صاحب دمشق الملك أبو منصور أتابك طغتكين -أتابك يعني الأمير الوالد- وهو من مماليك السلطان تتش بن ألب أرسلان، زوَّجه بأم ولده دقاق، فلما قُتل السلطان تملَّك بعده ابنه دقاق، وصار طغتكين مقدَّم عسكره، ثم تملَّك بعد دقاق. كان عاقلًا خيِّرًا شهمًا شجاعًا، مَهيبًا مجاهدًا، مؤثِرًا للعدل، يلقَّب ظهير الدين, كثيرَ الغزوات والجهاد للفرنج، حسنَ السيرة في رعيته، ولَمَّا توفي مَلَك بعده ابنُه تاج الملوك بوري، وهو أكبر أولاده، بوصيةٍ من والده بالمُلْك، وأقر وزير أبيه أبو علي طاهر بن سعد المزدقاني على وزارته. قال الذهبي: "لولا أن الله أقام طغتكين للإسلام بإزاء الفرنج، وإلا كانوا غلبوا على دمشق؛ فقد هزمهم غير مرة، فقد كان سيفًا مسلولًا على الفرنج. لكن له خرمة؛ كان قد استفحل البلاء بداعي الإسماعيلية بهرام بالشام، وكان يطوف المدائن والقلاع متخفيًا، ويغوي الأغتام والشطَّار، وينقاد له الجهَّال، إلى أن ظهر بدمشق بتقرير قرَّره صاحب ماردين إيلغازي مع طغتكين، فأخذ يكرِمُه طغتكين، ويبالغ اتقاءً لشَرِّه، فتبعه الغوغاء والسفهاء والفلاحون، وكَثُروا، ووافقه الوزيرُ طاهر المزدقاني، وبثَّ إليه سِرَّه، ثم التمس من الملك طغتكين قلعةً يحتمي بها، فأعطاه بانياس سنة 520، فعَظُم الخطب، وتوجَّع أهل الخير، وتستَّروا مِن سَبِّهم، وكانوا قد قتلوا عدة من الكبار", وقال ابن الجوزي: "كان طغتكين شهمًا عادلًا، حزن عليه أهل دمشق، فلم تبقَ محلة ولا سوق إلا والمأتم قائم فيه عليه؛ لعدله وحسن سيرته. حكم على الشام خمسًا وثلاثين سنة، وسار ابنه بسيرته مُدَيدة، ثم تغيَّر وظلَم". وقال فيه أبو يعلى بن القلانسي: "مرض ونحل، ومات في صفر سنة 522، فأبكى العيون، وأنكأ القلوب، وفتَّ في الأعضاد، وفتَّت الأكباد، وزاد في الأسف، فرحمه اللهُ، وبرَّد مضجعه".
ملك علاء الدين كيقباذ بن كيخسرو بن قلج أرسلان- وهو صاحب قونية وما حولها من بلاد الروم- أرزنكان، وسبب ملكه إياها أن صاحبها بهرام شاه كان قد طال مُلكُه لها، وجاوز ستين سنة، توفي ولم يزل في طاعة قلج أرسلان وأولاده بعده، فلما توفي ملك بعده ولده علاء الدين داود شاه، فأرسل إليه كيقباذ يطلب منه عسكرًا ليسير معه إلى مدينة أرزن الروم- وهي قريبة من مدينة أرزنكان- ليحصرها، ويكون هو مع العسكر، ففعل ذلك، وسار في عسكره إليه، فلما وصل قبض عليه، وأخذ مدينة أرزنكان منه، وله حصنٌ من أمنع الحصون اسمه كماخ، وفيه مستحفظ لداود شاه، فأرسل إليه ملك الروم يحصُره، فلم يقدر العسكرُ على القرب منه؛ لعُلُوِّه وارتفاعه وامتناعه، فتهدَّد داود شاه إن لم يسلم كماخ، فأرسل إلى نائبه في التسليم، فسلم القلعةَ إلى كيقباذ، وأراد كيقباذ المسير إلى أرزن الروم ليأخُذَها وبها صاحبها ابن عمه طغرل شاه بن قلج أرسلان، فلما سمع صاحبها بذلك أرسل إلى الأمير حسام الدين علي، النائب عن الملك الأشرف بخلاط، يستنجِدُه، وأظهر طاعة الأشرف، فسار حسام الدين فيمن عنده من العساكر، وكان قد جمعها من الشام، وديار الجزيرة، خوفًا من ملك الروم، خافوا أنه إذا ملك أرزن الروم يتعدى ويقصد خلاط، فسار الحاجب حسام الدين إلى الروم ومنع عنها، ولما سمع كيقباذ بوصول العساكر إليها لم يُقدِم على قصدها، فسار من أرزنكان إلى بلاده، وكان قد أتاه الخبر أن الروم الكفار المجاورين لبلاده قد ملكوا منه حصنًا يسمى صنوب، وهو من أحصن القلاع، مطِلٌّ على البحر السياه بحر الخزر، فلما وصل إلى بلاده سيَّرَ العسكر إليه وحصره برًّا وبحرًا، فاستعاده من الروم، وسار إلى أنطاكية ليشتي بها على عادته.
خرج المَلِكُ الكامِلُ مِن القاهرة في جمادى الآخرة، واستخلفَ على مصر ابنَه المَلِك العادلَ أبا بكر، وقَدِمَ الأشرف والمعظم صاحِب الجزيرة بالعساكر، ومضى الكاملُ جريدة-الجريدة خَيْلٌ لا رَجَّالة فيها- إلى الشوبك والكرك، وسار إلى دمشقَ، ومعه الناصرُ داود بن الملك المعظَّم صاحب الكرك بعساكره، وأقام الكامِلُ بدمشق يسَرِّح العساكِرَ، وجعل في مقدِّمتِها ابنه الملك الصالح أيوب، وورد الخبر بدخول التتر بلاد خلاط، فأسرع الكامِلُ في الحركة، وخرج من دمشق، فنزل سلمية وقد اجتمع فيها بعساكِرَ يضيق بها الفضاءُ وسار منها في آخر رمضان على البرية، وتفرَّقَت العساكر في عدة طرق لكثرتِها، فهلك منها عدةٌ كثيرة من الناس والدواب، لقلَّة الماء، وأتته رسلُ ملوك الأطراف، وهم عز الدين بيقرا، وفخر الدين بن الدامغاني، ورسل الخليفة المستنصر بالله، وألبسوه خِلعة السلطنة، فاستدعى الكامل عند ذلك رسلَ الخوارزمي، ورسول الكرج، ورسل حماة وحمص، ورسول الهند ورسل الفرنج، ورسل أتابك سعد صاحب شيراز، ورسل صاحب الأندلس ولم تجتَمِعْ هذه الرسلُ عند ملك في يومٍ واحدٍ قَطُّ غيره، وقَدِمَ عليه بهاء الدين اليزدي - شيخ رباط الخلاطية - من بغداد وجماعة من النخاس، يحثُّونه على الغزاة، فرحل التتر عن خلاط، بعد منازلتها عدَّةَ أيام، وجاء الخبَرُ برحيلهم والكامل بحرَّان، فجهَّز عماد الدين بن شيخ الشيوخ رسولًا إلى الخليفة، وسار إلى الرَّها، وقَدَّم الكامِلُ العساكِرَ إلى آمد، وسار بعدهم، فنزل على آمد، ونصبَ عليها عِدَّة مجانيق، فبعث إليه صاحِبُها يستعطِفُه، ويبذل له مائة ألف، وللأشرفِ عشرين ألف دينار، فلم يقبَلْ، وما زال عليها حتى أخذها، في سادس عشر ذي الحجة، وحضر صاحبُها إليه بأمان، فوكل به حتى سلم جميعَ حصونها، فأعطى السلطانُ حصن كيفا لابنه الملكِ الصالح نجم الدين أيوب.
هو السُّلطانُ الملك الصالح عماد الدين، أبو الخيش إسماعيل بن الملك العادل محمد بن نجم الدين أيوب بن شاذي صاحب دمشق. تمَلَّك بصرى وبعلَبَّك، وتنقَّلَت به الأحوال، واستولى على دمشقَ أعوامًا، فحارَبَه ابنُ أخيه الملك الصالح نجم الدين أيوب صاحب مصر، وجرت له أمورٌ طويلة، ما بين ارتفاعٍ وانخفاضٍ، وكان بطلًا شُجاعًا، مَهيبًا شديدَ البطشِ، مليحَ الشَّكلِ، كان في خدمةِ أخيه الأشرفِ، فلما مات الأشرفُ، توثَّبَ على دمشق، وتملَّكَها، فجاء أخوه المَلِكُ الكامِلُ، وحاصَرَه، وأخذ منه دمشقَ، وردَّه إلى بعلبك, وكان فيه جَورٌ, واستقضى على النَّاسِ الرفيع الجيلي، وتضَرَّرَت الرعيةُ بدمشق أثناء حصارِ الخوارزمية في عَهدِه حتى بِيعَ رِطلُ الخبز بستة دراهم، والجُبن واللحم بنسبة ذلك، وأكلوا الميتةَ، ووقع فيهم وباءٌ شديد. وفي (معجم القوصي) في ترجمة الأشراف: "فأخوه الصالح إسماعيل نصر الكافرينَ، وسَلَّم إليهم القلاعَ، واستولى على دمشقَ سَرِقةً، وحَنَث في يمينه، وقتَلَ مِن الملوك والأمراء من كان ينفَعُ في الجهاد، وصادَرَ على يد قضاتِه العِبادَ، وخَرَّب الأملاك، وطَوَّل ذيلَ الظُّلم، وقَصَّر ذيل العدل، وظَنَّ أن المُلك له مُستمِرٌّ، فسقَطَ الدهرُ لغفلتِه، وأراه بلايا", ثم ذهبت منه بعلبك وبُصرى، وتلاشى أمره، فمضى إلى حَلَب، وافدًا على ابنِ أخته، وصار من أمرائه، فلما ساروا ليأخذوا مصر، فغُلب الشاميون، وأُسِرَ جماعة، منهم الملك الصالحُ إسماعيل، في سنة ثمانٍ وأربعين، فسُجِنَ بالقاهرة، ومرُّوا به على تربة السلطان نجم الدين أيوب، فصاحت البحريةُ: يا خوند- سيد أو أمير- أين عينك تنظر إلى عدوِّك؟! وفي آخر ذي القعدة من سنة ثمان أخرجوا الصالحَ ليلًا، ومضوا به إلى الجبَل، فقتلوه، وعُفِيَ أثره. وكانت أمُّه رومية، وكان رئيسَ النَّفسِ نبيلَ القَدرِ، مطاعًا له حُرمة وافرة، وفيه شجاعة.
ورد الخبر بمسير التتار إلى البلاد الشامية وذلك لما بلغهم من حصول الاختلاف بين المسلمين، وافترق التتار ثلاث فرق: فرقة سارت من جهة بلاد الروم ومقدمهم صمغار وتنجي وطرنجي، وفرقة من جهة الشرق ومقدمهم بيدو بن طوغاي بن هولاكو وبصحبته صاحب ماردين، وفرقة فيها معظم العسكرِ وشِرارُ المغول ومقدَّمُهم منكوتمر بن هولاكو، فخرج من دمشقَ الأميرُ ركن الدين إياجي على عسكر، وانضم مع العسكر المحاصر لشيزر، وخرج من القاهرةِ الأمير بدر الدين بكتاش النجمي على عسكر، واجتمع الجميعُ على حماة، وراسلوا الأميرَ سنقر الأشقر في إخماد الفتنة والاجتماعِ على قتال التتار، فبعث إليهم عسكرًا من صهيون أقام حول صهيون، ونزل الحاج أزدمر من شيزر وخيم تحت قلعتها، ووقعت الجفلةُ في البلاد الحلبية، فسار منها خلق كثير إلى دمشق في النصف من جمادى الآخرة، وكثُرَ الاضطراب في دمشق وأعمالها، وعزم الناسُ على تركها والمسير إلى ديار مصر، فلما كان في الحادي عشر هجمت طوائف التتار على أعمال حلب، وملكوا عينتاب وبغراس ودربساك، ودخلوا حلَبَ وقد خلت من العسكَرِ، فقتلوا ونهبوا وسَبَوا، وأحرقوا الجامِعَ والمدارس ودارَ السلطنة ودور الأمراء، وأقاموا بها يومينِ يكثرون الفساد بحيث لم يسلم منهم إلا من اختفى في المغائر والأسربة، ثم رحلوا عنها في يوم الأحد ثالث عشر عائدين إلى بلادهم بما أخذوه، وتفَرَّقوا في مشاتيهم، وتوجه السلطان قلاوون من مصر بالعساكر إلى البلاد الشاميَّة يريد لقاء التتار، بعد ما أنفق في كل أميرٍ ألف دينار، وفي كل جندي خمسَمائة درهم، واستخلف على مصر بقلعة الجبل ابنه الملك الصالح عليها، فسار السلطان إلى غزة، وقدم عليه بغزة من كان في البلاد الشامية من عساكر مصر، وقدم عليه أيضًا طائفةٌ من أمراء سنقر الأشقر فأكرَمَهم، ولم ينزل السلطانُ بغزة إلى عاشر شعبان، فرحل منها عائدًا إلى مصر، بعد أن بلغه رجوعُ التتار.
هو الشيخُ صفيُّ الدين إسحاقُ بن جبريل الأرْدَبيلي، ويقال: إنَّ نسبَه يرجعُ إلى موسى الكاظم, وهو مؤسِّسُ الطريقة الصفويَّة. ولِدَ صفيُّ الدين بأردبيل سنة 650. درس في مطلع ِحياتِه العلومَ الدينيَّةَ والعقليَّةَ في أردبيل. ثم صار واعظًا صوفيًّا في مدينة أردبيل، ثم أسَّس فرقةً صوفيةً تُسمَّى الإخوان، وقد كثُرَت هذه الفرقةُ في إقليم أذربيجان, ولَمَّا أدركته الجذبة- الجذبُ: مصطلحٌ صوفي يعني: حالًا من أحوالِ النفس يغيبُ فيها القلبُ عن عِلمِ ما يجري من أحوالِ الخَلقِ، ويتصِلُ فيها بالعالَمِ العلويِّ- رحل إلى شيراز، فنزل بخانقاه الشيخِ خفيفِ الشيرازي، واشتغل هناك مُدَّةً، ولقيَ الشيخَ سعدي الشيرازي، فاستفاد منه وسمع هناك خبَرَ الشيخِ زاهد الكيلاني، فقصد الرحلةَ إليه، فأخذ عنه الطريقةَ القادريَّةَ، ثمَّ عاد إلى بلَدِه، ثم إليه واشتغَلَ في خدمة الشيخ تاج الدين الكردي من أصحابِه مدةً إلى أن بلغ رتبةَ الإرشادِ وتزوَّج ابنتَه، ثم أجاز له بالرجوعِ إلى وطنه، فعاد وجلس على سجادة الإرشاد، فأقبل عليه أهلُ السلوك واجتمع عنده جمعٌ كثيرٌ من الأقطار، فبنى زاويةً مشهورةً به. ولَمَّا مَرِضَ شَيخُه بكيلان ذهب إلى عيادته فشَهِدَ جنازتَه وبنى على قبره، ثم عاد وأقام بزاويته مُرشدًا داعيًا مدة ثلاثين سنة، ثم قضى نحْبَه ودُفن بزاويته. وجلس مكانَه ابنُه صدر الدين موسى، وصفيُّ الدين هذا هو جَدُّ الصفويَّة المشهورةِ بقزلباش، وكان كثيرَ الأتباع جدًّا من الدراويش والمُريدين. وقيل: تشَيَّع صفيُّ الدين أو ابنُه صدرُ الدين موسى, وكان أتباعُ صفي الدين من السُّنَّة الشافعية ثم انقلبوا إلى شيعة؛ بسبب شيوخهم صفي الدين وأولاده وأحفاده، وقد قَوِيت طريقة صفي الدين وكثُر أتباعها في زمن أحفاده حتى استطاع أحدُهم وهو إسماعيل بن حيدر أن يتملَّك إيران سنة 907 ويؤسِّس فيها الدولة الصفوية الشيعية. توفي صفي الدين بأردبيل في محرَّم من هذه السنة.
غَزا نَصرُ بن سِيار أَميرُ خُراسان غَزَوات مُتعدِّدَة في التُّرك، وأَسَرَ مَلِكَهم كور صول في بَعضِ تلك الحُروب وهو لا يَعرِفُه، فلمَّا تَيَقَّنه وتَحَقَّقه، سأَل منه كور صول أن يُطلِقَه على أن يُرسِلَ له أَلفَ بَعير مِن إِبِل التُّرك -وهي البَخاتي- وأَلفَ بِرْذَون، وهو مع ذلك شَيخٌ كَبيرٌ جِدًّا، فشاوَرَ نَصرُ مَن بِحَضرَتِه مِن الأُمراء في ذلك، فمنهم مَن أشار بإطلاقه، ومنهم مَن أشار بِقَتلِه. ثمَّ سأله نَصرُ بن سِيار كم غَزوَتَ مِن غَزوَة؟ فقال: ثِنْتَينِ وسبعين غَزوَة. فقال له نَصر: ما مِثلُك يُطلَق، وقد شَهِدتَ هذا كُلَّه. ثمَّ أَمَر به فضُرِبَت عُنقُه وصَلَبَه، فلمَّا بَلَغ ذلك جَيشَه مِن قَتلِه باتوا تلك اللَّيلةَ يَجْعَرُون ويَبْكون عليه، وجَذُّوا لِحاهُم وشُعورَهم وقَطَعوا آذانَهم وحَرَقوا خِيامًا كَثيرة، وقَتَلوا أَنعامًا كَثيرَة، فلمَّا أَصبحَ أَمَرَ نَصرٌ بإِحراقِه لِئَلَّا يأخذوا جُثَّتَه، فكان حَرقُه أَشَدَّ عليهم مِن قَتلِه، وانصرفوا خائِبين صاغِرين خاسِرين، ثمَّ كَرَّ نَصر على بِلادِهم فقَتَل منهم خَلقًا وأَسَر أُمَمًا لا يُحصون كَثرَةً.
شرع المنصورُ في بناء الرصافة لابنه المهدي بعد مَقدَمِه من خراسان، وكان سبب بنائِها أنَّ بعضَ الجند شغَّبوا على المنصور وحاربوه على باب الذَّهبِ، فدخل عليه قُثَمُ بنُ العبَّاس، وهو شيخُهم، وله الحرمةُ والتقدُّم عندهم، فاستشاره المنصور، فقال له أن يتركَ الأمرَ له، فقام قُثَم بحيلةٍ فافترق الجند، فصارت مُضَرُ فِرقةً، وربيعةُ فرقة، والخراسانية فرقة. فقال قُثَم للمنصور: قد فرَّقتُ بين جُندِك وجعلتُهم أحزابًا، كلُّ حزبٍ منهم يخافُ أن يُحدِثَ عليك حدثًا فتضرِبَه بالحزبِ الآخر، وقد بقيَ عليك في التدبير بقيَّة، وهي أن تعبُرَ بابنِك المهدي فتُنزِلَه في ذلك الجانب، وتحَوِّل معه قطعةً من جيشِك فيصير ذلك بلدًا وهذا بلدًا، فإن فسدَ عليك أولئك ضربتَهم بهؤلاء، وإن فسدَ عليك هؤلاء ضربتَهم بأولئك، وإن فسد عليك بعضُ القبائل ضربتَهم بالقبيلة الأخرى (على مبدأ: فَرِّقْ تَسُد)، فقَبِلَ رأيه واستقام مُلكُه، وبنى الرصافة وهي في الجانب الشرقي من بغداد، وجعل لها سورًا وخندقًا، وعَمِلَ عندها ميدانًا وبستانًا، وأجرى إليها الماءَ مِن نهرِ المهدي
ورد إسحاقُ وجعفرٌ البحريان، وهما من الستَّة القرامطة الذين يلقَّبون بالسادة، فمَلَكا الكوفةَ، وخَطَبا لشَرَف الدولة، فانزعج النَّاسُ لذلك؛ لِمَا في النفوس من هيبتِهم وبأسِهم، وكان نائبُهم ببغداد يُعرَفُ بأبي بكر بن شاهويه، يتحَكَّمُ تحكُّمَ الوُزَراء، فقَبَضَ عليه صمصام الدولة، فلما ورد القرامطةُ الكوفة كتب إليهما صمصامُ الدولة يتلَطَّفُهما، ويسألهما عن سبَبِ حَرَكتهما، فذكرا أنَّ قَبضَ نائِبِهم هو السَّبَبُ في قصدهم بلادَه، وبثَّا أصحابَهما، وجَبَيا المالَ، ووصل أبو قيسٍ الحسَنُ بنُ المنذر إلى الجامعين، وهو من أكابِرِهم، فأرسل صمصامُ الدولة العساكِرَ، ومعهم العرب، فعَبَروا الفراتَ إليه وقاتلوه، فانهزم عنهم، وأُسِرَ أبو قيس وجماعةٌ مِن قُوَّادِهم، فقُتِلوا، فعاد القرامطةُ وسَيَّروا جيشًا آخر في عددٍ كثيرٍ وعُدَّة، فالتَقَوا هم وعساكِرُ صَمصامِ الدَّولة بالجامعَينِ أيضًا، فأجْلَت الوقعة عن هزيمةِ القرامطة، وقَتْلِ مُقَدَّمِهم وغيره، وأَسْر جماعة، ونَهْب سوادِهم، فلما بلغ المنهزمون إلى الكوفةِ، رحل القرامطة، وتبِعَهم العسكر إلى القادسيَّة، فلم يدركوهم، وزال مِن حينِئذٍ ناموسُهم.
سار طُغرلبك إلى أذربيجان، فقَصدَ تبريزَ، وصاحبُها الأميرُ أبو منصور وهسوذان بن محمد الرَّوادي، فأَطاعَه وخَطَب له وحَمَلَ إليه ما أَرضاهُ به، وأَعطاهُ وَلَدَهُ رَهينةً، فسار طُغرلبك عنه إلى الأميرِ أبي الأسوارِ، صاحبِ جنزة - بَلدَة من بلادِ أذربيجان- فأَطاعَهُ أيضًا وخَطَب له، وكذلك سائرُ تلك النَّواحي أَرسَلوا إليه يَبذُلون الطَّاعةَ والخُطبةَ، وانقادَت العَساكرُ إليه، فأَبقَى بِلادَهم عليهم، وأَخذَ رَهائِنَهم وسار إلى أَرمينية، وقَصدَ ملازكرد، وهي للرُّومِ، فحَصَرها وضَيَّقَ على أَهلِها، ونَهبَ ما جاوَرَها من البلادِ وأَخرَبَها، وهي مدينةٌ حَصينَة، فأَرسلَ إليه نَصرُ الدَّولةِ بن مَروان، صاحبُ دِيارِ بَكْرٍ، الهدايا الكثيرة والعَساكِر، وقد كان خَطَبَ له قبلَ هذا الوَقتِ وأَطاعَهُ، وأَثَّرَ السُّلطانُ طُغرلبك في غَزْوِ الرُّومِ آثارًا عظيمةً، ونال منهم مِن النَّهْبِ والقَتْلِ والأَسْرِ شَيئًا كثيرًا، وبلغَ في غَزوتِه هذه إلى أرزن الرُّومِ، وعاد إلى أذربيجان، لمَّا هَجمَ الشِّتاءُ، من غير أن يَملِك ملازكرد، وأَظهَر أنَّه يُقيم إلى أن يَنقَضي الشِّتاءُ، ويَعودُ يُتِمُّ غَزاتِه، ثم تَوجَّه إلى الرَّيِّ فأقامَ بها إلى أن دخلت سَنةُ سَبعٍ وأربعين وعاد نحوَ العراق.
لمَّا جُرِحَ السُّلطانُ ألب أرسلان أَوصَى لابنِه ملكشاه، وكان معه، وأَمرَ أن يَحلِف له العَسكرُ، فحَلَفوا جَميعُهم، وكان المُتَوَلِّي للأَمرِ في ذلك نِظامُ المُلْكِ، وأَرسلَ ملكشاه إلى بغداد يَطلُب الخُطبةَ له، فخُطِبَ له على مَنابِرِها، وأَوصَى ألب أرسلان ابنَه ملكشاه أيضًا أن يُعطِي أَخاهُ قاروت بك بن داود أَعمالَ فارس وكرمان، وشَيئًا عَيَّنَهُ من المالِ، وأن يُزَوَّجَ بِزَوجَتِه، وكان قاروت بك بكرمان، وأَوصَى أن يُعطَى ابنَه إياز بن ألب أرسلان ما كان لأَبيهِ داودَ، وهو خمسمائة ألف دِينارٍ، وقال: كلُّ مَن لم يَرضَ بما أَوصَيتُ له فقاتِلُوهُ، واستَعينوا بما جَعلتُه له على حَربِه، وعاد ملكشاه من بِلادِ ما وراءَ النَّهرِ، فعَبرَ العَسكرُ الذي قَطعَ النَّهرَ في نَيِّفٍ وعشرين يومًا في ثلاثة أيامٍ، وقام بوِزارَةِ ملكشاه نِظامُ المُلْكِ، وزاد الأَجنادَ في مَعايِشِهم سبعَ مائةِ ألفِ دِينارٍ، وعادوا إلى خُراسان، وقَصَدوا نَيسابور، وراسَلَ ملكشاه جَماعةَ المُلوكِ أَصحابَ الأَطرافِ يَدعوهُم إلى الخُطبَةِ له والانقِيادِ إليه، وأَقامَ إياز أرسلان بِبَلخ وسار السُّلطانُ ملكشاه في عَساكرِه من نَيسابور إلى الرَّيِّ.
هو الوزير الكبير، أبو طالب علي بن أحمد بن علي السميرمي، وزير السلطان محمود الغزنوي السلجوقي، صدرٌ معظَّم، كبير الشأن، شديد الوطأة، ذو عسف وظلم، وسوء سيرة، وقف مدرسة بأصبهان، وعمل بها خزانة كتب نفيسة، وكان مجاهرًا بالظلم والفسق، وأحدث على الناس مكوسًا وجدَّدها بعدما كانت قد أزيلت من مدة متطاولة. وكان يقول: "استحييتُ من كثرة ظلمِ من لا ناصِرَ له، وكثرةِ ما أحدثتُ من السُّنَن السيئة!". لما عزم على الخروج إلى همذان خرج وبين يديه السيوف المسلولة، والمماليك الكثيرة بالعدد الباهرة، فما أغنى عنه ذلك شيئًا، بل جاءه باطني فضربه فقتله، ثم مات الباطني بعده، ورجع نساؤه بعد أن ذهبن بين يديه على مراكب الذهب، حاسراتٍ عن وجوههن، قد أبدلهنَّ الله الذلَّ بعد العز، والخوفَ بعد الأمن، والحزنَ بعد السرور والفرح، جزاءً وفاقًا! وذلك يوم الثلاثاء آخر صفر، وقيل: إن الذي قتله عبدٌ كان للمؤيد الطغرائي وزير السلطان مسعود؛ فإن السميرمي قتل أستاذه ظلمًا، ونبزه بأنه فاسد الاعتقاد، فكلُّ قاتلٍ مقتولٌ.
سار السُّلطانُ سنجرُ بنُ ملكشاه إلى خوارِزمَ مُحاربًا لخوارزم شاه أتسز بن محمد. وسبَبُ ذلك أنَّ سنجر بلَغَه أنَّ أتسز يحَدِّثُ نَفسَه بالامتِناعِ عليه وتَرْكِ الخِدمةِ له، وأنَّ هذا الأمر قد ظهرَ على كثيرٍ مِن أصحابِه وأُمَرائِه، فأوجَبَ ذلك قَصْدَه وأخْذَ خوارزمَ منه، فجمَعَ سنجر عساكرَه وتوجَّه نَحوَه، فلمَّا قَرُبَ مِن خوارزم خرج خوارِزم شاه إليه في عساكِرِه، فلقيه مُقابِلًا وعَبَّأَ كلُّ واحدٍ منهما عساكِرَه وأصحابَه، فاقتَتَلوا، فلم يكُنْ للخوارزميَّةِ قُوَّةٌ بالسُّلطانِ، فلم يَثبُتوا، ووَلَّوا مُنهزمينَ، وقُتِلَ منهم خلقٌ كثيرٌ، ومَلَكَ سنجرُ خوارزمَ وأقطَعَها غياثَ الدين سليمان شاه ولدَ أخيه محمَّد، ورتَّبَ له وزيرًا وأتابكًا وحاجِبًا، وقرَّرَ قواعِدَه، وعادَ إلى مَرْوٍ في جمادى الآخرة مِن هذه السنة، فلمَّا فارق سنجر خوارزمَ عائدًا انتهَزَ خوارزم شاه الفُرصةَ فرجَعَ إليها، وكان أهلُها يَكرَهونَ العَسكَرَ السنجريَّ ويُؤثِرونَ عودةَ خوارزم شاه، فلمَّا عاد أعانوه على مِلْكِ البلدِ، ففارقهم سليمان شاه ومَن معه ورجَعَ إلى عَمِّه السُّلطانِ سنجر.
هو أبو العبَّاس أحمد بن أبي الحسن علي بن أبي العباس أحمد المعروف بالرفاعي، شيخُ الطائفةِ الأحمديَّة الرفاعية البطائحية الصوفيَّة المشهورة، كان أصلُه من العرب فسكن في البطائِحِ بقرية يقال لها: أم عبيدة، وانضم إليه خلقٌ عظيم من الفقراء، وأحسنوا الاعتقادَ فيه وتَبِعوه, حتى عُرِفوا بالطائفة الرفاعيَّة والبطائحية ويقال: إنَّه حَفِظَ التنبيه في الفقه على مذهب الشافعيِّ، قال الذهبي في العِبَر: وقد كَثُرَ الزغل في بعض أصحابه وتجدَّدَت لهم أحوال شيطانيَّة... وهذا ما لم يَعرِفْه الشيخُ ولا صُلَحاءُ أصحابِه، وذكر ابن خَلِّكان: "أنَّه قال: وليس للشيخ أحمد عَقِبٌ، وإنما النسل لأخيه وذريَّته يتوارثون المشيخة بتلك البلاد". مَرِضَ في آخر حياته حتى توفي يوم الخميس الثاني والعشرين من جمادى الأولى. والطريقة الرفاعية من الطرُقِ الصوفيَّة المنتشرة في كثيرٍ مِن البلاد، وقد غَلَوا في الرفاعيِّ حتى استغاثوا به من دونِ الله، وزعموا أنَّ لهم أحوالًا وكرامات،كالدخول في النيران، والركوب على السِّباع، واللعب بالحيات، وما إلى ذلك مما يُدَجِّلونَ به على العوامِّ مِمَّا لم يُنزِلْ به الله سلطانًا.
خلع الخليفةُ الناصر لدين الله على النائبِ في الوزارة: مؤيدِ الدينِ أبي عبدِ اللهِ محمَّدِ بنِ علي- المعروف بابن القصَّاب- خِلَعَ الوَزارةِ، وحَكَم في الولايةِ، وبرز في رمضانَ، وسار إلى بلاد خوزستان، وولي الأعمالَ بها، وصار له فيها أصحابٌ وأصدقاء ومعارف، وعَرَف البلادَ ومِن أيِّ وَجهٍ يُمكِنُ الدخول إليها والاستيلاءُ عليها، فلمَّا وَلِيَ ببغدادَ نيابةَ الوزارة أشار على الخليفةِ بأن يُرسِلَه في عسكر إليها ليملِكَها له، وكان عَزمُه أنَّه إذا ملك البلادَ واستقَرَّ فيها أقام مُظهِرًا للطاعة، مستقِلًّا بالحكم فيها، ليأمَنَ على نفسه، فاتَّفَق أنَّ صاحِبَها ابن شملة توفِّيَ، واختَلَف أولادُه بَعدَه، فراسل بعضُهم مؤيِّدَ الدين يستنجِدُه لِمَا بينهم من الصُّحبة القديمة، فقَوِيَ الطمعُ في البلاد، فجُهِّزَت العساكِرُ وسُيِّرَت معه إلى خوزستان، فوصلها سنةَ إحدى وتسعين وجرى بينه وبين أصحابِ البلاد مراسَلاتٌ ومحاربةٌ عَجَزوا عنها، ومَلَك مدينةَ تستر في المحرم، ومَلَك غيرها من البلاد، ومَلَك القلاع، وأنفذ بني شملةَ أصحابَ بلادِ خوزستان إلى بغداد، فوصلوا في ربيع الأول.