في الثَّامِنَ عَشَر مِن رَجَب جُمِعَ القُضاةُ والعُلَماءُ في دارِ الخلافة، وقُرِئَ عليهم كتابٌ كان القادِرُ بالله قد جمع فيه مواعِظَ وتفاصيلَ مذاهِبِ أهلِ البَصرةِ، وفيه الرَّدُّ على أهلِ البِدَع، وتَفسيقُ مَن قال بخَلقِ القُرآنِ، وصِفةُ ما وقع بين بِشرٍ المِريسيِّ وعبد العزيز بن يحيى الكِناني من المناظرة، ثمَّ خُتِمَ القَولُ بالمواعِظِ والقَولِ بالمعروفِ، والنَّهيِ عن المُنكَرِ، وأخَذَ خُطوطَ الحاضرينَ بالمُوافقةِ على ما سَمِعوه، وفي يومِ الاثنينِ غُرَّةَ ذي القَعدةِ جُمِعوا أيضًا كُلُّهم، وقُرِئَ عليهم كتابٌ آخَرُ طويلٌ يتضَمَّنُ بيانَ السُّنَّة، والرَّدَّ على أهلِ البِدَعِ، ومُناظرةَ بِشرٍ المِريسي والكناني أيضًا، والأمر بالمعروفِ والنَّهي عن المنكر، وفَضْل الصحابة، وذِكْر فضائلِ أبي بكرٍ الصِّديقِ وعُمَرَ بنِ الخطَّابِ رَضِيَ الله عنهما، ولم يَفرُغوا منه إلَّا بعد العَتَمةِ، وأُخِذَت خُطوطُهم بموافقةِ ما سَمِعوه، وعَزَلَ خُطَباءَ الشِّيعةِ، وولَّى خُطَباءَ السُّنَّة، وجَرَت فِتنةٌ بمَسجدِ براثا، وضَرَبَ الشِّيعةُ الخطيبَ السُّنِّيَّ بالآجُرِّ، حتى كَسَروا أنفَه وخَلَعوا كَتِفَه، فانتصر له الخليفةُ، وأهانَ الشِّيعةَ وأذَلَّهم، حتى جاؤُوا يَعتَذِرونَ ممَّا صنعوا، وأنَّ ذلك إنَّما تعاطاه السُّفَهاءُ منهم.
كان أَوَّلَهم محمدُ خوارزم شاه بن أنوشتكين، وكان أنوش تكين مَملوكًا لِرَجلٍ من غرشتان ولذلك قِيلَ له: أنوش تكين غرشه، فاشتَراهُ منه أَميرٌ من السَّلجوقيَّة اسمُه بلكابل، وكان أنوشتكين حَسَنَ الطَّريقةِ فكَبُرَ وعَلَا مَحِلُّهُ، وصار أنوشتكين مُقَدَّمًا مَرجُوعًا إليه، ووُلِدَ له محمد خوارزم شاه المذكور، فرَبَّاهُ والِدُه أنوشتكين وأَحسَنَ تَأدِيبَه، فانتَشَأ محمدٌ عارِفًا أَدِيبًا، وتَقدَّم بالعِنايَةِ الأَزَلِيَّةِ، واشتُهِرَ بالكِفايَةِ وحُسْنِ التَّدبيرِ، فلمَّا قَدِمَ الأَميرُ داذا الحبشيُّ إلى خُراسان وهو مِن أُمراءِ بركيارق؛ كان قد أَرسلَهُ بركيارق لِتَهدِئَةِ أَمرِ خُراسان؛ بسَببِ فِتنَةٍ كانت قد وَقعَت فيها من الأَتراكِ، قُتِلَ فيها النائِبُ علي خوارزم، فوَصلَ داذا وأَصلحَ أَمرَ خوارزم، واستَعملَ على خوارزم في هذه السَّنَةِ محمدَ بن أنوشتكين المذكورَ، ولَقَّبَهُ خوارزم فقَصَرَ محمدٌ أَوقاتَهُ على مَعْدَلَةٍ يَنشُرُها ومَكْرَمَةٍ يَفعلُها، وقَرَّبَ أَهلَ العِلمِ والدِّينِ، فَعَلَا مَحِلُّهُ وعَظُمَ ذِكرُه، ثم أَقَرَّهُ السُّلطانُ سنجر على وِلايَةِ خوارزم، وعَظُمَت مَنزِلَةُ محمد خوارزم شاه المذكور عند السُّلطانِ سنجر، ولمَّا تُوفِّي خوارزم شاه محمد، وَلِيَ بعدَه ابنُه أطسز فمَدَّ غِلالَ الأَمنِ وأَفاضَ العَدلَ.
حاصر عسكر علي بن يحيى، صاحب إفريقية، مدينة تونس، وبها أحمد بن خراسان، وضَيَّق على من بها، فصالحه على ما أراد وفتح أيضًا جبل وسلات بإفريقية، واستولى عليه، وهو جبل منيع، ولم يزل أهله طول الدهر يفتكون بالناس، ويقطعون الطريق، فلما استمَرَّ ذلك منهم سيَّرَ إليهم جيشًا، فكان أهل الجبل ينزلون إلى الجيش، ويقاتلون أشد قتال، فعمل قائد الجيش الحيلةَ في الصعود إلى الجبل من شعب لم يكن أحد يظن أنه يُصعد منه، فلما صار في أعلاه في طائفة من أصحابه ثار إليه أهل الجبل، فصبر لهم، وقاتلهم فيمن معه أشد قتال، وتتابع الجيش في الصعود إليه، فانهزم أهل الجبل، وكثُرَ القتل فيهم، ومنهم من رمى نفسه فتكسر، ومنهم من أفلت، واحتمى جماعة كثيرة منهم بقصر في الجبل، فلما أحاط بهم الجيش طلبوا أن يرسل إليهم من يصلح حالهم، فأرسل إليهم جماعة من العرب والجند، فثار بهم أولئك بالسلاح، فقتلوا بعضهم، وطلع الباقون إلى أعلى القصر، ونادوا أصحابهم من الجيش، فأتوهم وقاتلوهم بعضُهم من أعلى القصر، وبعضهم من أسفله، فقتلوا كلَّ من في الجبل.
لما توفي السلطان محمود سار السلطان سنجر إلى بلاد الجبال، ومعه الملك طغرل بن السلطان محمد، وكان عنده قد لازمه، فوصل إلى الريِّ، ثم سار منها إلى همذان، فوصل الخبر إلى الخليفة المسترشد بالله والسلطان مسعود بوصوله إلى همذان، فاستقرَّت القاعدة بينهما على قتال سنجر، وأن يكون الخليفةُ معهم، وتجهَّز الخليفة، وقُطِعت خطبة سنجر من العراق جميعِه، ووصلت الأخبار بوصول عماد الدين زنكي ودبيس بن صدقة إلى قريب بغداد، فأما دبيس فإنه ذكر أن السلطان سنجر أقطعه الحلة، وأرسل إلى المسترشد بالله يضرع ويسأل الرضا عنه، فامتنع من إجابته إلى ذلك، وأما عماد الدين زنكي فإنه ذكر أن السلطان سنجر قد أعطاه شحنكية بغداد، فعاد المسترشد بالله إلى بغداد، وأمر أهلها بالاستعداد للمدافعة عنها، وجنَّد أجنادًا جعلهم معهم، ثم إنَّ السلطان مسعودًا وصل إلى دادمرج، فلَقِيهم طلائع السلطان سنجر في خلق كثير، وأما سنجر ومسعود فالتقى عسكراهما بعولان، عند الدينور، وكان مسعود يدافع الحرب انتظارًا لقدوم المسترشد، ووقعت الحرب، وقامت على ساق، وكان يومًا مشهودًا؛ فانهزم السلطان مسعود وسَلِمَ من المعركة، وكانت الوقعة ثامن رجب.
تجهَّز الحلبيُّون لقتال صلاح الدين، فاستدعى صلاحُ الدين عساكر مصر، فلما وافته بدمشقَ في شعبان سار في أوَّل رمضان، فلَقِيَهم في عاشر شوال، وكانت بينهما وقعةٌ تأخَّرَ فيها السلطان سيف الدين غازي بن نور الدين محمود صاحِبُ الموصل، فظَنَّ الناس أنَّها هزيمة، فولَّت عساكرهم، وتَبِعَهم صلاح الدين، فهلك منهم جماعةٌ كثيرة، وملك خيمةَ غازي، وأسر عالَمًا عظيمًا، واحتوى على أموالٍ وذخائر وفُرُش وأطعمة وتُحَف تجلُّ عن الوصفِ، وقَدِمَ عليه أخوه الملك المعظم شمس الدولة توران شاه بن أيوب من اليمن، فأعطاه سرادقَ السلطان غازي بما فيه من الفُرُش والآلات، وفَرَّق الإسطبلات والخزائِنَ على مَن معه، وخلع على الأسرى وأطلَقَهم، ولحِقَ سيف الدين غازي بمن معه، فالتجؤوا جميعًا لحلب، ثم سار إلى الموصل وهو لا يُصَدِّقُ أنه ينجو، وظنَّ أن صلاح الدين يَعبُرُ الفرات ويقصِدُه بالموصل، ورحل صلاحُ الدين ونزل على حلب في رابع عشر شوال، فأقام عليها إلى تاسِعَ عَشَرِه، ورحل إلى بزاعة، وقاتَلَ أهل الحصنِ حتى تسَلَّمه، وسار إلى منبج، فنزل عليها يوم الخميس رابع عشرٍ منه.
قَدِمَ السلطانُ علاء الدين خوارزم شاه محمد بن تكش من همدان قاصدًا بغداد في أربعمائة ألف مقاتل، وقيل في ستمائة ألف، فاستعَدَّ له الخليفة واستخدم الجيوَش وأرسل إلى الخليفةِ يطلُبُ منه أن يكون بين يديه على قاعدةِ مَن تقَدَّمه من الملوك السلاجقة، وأن يَخطُبَ له ببغداد، فلم يجِبْه الخليفة إلى ذلك، وأرسل إليه الشيخ شهاب الدين السهروردي، فلما وصل شاهدَ عند خوارزم شاه من العظمةِ وكثرة الملوك بين يديه وأخذَ السهروردي في خطبةٍ هائلة فذكر فيها فضلَ بني العباس وشرَفَهم، والترجمان يعيد على السلطانِ خوارزم شاه، فقال السلطانُ أمَّا ما ذكرتَ مِن فضل الخليفة فإنَّه ليس كذلك، ولكني إذا قَدِمتُ بغداد أقمتُ من يكون بهذه الصِّفة، وانصرف السهروردي راجعًا، وأرسل الله تعالى على خوارزم شاه وجنده ثلجًا عظيمًا ثلاثة أيام حتى طَمَّ الخيامَ والخراكي -لفظ فارسيٌّ يعني بيتًا من الخشب- ووصل إلى قريب رؤوس الأعلام، وتقطَّعت أيدي رجالٍ وأرجُلُهم، وعَمَّهم من البلاء ما لا يُحَدُّ ولا يوصف، فمات كثيرٌ من الدواب والرجال، فلم يحقِّق خوارزم شاه ما جاء لأجلِه، وخاف أن يتغلَّب التَّترُ على بلاده؛ إذ قد بدأوا بالتحرُّك، فرجع إلى بلاده!
بعد وفاة الملك الكامل محمد سنة 635 (1238م) تعرضت الدولة الأيوبية في مصر والشام لخطر الانقسام والفوضى، فاستولى الصالح نجم الدين أيوب على دمشق سنة 636 (1239م)، وكان هذا إيذانًا بدخوله في صراعٍ مع أخيه الملك العادل الصغير بن الكامل الذي خلَف أباه على حكم مصر والشام، واستعان كلٌّ منهما بأنصارٍ مِن البيت الأيوبي للوقوفِ في وجه الآخر، وفي غمرة الصراع قفَزَ عمُّهما الصالح إسماعيل على دمشق واستولى عليها، وطرد الصالحَ أيوب منها، والذي وقع في قبضة الناصرِ داود بن الملك المعظم صاحب الأردن والكرك، ثمَّ لم يلبث أن أفرَجَ عنه، واتفقا معًا على القيام بحملةٍ عسكرية على مصر والاستيلاء عليها من قبضة العادِلِ الصغير, وقد كانت الظروفُ مُهَيَّأة تمامًا لنجاح حملة الصالحِ أيوب؛ فكبار أمراء العادلِ الصغير مستاؤون منه لاحتجابه عنهم، وانشغاله باللهو واللعب عن تدبير شئون الدولة، فقبضوا على سلطانهم اللاهي واستدعوا أخاه الصالح نجم الدين أيوب لتولي مقاليد البلاد الذي دخل القاهرة في 25 ذي الحجة 637 (17 يوليو 1238م) وجلس على عرشها، واستأثر بها دون الناصر داود.
لَمَّا قُتِلَ المَلِكُ الأشرَفُ صلاحُ الدين خليلُ بن قلاوون بالقُربِ مِن تروجة، وعدى الأميرُ زين الدين كتبغا والأمراء، اجتمَعَ بهم الأميرُ علم الدين سنجر الشجاعي ومن كان بالقاهرةِ والقلعة من الأمراء الصالحيَّة والمنصورية، وقرَّروا سلطنةَ الناصر محمد بن قلاوون وأحضروه وعُمُرُه تسعُ سنين سوى أشهر في يومِ السبت سادس عشر المحرم وأجلَسوه على سريرِ السلطنة، ورتَّبوا الأمير زين الدين كتبغا نائب السلطنة عِوَضًا عن بيدرا، والأميرَ علم الدين سنجر الشجاعي وزيرًا ومدبرًا عِوَضًا عن ابن السلعوس، والأميرَ حُسام الدين لاجين الرومي الأستادار أطابكَ العساكر، والأميرَ رُكنَ الدين بيبرس الجاشنكير أستادارا، والأميرَ ركن الدين بيبرس الدوادار دوادارًا، وأعطِيَ إمرةَ مائة فارس وتقدمة ألف، وجعل إليه أمر ديوان الإنشاء في المكاتَباتِ والأجوبة والبريد، وأنفق في العسكرِ وحَلَفوا فصار كتبغا هو القائِمَ بجميع أمورِ الدولة، وليس للمَلِكِ الناصِرِ مِن السلطنة إلا اسمُ المَلِك من غيرِ زيادةٍ على ذلك، وسكن كتبغا بدارِ النيابة من القلعةِ، وجعل الخوانَ يُمَدُّ بين يديه.
أمر السلطان المؤيد شيخ المحمودي ولده المقام الصارمي إبراهيم ليتوجه إلى أبلستين ومعه الأمير جقمق الأرغون شاوي الدوادار، وجماعة من الأمراء؛ لكبس الأمير ناصر الدين محمد بن دلغادرة فساروا مجِدِّين، فصبَّحوا أبلستين وقد فرَّ منها ابن دلغادر، وأجلى البلاد من سكانها، فجدوا في السير خلفه ليلًا ونهارًا حتى نزلوا بمكان يقال له كل دلي في يوم الخامس عشر من ربيع الآخر وأوقعوا بمن فيه من التركمان، وأخذوا بيوتهم وأحرقوها، ثم مضَوا إلى خان السلطان، فأوقعوا أيضًا بمن كان هناك وأحرقوا بيوتهم وأخذوا من مواشيهم شيئًا كثيرًا، ثم ساروا إلى مكان يقال له صاروس ففعلوا بهم كذلك، وباتوا هناك، ثم توجهوا يوم السادس عشر فأدركوا ناصر الدين بك بن دلغادر وهو سائر بأثقاله وحريمه، فتتبعوه وأخذوا أثقاله وجميع ما كان معه، ونجا ابن دلغادر بنفسه على جرائد الخيل، ووقع في قبضتهم عدة من أصحابه، ثم عادوا إلى السلطان المؤيد بالغنائم، ومن جملتها مائة جمل بختي وخمسمائة جمل نفر، ومائة فرس، هذا سوى ما نهب وأخذه العسكر من الأقمشة الحرير، والأواني الفضية ما بين بلور وفضيات وبسط وفرش، وأشياء كثيرة لا تدخل تحت حصر.
الأمير سيف الدين سودون بن عبد الله النوروزي حاجب حُجَّاب دمشق, ويعرف بسودون العجمي أحد العشرات ورؤوس النوب، ممن تأمَّر في أيام الظاهر جقمق. من مماليك الأمير نوروز الحافظي، وتنقَّلت به الأحوال بعد موت أستاذه إلى أن صار في الدولة الأشرفية برسباي دوادار السلطان بحلب، وأمير مائة ومقدم ألف بها، ودام على ذلك مدة طويلة بحلب، إلى أن نقله الملك الظاهر جقمق إلى حجوبية الحجَّاب بدمشق، بعد الأمير برسباي من حمزة الناصري بحكم انتقالِه إلى نيابة طرابلس، بعد قاني باي الحمزاوي المنتَقِل إلى نيابة حلب بعد انتقالِ نائبها الأمير جلبان إلى نيابة دمشق بعد موت آقبغا التمرازي في سنة 843. واستمر سودون في حجوبية دمشق مدة طويلة، وقدِمَ القاهرة على الملك الظاهر جقمق بتقاديم هائلة، ثم عاد مستمرًّا على حجوبيته، ونالته السعادة، واستمرَّ إلى أن توفي بدمشق في سنة 847, وكان متوسطَ السيرة لا بأس به، وتولى الحجوبية من بعده الأمير جانبك نائب قلعة دمشق، الذي كان دوادار الأمير برسباي حاجب حجَّاب دمشق الذي هو الآن نائب طرابلس, وسودون هذا غير الأمير سودون بن عبد الله المحمدي الشهير بتلي المتوفي سنة 818.
هو الملك محمد الثالث بن عبد الله بن إسماعيل ملك العلويين في المغرب الأقصى، وكانت عاصمتُه مراكش، ولد بمكناس سنة 1134. تولى الحكم سنة1171 في ظروف صعبة بعد اضطراباتٍ، وقد تميَّزَ بالعقل والرزانة وبُعدِ النظر، اجتهَدَ في المحافظة على بلادِه ووَحدتِها وتأمينِ الشواطئ المغربية من العدوان الأوروبي، وحرَّر مازاغان من يد البرتغاليين، وانتصر على الجيش الفرنسي في معركة العرائش سنة1179, وكان أول حاكمٍ يعترف باستقلالِ وسيادة الولايات المتحدة الأمريكية, ورفَضَ ربطَ علاقات دبلوماسية مع روسيا؛ بسبب محاربتها للدولة العثمانية، وبعث بالعديدِ مِن السفراء لاسترجاعِ المخطوطات العربية من إسبانيا, وداخليًّا كان دائمَ التنقُّل بين جهات مملكته الواسعة؛ ليطمئِنَّ على أحوال البلاد, وشَهِدَ عهدُه أوجَ الازدهار السياسي والعسكري والاقتصادي والثقافي للمغرب الأقصى. تمرد وثار عليه عدةَ مراتٍ ابنُه وولي عهده يزيد، فنفاه في مشرق البلاد. توفِّيَ محمد الثالث في طريقِه إلى ابن عمه الذي خرج عن طاعتِه، فلما توفِّيَ تنازع أبناؤه الأربعة على خلافتِه، وهم هشام، ويزيد، وسليمان، ومَسلمة، حتى تمكَّن يزيد الأول أن يَخلُف أباه في الحُكم.
لَمَّا رجع الشريف بعد حملتِه غيرِ الموفَّقة على قصر الشعراء في أعالي نجد، انفرد عن كثير من البوادي وأكثرهم من مطير وقبائل شمر ورئيسهم مسعود الملقَّب حصان إبليس، وانحازوا إلى ماء معروف بالعدوة لشمر قُربَ حائل، فنهض لهم الأمير سعود بن عبد العزيز واستنفر أهلَ نجد البادي والحاضر، فسار بجنوده حتى نازلهم في تلك الناحية ووقع بينهم قتالٌ شديد، فانهزمت تلك البوادي وقُتِل منهم قتلى كثير من بينهم قائدُهم حصان إبليس، وغنم الأمير سعود منهم غنائِمَ عظيمةً، فلما انهزم هؤلاء البوادي وأُخِذت أموالهم استنفروا من يليهم من قبائلِهم ممَّن لم يحضر الوقعة، وأرسلوا إلى سعود يدعونه للمنازلة، فأقبلوا إليه وهو يقسم الغنائم في العدوة، فثبت لهم سعود وجنودُه وأوقدوا فيهم وفي إبِلِهم بالبارودِ والرصاص، فلما أراد مُقَدَّمهم مسلط بن مطلق الحربا أن يطأ بفرسِه بساطَ سعود ليفيَ بنَذرِه، اختطفه جنودُ سعود وأردوه قتيلًا، فانهزمت البوادي لا يلوي أحدٌ على أحدٍ، وتركوا إبِلَهم مقرونةً بالحبال فغَنِمَها سعود وجميعَ ما معهم من الغنم والمتاع، ثم أخذوا في مطاردتهم يومين يأخذون الأموال ويقتلون الرجال.
أثناء معارك القصيم مع ابن رشيد أصبح وضع الملك عبد العزيز بن سعود قويًّا خاصةً بعد معركة الشنانة. واتضح للعثمانيين فشَلُ تجربتهم العسكرية في تلك المنطقة، وأدركوا أنَّ الأمر ليس بالسهولة التي صوَّرها لهم ابنُ رشيد، وأنَّ عليهم مراجعةَ حساباتهم تجاه الملك عبدالعزيز الذي اتضح أنه يتمتَّعُ بشعبية واسعة في القصيم وفي نجد كلها، فأرادت الدولة أن يكون لها يدٌ داخِلَ الجزيرة بالتدخُّل في حلِّ مشكلة القصيم سلميًّا بين الطرفين، فأرسلت أحمد فيضي باشا، وصدقي باشا، وطلبا من مبارك أن يتوسَّط لهم عند الإمام عبد الرحمن بن فيصل؛ من أجل قبول حاميات الدولة في القصيم، وأن تكون القصيم على الحياد بين ابن رشيد والملك عبدالعزيز، وقَبِلَ عبد الرحمن هذا العرضَ بشرط أن يعرِضَه على أهل نجد وابنه عبد العزيز، إلَّا أن أهل نجد رفضوا فكرة بقاء القصيم على الحياد، وكذلك رفضوا وجودَ أي حامية للدولة العثمانية في القصيم، ففَشِلت محاولاتُ المفاوضات خاصَّةً بعد ثورة الإمام يحيى حميد الدين في صنعاء ضِدَّهم فاضطرت الدولةُ العثمانية أن تكَلِّفَ أحمد فيضي باشا بالتوجُّه إلى اليمن سريعًا.
هو الشيخُ العلَّامة حافظ بن أحمد بن علي الحكمي، ولد في 24 رمضان سنة 1342هـ في قرية السلام في جازان، نشأ بدويًّا يرعى الغَنَم. بدأ تعلُّمَه في سن مبكرةٍ، وكان آيةً في الحِفظِ؛ فحفظ القرآن وبعض المتون وهو يرعى الغنم صغيرًا، ثم قيَّض الله له الداعية الشيخ عبد الله القرعاوي الذي اهتَمَّ به فأفاده من علومِه وفقهِه، ثم اشتهر بالعلمِ ولمع نجمُه، حتى أصبح معلِّمًا، ثم تولى النيابةَ في إدارة مدارس التعليم بسامطة، ثم عُين مديرًا للمعهد العلمي فيها 1374هـ، واستمَرَّ إلى أن توفِّيَ بمكة. ومن مؤلَّفاته: ((سُلَّم الوصول إلى علم الأصول)) في فن التوحيد، وهي منظومة شرحها في ((معارج القبول))، و ((أعلام السنة المنشورة لاعتقاد الطائفة المنصورة))، و ((دليل أرباب الفلاح لتحقيق فن الاصطلاح)) في مصطلح الحديث، و ((اللؤلؤ المكنون في أحوال الأسانيد والمتون))، وهو نظم فريد، و ((السبل السوية لفقه السنن المروية))، وهو نظم أيضًا، فقد كان بارعًا في النظم والشعر، وغيرها، ومعظَمُ مؤلَّفاته طُبِعَت على نفقة الملك سعود رحمه الله، وأما وفاته رحمه الله فكانت في اليوم 18 ذي الحجة على إثر مرض ألمَّ به وهو في الخامسة والثلاثين من عمره ودُفِنَ بمكة المكرمة.
كان مِن آثارِ هِجرتِه صلى الله عليه وسلم وأصحابِه إلى المدينةِ تلك المُؤاخاةُ التي حَدثت بين المُهاجرين والأنصارِ رضي الله عنهم، حتَّى كان يَرِثُ بعضُهم بعضًا في أوَّلِ الأمرِ. فعنِ ابنِ عبَّاسٍ رضِي الله عنهما: {وَلِكُلٍّ جَعَلْنَا مَوَالِيَ} قال: «وَرَثَةً»: {وَالَّذِينَ عَاقَدَتْ أَيْمَانُكُمْ} قال: " كان المُهاجِرون لمَّا قَدِموا المدينةَ يَرِثُ المُهاجِرُ الأنصاريَّ دون ذَوِي رَحِمِهِ؛ لِلأُخُوَّةِ التي آخى النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم بينهم، فلمَّا نزلت: {{وَلِكُلٍّ جَعَلْنَا مَوَالِيَ} نسَختْ". ثمَّ قال: {وَالَّذِينَ عَاقَدَتْ أَيْمَانُكُمْ} «إلَّا النَّصرَ، والرِّفادَةَ، والنَّصيحةَ، وقد ذهب الميراثُ، ويوصي له».
وعن أنسٍ قال: لمَّا قَدِمَ النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم المدينةَ أتاهُ المُهاجرون فقالوا: يا رسولَ الله، ما رَأينا قومًا أَبْذَلَ مِن كثيرٍ، ولا أحسنَ مُواساةً مِن قليلٍ مِن قومٍ نزلنا بين أَظهُرهِم، لقد كَفَوْنا المُؤنَةَ وأشرَكونا في المَهْنَإِ حتَّى لقد خُفْنا أن يَذهبوا بالأجرِ كُلِّهِ. فقال النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم: «لا ما دَعَوتُم الله لهم، وأَثْنَيْتُم عليهِم».
وقال عبدُ الرَّحمنِ بنُ عَوفٍ رضي الله عنه: لمَّا قَدِمْنا المدينةَ آخى رسولُ الله صلى الله عليه وسلم بيني وبين سعدِ بنِ الرَّبيعِ، فقال سعدُ بنُ الرَّبيعِ: إنِّي أَكثرُ الأنصارِ مالًا، فَأَقْسِمُ لك نِصفَ مالي، وانْظُرْ أيَّ زَوجتيَّ هَوِيتَ نَزلتُ لك عنها، فإذا حَلَّتْ تَزوَّجتَها. قال: فقال له عبدُ الرَّحمنِ: لا حاجةَ لي في ذلك، هل مِن سوقٍ فيه تِجارةٌ؟ قال: سوقُ قَيْنُقاعٍ. قال: فغَدا إليه عبدُ الرَّحمنِ، فأتى بأَقِطٍ وسَمْنٍ، قال: ثمَّ تابع الغُدُوَّ، فما لَبِثَ أن جاء عبدُ الرَّحمنِ عليه أثرُ صُفْرَةٍ، فقال رسولُ الله صلى الله عليه وسلم: «تَزوَّجتَ؟». قال: نعم. قال: «ومَن؟»، قال: امرأةً مِنَ الأنصارِ. قال: «كَم سُقْتَ؟»، قال: زِنَةَ نَواةٍ مِن ذَهبٍ -أو نَواةً مِن ذَهبٍ- فقال له النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم: «أَوْلِمْ ولو بِشاةٍ».