهم على الجهاد والخروج إلى العدو، وقد اجتمع بالسلطانِ والوزير وأعيان الدولة فأجابوه إلى الخروجِ، وقد غلت الأسعار بدمشقَ جِدًّا، ثم جاءت الأخبار بأن مَلِكَ التتار قد خاض الفراتَ راجِعًا عامَه ذلك لِضَعفِ جَيشِه وقِلَّةِ عَدَدِهم، فطابت النفوسُ لذلك وسكن النَّاسُ، وعادوا إلى منازِلِهم منشرحين آمنينَ مُستبشرينَ، ولَمَّا جاءت الأخبار بعدم وصول التتار إلى الشامِ في جمادى الآخرة تراجعت أنفُسُ الناس إليهم وعاد نائِبُ السلطنة إلى دمشق، وكان مخيمًا في المرج من مدة أربعة أشهر متتابعة، وهو من أعظَمِ الرباط، وتراجَعَ النَّاسُ إلى أوطانهم.
في هذا الشَّهرِ كانت وقعةُ أهلِ الذِّمَّة، وهي أنهم كانوا قد تزايد تَرَفُهم بالقاهرة ومصر، وتفَنَّنوا في ركوب الخَيلِ المُسَوَّمة والبَغلات الرائعة بالحُليِّ الفاخرة، ولَبِسوا الثيابَ السريَّة، ووُلوا الأعمالَ الجليلة، فاتفق قدومُ وزير ملك المغرب يريدُ الحَجَّ، واجتمع بالسلطانِ والأمراء، وبينما هو تحت القلعة إذا برجلٍ راكب فرسًا وحَولَه عِدَّةٌ من الناس مشاةٌ في ركابِه، يتضَرَّعونَ له ويسألونه ويقَبِّلون رجليه، وهو مُعرِضٌ عنهم لا يعبأُ بهم، بل ينهَرُهم ويصيح في غِلمانِه بطَردِهم، فقيل للمغربي: إنَّ هذا الرَّاكِبَ نصرانيٌّ، فشَقَّ عليه، واجتمع بالأميرين بيبرس وسلار وحدَّثهما بما رآه، وأنكر ذلك وبكى بكاءً كثيرًا، وشَنَّعَ في أمر النصارى وقال: كيف ترجون النَّصرَ والنصارى تركَبُ عندكم الخيول وتلبَسُ العمائِمَ البِيضَ، وتُذِلُّ المسلمين وتُشبِهُهم في خدمتِكم؟! وأطال القولَ في الإنكار وما يلزَمُ وُلاةَ الأمور من إهانةِ أهل الذِّمَّة وتغيير زيِّهم، فأثَّرَ كلامُه في نفوس الأمراء، فرَسَم أن يُعقَدَ مَجلِسٌ بحضور الحُكَّام، واستُدعِيَت القضاة والفُقَهاء، وطُلِبَ بطرك النصارى، وبرز مرسومُ السلطان بحَملِ أهل الذمة على ما يقتضيه الشَّرعُ المحَمَّدي، فاجتمع القضاةُ بالمدرسةِ الصالحية بين القصرين، ونُدِبَ لذلك من بينهم قاضي القضاة شمس الدين أحمد السروجي الحنفي، وطُلِبَ بطرك النصارى، وجماعةٌ من أساقفتهم وأكابر قِسِّيسِيهم وأعيان مِلَّتِهم، وديَّان اليهود وأكابِر مِلَّتِهم، وسُئِلوا عما أقَرُّوا عليه في خلافة أمير المؤمنين عمرَ بنِ الخطاب رضي الله عنه مِن عَقدِ الذِّمَّة، فلم يأتوا عن ذلك بجواب، وطال الكلامُ معهم إلى أن استقَرَّ الحالُ على أنَّ النصارى تتميَّزُ بلباس العمائِمِ الزُّرقِ، واليهودَ بلُبسِ العمائم الصُّفر، ومُنِعوا من ركوبِ الخَيلِ والبِغالِ، ومِن كُلِّ ما منعهم منه الشارِعُ صَلَّى الله عليه وسلم، وأُلزِموا بما شَرَطَه عليهم أميرُ المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه، فالتزموا ذلك وأُشهِدَ عليه البطرك أنَّه حَرَّم على جميع النصرانية مخالفةَ ذلك والعُدول عنه، وقال رئيس اليهود ودانهم: أوقعت الكَلِمةَ على سائِرِ اليهود في مخالفةِ ذلك والخروج عنه وانفَضَّ المجلس، وطُولِعَ السلطان والأمراء مما وقع، فكتب إلى أعمالِ مِصرَ والشام به، ولَمَّا كان يوم خميس العهدِ وهو العشرون من شهر رجب جُمِعَ النصارى واليهود بالقاهرة ومصر وظواهِرِها، ورُسِمَ ألَّا يُستخدَمَ أحَدٌ منهم بديوانِ السُّلطانِ ولا بدواوينِ الأمراءِ، وألَّا يَركَبوا خيلًا وبغالًا، وأن يلتَزِموا سائِرَ ما شُرِطَ عليهم، ونودِيَ بذلك في القاهرةِ ومصر، وهدد من خالفه بسفك دمه، فانحصر النصارى من ذلك، وسَعَوا بالأموال في إبطالِ ما تقَرَّر، فقام الأمير بيبرس الجاشنكير في إمضاءِ ما ذُكِرَ قيامًا محمودًا، وصَمَّم تصميمًا زائدًا، فاضطر الحالُ بالنصارى إلى الإذعان، وأسلَمَ أمين الملك عبد الله بن العنام مستوفي الصحبةِ وخَلقٌ كثيرٌ، حرصًا منهم على بقاءِ رياستِهم، وأنفةً مِن لُبسِ العمائِمِ الزُّرقِ وركوب الحَميرِ، وخرج البريدُ بحَملِ النصارى واليهود فيما بين دنقلة من النوبة والفرات على ما تقَدَّمَ ذِكرُه، وامتَدَّت أيدي العامَّة إلى كنائس اليهود والنصارى، فهَدَموها بفتوى الشَّيخِ الفَقيهِ نجم الدين أحمد بن محمد بن الرفعة، فطَلَب الأمراءُ القُضاةَ والفقهاءَ للنَّظَرِ في أمر الكنائس، فصَرَّحَ ابن الرفعة بوجوب هَدمِها، وامتنع من ذلك قاضي القضاةِ تقي الدين محمد بن دقيق العيد، واحتَجَّ بأنَّه إذا قامت البيِّنةُ بأنها أُحدِثَت في الإسلامِ تُهدَمُ، وإلَّا فلا يُتعَرَّض لها، ووافَقَه البقيَّةُ على هذا وانفَضُّوا، وكان أهلُ الإسكندريةِ لما ورد عليهم مرسومُ السلطان في أمر الذمَّة ثاروا بالنَّصارى وهَدَّموا لهم كنيستين، وهَدَّموا دُورَ اليهود والنصارى التي تعلو على دُورِ جيرانِهم المُسلِمينَ، وحَطُّوا مساطِبَ حوانيتِهم حتى صارت أسفَلَ مِن حوانيت المسلمين، وهُدِمَ بالفيومِ أيضًا كَنيستانِ، وقَدِمَ البريد في أمر الذمَّة إلى دمشق يوم الاثنين سابع شعبان، فاجتمع القضاةُ والأعيان عند الأمير أقش الأفرم، وقرئ عليهم مرسومُ السلطان بذلك، فنودي في الخامس عشر أن يَلبَسَ النصارى العمائِمَ الزُّرقَ، واليهودُ العمائمَ الصُّفرَ، والسَّامرةُ العمائِمَ الحُمر، وهُدِّدوا على المخالفة، فالتزم النصارى واليهود بسائِرِ مملكة مصر والشام ما أُمِروا به، وصَبَغوا عمائِمَهم إلَّا أهل الكركِ؛ فإن الأمير جمال الدين أقش الأفرم الأشرفي النائبُ بها رأى إبقاءَهم على حالتِهم، واعتذَرَ بأنَّ أكثَرَ أهل الكرك نصارى، فلم يغَيِّرْ أهلُ الكرك والشوبك من النصارى العمائِمَ البيض، وبَقِيَت الكنائسُ بأرض مصر مدة سنةٍ مُغَلَّقة حتى قَدِمَت رسل الأشكري ملك الفرنج تشفَعُ في فتحِها، ففُتِحَت كنيسةُ المُعَلَّقة بمدينة مصر، وكنيسة ميكائيل الملكيَّة، ثم قدمت رسل ملوك أخر، ففُتِحَت كنيسةُ حارة وزويلة، وكنيسة نقولا.
قُتِلَ الفتح أحمدُ بن البققي بالدِّيار المصريَّة في يوم الاثنين الرابعَ والعشرين من ربيع الأول، حَكَم فيه القاضي زين الدين بن مخلوف المالكي بما ثَبَت عنده من تنقيصِه للشَّريعةِ واستهزائِه بالآيات المحكماتِ، ومعارضةِ المُشتَبِهاتِ بَعضِها ببعض، فيُذكَرُ عنه أنه كان يحِلُّ المحَرَّمات من اللواطِ والخمر وغير ذلك، لمن كان يجتَمِعُ به من الفَسَقةِ من الترك وغيرِهم من الجهلة، هذا وقد كان له اشتغالٌ وهيئةٌ جميلة في الظاهر، وبزّتُه ولبستُه جيدة، وقد كان ذكيًّا حاد الخاطِرِ له معرفةٌ بالأدب والعلوم القديمة، فحُفِظَت عنه سقطاتٌ، منها أنه قال: لو كان لصاحِبِ مقامات الحريري حظٌّ لتُلِيَت مقاماتُه في المحاريبِ، وأنَّه كان يُنكِرُ على من يصوم شهر رمضانَ، ولا يصوم هو، وأنه كان إذا تناوَلَ حاجةً مِن الرَّفِّ صَعِدَ بقدميه على الربعةِ، وكان مع ذلك جريئًا بلسانِه، مستخفًّا بالقضاة يَطنُزُ بهم ويستجهِلُهم، ثم أكثَرَ من الوقيعة في حقِّ زين الدين على بن مخلوف قاضي قضاة المالكيَّة وتنَقَّصَه وسَبَّه، فلما بلغه ذلك عنه اشتَدَّ حَنَقُه وقام في أمرِه، فتقَرَّبَ الناس إليه بالشَّهادةِ على ابن البققي، فاستدعاه وأحضَرَ الشهود فشَهِدوا وحكَم بقتله، وأراد مِن ابن دقيق العيد تنفيذَ ما حَكَم به فتوقَّفَ، وقام في مساعدةِ ابن البققي ناصرُ الدين محمد بن الشيخي وجماعةٌ من الكُتَّاب، وأرادوا إثباتَ جنِّه ليُعفى من القتل، فصَمَّمَ ابن مخلوف على قتله، واجتمع بالسلطانِ ومعه قاضي القضاة شمس الدين السروجي الحنفي، وما زالا به حتى أذِنَ في قتله، فنزلا إلى المدرسة الصالحيَّة بين القصرين ومعهما ابن الشيخي والحاجب، وأحضر ابن البققي من السجنِ في الحديد ليُقتَلَ، فصار يصيحُ ويقول: أتقتلون رجلًا أن يقولَ ربِّيَ اللهُ، ويتشَهَّد؟!! فلم يلتَفِتوا إلى ذلك، وضُرِبَ عُنُقُه وطيف برأسِه على رمح، وعُلِّقَ جَسَدُه على باب زويلة، وفيه يقولُ شهاب الدين أحمد بن عبد الملك الأعزازي يحَرِّضُ على قتله، وكتَبَ بها إلى ابنِ دقيق العيد:
قل للإمامِ العادل المرتضي
وكاشِفِ المُشكِلِ والمبهَمِ
لا تمهِلِ الكافِرَ واعمَلْ بما
قد جاء في الكافِرِ عن مُسلمِ
ومن شعر ابن البققي ما كتب به إلى القاضي المالكي من السجن، وهو من جملةِ حماقاته:
يا لابسًا لي حُلَّةً مِن مَكْرِه
بسلاسة نعمت كلمس الأرقم
اعتد لي زردًا تضايقَ نَسجُه
وعلى خرق عيونها بالأسهم
فلما وقف عليهما القاضي المالكي، قال: نرجو أنَّ اللهَ لا يُمهِلُه لذلك.
هو أميرُ المؤمنينَ الخليفةُ الحاكِمُ بأمر الله أبو العباس أحمد بن المسترشد بالله الهاشمي العباسي البغدادي المصري، بويِعَ بالخلافة بالدَّولةِ الظاهرية في أول سنة 661، فاستكمل أربعينَ سنةً في الخلافة، وتوفِّيَ ليلة الجمعةِ ثامن عشر جمادى الأولى، وصُلِّيَ عليه بجامع ابن طولون، ودُفِنَ بجوار المشهد النفيسي وقتَ صلاةِ العَصرِ بسوق الخيل، وحَضَر جنازته الأعيانُ والدولةُ كُلُّهم مُشاةً، وكان قد عَهِدَ بالخلافة إلى وَلَدِه أبي الربيع سليمان، وتلقَّبَ بالمستكفي باللهِ، وقرئ كتاب تقليدِه بالخلافة بحَضرةِ السلطان المَلِك الناصر محمد بن قلاوون والدَّولة يوم الأحد عشرين من ذي الحجة مِن هذه السنة، وخُطِبَ له على المنابِرِ بالبلادِ المصريَّة والشاميَّة، وسارت بذلك البريديَّةُ إلى جميع البلاد الإسلاميَّة.
كثُرَ فَسادُ العُربان بالوجه القبلي، وتعَدَّى شَرُّهم في قَطعِ الطَّريقِ إلى أن فَرَضوا على التجَّار وأرباب المعايش بأسيوط ومنفلوط فرائِضَ جَبَوها شبه الجماليَّة، واستخَفُّوا بالولاة ومنعوا الخراجَ، وتَسَمَّوا بأسماء الأمراء، وجعلوا لهم كبيرينِ أحدهما سَمَّوه بيبرس، والآخر سلار، ولبسوا الأسلحةَ وأخرجوا أهلَ السُّجونِ بأيديهم، فاستدعى الأمراءُ القُضاةَ والفُقَهاءَ، واستفتَوهم في قتالِهم، فأفتَوهم بجواز ذلك، فاتَّفَق الأمراء على الخروج لقتالِهم وأخْذِ الطرق عليهم، لئلا يمتَنِعوا بالجبالِ والمفاوزِ فيَفوتَ الغَرَضُ فيهم، فاستدعَوا الأمير ناصر محمد بن الشيخي متولي الجيزية, وغيرَه من ولاة العمل، وتقَدَّموا إليه بمنع الناسِ بأَسرِهم من السفر إلى الصعيدِ في البَرِّ والبحر، ومَن ظَهَر أنه سافر كانت أرواحُ الولاة قبالةَ ذلك، فاشتَدَّ حِرصُهم، وأشاع الأمراءُ أنَّهم يريدون السَّفَرَ إلى الشام، وكُتِبَت أوراق الأمراء المسافرين، وهم عشرونَ مُقَدَّمًا بمضافيهم، وعيَّنوا أربعة أقسام: قسمٌ يتوَجَّهُ في البر الغربي من النيلِ، وقِسمٌ في البَرِّ الشرقي، وقِسمٌ يركب النيل، وقِسمٌ يمضى في الطريق السالكةِ، وتوجه الأميرُ شمس الدين سنقر الأعسر إلى جهة ألواح في خمسةِ أمراء، وقرر أن يتأخَّرَ مع السلطان أربعةُ أمراء من المقَدَّمين، وتقَدَّمَ إلى كُلِّ مَن تعَيَّنَ لجهة أن يضَعَ السَّيفَ في الكبير والصَّغيرِ والجليل والحقير، ولا يُبقُوا شيخًا ولا صبيًّا، ويحتاطوا على سائِرِ الأموال، وسار الأميرُ سلار في رابع جمادى الآخرة ومعه جماعةٌ من الأمراء في البر الغربي، وسار الأميرُ بيبرس بمن معه في الحاجر في البر الغربي على طريق الواحات، وسار الأميرُ بكتاش أميرُ سلاحٍ بمن معه إلى الفيوم وسار الأميرُ بكتمر الجوكندار بمن معه في البرِّ الشرقي، وسار قتالُ السبع وبيبرس الدوادار وبلبان الغلشي وعرب الشرقية إلى السويس والطور، وسار الأميرُ قبجق ومن معه إلى عقبةِ السَّيل، وسار طقصبا والي قوص بعرب الطاعةِ وأخذ عليهم المفازاتِ، وضَرَبَ الأمراءُ على الوجه القبلي حلقةً كحلقةِ الصيدِ، وقد عُمِّيَت أخبارُهم على أهل الصعيد، فطَرَقوا البلادَ على حينِ غَفلةٍ مِن أهلها، ووضَعوا السيفَ في الجيزيَّة بالبر الغربيِّ والإطفيحية من الشرق، فلم يتركوا أحدًا حتى قَتَلوه، ووسطوا نحو عشرة آلاف رجلٍ، وما منهم إلَّا من أخذوا مالَه وسَبَوا حريمه، فإذا ادَّعى أحدٌ أنَّه حَضَريٌّ قيل له قل: دقيق، فإن قال بقاف العَرَبِ قُتِلَ، ووقع الرعبُ في قلوبِ العُربان حتى طَبَّق عليهم الأمراءُ، وأخَذوهم مِن كُلِّ جِهةٍ فَرُّوا إليها، وأخرَجوهم من مخابِئِهم حتى قَتَلوا مَن بجانبي النيلِ إلى قوص، وجافت الأرضُ بالقتلى، واختفى كثيرٌ منهم بمغائِرِ الجبالِ، فأُوقِدَت عليهم النيرانُ حتى هلكوا عن آخِرِهم، وأُسِرَ منهم نحوُ ألف وستمائة لهم فلاحات وزروع، وحَصَل من أموالهم شيءٌ عَظيمٌ جدًّا تفَرَّقَتْه الأيدي، وأُحضِرَ منه للديوان ستة عشر ألف رأسٍ من الغنم، من جملةِ ثمانين ألف رأسٍ ما بين ضأن وماعز، ونحو أربعةِ آلاف فرس واثنين وثلاثين ألف جمل، وثمانية آلاف رأس من البقر، غيرَ ما أُرصِدَ في المعاصر، ومن السِّلاحِ نحو مائتين وستين حملًا ما بين سيوف ورماح، ومن الأموالِ على بغالٍ مُحَمَّلة مائتين وثمانين بغلًا، ثم عاد العسكَرُ في سادس عشر رجب، وقد خلت البلادُ بحيث كان الرجلُ يمشي فلا يجِدُ في طريقه أحدًا، وينزِلُ بالقرية فلا يرى إلا النِّساءَ والصِّبيانَ والصِّغارَ، فأفرجوا عن المأسورينَ وأعادوهم لحِفظِ البلاد، وكان الزَّرعُ في هذه السنة بالوجه القبلي عظيمًا إلى الغاية، تحصَّلَ منه ما لم يُقدَرْ قَدرُه كَثرةً.
عُقِدَ مجلِسٌ لليهود الخيابرة وأُلزِموا بأداءِ الجزية أسوةَ أمثالهم من اليهود، فأَحضروا كتابًا معهم يزعُمونَ أنَّه من رسولِ الله صلى الله عليه وسلم بوضعِ الجِزيةِ عنهم، فلما وقف عليه الفُقَهاءُ تَبَيَّنوا أنَّه مكذوب مُفتَعَلٌ لما فيه من الألفاظِ الركيكة، والتواريخِ المحبطة، واللَّحنِ الفاحش، وحاقَقَهم عليه شيخُ الإسلام ابن تيميَّةَ، وبيَّنَ لهم خطأَهم وكَذِبَهم، وأنَّه مُزَوَّرٌ مكذوب، فأنابوا إلى أداءِ الجزية، وخافوا من أن تُستعادَ منهم الشؤون الماضية، وقال ابن كثير: "وقد وقفتُ أنا على هذا الكتابِ فرأيتُ فيها شهادةَ سَعدِ بن معاذٍ عام خيبر، وقد توفِّيَ سعد قبل ذلك بنحوٍ مِن سنتين، وفيه: وكتَبَ عليُّ بن أبي طالب، وهذا لحنٌ لا يَصدُرُ عن أميرِ المؤمنين عليٍّ رضي الله عنه".