وُلِدَ حسن عبدالله دفع الله التُّرابي عامَ 1932 في مدينةِ كسلا شرقَ السُّودان، ودرَس الحقوقَ في جامعةِ الخُرطومِ منذُ عامِ 1951 حتى 1955، وحصَلَ على الماجستير مِن جامعةِ أكسفورد البريطانيَّةِ عامَ 1957، وحصَلَ على الدكتوراه من جامعةِ السُّوربون بباريسَ عامَ 1964. وهو يُتقِنُ أربعَ لُغاتٍ: العربية، والإنجليزية، والفرنسية، والألمانية، وتقلَّد الترابي بعد عَودتِه من فرنسا أمانةَ "جَبهةِ الميثاقِ الإسلاميةِ" عامَ 1964 والتي بَقِيَت حتى عامِ 1969، حينما قامَ جعفر نميري بانقلابٍ عسكريٍّ وتولَّى زمامَ السُّلطةِ في البلادِ، واعتَقَلَ أعضاءَ الجَبهةِ الإسلاميَّةِ، وأمضى الترابي سبعَ سنواتٍ في السِّجنِ، ثم أُطلِقَ سَراحُه بعد مُصالحةِ الحركةِ الإسلاميَّة السُّودانيَّة مع النميري عامَ 1977. عَمِلَ الترابي أستاذًا في جامعةِ الخرطوم، ثمَّ عُيِّنَ عَميدًا لكليَّةِ الحُقوقِ بها، ثم وزيرًا للعَدلِ في السودان. وفي عام 1988 عُيِّنَ وزيرًا للخارجيَّةِ السُّودانيةِ. كما اختِير رئيسًا للبرلمان في السودانِ عامَ 1996. واختِير أمينًا عامًّا للمؤتمَرِ الوطنيِّ الحاكمِ 1998. وفي مُدَّةِ نفوذِه في التسعينيَّاتِ جمَعَ كلَّ الحَرَكاتِ الإسلاميَّةِ والعربيَّةِ في مؤتمرٍ أسماه "المؤتمَرَ الشَّعبيَّ العربيَّ الإسلاميَّ". وكان الترابي هو مدبِّرَ الانقلابِ العسكريِّ الذي حمَلَ عُمَرَ البَشير إلى السُّلطةِ عامَ 1989م. ثم وقَعَ الخِلافُ بينهما عامَ 1999م حولَ بعضِ القضايا، فأبعدَه الرئيسُ البشيرُ عن السُّلطة، وتحوَّلَ الترابي إلى أبرَزِ خُصومِه، وأسَّس حزبَ المؤتمرِ الشَّعبي المُعارِض، وصار من أكثَرِ المُعارضينَ السُّودانيين شراسةً في مواجهةِ حُكومةِ البشير التي أودَعَتْه السِّجنَ عدَّةَ مَرَّات، لكنَّه في أواخرِ حياتِه استجاب لدعوةِ الحُكومةِ السُّودانية لقوى المُعارضة إلى الحوارِ الوطنيِّ للخروجِ من الأزَماتِ التي تشهَدُها البلادُ. وللترابي اجتهاداتٌ عَقْلانيَّةٌ في الفِكرِ والفقهِ الإسلاميِّ وله عِدَّةُ كُتُبٍ؛ منها: ((التفسيرُ التَّوحيديُّ))، وكتابٌ في أصولِ الفقهِ، وكتُبٌ أخرى في مَجالاتِ الإصلاحِ الإسلاميِّ والسياسةِ. وله العديدُ مِن الرُّؤى الفِقهيَّةِ المُثيرةِ للجَدَلِ. وقد تُوفِّيَ بعد إصابتِه بذَبْحةٍ قلبيَّةٍ في السودان عن عُمرٍ ناهَزَ 84 عامًا.
كان أخذُ المعرَّة بعد أخذ أنطاكية. ولَمَّا وقع ذلك اجتمع ملوكُ الإسلام بالشام، وهم رضوان صاحِبُ حلب، وأخوه دقماق، وطغتكين صاحب دمشق، وصاحب الموصل، وسكمان بن أرتق صاحب ماردين، وأرسلان شاه صاحب سنجار, ولم ينهَضْ أمير الجيوش الأفضل بن بدر بإخراج عساكِرِ مِصرَ مع قدرته على المال والرجال, فاجتمع الجميعُ ونازلوا أنطاكية وضيَّقوا على الفرنجَ حتَّى أكلوا ورق الشجر. وكان صنجيل مقدَّم الفرنج عنده دهاءٌ ومكر، فرتَّب مع راهب حيلة وقال: اذهب فادفن هذه الحربةَ في مكان كذا، ثم قُلْ للفرنج بعد ذلك: رأيتُ المسيحَ في منامي وهو يقولُ: في المكان الفلاني حربةٌ مدفونة فاطلبوها، فإن وجدتموها فالظَّفَرُ لكم، وهي حربتي، فصوموا ثلاثةَ أيَّامٍ وصلُّوا وتصدَّقوا، ثم قام وهم معه إلى المكان ففتَّشوه فظهرت الحَربةُ؛ فصاحوا وصاموا وتصدَّقوا وخرجوا إلى المسلمين من الباب متفرِّقين من خمسة، وستة، ونحو ذلك، فقال المسلمون لكربوقا: ينبغي أن تقِفَ على الباب، فتقتُلَ كُلَّ من يخرج، فإنَّ أمْرَهم الآن وهم متفرقون سَهلٌ. فقال: لا تفعلوا، أمهلوهم حتى يتكامَلَ خروجُهم فنقتُلَهم! ولم يمكِنْ من معاجلتِهم، فقَتَل قومٌ من المسلمين جماعةً من الخارجين، فجاء إليهم هو بنفسه ومنعهم ونهاهم، فلما تكامل خروجُ الفرنج ولم يبق بأنطاكية أحدٌ منهم، ضربوا مصافًّا عظيمًا، فولى المسلمون منهزِمين؛ لِما عاملهم به كربوقا أولًا من الاستهانة بهم والإعراض عنهم، وثانيًا: مِن مَنعِهم عن قتل الفرنج، وتمت الهزيمةُ عليهم، ولم يضرِبْ أحدٌ منهم بسيف، ولا طعَنَ برُمحٍ، ولا رمى بسهمٍ! وآخِرُ من انهزم سقمان بن أرتق، وجناح الدولة؛ لأنهما كانا في الكمين، وانهزم كربوقا معهم. فلما رأى الفرنجُ ذلك ظنُّوه مكيدة؛ إذ لم يجرِ قِتالٌ يُنهزَمُ مِن مِثلِه! وخافوا أن يتبعوهم، وثبت جماعةٌ من المجاهدين، وقاتلوا حِسبةً، وطلبًا للشهادة، فقَتَل الفرنجُ منهم ألوفًا، وغَنِموا ما في العسكرِ مِن الأقوات والأموال والأثاث والدواب والأسلحة، فصلحت حالهم، وعادت إليهم قوَّتُهم، فلما فعل الفرنجُ بالمسلمين ما فعلوا ساروا إلى معرَّة النعمان، فنازلوها وحصروها، وقاتلهم أهلها قتالًا شديدًا، ورأى الفرنجُ منهم شدةً ونكاية، ولقُوا منهم الجِدَّ في حربهم، والاجتهادَ في قتالهم، فعملوا عند ذلك برجًا من خشب يوازي سورَ المدينة، ووقع القتالُ عليه، فلم يضُرَّ المسلمين ذلك، فلما كان الليل خاف قومٌ من المسلمين، وانتابهم الفشَلُ والهلع، وظنُّوا أنهم إذا تحصنوا ببعضِ الدور الكبار امتنعوا بها، فنزلوا من السورِ وأخلَوا الموضِعَ الذي كانوا يحفظونه، فرآهم طائفةٌ أخرى، ففعلوا كفِعلِهم، فخلا مكانُهم أيضًا من السور، ولم تزَلْ تتبَعُ طائفةٌ منهم التي تليها في النزولِ حتى خلا السور! فصعد الفرنجُ إليه على السلاليم، فلما علوه تحيَّر المسلمون، ودخلوا دورَهم، فوضع الفرنجُ فيهم السيفَ ثلاثة أيام، فقتلوا ما يزيد على مائة ألف، وسَبَوا السبيَ الكثير، وملكوه، وأقاموا أربعين يومًا! وساروا إلى عرقة فحصروها أربعةَ أشهر، ونقبوا سورَها عدةَ نُقوبٍ، فلم يقدروا عليها، وراسلهم منقذ صاحب شيزر، فصالحهم عليها، وساروا إلى حمص وحصروها فصالحهم صاحبها جناح الدولة، وخرجوا على طريق النواقير إلى عكا فلم يقدروا عليها. ثم كتب دقماق ورضوان والأمراء إلى الخليفة المستظهر العباسي يستنصِرونَه، فأخرج الخليفةُ أبا نصر ابن الموصلايا إلى السلطان بركيارق بن السلطان ملكشاه السلجوقي يستنجده. كلُّ ذلك وعساكر مصر لم تُهيَّأ للخروج!!
كثُرَ فَسادُ العُربان بالوجه القبلي، وتعَدَّى شَرُّهم في قَطعِ الطَّريقِ إلى أن فَرَضوا على التجَّار وأرباب المعايش بأسيوط ومنفلوط فرائِضَ جَبَوها شبه الجماليَّة، واستخَفُّوا بالولاة ومنعوا الخراجَ، وتَسَمَّوا بأسماء الأمراء، وجعلوا لهم كبيرينِ أحدهما سَمَّوه بيبرس، والآخر سلار، ولبسوا الأسلحةَ وأخرجوا أهلَ السُّجونِ بأيديهم، فاستدعى الأمراءُ القُضاةَ والفُقَهاءَ، واستفتَوهم في قتالِهم، فأفتَوهم بجواز ذلك، فاتَّفَق الأمراء على الخروج لقتالِهم وأخْذِ الطرق عليهم، لئلا يمتَنِعوا بالجبالِ والمفاوزِ فيَفوتَ الغَرَضُ فيهم، فاستدعَوا الأمير ناصر محمد بن الشيخي متولي الجيزية, وغيرَه من ولاة العمل، وتقَدَّموا إليه بمنع الناسِ بأَسرِهم من السفر إلى الصعيدِ في البَرِّ والبحر، ومَن ظَهَر أنه سافر كانت أرواحُ الولاة قبالةَ ذلك، فاشتَدَّ حِرصُهم، وأشاع الأمراءُ أنَّهم يريدون السَّفَرَ إلى الشام، وكُتِبَت أوراق الأمراء المسافرين، وهم عشرونَ مُقَدَّمًا بمضافيهم، وعيَّنوا أربعة أقسام: قسمٌ يتوَجَّهُ في البر الغربي من النيلِ، وقِسمٌ في البَرِّ الشرقي، وقِسمٌ يركب النيل، وقِسمٌ يمضى في الطريق السالكةِ، وتوجه الأميرُ شمس الدين سنقر الأعسر إلى جهة ألواح في خمسةِ أمراء، وقرر أن يتأخَّرَ مع السلطان أربعةُ أمراء من المقَدَّمين، وتقَدَّمَ إلى كُلِّ مَن تعَيَّنَ لجهة أن يضَعَ السَّيفَ في الكبير والصَّغيرِ والجليل والحقير، ولا يُبقُوا شيخًا ولا صبيًّا، ويحتاطوا على سائِرِ الأموال، وسار الأميرُ سلار في رابع جمادى الآخرة ومعه جماعةٌ من الأمراء في البر الغربي، وسار الأميرُ بيبرس بمن معه في الحاجر في البر الغربي على طريق الواحات، وسار الأميرُ بكتاش أميرُ سلاحٍ بمن معه إلى الفيوم وسار الأميرُ بكتمر الجوكندار بمن معه في البرِّ الشرقي، وسار قتالُ السبع وبيبرس الدوادار وبلبان الغلشي وعرب الشرقية إلى السويس والطور، وسار الأميرُ قبجق ومن معه إلى عقبةِ السَّيل، وسار طقصبا والي قوص بعرب الطاعةِ وأخذ عليهم المفازاتِ، وضَرَبَ الأمراءُ على الوجه القبلي حلقةً كحلقةِ الصيدِ، وقد عُمِّيَت أخبارُهم على أهل الصعيد، فطَرَقوا البلادَ على حينِ غَفلةٍ مِن أهلها، ووضَعوا السيفَ في الجيزيَّة بالبر الغربيِّ والإطفيحية من الشرق، فلم يتركوا أحدًا حتى قَتَلوه، ووسطوا نحو عشرة آلاف رجلٍ، وما منهم إلَّا من أخذوا مالَه وسَبَوا حريمه، فإذا ادَّعى أحدٌ أنَّه حَضَريٌّ قيل له قل: دقيق، فإن قال بقاف العَرَبِ قُتِلَ، ووقع الرعبُ في قلوبِ العُربان حتى طَبَّق عليهم الأمراءُ، وأخَذوهم مِن كُلِّ جِهةٍ فَرُّوا إليها، وأخرَجوهم من مخابِئِهم حتى قَتَلوا مَن بجانبي النيلِ إلى قوص، وجافت الأرضُ بالقتلى، واختفى كثيرٌ منهم بمغائِرِ الجبالِ، فأُوقِدَت عليهم النيرانُ حتى هلكوا عن آخِرِهم، وأُسِرَ منهم نحوُ ألف وستمائة لهم فلاحات وزروع، وحَصَل من أموالهم شيءٌ عَظيمٌ جدًّا تفَرَّقَتْه الأيدي، وأُحضِرَ منه للديوان ستة عشر ألف رأسٍ من الغنم، من جملةِ ثمانين ألف رأسٍ ما بين ضأن وماعز، ونحو أربعةِ آلاف فرس واثنين وثلاثين ألف جمل، وثمانية آلاف رأس من البقر، غيرَ ما أُرصِدَ في المعاصر، ومن السِّلاحِ نحو مائتين وستين حملًا ما بين سيوف ورماح، ومن الأموالِ على بغالٍ مُحَمَّلة مائتين وثمانين بغلًا، ثم عاد العسكَرُ في سادس عشر رجب، وقد خلت البلادُ بحيث كان الرجلُ يمشي فلا يجِدُ في طريقه أحدًا، وينزِلُ بالقرية فلا يرى إلا النِّساءَ والصِّبيانَ والصِّغارَ، فأفرجوا عن المأسورينَ وأعادوهم لحِفظِ البلاد، وكان الزَّرعُ في هذه السنة بالوجه القبلي عظيمًا إلى الغاية، تحصَّلَ منه ما لم يُقدَرْ قَدرُه كَثرةً.
تولى خير الدين التونسي منصِبَ رئاسة الوزراء في الدولةِ العثمانيةِ. ولد خير الدين في القفقاس لعائلةِ تليش الأباظية الشركسية، حوالي عام 1820م. تعهَّده والي تونس الداي أحمد، وهيأ له فُرَصَ الاستزادة من العلوم، فأكَبَّ على دراسة الفنون العسكرية والسياسية، والتاريخ والعلوم الشرعية، وأتقن اللغاتِ العربيةَ والتركية والفرنسية. أصبح رئيسًا لمكتب العلوم الحربية بباردو عام 1840م، ثم أصبح رئيسًا لفرقة الفرسان في الجيش التونسي. وعيِّن مديرًا لِمَصرف الدراهم التونسي. وفي عام 1849م رقِّيَ إلى رتبة ومنصب أمير لواء الخيالة في تونس، وفي عام 1855م أنعَمَ عليه الباي المشير محمد باشا برتبة الفريق؛ لإنقاذه تونس من قرضٍ مالي ثقيل كاد الباي السابق أن يندفِعَ إليه. ثم عيَّنه وزيرًا للبحرية عام 1857م حيث أجرى عدَّةَ إصلاحات إدارية. وساهم في صياغةِ وإصدار قانون (عهد الأمان) التونسي عام 1857م. وشارك في وضع الدستور التونسي عام 1860م. وعند إنشاءِ مجلس الشورى التونسي المنتَخَب كان خير الدين باشا الرئيس الفعليَّ للمجلس من عام 1861م. اصطدم مع سياسة الباي الجديد محمد الصادق فقَدَّم استقالتَه من الوزارة ومِن رئاسة مجلس الشورى عام 1862م وفَرَض على نفسه العزلةَ السياسية لمدة تسع سنوات بين عامي 1862م و1869م. وكان من نتائج عزلته تلك تأليفُه الكتاب الشهير الذي أسماه ((أقوم المسالك في معرفة أحوال الممالك)) والذي تمَّ طبعُه في تونس عام 1867 م. بعد ذلك شارك مندوبًا عن تونس في اللجنة المالية المختلطة المشكَّلة لتحصيل ديون الدُّول الأوروبية من تونس، فاستطاع الحدَّ من نفوذ اللجنة وتدخُّلِها في شؤون الدولة. وفي أكتوبر 1873م عيِّنَ وزيرًا أكبر لتونس (أي رئيسًا للوزراء) فسَنَحَت له فرصةُ تحقيق برامجه الإصلاحية التي طرحَها في كتابه (أقوم المسالك) واستطاع نقل تونس من حالة الكرب والضيق والفوضى إلى حالةٍ مِن الأمنِ والرخاء والنظام. وتصدى بحزمٍ للمطامع الأجنبية في بلادِه، وخاصة المطامح الفرنسية والإيطالية المتنافسة. ولكِنَّه فوجئ بمعاتبة الباي له وغضبه من سياسته في التحمُّسِ لإعانة الدولة العثمانية في حَربِها ضِدَّ روسيا، فقَدَّم استقالته من رئاسة الوزارة في يوليو1877م. وبعد استقالته ضَيَّق عليه الباي الخناقَ ومنعه من الاتصال بالناس، فكان معتقلًا في منزله. وقد سافر للعلاجِ ثم عاد إلى تونس وظَلَّ شِبهَ مُعتَقَل حتى استدعاه السلطانُ العثماني عبد الحميد الثاني فسافر إلى الأستانة في رمضان 1877م حيث استقبله السلطانُ وعَيَّنه وزير دولة بعد رفضِه منصب وزير العدل. ولكِنَّه فوجئ في صباح يوم 4 ديسمبر 1878م بتعيينه رئيسًا لوزراء الدولة العثمانية. وكانت الدولةُ العثمانية وقتَها في ضيقٍ وحَرَجٍ كبير؛ فالجيش الروسي يقِفُ على عتبات العاصمة استانبول، والأسطول البريطاني في مضيق البوسفور، والاقتصادُ متدهور، وهناك المشكلةُ الأرمينية، ومشاكِلُ في قبرص والبوسنة! فسارع خير الدين باشا إلى عقد اتِّفاقٍ مع الروسِ يضمَنُ مصالح المسلمين في بلغاريا وروملي الشرقية،كما انسحب الأسطولُ البريطاني مِن مَضيقِ البوسفور، وسَوَّى الخلافات مع النمسا، وحُلَّت مشكلة الأرمن، واستبدل بالخديويِّ إسماعيل ابنَه توفيقًا في مصر. وقد اختلف كثيرًا مع السلطان عبد الحميد الثاني ورجالِ حاشيته إبَّانَ توليه رئاسة الوزراء، فكان أن عُزِلَ مِن منصبه في شعبان 1296 هـ ( 1879 م) وعاش بعدها بعيدًا عن السياسة حتى توفِّي بعد عشر سنوات في الأستانة عام 1889م ودفِنَ في جامع أيوب، إلا أن الحكومة التونسية بادرت في عام 1968م إلى نقل رُفاته ودفنه في تونس تقديرًا لخِدماتِه، وقد أطلق عليه الشَّعبُ التونسي لقب ((أبو النهضة التونسية)).
تجَدَّدَت الفِتنةُ ببغدادَ بينَ السُّنَّة والشِّيعة، وكان سبَبُ ذلك أنَّ الوزيرَ أبا القاسم عليَّ بنَ أحمد الملَقَّب بالمذكور أظهَرَ العَزمَ على الغَزاة، واستأذن الخليفةَ في ذلك، فأَذِنَ له، وكُتِبَ له منشورٌ من دار الخلافة، وأعطى عَلَمًا، فاجتمَعَ له لفيفٌ كثيرٌ، فسار واجتاز ببابِ الشعير، وطاق الحراني، وبين يديه الرِّجالُ بالسِّلاحِ، فصاحوا بذِكرِ أبي بكرٍ وعُمَرَ، رَضِيَ الله عنهما، وقالوا: هذا يومُ مُعاوية، فنافَرَهم أهلُ الكَرخِ ورَمَوهم، وثارت الفِتنةُ، ونُهِبَت دورُ اليَهودِ؛ لأنَّهم قيل عنهم إنَّهم أعانوا أهلَ الكَرخِ، فلمَّا كان الغدُ اجتمع السُّنَّةُ من الجانِبَينِ، ومعهم كثيرٌ مِن الأتراكِ، وقصدوا الكَرخَ، فأحرقوا وهَدَّموا الأسواق، وأشرف أهلُ الكَرخِ على خُطَّةٍ عظيمة. وأنكَرَ الخليفةُ ذلك إنكارًا شديدًا، ونَسَب إليهم تخريقَ عَلامتِه التي مع الغزاةِ، فركب الوزيرُ فوَقَعَت في صَدرِه آجُرَّة، فسَقَطَت عِمامَتُه، وقُتِلَ مِن أهل الكرخِ جماعةٌ، وأُحرِقَ وخُرِّبَ في هذه الفتنةِ سُوقُ العَروسِ، وسوقُ الصَّفَّارين، وسوقُ الأنماط، وسوق الدقَّاقين، وغيرها، واشتد الأمرُ، ووقع القتالُ في أصقاع البلَدِ مِن جانبيه، وقَتَلَ أهلَ الكَرخِ، ونهر طابق، والقَلَّائين– صَنعتُهم القَليُ-، وباب البصرة، وفي الجانب الشَّرقيِّ أهل سوقِ الثلاثاء، وسُوق يحيى، وباب الطاق، والأساكفة، والرهادرة، ودرب سليمان، فقُطِعَ الجِسرُ ليُفَرَّقَ بين الفريقين، ودخل العَيَّارون– والعيارون: لُصوصٌ يَمتَهِنونَ النَّهبَ والدعارةَ - البلدَ، وكَثُرَ الاستقفاءُ بها ليلًا ونهارًا. وأظهر الجندُ كراهةَ المَلِك جلالِ الدَّولة، وأرادوا قَطعَ خُطبتِه، ففَرَّقَ فيهم مالًا وحَلَفَ لهم فسَكَنوا، ثم عاودوا الشَّكوى إلى الخليفةِ منه، وطَلَبوا أن يأمُرَ بقَطعِ خُطبتِه، فلم يُجِبْهم إلى ذلك، فامتنع حينئذ جلالُ الدَّولة من الجلوس، ودامت هذه الحالُ إلى عيدِ الفِطرِ، ثمَّ حدث في شوال فتنةٌ بين أصحابِ الأكْيِسة وأصحابِ الخِلعانِ، وهما شيعةٌ، وزاد الشَّرُّ، ودام إلى ذي الحِجَّة، فنودي في الكَرخِ بإخراجِ العَيَّارين، فخرجوا، واعتَرَض أهلُ باب البصرة قومًا مِن قُمٍّ أرادوا زيارةَ مَشهدِ عليٍّ والحُسَين، فقَتَلوا منهم ثلاثةَ نَفَر، وامتنَعَت زيارةُ مَشهَدِ موسى بنِ جَعفَر.
أُسِّستِ المَملَكاتُ القُعَيْطيَّةُ في حَضرَموتَ على يَدِ عُمَرَ بنِ عَوَضِ بنِ عبدِ اللهِ القُعَيْطيِّ، والأسرةُ القُعَيْطيَّةُ تَرجعُ جُذورُها إلى قَبيلةِ يافِعٍ، فبَعدَ مَوتِ السُّلطانِ بَدرٍ أبي طُوَيرِقٍ الكَثيريِّ، دخَلَ حُلَفاؤُه مِنَ السَّلاطينِ في تَطاحُنٍ على السُّلطةِ، حتى إنَّ بَعضَ السَّلاطينِ الكَثيريِّينَ استَنجَدَ بالجيشِ الإماميِّ في صَنعاءَ، فكانَ أنْ تلاشَت تَدريجيًّا السُّلطةُ الكَثيريةُ، وأصبَحتِ الشِّحرُ وحَضرَموتُ ضِمنَ الحُكومةِ المركزيةِ في صَنعاءَ، فاضطُرَّ الكَثيريونَ إلى الاستِنجادِ بقَبائِلِ يافِعٍ ضِدَّ السُّلطةِ الإماميةِ، فتمكَّنوا مِن إخراجِها مِن حَضرمَوتَ، ولكنَّ المنطقةَ وقعت في يَدِ يافِعٍ، وانتَهتِ الدولةُ الكَثيريةُ الأولى، وظهرَ حُكمُ الطوائفِ اليافعيةِ بساحِلِ حَضرمَوتَ على أنقاضِ الكَثيريِّينَ، وبَعدَ أن قامتِ الدولةُ الكَثيريةُ الثانيةُ في القرنِ التاسعِ الهِجريِّ كانَ تركيزُ سَلاطينِها على استِعادةِ تِرْيَمَ وسَيْئُونَ مِن يَدِ اليافعيِّينَ، واستَولى أيضًا الكَثيريونَ على الشِّحرِ مِنَ اليافعيِّينَ، لكنِ استَطاعَ التحالُفُ القُعَيْطيُّ بقيادةِ عَوَضِ بنِ عُمَرَ مع الكَسَاديِّ إخراجَ الكَثيريِّينَ منها، وأصبَحتِ الشِّحرُ منذُ ذلك الحينِ جُزءًا مِنَ السَّلطنةِ القُعَيْطيَّةِ، ووُقِّعتِ اتفاقيةٌ اعتَرفوا فيها لِآلِ كَثيرٍ بتِرْيَمَ وسَيْئُونَ.
ثم وَقَعت خِلافاتٌ بينَ القُعَيْطيِّينَ والكَسَاديِّينَ، ورأت بريطانيا أنْ تَمنحَ حمايَتَها للقُعَيْطيِّ بَدَلًا مِنَ الكَسَاديِّ، وحَذَّرتِ الكَثيريِّينَ مِن مُساعدةِ الكَسَاديِّ، وسمَحَت للقُعَيْطيِّ بشَنِّ هُجومٍ على المُكَلَّا، وانتهى أمرُ الكَسَاديِّ، واعترفَت انجِلتِرا بسَلطنةِ القُعَيْطيِّ على الشِّحرِ والمُكَلَّا، ووَقَّعوا اتفاقيةَ حِمايةٍ، وكذلك فَعَلوا مع السَّلطنةِ الكَثيريةِ في حَضرَموتَ، حَكَمتِ الدولةُ الكَثيريةُ سَيْئُونَ وتِرْيَمَ، وتريس والغرف ومريمة والغَيْل، في الوقتِ الذي حَكمت فيه الدولةُ القُعَيْطيَّةُ المُكَلَّا والشِّحرَ وغَيْل أبا وزير وجميعَ بُلدانِ الشواطئِ، وتمت مُحاولاتٌ لِتَهدئةِ الوَضعِ المُحتَدِمِ بينَ الدولةِ الكَثيريةِ، والدولةِ القُعَيْطيَّةِ، لِيَتسَنَّى تنظيمُ شُؤونِ بِلادِ حَضرَموتَ، فكانت مُعاهدةُ عَدَنٍ عامَ 1336هـ، ثم كانَ في عامِ 1346هـ مؤتمرُ سِنغافورةَ، الذي أذاعت فيه الدولتان القُعَيْطيَّةُ والكَثيريةُ بَلاغًا رَسميًّا إلى أهالي حَضرَموتَ كافةً بتَجديدِ الاتِّحادِ وتَوثيقِ عُرى الصَّداقةِ والتَّعاونِ.
بعد أن سيطر المهديُّون على السودان كلِّها وجاءت الأوامِرُ الإنجليزية للمصريين بالانسحابِ مِن السودان، ثمَّ أخذت إنجلترا بالعمل لاستعادة السودانِ، ووافق ذلك هزيمةَ إيطاليا أمام الحبشة، فاستنجدت إيطاليا بإنجلترا فتشَكَّل الجيشُ المصري الإنجليزيُّ، وتجمَّعَ في حلفا في ذي القعدة 1313هـ / أيار 1896م ليستعيدَ السودان، وقاد الجيشَ كتشنر الضابِطَ الإنجليزيَّ، ثم أُعطِيَت الأوامِرُ للتقَدُّمِ إلى السودان، وحدث صدامٌ أوَّلًا بين دوريةٍ مِن هذا الجيشِ والأنصارِ، ثمَّ حَدَثت معركةُ فركة في السادس والعشرين من ذي الحجة / حزيران، ولم يكن عددُ السودانيين يزيدُ على ثلاثة آلافٍ، على حين كان الجيشُ المقابِلُ عشرةَ آلاف بعتاده الكامِلِ، فقُتِلَ من السودانيين قائِدُهم حمودة ومعه ثمانمائة مقاتل، وأُسِرَ سِتُّمائة وتراجَعَ البقيَّةُ إلى دنقلة، ثمَّ جَرت اتصالاتٌ سريَّةٌ بين الضبَّاط الإنجليز وأعيان كردفان وزعيم الكبابيش وعبد الله ولد سعدٍ زعيم قبيلة الجعليين؛ لإعادة الحكم المصري، غيرَ أنَّ الجيش المصري قد أُصيب بكارثة انتشار الكوليرا في صفوفِه، ووجد أميرُ دنقلة أنَّه لا يستطيعُ الصمود أمامَ الغزاة فأخلى مدينتَه ودخَلَها كتشنر دون مقاومةٍ، ووصل مدينة مروى ومد الإنجليزُ خطًّا حديديًّا بسرعة بين حلفا وأبو حمد، وحاولت قوةٌ مهدية المقاومةَ في أبو حمد غيرَ أنَّها قد هُزِمَت أمام قوة السلاح رغمَ ما قدَّمت من تضحية، وكذلك انسحب أمير بربر إلى أم درمان، وجاءت قوةٌ من الجيش المصري من سواكِن على البحر الأحمر وتقَدَّمت نحو الداخل وأخذت مدينةَ كسلا من أيدي الإيطاليين، وذلك في 26 رجب 1315هـ / 20 ديسمبر 1897م، وانتصر كتشنر على قائدِ الجيش السوداني محمود في بلدة النخيلة على نهر عطبرة في 15 ذي القعدة 1315هـ / 6 نيسان 1898م وتقدَّم الإنجليزُ بجنودِهم المصريين نحو الجنوبِ وجَرَت معركةُ كرري في ربيع الثاني 1316هـ / أيلول 1898م وقُتِلَ فيها عشرة آلافٍ مِن الأنصارِ أتباعِ حركةِ المهديِّ، ودخل كتشنر الخرطومَ ورُفِع عليها العَلمانِ المصريُّ والإنجليزي، وتم التفاهمُ مع الفرنسيين في فاشودة.
هو علي عدنان إرتكين مندريس المعروف بعدنان مندريس رئيس وزراء تركيا، ولِدَ في مدينة أيدين سنة 1317هـ، وهو سياسيٌّ حقوقي، ورجل دولة تركي ومن دهاة الأتراك, شارك في تأسيسِ رابع حزب معارِض معتَرَف به في تركيا، كما أنه يعتبَرُ أوَّلَ رئيس وزراء منتَخَب ديمقراطيًّا في تركيا عام 1385هـ, دخل الانتخاباتِ مُرشَّحًا للحزب الديموقراطي سنة 1950م ببرنامج توقَّعَت له كلُّ الدراسات الفشَلَ المطلق، فمع أنَّه خرج من حزب أتاتورك العلماني بعد أن انشقَّ عنهم، فقد كان من ضمن تعهُّداتِه التي أطلقها للأتراك في حملته الانتخابية أنَّه إذا نجح في الانتخابات برئاسة الوزراء يتعَهَّدُ بعودة الأذان باللغة العربية، والسماح للأتراك بالحَجِّ، وإعادة إنشاء المساجد، وتدريس الدين بالمدارس، وإلغاء تدخُّل الدولة في لباس المرأة، فكانت نتيجة الانتخابات حصولَ حزب أتاتورك العلماني على 32 مقعدًا، بينما حصل حزب مندريس الديموقراطي على 318 مقعدًا! وتسَلَّم عدنان مندريس منصِبَ أوَّلِ رئيس منتخب للوزراء، وجلال بايار رئيس الحزب رئيسًا للجمهورية، وقد عمل مندريس منذ فوزِ حِزبِه في الانتخابات على استعادة هويَّة تركيا الإسلامية التي صادرها كمال أتاتورك، فشرع بتنفيذِ وُعودِه التي أعلنها أثناء العملية الانتخابية؛ فعقد أول جلسة لمجلس الوزراء في غرة رمضان تيمُّنًا بالشهر الكريم، وسَمَح بالأذان باللغة العربية، وأطلق حريةَ لباس المرأة، وحرية تدريس الدين، وبدأ بتعمير آلافِ المساجد بعد أن كانت ممنوعةً من البناء، وأخلى المساجِدَ التي كانت الحكومةُ السابقة تستعمِلُها مخازن للحبوب، وأعادها لتكونَ أماكن للعبادة، كما سمح بتعليم اللغة العربية، وقراءة القرآن الكريم وتدريسه في جميع المدارس حتى الثانوية، وأنشأ أكثَرَ من عشرين معهدًا لتخريج الوعَّاظ والخطباء وأساتذة الدين، وسمح بإصدار المجلات والكتب التي تدعو إلى التمسك بالإسلام، وتقارَبَ مع العرب ضِدَّ إسرائيل، وفرض الرقابةَ على الأدوية والبضائع التي تُصنَعُ في إسرائيل، بل طَرَد السفير الإسرائيلي سنة 1956م، فتآمر عليه الأعداءُ في الداخل والخارج، فانقلب عليه جنرالات الجيش، وتم قتله -رحمه الله- شنقًا مع اثنين من وزرائه بعد محاكمةٍ صورية!
هو الحاج سير أحمدو بلو بن الأمير إبراهيم بن فودي: زعيمٌ سياسيٌّ نيجيري شمالي. مفكرٌ إسلاميٌّ سياسي كان من أبرز قادةِ مقاومة الاستعمار الإنجليزي. وُلِدَ سنة 1909م بقرية رابا، وتعلَّم في كُتَّابها سنتين، ثم أخذه أخوه إلى مدينة صكتو؛ لِيُلحِقَه بمدرسةٍ ابتدائية هناك، فدرس فيها القرآنَ الكريم، والحساب، واللغة الإنجليزية، والتاريخ، لكنَّه أبدى أسَفَه حين رأى أنَّ التاريخَ الذي يَدرسُه تاريخ إنجلترا بدلًا من تاريخ بلادِه. كان جادًّا في دراسته ما جعَله بعد خمسِ سنين يتخرَّجُ بتفوق على أقرانه، وفي عام 1926م انتقل إلى كلية المعلِّمين في كاتسينا؛ ليتخرَّج معلِّمًا، فعاد إلى مدرسته الأولى في صكتو ليدرِّسَ بها اللغةَ الإنجليزية، والهندسة، ومبادئ اللغة العربية، وفي عام 1934م عيَّنه السُّلطان رئيسًا لمركز (رابا) مسقط رأسِه بعد وفاة ابن عمِّه، فكان أصغرَ رئيسٍ من بين 45 رئيسًا؛ إذ كان عمره 24 سنةً، فكان أوَّلُ عملٍ أقدَمَ عليه هو مكافحةَ الجهل والأميَّة في قريته، حتى إنه لم يكُنْ فيها مَن يَعرف القراءةَ والكتابةَ سواه، فأنشَأ مدرسةً تولَّى التَّدريسَ فيها بنفسه، فلمَّا تعلَّم عددٌ من أهل القرية القراءة والكتابة فَتح فصولًا أخرى، حتى بُنيت أوَّلُ مدرسةٍ نظاميَّة في القرية. في عام 1938م انتقل أحمد بلو إلى (غسو)، وقد عيَّنه السلطان الحاج أبو بكر تفاوة بيليوا رئيسُ وزراء حكومة اتحاد نيجيريا مُشرفًا على 14 مركزًا في سلطنة صكتو، وبهذا اكتسب بلو مهاراتٍ إدارية. ولما أُعلِنَت الحربُ العالمية الثانية عُيِّن بلو ضابطًا للحرب في صكتو. وفي عام 1948م سافر بلو إلى لندن؛ لدراسة نظُمِ الحكم المحلي، وفي عام 1949م ذهب إلى عاصمة نيجيريا لاجوس لأوَّلِ مرة حين توفي وزير صكتو، وأصبح يمثِّل صكتو، وحين بدأت إجراءاتُ تعديل الدستور النيجيري اجتمع الشماليون في (كدونا)، واختاروا مندوبَين منهم للاشتراك في هذا العمل المهم، وكان أحدهما: أحمدو بلو. وفي عام 1953م تقلَّد وزارتَيْ تطوير المجتمع والحكومة المحلية، وفي أكتوبر 1954م أصبح بلو رئيسًا لوزراء الإقليم الشمالي، وظل في هذا المنصب حتى تم اغتياله رحمه الله.
وُلِدَ الشيخ حسنين في حي باب الفتوح بالقاهرة في (16 من رمضان 1307هـ / 6 من مايو 1890م)، وتَعهَّدَه أبوه بالتربية والتعليم، فما إن بلغ السادسةَ حتى دفَعَ به إلى مَن يُحَفِّظه القرآنَ الكريم، وأتمَّه وهو في العاشرة على يد الشيخ محمد علي خلف الحسيني شيخ المقارئ المصرية، وهيَّأه أبوه للالتحاق بالأزهر، فحفَّظه متونَ التجويد، والقراءات، والنحو، ثم التحق بالأزهر، وهو في الحاديةَ عَشْرةَ من عمره، وتلقَّى العلم على شيوخ الأزهر، من أمثال الشيخ عبد الله دراز، ويوسف الدجوي، ومحمد بخيت المطيعي، وعلي إدريس، والبجيرمي، فضلًا عن والده الشيخ محمد حسنين مخلوف، ولمَّا فتحت مدرسةُ القضاء الشرعي أبوابَها لطلاب الأزهر، تقدَّم للالتحاق بها، وتخرَّج بعد أربع سنواتٍ حائزًا على عالِميَّة مدرسة القضاء سنةَ (1332هـ / 1914م)، وبعد التخرُّج عمل الشيخ حسنين مخلوف بالتدريس في الأزهر لمدة عامَينِ، ثم التحقَ بسلك القضاء قاضيًا شرعيًّا في قنا سنةَ (1334هـ / 1916م)، ثم تنقَّل بين عدَّة محاكمَ في "ديروط"، و"القاهرة"، و"طنطا"، حتى عُيِّن رئيسًا لمحكمة الإسكندرية الكلية الشرعية سنةَ (1360هـ / 1941م)، ثم رُقِّيَ رئيسًا للتفتيش الشرعي بوزارة العدل سنةَ (1360هـ / 1942م)، ثم عُيِّنَ نائبًا لرئيس المحكمة العُليا الشرعية سنةَ (1363هـ / 1944م)، حتى تولَّى منصبَ الإفتاء في (3 من ربيع الأول 1365هـ / 5 من يناير 1946م)، وظلَّ في المنصب حتى (20 من رجب 1369هـ / 7 من مايو 1950م)، عندما بلغ انتهاءَ مدَّة خِدْمته القانونية، فاشتغل بإلقاء الدروس في المسجد الحسيني إلى أن أُعيد مرةً أُخرى ليتولَّى منصبَ الإفتاء سنةَ (1371هـ / 1952م)، واستمر فيه عامَينِ، وفي أثناء تولِّيه منصبَ الإفتاء اختير لعضوية هيئةِ كبارِ العلماءِ سنةَ (1367هـ = 1948م)، وبعد تَركه منصبَ الإفتاءِ أصبحَ رئيسًا للجنة الفَتْوى بالأزهر الشريف لمُدَّة طويلة، وكان عضوًا مؤسِّسًا لرابطة العالَم الإسلامي بالمملكة العربية السعودية، وشارَك في تأسيس الجامعة الإسلامية بالمدينة النبوية، واختير في مجلس القضاءِ الأعْلى بالسعودية.
طالت الحياة بالشيخ حتى تجاوز المئةَ عامٍ، وتُوفيَ في 19 من رمضان 1410.
لما تسلطن المنصور عثمان بن جقمق أساء تدبيرَ أمور الدولة فأخذ يعزِلُ ويولي ويعطي ويمنع دون رشدٍ ولا تدبيرٍ ولا توقيرٍ لكبير أو قديم، حتى أوغر صدورَ الأشرفية والمؤيدية عليه، وانتظم الصلح بين الطائفتين سرًّا فتحالفوا واتَّفقوا على الركوب في يوم بعينه، كل ذلك والمنصور ومماليك أبيه وحواشيه في غفلةٍ عن ذلك، وأكبَرُ همهم في تفرقة الإقطاعات والوظائف، وفي ظنِّهم أن دولتهم تدوم، وأنَّ الملك قد صار بيَدِهم، هذا مع عدم التفاتِهم لتقريبِ العُقلاء، ومشاورةِ ذوي التدبير وأرباب التجارب ممَّن مارس تغييرَ الدول والحروب والوقائع، وقد صار الناسُ عند الأمير الكبير إينال، ولَبِسوا السلاح، وأجمعوا على قتالهم، وأهلَّ شهر ربيع الأول يوم الاثنين، وفيه كان ابتداءُ الوقعة بين السلطان الملك المنصور عثمان وبين الأتابك إينال العلائي، وذلك أنَّه قدم الأمراء جميعًا إلى الرميلة يريدون طلوعَ القلعة، فتكاثرت المماليكُ عليهم واحتاطوا بهم، وأخذوهم غصبًا بأجمَعِهم، وعادوا بهم إلى بيت الأميرِ الكبير إينال العلائي، ولما اجتمع القومُ في بيت الأمير الكبير، وعَظُم جمعُهم، أتاهم الأمراءُ والخاصكية والأعيانُ من كل فجٍّ، حتى بقُوا في جمع موفور، فأعلنوا عند ذلك بالخروج عن طاعة الملك المنصور، والدخولِ في طاعة الأمير الكبير إينال، والأمير الكبير يمتنع من ذلك بلسانه، فلم يلتفتوا لتمنُّعِه، وأخفوا في لبس السلاح، فلَبِسوا في الحالِ عن آخِرِهم، وطلبوا الخليفةَ القائم بأمرِ الله حمزة، فحضر قبل تمامِ لُبسِهم السلاح، ولما حضر الخليفةُ أظهر الميل الكليَّ للأتابك إينال، وأظهر كوامِنَ كانت عنده من الملك المنصور وحواشيه وقام مع الأمراءِ في خلع المنصورِ أتمَّ قيام، ولما تكامل لبس المماليك والأمراء السلاح طلبوا من الأمير الكبير الركوبَ معهم والتوجُّهَ إلى بيت قوصون تجاهَ باب السلسلة، فامتنع تمنعًا ليس بذاك، ثم أجابهم في الحال، وركب هو والأمراءُ وحولهم العساكرُ مُحدِقة بهم إلى أن أوصلوهم إلى بيتِ قوصون، وأمَّا الملك المنصور لَمَّا بلغه ما وقع من القومِ في بيت الأمير الكبير تحقَّق مَن عنده من الأمراء والأعيان ركوبَ الأمير الكبير وخروجه عن الطاعة، فأمروا في الحال يشبك القرمي والي القاهرة أن يناديَ بطلوع المماليك السلطانية لأخذ النفقة، وأنَّ النفقة لكُلِّ واحد مائة دينار، فنزل يشبك من القلعة والمنادي بين يديه ينادي بذلك، إلى أن وصل إلى الرميلة تجاه باب السلسلة، فأخذته الدبابيسُ من المماليك، فتمَزَّقوا، وذهب القرمي إلى حال سبيلِه، ثم أمر الملك المنصور لأمرائِه وحواشيه بلُبس السلاح، فلبسوا بأجمعِهم، ولبس هو أيضًا، كل ذلك وآراؤهم مفكوكة، وكلمتهم غيرُ منضبطة، وابتدأ القومُ في القتال من يوم الاثنين هلال ربيع الأول، واشتدَّت الحرب، وجُرح من الطائفتين جماعة، وصار أمر الأميرِ الكبير في نموٍّ بمن يأتيه من المماليك السلطانية، ومضى نهارُ الاثنين بعد قتال كبيرٍ وقع فيه، وبات الفريقان في ليلة الثلاثاء على أُهبة القتال، وأصبحا يوم الثلاثاء على ما هم عليه من القتال والرميِ بالمدافع والنفوطِ والسهام من الجهتين، والجراحاتُ فاشية في الفريقين، ولم يكن وقت الزوال حتى كثُرَ عسكر الأمير الكبير إينال، واستفحل أمرُه، ثم في هذا اليوم لهج الخليفةُ أمير المؤمنين القائم بأمر الله حمزة بخلعِ الملك المنصور عثمان من الملك غيرَ مرة في الملأ، فقَوِيَ بذلك قلبُ أصحاب الأمير الكبير وجدُّوا في القتال، وتفرقَّوا على جهات القلعة، وجدُّوا في حصارها، وأصبحوا يومَ الأربعاءِ ثالث شهر ربيع الأول والقتال مستمِرٌّ، وأصحاب الملك المنصور تنسَلُّ منه إلى الأمير الكبير واحدًا بعد واحدٍ، ثم رسم الأمير الكبير بطلب القاضي محبِّ الدين بن الأشقر كاتب السر والقضاة الأربعة، فحضروا في الحال، وقد نزل الخليفةُ من القصر، وجلس عند الأمير الكبير هو والقضاة تكلَّموا مع الخليفة في خلع الملك المنصور عثمان بكلام طويل، ثم طلبوا بدر الدين ابن المصري الموقِّع فأملاه قاضي القضاة علم الدين صالح البلقيني الشافعي ألفاظًا كتبها تتضَمَّن القدحَ في الملك المنصور وخلْعَه من السلطنة، وكان ذلك في أوائل نهار الجمعة، وخُلِعَ الملك المنصور من المُلك وحَكَم القضاة بذلك، وكانت مدةُ سلطنة الملك المنصور شهرًا واحدًا وثلاثة عشر يومًا، ثم سأل قاضي القضاة من حضر المجلس عن سلطنة الأمير الكبير إينال عليهم، فصاحوا بأجمَعِهم: نحن راضون بالأمير الكبير، وكرَّر القاضي عليهم القولَ غيرَ مرة وهم يردون الجوابَ كمقالتهم أولًا، وفرحوا بذلك، وسُرُّوا غاية السرور، وانفَضَّ المجلس على خلع الملك المنصور وسلطنةِ الأتابك إينال، هذا والقتال مستمر أشد ما يكون بين الطائفتين، وأصبح الناسُ في يوم الأحد سابع شهر ربيع الأول والقتالُ مستمِرٌّ بين الفريقين، ثم استطاع الأمير إينال أن يملكَ القلعة ثم أخذ المنصور عثمان ورسم بتسفيرِه إلى الإسكندرية وسُجِنَ بها، ثم حضر الخليفةُ والقضاة الأربعة وسائر أمراء الدولة، وبويع الأميرُ الكبير إينال بالسلطنة، ولقِّبَ بالملك الأشرف، ولَبِس خِلعةَ السلطنة.
هو العزيزُ صاحِبُ مِصرَ أبو منصور نزار بن المعِزِّ معد بن إسماعيل العبيدي المهدي المغربي. ولِدَ سنة 344. قام بعد أبيه في ربيع الأول، سنة 365. وكان كريمًا شُجاعًا صفوحًا، أسمَرَ أصهَبَ الشَّعرِ أعيَنَ أشهَلَ، بعيدَ ما بين المَنكِبَينِ، حسنَ الأخلاقِ قَريبًا من الرَّعيَّة، مُغرَمًا بالصيدِ، ويُكثِرُ مِن صيد السِّباعِ، ولا يُؤثِرُ سَفكَ الدماء. فُتحِتَ له حلب وحماة وحِمص. وخطب أبو الذواد محمَّد بن المسيب بالموصِلِ له، ورقَمَ اسمَه على الأعلامِ والسِّكَّة سنة 383، وخُطِبَ له أيضًا باليمن والشام ومدائن المغرب. قال الذهبي: "كانت دولةُ هذا الرافضيِّ أعظَمَ بكثيرٍ مِن دولةِ أمير المؤمنين الطائعِ ابنِ المطيعِ العباسي". وقد اشتُهِرَ في مصر أنَّ نسَبَ العُبَيديين إلى آلِ البيتِ غيرُ صَحيحٍ, قال ابنُ خَلِّكانَ: "وأكثر أهل العلم بالنَّسَبِ لا يصحِّحونَه، وصار هذا الأمرُ كالمستفيضِ بين الناسِ". وفي مبادي ولاية العزيزِ صَعِدَ المنبرَ يوم الجمعة فوجد ورقةً مكتوبٌ فيها:
إنَّا سَمِعْنا نسبًا مُنكَرًا... يُتلى على المِنبَرِ في الجامِعِ
إنْ كنتَ فيما تدَّعي صادقًا... فاذكُرْ أبًا بعد الأبِ الرَّابعِ
وإن تُرِدْ تحقيقَ ما قُلتَه... فانسُبْ لنا نفسَك كالطَّائِعِ
أو لا دَعِ الأنسابَ مَستورةً... وادخُلْ بنا في النَّسَبِ الواسِعِ
فإنَّ أنسابَ بني هاشمٍ... يقصُرُ عنها طَمَعُ الطَّامِعِ
وصَعِدَ العزيز يومًا آخَرَ المنبرَ، فرأى ورقةً فيها مكتوبٌ:
بالظُّلمِ والجَورِ قد رَضِينا... وليس بالكُفرِ والحَماقهْ
إن كنتَ أُعطِيتَ عِلمَ غَيبٍ... فقُلْ لنا كاتِبَ البِطاقَهْ
وإنما كُتِبَ هذا لأنَّ العُبَيديِّينَ كانوا يدَّعونَ عِلمَ المُغَيَّبات، وأخبارُهم في ذلك مشهورة. توفِّيَ العزيزُ للَيلتَينِ بَقِيَتا من رَمضانَ، بمدينة بلبيس، وكان برَزَ إليها لغَزوِ الرُّومِ، فلَحِقَه عِدَّةُ أمراضٍ منها النقرس والحصا والقولنج، فاتصَلَت به الأمراضُ إلى أن مات، وكان حُكمُه إحدى وعشرين سنة وخمسة أشهر ونصفًا، ولَمَّا مات العزيز ولِيَ بعدَه ابنُه أبو عليٍّ المنصورُ، ولُقِّبَ الحاكِمَ بأمرِ الله، بعَهدٍ مِن أبيه، فوَلِيَ وعُمُره إحدى عشرة سنة وستة أشهر، وأوصى العزيزُ إلى أرجوان الخادم، وكان يتولَّى أمرَ دارِه، فجعله مُدَبِّرَ دولةِ ابنه الحاكمِ، فقام بأمْرِه، وبايعَ له، وأخذ له البيعةَ على النَّاسِ.
هو الإمامُ، قاضي القضاة أبو الفضل كمال الدين محمد بن عبد الله بن القاسم الشهرزوري، الفقيه الموصلي الشافعي، بقيَّةُ الأعلام. وُلِدَ سنة 491, وكان والدُه أحد علماء زمانه يُلقَّب: بالمرتضى. لَمَّا قُتِلَ عماد الدين زنكي عند قلعةِ جعبر كان كمال الدين حاضرًا في العسكر هو وأخوه تاج الدين أبو طاهر يحيى، فلما رجع العسكَرُ إلى الموصل كانا في صُحبتِه, ولَمَّا تولى سيفُ الدين غازي بن عماد الدين زنكي فوَّضَ الأمورَ كُلَّها إلى القاضي كمال الدين وأخيه بالموصِل وجميع مملكته، ثمَّ إنه قبض عليهما في سنة 542 واعتقَلَهما بقلعة الموصل، ثمَّ إن الخليفة المقتفي شَفَعَ فيه وفي أخيه فأُخرِجا من الاعتقال، وقَعَدا في بيوتهما وعليهما الترسيمُ، ولما مات سيف الدين غازي رُفِعَ الترسيم عنهما، ثم انتقل كمال الدين إلى خدمة نور الدين محمود صاحب الشام في سنة 550 الذي احتفى به وأكرم وِفادتَه، فأقام بدمشق، ثم فوَّضَه نور الدين محمود في صفر سنة 555، نظَرَ الجامِعِ ودارَ الضرب وعمارة الأسوار والنَّظَر في المصالح العامة. واستناب ولَدَه وأولاد أخيه ببلاد الشام، وترقَّى القاضي كمال الدين إلى درجة الوزارة، وحَكَم في بلاد الشام في ذك الوقت، واستناب ولَدَه القاضي محيي الدين في الحُكم بمدينة حلب، ولم يكنْ شَيءٌ من أمور الدولة يخرجُ عنه، حتى الولاية وشد الديوان، ولَمَّا مات نور الدين وملك صلاح الدين دمشقَ أقَرَّه على ما كان عليه. وكان فقيهًا أديبًا شاعرًا كاتبًا ظريفًا فَكِهَ المجالسة، يتكَلَّمُ في الخلاف والأصول كلامًا حسنًا، وكان شهمًا جَسورًا كثير الصدقة والمعروف، وقَّفَ أوقافًا كثيرة بالموصل ونصيبين ودمشق، وكان عظيمَ الرياسة خبيرًا بتدبير المُلك، لم يكُنْ في بيته مثلُه ولا نال أحدٌ منهم ما ناله من المناصِبِ مع كثرة رؤساءِ بَيتِه، توفي القاضي كمال الدين في السادس من المحرم من هذه السنة، وقد كان من خيار القضاة وأخصِّ الناس بنور الدين محمود، ولَمَّا حضرته الوفاةُ أوصى بالقضاء لابنِ أخيه ضياء الدين بن تاج الدين الشهرزوري، مع أنَّه كان يجِدُ عليه؛ لِمَا كان بينه وبينه حين كان صلاحُ الدين سَجَنه بدمشق، وكان يعاكِسُه ويخالِفُه، ومع هذا أمضى وصيَّتَه لابن أخيه، فجلس في مجلسِ القضاءِ على عادةِ عَمِّه وقاعدتِه.
وُلد باسييف أو عبد الله شامل كما كان يُسمِّي نفسَه، أو "أبو إدريس" في الشيشان في عام 1965م في قرية ديشني فيدينو الواقعة جنوبَ الشيشانِ، وفي عام 1987م انتسَبَ لمعهد الهندسة في موسكو، وبعد أنْ أتمَّ دراستَه في المعهد التحقَ بالجيش السوفييتي آنذاكَ لأداء الخدمةِ العسكرية، وعاد باسييف إلى الشيشان عقِبَ تفكُّكِ الاتحاد السوفيتي، وحينَ أعْلنَ الرئيس الشيشاني الراحل جوهر دوداييف استقلالَ بلاده عن موسكو في أوائل التسعينيَّات، قام باسييف بتشكيل ما سمَّاه "وَحْدات المجاهدين الخاصة"، والتي وجَّهت نشاطَها بشكلٍ أساسي ضدَّ القوات الروسية، وأجهزتها السريَّة، ثم انضمَّ في وقت لاحقٍ إلى الوَحْدة العسكرية التابعة لكونفدراليَّة الشعوب القوقازية، وشارَكَ في النضال ضدَّ الوجود الروسي في إقليم كاراباخ، وسُرعانَ ما أصبح قائدًا للوَحْدة العسكرية في العام 1992م، وشارَكَ في معركة استقلال أبخازيا عن جورجيا في نفس العام، وفي عام (1994م) ولدى اندلاعِ حربِ الشيشان الأُولى تولَّى باسييف قيادة المجاهِدين الشيشان في مسقط رأسِه "فيدينو"، وبرزَ اسمُه بقوة على ساحة الحرب الشيشانية حين قام مع رِفاقِه باحتجاز مجموعة من الرهائن داخلَ مدرسة في مدينة "بودينوفيسك" في 14 يونيو 1995م، ونجحَ من خلالها في لفت أنظار العالم إلى القضية الشيشانية، وفي عام 1996م انتُخِب "باسييف" قائدًا للقوات الشيشانية المسلَّحة، وأدار الهجماتِ الكبيرةَ التي استهدفت القوات الروسية في العاصمة، عند نهاية الحرب الروسية - الشيشانية الأُولى، وأجبَرَت الهجماتُ موسكو على القَبول بمطالبهم، والانسحاب من الأراضي الشيشانية، وفي العام نفسِه قدَّم استقالَتَه من رئاسة القوات الشيشانية المسلَّحة، وخاض تجربةَ الترشح للانتخابات الرئاسية في بلاده، وحصل على نسبة 32،5% من الأصوات ليحلَّ في المرتبة الثانية، وهو ما جعل الرئيس الشيشاني "أصلان مسخادوف" يُعيِّنُه في منصب رئيس الوزراء، وفي عام (1998م) انتُخِب رئيسًا لكونجرس (مجلس) الشعبين الشيشاني والداغستاني، وأصبح بموجِب قرارٍ من هذا المجلس رئيسًا لمجلس الشورى الإسلامي.
وفي 10-7-2006م أعلن التلفاز الروسي عن مَقتَل شامل باسييف فيما سمَّاه "عملية أمنية"، وبث مشاهدَ لسياراتٍ متفحِّمةٍ، وصورًا لجثة باسييف الذي قال: إنَّه قُتل في انفجار شاحنة خلالَ تواجده في جمهورية أنجوشيا المجاورة للشيشان.
مارست الدولةُ العثمانية سيادتَها على مضيقي البوسفور والدردنيل، وبحر مرمرة، وكانت هذه المضايقُ تصِلُ بين البحر الأسود وبحر إيجة الذي هو جزءٌ من البحر المتوسط، ولم يكن للبحر الأسود مخرجٌ يتَّصِلُ عن طريقه بالبحار العامة إلا عبر هذه المضايق. وقد نجحت الدولةُ العثمانية في فرض سيادتها على هذه المضايق. وبلغ من هيبة الدولةِ العثمانية في فترة قوَّتِها أنَّ الرعايا الروس إذا أرادوا ممارسةَ التجارة بين موانئ البحر الأسود كان عليهم أن ينقلوا بضائِعَهم على سفُنٍ عثمانية تحمِلُ العلم العثماني. ولم يكن لروسيا طريقٌ إلى المياه الدافئة إلا عبر المضايق التي تسيطر الدولةُ العثمانية عليها، وظَلَّ حُلمُ السيطرة على هذه المضايق يراوِدُ روسيا زمنًا طويلًا. وقبل اشتعال الحرب العالمية الأولى ببضعة أشهر حاولت روسيا أن تحتلَّ البوسفور والدردنيل، ولم يكن أمامها سوى افتعالِ أزمة سياسيةٍ مع الدولة العثمانية، ثم تصعيدِها حتى تنقَلِبَ إلى حرب أوروبية تتَّخِذُها روسيا ذريعةً لإرسال قوَّاتِها المسلحة لاحتلال البوسفور والدردنيل في وقتٍ مبكر، ولوضع العثمانيين والأوربيين أمام الأمرِ الواقع، لكِنَّ هذا المخطَّط لم يُكتبْ له التنفيذ؛ لمعارضة بريطانيا له ورغبتِها آنذاك في حلِّ المشكلات الأوربية بالدبلوماسية لا بالحروب. ولَمَّا نشبت الحرب العالمية الأولى انضمَّت الدولة العثمانية إلى جانب ألمانيا والنمسا والمجر في مواجهة إنجلترا وفرنسا وروسيا وإيطاليا. وترتَّب على دخول الدولة العثمانية إلى جانب ألمانيا أن قامت بريطانيا وحلفاؤها بهجومٍ على الدردنيل والبوسفور. وكان موقِفُ روسيا في بدايات الحرب حرجًا للغاية بعد الهزائم المنكَرة التي أنزلتها بها القواتُ الألمانية، وأرادت بريطانيا أن تفتحَ الطريق أمام الأساطيل البريطانية والفرنسية إلى البحر الأسود، وكانت منطقةُ المضايق هي التي تفصل بريطانيا وفرنسا عن روسيا وتحولُ دون إمدادِها بالذخائر والأسلحة التي كانت روسيا في أشَدِّ الحاجة إليها بعد أن استنفدت احتياطيَّها من الذخائر، وانعدمت قدرةُ مصانِعِها على تلبية أكثر من ثُلثِ حاجتها من الذخائر. وكانت بريطانيا غيرَ راغبة في خروجِ روسيا من الحرب وتخشى ذلك، ولم يكن أمامها هي وحلفائها سوى بسط السيطرة العسكرية على منطقة المضايق؛ ضمانًا لإرسال الذخائر والأسلحة إلى روسيا وحثِّها على مواصلة الحرب. وفي الوقت نفسِه كان الاستيلاء على المضايق يشدُّ من أزر الروس ويرفَعُ من معنوياتهم التي انهارت أمام القوَّاتِ الألمانية. وفوق ذلك وعدت بريطانيا روسيا في حالة سيطرتها على منطقة المضايق بأنها ستهدي إليها مدينة استانبول؛ لحثِّها على الثبات والصمود، ولم تكن هناك هديةٌ أعظم من أن تكون المدينة التاريخية بين أنياب الروس. وفي (نوفمبر 1914م) اقترب الأسطول البريطاني من مياه الدردنيل، وهو يمنِّي نفسَه بانتصار حاسم وسريع، وقبل أن تتوغَّل بعضُ السفن البريطانية في مياه مضيق الدردنيل، ألقت بعضُ المدمِّرات قنابِلَها على الاستحكامات العسكرية العثمانية، ولم تتحرَّك هذه القوات للردِّ على هذا الهجوم ووقفت دون مقاومةٍ، الأمرُ الذي بثَّ الثقةَ في رجال الأسطول البريطاني، وأيقنوا بضَعفِ القواتِ العثمانية وعَجزِها عن التصدي لهم، وتهيَّؤوا لاستكمال حملتهم البحرية. وبعد مضي شهرين أو أكثر من هذه العملية توجَّهت قِطَعٌ عظيمة من الأسطول البريطاني إلى الدردنيل، وهي لا تشك لحظةً في سهولة مهمَّتِها، واستأنفت ضربَ الاستحكامات العسكرية الأمامية مرةً أخرى، ثم اقتحم الأسطولُ البريطاني المضيقَ لكنه اصطدم بحقلٍ خفيٍّ من الألغام في مياه الدردنيل، وأصيب الأسطول البريطاني بأضرارٍ بالغة بسبب ذلك، وكان لهذا الإخفاق دويٌّ هائل وصدًى واسع في جميع أنحاء العالم، ولم تحاوِلْ بريطانيا اقتحام الدردنيل بحريًّا مرةً ثانية. فعزَّزت بريطانيا الهجومَ البحري على الدردنيل بهجومٍ بري، على أن يكون دورُ القوات البرية هو الدورَ الأساسي، في حين يقتصر دورُ القوات البحرية على إمداد القوات البرية بما تحتاج إليه من أسلحةٍ وذخائرَ وموادَّ تموينية، ومساعدتها على النزول إلى البر، وحماية المواقع البرية التي تنزل بها. لكنَّ القوات العثمانية نجحت في صَدِّ المهاجمين، واسترداد ما تحت أيدي الإنجليز وتكبيدِهم خسائِرَ فادحة. وانتهت الحرب العالمية الأولى دون أن تنجَحَ القوات البريطانية والفرنسية أو غيرهما في اقتحام المضايق.