هو السُّلطانُ الأَميرُ شَرفِ الدَّولةِ أبو المَكارِمِ مُسلِمُ بن مَلِكِ العَربِ أبي المعالي قُريشِ بن بدران بن مُقَلَّدٍ حُسام الدَّولةِ أبي حَسَّان بن المُسَيِّب بنِ رافعٍ العقيليُّ, كان يَتَرَفَّض كأَبيهِ, ونَهَبَ أَبوهُ دارَ الخِلافَةِ في فِتنَةِ البساسيري، وأَجارَ القائمَ بالله, وماتَ سَنةَ 453هـ كَهْلًا، فقامَ شَرفُ الدولةِ بعدَه، واستَولَى على دِيارِ رَبيعةَ، ومُضَر، وتَمَلَّكَ حَلَب، وأَخذَ الحملَ والإتاوةَ من بلادِ الرُّومِ في أنطاكية، ونَحوِها. وسار إلى دِمشقَ فحاصَرَها. وكان قد تَهَيَّأَ له أَخذُها، فبَلغَه أنَّ حران قد عَصَى عليه أَهلُها، فسار إليهم، فحارَبَهم وحارَبوهُ، فافتَتَحها وبَذلَ السَّيْفَ، وقَتَلَ بها خِلْقًا من أَهلِ السُّنَّةِ. قال الذهبيُّ: "كان رافِضِيًّا خَبِيثًا، أَظهرَ ببِلادِه سَبَّ السَّلَفِ، واتَّسَعَت مَملكتُه، وأَطاعَتهُ العَربُ، واستَفحلَ أَمرُه حتى طَمِعَ في الاستِيلاءِ على بغداد بعدَ وَفاةِ طُغرلبك. وكان فيه أَدَبٌ، وله شِعرٌ جَيِّدٌ. وكان له في كلِّ قَريةٍ قاضٍ، وعاملٌ، وصاحِبُ خَبَرٍ. وكان أَحْوَلَ، له سِياسَةٌ تامَّةٌ. وكان لِهَيْبَتِه الأَمنُ وبعضُ العَدلِ في أيامِه مَوجودًا. وكان يَصرِف الجِزيةَ في بِلادِه إلى العَلَوِيِّين". وهو الذي عَمَّرَ سُورَ المَوصِل وشَيَّدَها في سِتَّةِ أَشهُر من سَنةِ 474هـ. ثم إنه جَرَى بينه وبين السُّلطانِ سُليمان بن قتلمش السلجوقي مصاف على بابِ أنطاكية، كان سُليمانُ بن قتلمش قد مَلَكَ مَدينةَ أنطاكية، فلمَّا أَرسلَ إليه شَرفُ الدولةِ مُسلمَ بن قريش يَطلُب منه ما كان يَحمِلُه إليه الفردوس من المالِ، أَجابهُ بأن المالَ الذي كان يَحمِلُه صاحِبُ أنطاكية فإنَّما هو لِكَونِه كافرًا، وكان يَحمِل جِزيةَ رَأسِه وأَصحابِه، وهو بِحَمدِ الله مُؤمنٌ، فنَهَبَ شَرفُ الدولةِ بَلدَ أنطاكية، فنَهبَ سُليمانُ أيضًا بَلدَ حَلَب، فلَقِيَهُ أَهلُ السَّوادِ يَشكُون إليه نَهْبَ عَسكرِه، فقال:أنا كنتُ أَشَدَّ كَراهِيةً لما يَجرِي، ولكنَّ صاحِبَكم أَحوَجَني إلى ما فَعلتُ، ولم تَجرِ عادَتي بنَهبِ مالِ مُسلمٍ، ولا أَخْذِ ما حَرَّمَتهُ الشَّريعةُ. وأَمَرَ أَصحابَه بإعادَةِ ما أَخذوهُ منهم، فأَعادَهُ، ثم إن شَرفَ الدولةِ جَمعَ الجُموعَ من العَربِ والتُّركمانِ، وسار إلى أنطاكية لِيَحصرَها، فلمَّا سَمِعَ سُليمانُ الخَبرَ جَمعَ عَساكِرَه وسار إليه، فالتَقَيا في طَرفٍ من أَعمالِ أنطاكية، واقتَتَلوا، فانهَزمَت العَربُ، فتَبِعَهم شَرفُ الدولةِ مُنهَزِمًا، ثم قُتِلَ، وله بِضعٌ وأَربعون سَنَةً. ولما قُتِلَ قَصدَ بَنُو عُقيلٍ أَخاهُ إبراهيمَ بنَ قُريشٍ، وهو مَحبوسٌ، فأَخرَجوهُ ومَلَّكوهُ أَمرَهُم، وكان قد مَكثَ في الحَبسِ سِنينَ كَثيرةً بحيث إنَّه لم يُمكِنهُ المَشيُ والحَركةُ لمَّا أُخرِجَ، ثم سار سُليمانُ بن قتلمش إلى حَلَب فحَصرَها مُستَهلَّ رَبيعٍ الأوَّلِ، فأَقامَ عليها إلى خامسِ رَبيعٍ الآخرَ، فلم يَبلُغ منها غَرَضًا، فرَحلَ عنها.
هو هولاكو خان بن تولي خان بن جنكيز خان ملك التتار بن ملك التتار، وهو والِدُ مُلوكِهم، والعامَّةُ يقولون هولاوون مثل قلاوون، وقد كان هولاكو ملكًا جبارًا فاجرًا كفَّارًا- لعنه الله- قتل من المسلمين شرقًا وغربًا ما لا يَعلَمُ عَدَدَهم إلَّا الذي خلقهم، وسيجازيه على ذلك شَرَّ الجزاء، كان لا يتقيَّدُ بدين من الأديان، وإنما كانت زوجتُه تنصَّرَت وكان هو يترامى على محبَّة المعقولات، ولا يتصوَّر منها شيئًا، قال الشيخ قطب الدين: "كان من أعظَمِ ملوك التتار، وكان شجاعًا حازمًا مدبِّرًا، ذا همة عالية، وسطوةٍ ومهابة، ونهضةٍ تامة، وخبرة بالحروب، ومحبَّة في العلوم العقلية من غير أن يتعقَّل منها شيئًا، وكان أهلُها من أفراخ الفلاسفة لهم عنده وجاهة ومكانة، اجتمع له جماعة من فضلاء العالم، وجمع حُكماء مملكته، وأمَرَهم أن يرصدوا الكواكب. وكان يطلق الكثيرَ من الأموال والبلاد. وهو على قاعدةِ المغول في عدم التقيدِ بدين، لكن زوجته ظفر خاتون قد تنصَّرَت، وكانت تفضِّلُ النصارى على سائر الخلق، وكان سعيدًا في حروبه وحصاراته. طوى البلاد، واستولى على الممالكِ في أيسرِ مدة، وهزم الجيوش، وأباد الملوك، وقتل الخليفةَ، وأمراء العراق، وصاحبَ الشام، وصاحب ميافارقين". كانت همته في تيسير مملكتِه وتملك البلاد شيئًا فشيئًا، قال النجم أحمد بن البواب النقاش: "عزم هولاكو على زواجِ بنت ملك الكرج، فقالت له: حتى تُسلِمَ، فقال: عرفوني ما أقولُ, فعرضوا عليه الشهادتينِ فأقَرَّ بهما، وشَهِدَ عليه بذلك الفيلسوف الخواجة نصير الدين الطوسي، وفخر الدين المنجم. فلما بلغها ذلك أجابت. فحضر القاضي فخر الدين الخلاطي، فتوكَّل لها النصير، وللسلطان الفخر المنجم، وعقدوا العقدَ باسم تامار خاتون بنت الملك داود بن إيواني على ثلاثين ألف دينار، قال لي ابن البواب: وأنا كتبت الكتابَ في ثوب أطلس أبيض، فعَجِبتُ مِن إسلامه. قلت(الذهبي): إن صحَّ هذا فلعله قالها بفمه لعَدَمِ تقيُّدِه بدين، ولم يدخُلِ الإسلامُ إلى قلبه، فالله أعلم". هلك بمرض الصَّرعِ واجتمعت التتار على ولده أبغا، كان هلاكُه في سابع ربيع الآخر بعلَّة الصرع، فإنه حصل له الصرعُ منذ قتل الملك الكامل صاحب ميافارقين، فكان يعتريه في اليوم المرَّة والمرتين, ولما عاد من كسرةِ ابن عمه بركة خان له أقام يجمع العساكر، وعزم على العَودِ لقتال بركة خان، فزاد به الصرعُ، ومرض نحوًا من شهرين، وهلك، فأخفَوا موته، وصبروه، وجعلوه في تابوت، ثم أظهروا موتَه. وكان موته بمدينة مراغة، ودفن بقلعة تلا, وبنيت عليه قبة, وكان ابنه أبغا غائبًا فطلبوه ثمَّ مَلَّكوه، وقيل كان موتُه في سنة 664هـ.
هو شيخُ الفَلسفةِ الحَكيمُ أبو نصر محمَّدُ بنُ محمد بن طرخان بن أوزلغ التركي الفارابي المنطقيُّ، من كبار الفلاسفة، قال الذهبي: "أحدُ الأذكياء. له تصانيفُ مشهورة, من ابتغى الهُدى منها ضَلَّ وحار, منها تخرَّجَ ابنُ سينا, نسأل الله التوفيق". تعلَّم اليونانية, ولقِيَ متَّى بن يونس فأخذ عنه, وسار إلى حرَّان فلزم بها يوحنَّا بن جيلان النصراني فتعلَّمَ عليه المنطِقَ, وقد أحكم أبو نصرٍ العربيَّةَ بالعراقِ، رحل إلى دمشق ثم حلب، يُعتبَرُ مساويًا لأرسطو في الفلسفة، ويعتبِرُ البعض أنَّ الفارابي هو مترجِمٌ لِمَا كان عليه أرسطو، كما أنَّ له مُشاركةً في الطبِّ والموسيقى، وهو من اخترع آلةَ القانون الموسيقيَّة المعروفة اليوم، وكان يحِبُّ الوَحدةَ, وكان يتزهَّدُ زُهدَ الفلاسفة، ولا يحتفِلُ بملبسٍ ولا منزلٍ, أجرى عليه ابنُ حمدان في كلِّ يومٍ أربعة دراهم. من تصانيفِه: آراءُ أهل المدينة الفاضلة، وجوامع السياسة، والمدخل إلى صناعة الموسيقى، وغير ذلك من الكتُب، توفِّيَ في طريقه إلى عسقلان؛ حيث قتله اللصوصُ، فنُقِلَ إلى دمشق وصلَّى عليه سيفُ الدولة الحمداني، ودفن بظاهر دمشق عن عُمرٍ يناهز الثمانينَ.
هو نقيبُ العَلَويِّينَ، أبو الحسَنِ محمَّدُ بنُ الحُسَينِ بنِ موسى بنِ مُحمَّد بنِ إبراهيم بن موسى الكاظمِ الحُسيني المُوسَوي البغدادي الشِّيعي، الشاعِرُ المُفلِق، الذي يقالُ: إنَّه أشعَرُ قُرَيشٍ، قال ابنُ خَلِّكانَ: "هو أشعَرُ الطالبيِّينَ مَن مضى منهم ومَن غَبَر، على كثرةِ شُعَرائِهم المُفلِقينَ، ولو قُلتُ: إنَّه أشعَرُ قُرَيشٍ لم أُبعِدْ عن الصِّدقِ". وُلِدَ ببغداد سنة 359ه، وتعلَّمَ فيها وبرَعَ في اللُّغةِ والأدَبِ والفِقهِ، وابتدأ بنَظمِ الشِّعرِ وله عشرُ سنين، وكان مُفرِطَ الذَّكاءِ، ولَّاه بهاءُ الدَّولة البُويهيُّ نقابةَ الطَّالبيِّينَ وسَمَّاه الشَّريفَ الرَّضيَّ، كان أبوه يتولَّى نقابةَ نُقَباءِ الطَّالبيِّينَ، ويحكُمُ فيهم أجمعين، والنَّظَر في المظالم، ثمَّ رُدَّت هذه الأعمالُ كُلُّها إلى ولَدِه الرَّضِيِّ في سنة 388 وأبوه حيٌّ. له أشعارٌ وتصانيفُ، منها: معاني القرآن، ومجاز القرآن، وهو الذي وضَعَ كتابَ نَهجِ البَلاغةِ الذي فيه الخُطَبُ التي تُنسَبُ لعليِّ بن أبي طالبٍ رَضيَ الله عنه، له ديوانٌ في أربَعِ مُجَلَّدات, توفِّيَ ببغداد عن 47 عامًا في الخامِسِ مِن مُحَرَّم، وكانت جنازتُه مشهودةً، ودُفِنَ بداره بمسجِدِ الأنباريِّ.
وَهَن أمرُ الخلافةِ والسَّلطَنةِ ببغداد، حتى إنَّ بَعضَ الجُندِ خَرَجوا إلى قريةِ يحيى، فلَقِيَهم أكراد، فأخَذوا دوابَّهم، فعادوا إلى حَقلِ الخليفةِ القائِمِ بأمر الله، فنَهَبوا شيئًا من ثَمَرتِه، وقالوا للعاملينَ فيه: أنتم عَرَفتم حالَ الأكرادِ ولم تُعلِمونا، فسَمِعَ الخليفةُ الحالَ، فعَظُمَ عليه، ولم يَقدِرْ جلال الدَّولة البويهيُّ على أخذِ أولئك الأكراد لعَجزِه ووَهَنِه، واجتهدَ في تسليمِ الجُندِ إلى نائبِ الخليفة، فلم يُمكِنْه ذلك، فتقَدَّم الخليفةُ إلى القُضاةِ بتَركِ القَضاءِ والامتناعِ عنه، وإلى الشُّهودِ بتَركِ الشهادةِ، وإلى الفُقَهاءِ بترك الفتوى، فلمَّا رأى جلالُ الدَّولة ذلك سأل أولئك الأجنادَ ليُجيبوه إلى أن يحمِلَهم إلى ديوانِ الخلافة، ففعلوا، فلمَّا وصلوا إلى دار الخلافةِ أُطلِقوا، وعَظُمَ أمرُ العيَّارين– العَيَّارون لصوصٌ يَمتَهِنونَ النَّهبَ والدعارةَ - وصاروا يأخُذونَ الأموالَ ليلًا ونهارًا، ولا مانِعَ لهم؛ لأنَّ الجُندَ يَحمونَهم على السُّلطانِ ونُوَّابه، والسلطان عاجِزٌ عن قَهرِهم، وانتشر العربُ في البلادِ فنهبوا النواحيَ، وقطعوا الطريقَ، وبلغوا إلى أطرافِ بغداد، حتى وصلوا إلى جامِعِ المنصور، وأخذوا ثيابَ النساءِ مِن المقابرِ.
اجتَمعَ جَمْعٌ كَثيرٌ من الإسماعيليةِ من قهستان، بلغت عُدَّتُهم سَبعةَ آلافِ رَجلٍ ما بين فارسٍ وراجلٍ، وساروا يُريدون خُراسانَ لاشتِغالِ عَساكرِها بالأَتراكِ الغُزِّ، وقَصَدوا أَعمالَ خواف وما يُجاوِرُها، فلَقِيَهم الأَميرُ فرخشاه بن محمود الكاسانيُّ في جَماعةٍ من حَشَمِه وأَصحابِه، فعَلِمَ أنه لا طاقةَ له بهم، فتَرَكهُم وسار عنهم، وأَرسلَ إلى الأَميرِ محمدِ بن أنر، وهو مِن أَكابرِ أُمراءِ خُراسان وأَشْجَعِهِم، يُعرِّفُه الحالَ، وطلب منه المَسيرَ إليهم بعَسكَرِه ومَن قَدَرَ عليه من الأُمراءِ ليَجتَمِعوا عليه ويُقاتِلوهُم، فسار محمدُ بن أنر في جَماعةٍ من الأُمراءِ وكَثيرٍ من العَسكرِ، واجتَمَعوا هم وفرخشاه، وواقَعُوا الإسماعليةَ وقاتَلوهُم، وطالَت الحَربُ بينهم، ثم نَصَرَ الله المسلمين وانهَزَم الإسماعيليةُ، وكَثُرَ القَتلُ فيهم، وأَخَذَهُم بالسَّيفِ مِن كلِّ مَكانٍ، وهَلَكَ أَعيانُهم وسادَتُهم. بَعضُهم قُتِلَ، وبَعضُهم أُسِرَ، ولم يَسلَم منهم إلا القَليلُ الشَّريدُ، وخَلَت قِلاعُهم وحُصونُهم مِن حَامٍ ومانِعٍ، فلَولا اشتِغالُ العَساكرِ بالغُزِّ الأَتراكِ (التُّركمان) لكانوا مَلَكوها بلا تَعَبٍ ولا مَشَقَّةٍ، وأَراحُوا المسلمين منهم، ولكن لله أَمْرٌ هو بالِغُه.
كان عسكر البدري يحاصر العماديَّة وبها عمادُ الدين زنكي بن مودود، فلمَّا عاد العسكرُ عنها قَوِيَت نفسُه وفارقها، وعاد إلى قلعة العقر التي له ليتسَلَّط على أعمال المَوصِل بالصحراء، فإنَّه كان قد فرغ من بلدِ الجبل، وأمدَّه مظفر الدين بطائفةٍ كثيرة من العسكَر. ولَمَّا اتَّصل الخبَرُ ببدر الدين لؤلؤ أتابك صاحِبِ الموصل سيَّرَ طائفةً من عسكره إلى أطراف الموصِل يحمونَها، فأقاموا على أربعة فراسخ من الموصل، ثمَّ إنهم اتَّفقوا بينهم على المسير إلى زنكي، وهو عند العقر في عسكره، ومحاربته، ففعلوا ذلك، ولم يأخذوا أمرَ بدر الدين بل أعلموه بمسيرِهم جريدة ليس معهم إلَّا سلاحهم، ودواب يقاتلون عليها، فساروا ليلتَهم، وصبَّحوا زنكي بكرة الأحد لأربع بقين من المحرم من سنة 616، فالتقوا واقتتلوا تحت العقر، وعظُم الخطب بينهم، فانتصر العسكرُ البدري، وانهزم عماد الدين وعسكرُه، وسار إلى إربل منهزمًا، وعاد العسكرُ البدري إلى منزلته التي كان بها، وحضرت الرسلُ من الخليفة الناصر لدين الله ومِن المَلِك الأشرف في تجديد الصلح، فاصطلحوا، وتحالفوا بحضور الرسُل.
استهلَّت هذه السنةُ والخليفةُ بمصرَ الحاكمُ بأمر الله أبو العباس العباسي، وسلطانُ البلادِ المَلِكُ الأشرف صلاحُ الدين خليل بن المنصور قلاوون، ونائبُه بمصر وأعمالها بدر الدين بيدرا، ووزيرُه ابن السلعوس الصاحِبُ شمس الدين، ونائبه بالشام حسامُ الدين لاجين السلحداري المنصوري، وصاحِبُ اليمن الملِكُ المظفَّر شمس الدين يوسف بن المنصور نور الدين عمر بن علي بن رسول، وصاحِبُ مكة نجم الدين أبو نمي محمد بن إدريس بن علي بن قتادة الحسيني، وصاحبُ المدينة عز الدين جماز بن شيحة الحسيني، وصاحب الرومِ غياثُ الدين كيخسرو، وهو ابنُ ركن الدين قلج أرسلان السلجوقي، وصاحِبُ حماة تقي الدين محمود بن الملك المنصور ناصر الدين محمد بن الملك المظفر تقي الدين محمد، وسلطانُ بلاد العراق وخراسان وتلك النواحي أرغون بن أبغا بن هولاكو بن تولو بن جنيكزخان. وجلال الدين فيروز الخلجي في الهند.
في هذه السَّنةِ قُتِلَ الأميرُ قشتمر المنصوري نائب حلب، وخبَرُه أنَّه لَمَّا وَلَيَ نيابة حلب في جمادى الآخرة من هذه السنة وتوجَّه إلى حلب، فلم يُقِمْ بها إلا يسيرًا، ثم إن بني كلاب كَثُر فسادُهم وقَطْعُهم الطريقَ فيما بين حماة وحلب، وأخذوا بعضَ الحُجَّاج، فخرج إليهم الأمير قشتمر نائِبُ حلب بالعسكر، حتى أتوا تلَّ السلطان بظاهر حلب، فإذا عدَّةٌ من مضارب عرب آل فضل، فاستاق العسكَرُ جمالَهم ومواشيَهم ومالوا على بيوت العَرَبِ فنهبوها، فثارت العَرَبُ بهم وقاتلوهم، واستنجدوا مَن قَرُب منهم من بنى مهنا، وأتاهم الأميرُ حيار وولده نعير بجمع كبيرٍ، فكانت معركة شنيعة، قُتِلَ فيها الأمير قشتمر النائب وولَدُه وعِدَّة من عسكره، وانهزم باقيهم، فركب العرَبُ أقفِيَتَهم، فلم ينجُ منهم عريانًا إلا من شاء الله، وكان ذلك يومَ الجمعة خامس عشر ذي الحجة، ولما بلغ الملك الأشرف ذلك عَظُمَ عليه، وأرسل تقليدًا للأمير اشقتمر المارديني بنيابة حلب على يد الأمير قطلوبغا الشعباني، وعزل حيارًا عن إمرة العَرَب وولاها لزامِل.
في يوم الأربعاء الثامِنَ مِن رمضان كانت واقعةُ كنيسة ناحية بو النمرس من الجيزة؛ وذلك أنَّ رجلًا من فُقَراء الزيلع بات بناحية بو النمرس، فسَمِعَ لنواقيس كنيسَتِها صوتًا عاليًا، وقيل له إنَّهم يضربون بنواقيسهم عند خُطبةِ الإمام للجمعة، بحيث لا تكادُ تُسمَعُ خُطبة الخطيب، فوقف للسُّلطان الملك الأشرف شعبان، فلم يَنَل غَرَضًا، فتوجه إلى الحجاز وعاد بعد مدة طويلة، وبيده أوراق تتضَمَّنُ أنه تشفع برسول الله وهو نائم عند قبره المقَدَّس في هدم كنيسة بو النمرس، ووقف بها إلى الأميرِ الكبير برقوق الأتابك، فرسم للمُحتَسِب جمال الدين محمود العجمي أن يتوجَّه إلى كنيسة بو النمرس، وينظُرَ في أمرها، فسار إليها وكشف عن أمرها، فبَلَغه من أهل الناحية ما اقتضى عنده غَلْقَها، فأغلقها وعاد إلى الأمير الكبير وعَرَّفه ما قيل عن نصارى الكنيسة، فطلب متَّى بِطريقَ النصارى اليعاقبة وأهانه، فسعى النصارى في فَتحِ الكنيسة، وبذلوا مالًا كبيرًا، فعَرَّف المحتَسِبُ الأميرَ الكبير بذلك، فرسَمَ بهَدمِها بتحسين المحتَسِب له ذلك، فسار إليها وهَدَمها، وعمِلَها مَسجدًا.
لَمَّا بلغ أهلَ الأحساء هزيمةُ بني خالد في الشيط، وقع الرعب في قلوبهم وخافوا خوفًا عظيمًا، ثم سار الأمير سعود بجنوده ناحيةَ الأحساء فنزل الردينية الماء المعروف في الطف فأقام أيامًا وأتته المكاتبات مع رسل أهل الأحساء يدعونه إليهم ليبايعوه، فارتحل منها وسار إلى الأحساء ونزل عينَ النجم خارج البلدِ، فخرج إليه أهلُها وبايعوه على دين الله ورسولِه والسمع والطاعة, ثم دخل جيشُ سعود الأحساءَ فهَدَموا جميع ما فيه من القباب والمشاهِدِ التي على القبور، والمواضِعَ الشركية, ثم أقام سعود قريبًا من شهر رتَّب أئمة المساجِدِ وأمَرَهم بالمواظبة على الصلواتِ وإقامة الجُمَع والجماعات، ونادى بإبطال جميعِ المعاملات الرِّبوية وما خالف الشَّرعَ، ورتب الدروسَ وجعل فيهم علماءَ مِن قَومِه يعلِّمونهم التوحيد, وكان أهلُ الأحساء قد أبطنوا الغدرَ ونَقْضَ العهد، وقَتْلَ العلماء المعَلِّمة وأميرَهم وصاحِبَ بيت المال، وكانوا نحوًا من 30 رجلًا, فأجمعوا على ذلك فقتلوا أميرَهم محمد بن حملي، وقتلوا البقية وجرُّوهم في الأسواقِ، وفعلوا بهم أفعالًا قبيحةً, واستولى زيدُ بن عريعر على الأحساءِ.
بعث الإمامُ سعود سَريَّةً قليلة إلى عمان لتعَلِّمَ أهلها فرائض الدين والاطلاع على أحوالهم, فلما وصلوا هناك فغذا قيسُ بن أحمد المسمى ابن الإمام رئيس سحار وجميع باطنة عمان وابن أخيه سعيد بن سلطان رئيس مسقط ومعهم من الجنود نحو عشرة آلاف رجل سائرين على النواحي التي تليهم من رعية الإمام سعود، الذين كان يرأسُهم من جهة سعود سلطانُ بن صقر بن راشد صاحِبُ رأس الخيمة، فأرسل إلى من يليه من أهل عُمان، فاجتمع عنده نحو ثلاثة آلاف رجل, فالتقى الجمعان: جمعُ قيس وجمع سلطان عند خوير بين الباطنة ورأس الخيمة، واقتتلوا قتالًا شديدًا، فانهزم جمعُ قيس هزيمةً شنيعةً وقُتِلَ قيس وهلك من قومِه خَلقٌ كثير بين القتل والغرق في البحر, ثمَّ بعد هذه الوقعة أرسل ابن قيس إلى الإمام سعود وسلطان بن صقر، وطلبَ المبايعةَ على دين الله ورسوله والسمع والطاعة، وبايع على ذلك وبذل مالًا كثيرًا وشوكةً من الحرب, وصار جميعُ عمان تحت ولاية الإمام سعود
اشتبكت قوات الملك عبدالعزيز مع قوات ابن رشيد قرب بئر جراب شمالي الزلفي وكانت قوات الملك عبدالعزيز تتكون في معظمها من أهل العارض وثلاثمائة خيال من العجمان ومدفع واحد فقط وبعض البادية المتأثرين بفكر الإخوان (إخوان من أطاع الله) الحركة الناشئة داخل الجزيرة العربية واستمرت المعركة عدة إيام وقتل أثناءها شكسبير مبعوث كوكس إلى الملك عبدالعزيز وقيل انه حضر المعركة كمراقب على الرغم أن الملك عبدالعزيز كان لا يرغب في تواجده معه في ميدان المعركة ونصحه في البقاء بالزلفي لكن شكسبير أصر على الحضور معهم إلى ميدان المعركة، احتدم القتال وأصيب شكسبير برصاصة أودت بحياته. كان فرسان العجمان قد تراجعوا خيانة وهم يصيحون صيحة الانهزام فأغارت إذ ذاك بادية ابن رشيد على الجناح الإيسر من قوات ابن سعود فدحرته وغنمت أمواله، وأما بدو الملك عبدالعزيز وأكثرهم من مطير فقد أغاروا اثناء ذلك على جيش ابن رشيد ومخيمه فغنموا ما فيه، فيوم جراب كان على قوات الملك عبدالعزيز وقوات ابن رشيد على السواء ولم يكن فيه ظافرا غير البدو من الفريقين.
هو الإمام العلامة شمس الدين أبو الخير محمد بن عبد الرحمن بن محمد السخاوي القاهري أصله من سخا من قرى مصر، ولد بالقاهرة في ربيع الأول سنة 831 بحارة مجاورة لمدرسة شيخ الإسلام البلقيني محل أبيه وجده، ثم تحول منه حين دخل في الرابعة مع أبويه لمِلْك اشتراه أبوه مجاور لسكن شيخه ابن حجر، وأدخله أبوه المكتب بالقرب من الميدان عند المؤدب الشرف عيسى بن أحمد المقسي الناسخ، فأقام عنده يسيرًا جدًّا، ثم نقله لزوج أخته الفقيه الصالح البدر حسين بن أحمد الأزهري فقرأ عنده القرآن وصلى بالناس التراويح في رمضان، ثم توجه به أبوه لفقيهه المجاور لسكنه الشيخ المفيد النفاع القدوة المؤدب الشمس محمد بن أحمد النحريري الضرير, ثم لازم شيخه إمام الأئمة الشهاب ابن حجر العسقلاني حيث كان يسمع منه مع والده ليلًا الكثير من الحديث، فكان أول ما وقف عليه من ذلك في سنة ثمان وثلاثين، وأوقع الله في قلبه محبته فلازم مجلسه وعادت عليه بركته في هذا الشأن فأقبل عليه بكليته إقبالًا يزيد على الوصف؛ بحيث تقلل مما عداه, وداوم الملازمة لشيخه ابن حجر حتى حمل عنه علمًا جمًّا اختص به كثيرًا بحيث كان من أكثر الآخذين عنه، وأعانه على ذلك قُرب منزله منه، فكان لا يفوته مما يقرأ عليه إلا النادر، إما لكونه حمله أو لأن غيره أهم منه وينفرد عن سائر الجماعة بأشياء. ولما علم شيخه ابن حجر شدة حرصه على ذلك كان يرسل خلفه أحيانًا بعض خدمه لمنزله يأمره بالمجيء للقراءة, وكان شيخه يأذن له في الإقراء والإفادة والتصنيف، وصلى به إمامًا التراويح في بعض ليالي رمضان, وتدرب به في طريق القوم ومعرفة العالي والنازل والكشف عن التراجم والمتون وسائر الاصطلاح, وأخذ عنه علم الحديث وبرع فيه، ولم ينفك عن ملازمته ولا عدل عنه بملازمة غيره من علماء الفنون؛ خوفًا على فقده، ولا ارتحل إلى الأماكن النائية، بل ولا حجَّ إلا بعد وفاة شيخه ابن حجر, ومع ذلك حمل السخاوي عن شيوخ مصر والواردين إليها كثيرًا من دواوين الحديث وأجزائه بقراءته وقراءة غيره في الأوقات التي لا تعارض أوقات شيخه، سيما حين اشتغال شيخه بالقضاء وتوابعه، حتى صار السخاوي أكثر أهل العصر مسموعًا وأكثرهم رواية، ولما عاد السخاوي سنة تسع وتسعين للقاهرة من الحج للمرة السادسة والمجاورة في المدينة انجمع عن الناس وامتنع من الإملاء لمزاحمة من لا يحسن فيها وعدم التمييز من جُل الناس أو كلهم, وراسل إلى من لامه على ترك الإملاء بما نصه: "إنه ترك ذلك عند العلم بإغفال الناس لهذا الشأن؛ بحيث استوى عندهم ما يشتمل على مقدمات التصحيح وغيره من جمع الطرق التي يتبين بها انتفاء الشذوذ والعلة أو وجودهما، مع ما يورد بالسند مجردًا عن ذلك، وكذا ما يكون متصلًا بالسماع مع غيره, وكذا العالي والنازل والتقيد بكتاب ونحوه مع ما لا تقيد فيه إلى غيرها، مما ينافي القصد بالإملاء وينادي الذاكر له العامل به على الخالي منه بالجهل". كما أنه التزم ترك الإفتاء مع الإلحاح عليه فيه حين تزاحم الصغار على ذلك واستوى الماء والخشبةَ، سيما وإنما يعمل بالأغراض، بل صار يكتُب على الاستدعاءات وفي عرض الأبناء من هو في عدادِ من يلتمس له ذلك حين التقيد بالمراتب والأعمال بالنيات، وقد سبقه للاعتذار بنحو ذلك شيخ شيوخه الزين العراقي وكفى به قدوة، بل وأفحش من إغفالهم النظر في هذا وأشد في الجهالة إيراد بعض الأحاديث الباطلة على وجه الاستدلال وإبرازها حتى في التصانيف والأجوبة، كل ذلك مع ملازمة الناس له في منزله للقراءة دراية ورواية في تصانيفه وغيرها، بحيث خُتم عليه ما يفوق الوصف من ذلك، وأخذ عنه من الخلائق من لا يُحصى" وقد حدث خلاف بين السخاوي ومعاصره جلال الدين السيوطي، وهو من خلاف الأقران الذي لا يُقبَل فيه نقد أحدهما في الآخر مع جلالة قدر كل منهما في علمه وعمله في خدمة العلم وأهله. وللسخاوي مصنفات كثيرة جدًّا منها ترجمة لشيخه ابن حجر في كتاب سماه الجوهر والدرر في ترجمة شيخ الإسلام ابن حجر، والقول البديع في الصلاة على الحبيب الشفيع، والمقاصد الحسنة في الأحاديث المشتهرة على الألسنة، وفتح المغيث بشرح ألفية الحديث للعراقي، ووجيز الكلام في الذيل على دول الإسلام، والضوء اللامع في أخبار أهل القرن التاسع، واستجلاب ارتقاء الغرف بحب أقرباء الرسول وذوي الشرف، وغيرها من الكتب والسؤالات المدونة له. توفي بالمدينة عصر يوم الأحد 28 من شعبان سنة 902 (1497م) وهو في الحادية والسبعين من عمره، ودُفِن بالبقيع بجوار الإمام مالك.
هو الفيلسوفُ المُنَجِّم مُحمَّد بنُ أحمد أبو الريحان البيروني الخوارزمي مُؤرخٌ مُحَقِّقٌ وجغرافيٌّ مُدقِّق، وفلَكيٌّ نابِهٌ، ورياضيٌّ أصيلٌ، وفيزيائيٌّ راسخٌ، ومترجِمٌ متمَكِّنٌ، مِن بلادِ السندِ، ومن أعيان الفلاسفة. عاصر الرَّئيسَ ابن سينا وجَرَت بينهما حوارات وأسئلةٌ وجوابات، وكان عالِمًا في الهيئة والنجوم، خبيرًا بالطبِّ. وُلد في بيرون إحدى ضواحي خوارزم، وهو مجهولُ النَسَب؛ فقد قال عن نفسِه في شعر: إذ لستُ أعرِفُ جَدِّي حقَّ مَعرفةٍ
وكيف أعرِفُ جدي إذ جَهِلتُ أبي
أبي أبو لهبٍ شَيخٌ بلا أدَبِ
نَعَم ووالدتي حمَّالةُ الحَطَب
يقول ياقوت الحموي" "بيرون بالفارسية معناه برّا، وسألتُ بعض الفضلاءِ عن ذلك فزعَم أنَّ مقام البيروني بخوارزم كان قليلًا، وأهلُ خوارزم يسمُّونَ الغريبَ بهذا الاسم، كأنَّه لَمَّا طالت غربتُه عنهم صار غريبًا، وما أظنُّه يُرادُ به إلَّا أنَّه من أهل الرستاق، يعني أنَّه من برّا البلد". كتب في كلِّ ما كان معروفًا مِن علومِ عَصرِه، وهو بذلك يُعدُّ أحدَ الموسوعيِّينَ. قال ياقوت الحموي: " وأما سائِرُ كُتُبِه في علومِ النُّجومِ والهيئةِ والمَنطِقِ والحكمةِ؛ فإنَّها تفوق الحَصرَ، رأيتُ فَهرسَتَها في وقْفِ الجامع بمرو في نحوِ الستين ورقةً بخط مكتنز". لَمَّا صَنَّف القانونَ المسعودي أجازه السلطانُ مسعود بن محمود الغزنوي بحَملِ فيلٍ مِن نقدِه الفِضِّي إليه، فردَّه إلى الخزانةِ بعُذرِ الاستغناء عنه، وكان مُكِبًّا على تحصيلِ العلوم مُنصَبًّا إلى تصنيف الكتُبِ، يفتَحُ أبوابها، ويُحيطُ شواكِلَها وأقرابَها، ولا يكاد يفارِقُ يدَه القلمُ وعَينَه النَّظرُ وقَلْبَه الفِكَرُ إلَّا في يومَيِ النيروز والمهرجان من السَّنة، ثمَّ هِجِّيراه في سائر الأيَّام من السَّنَةِ عِلمٌ يُسفِرُ عن وجهه قِناعَ الأشكال ويحسِرُ عن ذراعيه كمامَ الأغلاق. وأمَّا نباهةُ قَدرِه ومكانته عند الملوك فقد بلغ من حظوتِه لديهم أنَّ شمس المعالي قابوس بن وشمكير أراد أن يستخلِصَه لصُحبتِه ويرتبِطَه في دارِه على أن تكونَ له الإمرةُ المطاعةُ في جميع ما يحويه مُلكُه، فأبى عليه ولم يطاوِعْه، ولَمَّا أسمَحَت نفسُه بمثل ذلك لخوارزم شاه آواه في داره وأنزله معه في قَصرِه، لَمَّا استولى السُّلطانُ محمود على خوارزم قَبَضَ على البيروني وعلى أستاذِه عبد الصمد أول بن عبد الصمد الحكيم واتَّهَمه بالقَرمطةِ والكُفرِ، فأذاقه الحِمامَ، وهمَّ أن يُلحِقَ به أبا الرَّيحان البيروني، فقيل له إنَّه إمامُ وَقتِه في علمِ النُّجومِ، وإنَّ الملوكَ لا يَستَغنونَ عن مِثلِه، فأخَذَه معه، ودخل إلى بلادِ الهندِ وأقام بينهم وتعلَّم لُغتَهم واقتبس علومَهم، ثمَّ أقام بغُزنة حتى مات بها, وعلى الرغمِ مِن أنَّ البيروني لم يكن عربيًّا إلَّا أنَّه كان مُقتَنِعًا بأنَّ اللغةَ العربيَّةَ هي اللُّغةُ الوحيدةُ الجديرةُ بأن تكونَ لغةَ العِلمِ، وقد نُسِبَ إليه أنَّه قال: الهجوُ بالعربيَّةِ أحَبُّ إليَّ من المدحِ بالفارسيَّة. ومن أشهر كتب البيروني: الآثارُ الباقية عن القرون الخالية، وهو من أبرَزِ كُتُبِ التقاويم، القانونُ المسعودي في علمِ الفلك والجغرافيا والهندسة، الاستيعابُ في صنعة الأسطرلاب، الصَّيدنَة في الطب, تحديدُ نهايات الأماكن لتصحيح مسافات المساكن، تحقيقُ ما للهند من مقولةٍ مقبولة في العقل أو مرذولة، التفهيمُ لصناعة التنجيم. وغيرها كثير، وللبَيروني لَمَحاتٌ علميَّةٌ سبق بها عصرَه، منها قولُه بأن واديَ السِّندِ كان يومًا قاعَ بحرٍ ثم غطَّتْه الرواسِبُ الفَيضيَّة بالتدريج، والقولُ بدوران الأرضِ حول محْورِها، والقول بجاذبيَّة الأرض, وله في الرياضيَّات السبقُ الذي لم يشقَّ المُحضرون غبارَه، ولم يلحق المُضمِّرون المُجيدون مِضمارَه. توفي في غزنة (كابول الآن).