لم تكن الفتنةُ بين عبد الله وسعود أبناء فيصل بن تركي وليدةَ الساعة بعد وفاة والدهما، بل كانت روحُ التنافس موجودة بينهما من أيام والدهما؛ ولذلك جعل فيصل سعودًا أميرًا على الخَرجِ والأفلاج ومناطق جنوب بلاد العارض، وما أن توفي فيصل حتى ثار سعودٌ على أخيه عبد الله ينازعه في الحكمِ، واتجه إلى عسير ونزل على حكامِها آل عايض يطلب العونَ والمساعدة في حربِه على أخيه بحجَّةِ أنه كان يهينُه ولم يَرْعَ حَقَّه، وحاول عبد الله أن يثني سعودًا عن غرضه، ووعده بأن يلبي له طلبه إذا عاد إلى الرياض، لكِنَّ سعودًا لم ينثنِ عن عزمِه، ولَمَّا لم يجد العون من آل عايض اتجه إلى نجران يستنصِرُ بصاحبها، وهو في الأصل عدو لدعوة الشيخ محمد بن عبد الوهاب، وكذلك عدو لبيت آل سعود، فوعده بالنصرة، كما وقف مع سعود بن فيصل ضِدَّ أخيه عددٌ من القبائل، منهم العجمان، ويعض قبائل بدو الدواسر، وبنو مرة، وبدو نجران وأميرها الذي ساعده بالمال. وقد حَذَّر علماءُ أئمة الدعوة من هذه الفتنةِ، وأصدروا الفتاوى وبيَّنوا للعامَّةِ والخاصة بغيَ سعود على أخيه عبد الله، ومنها ما كتبه الشيخ عبد الرحمن بن حسن آل الشيخ: "بسم الله الرحمن الرحيم، من عبد الرحمن بن حسن إلى من يصل إليه من الإخوانِ، سلامٌ عليكم ورحمة الله وبركاته. وبعد: تفهمون أنَّ الجماعةَ فرضٌ على أهل الإسلام، وعلى من دان بالإسلامِ، كما قال تعالى: {وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُوا} [آل عمران: 103] ولا تحصل الجماعةُ إلا بالسمع والطاعة لِمَن ولاه الله أمرَ المسلمين، وفي الحديث الصحيح عن العِرباضِ بن ساريةَ، قال: وعَظَنا رسولُ الله صلى الله عليه وسلم موعظةً وَجِلَت منها القلوب، وذَرَفت منها العيونُ،.... الحديث، وقد جمع الله أوائِلَ الأمة على نبيه صلى الله عليه وسلم، وذلك بسبب الجهاد، وكذلك الخلفاء، رد الله بهم إلى الجماعةِ مَن خرج، وفتح الله لهم الفتوحَ، وجمع الله الناسَ عليهم، وتفهمون أنَّ الله سبحانه وتعالى جمعكم على إمامِكم عبد الله بن فيصل بعد وفاة والده فيصل، فالذي بايع بايعَ وهم الأكثرون، والذين لم يبايعوا بايعَ لهم كبارُهم، واجتمع عليه أهلُ نجدٍ باديهم وحاضِرُهم، وسمعوا وأطاعوا، ولا اختلف عليه أحدٌ منهم، حتى سعود بن فيصل، بايع أخاه وهو ما صار له مدخال في أمرِ المسلمين، لا في حياة والده ولا بعده، ولا التفت له أحدٌ من المسلمين. ونقَضَ البيعة، وتبيَّنَ لكم أمرُه أنه ساعٍ في شَقِّ العصا، واختلافِ المسلمين على إمامهم، وساعٍ في نقض بيعةِ الإمام، وقد قال تعالى: {وَأَوْفُوا بِعَهْدِ اللَّهِ إِذَا عَاهَدْتُمْ وَلا تَنْقُضُوا الْأَيْمَانَ بَعْدَ تَوْكِيدِهَا وَقَدْ جَعَلْتُمُ اللَّهَ عَلَيْكُمْ كَفِيلًا إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا تَفْعَلُونَ وَلا تَكُونُوا كَالَّتِي نَقَضَتْ غَزْلَهَا مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ أَنْكَاثًا تَتَّخِذُونَ أَيْمَانَكُمْ دَخَلًا بَيْنَكُمْ أَنْ تَكُونَ أُمَّةٌ هِيَ أَرْبَى مِنْ أُمَّةٍ إِنَّمَا يَبْلُوكُمُ اللَّهُ بِهِ وَلَيُبَيِّنَنَّ لَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مَا كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ} [النحل: 91،92] وسعى سعودٌ في ثلاثة أمور كُلُّها مُنكَرة: نَقَض البيعةَ بنفسِه، وفارق الجماعةَ، ودعا الناس إلى نقضِ بيعة الإمام، فعلى هذا يجِبُ قتالُه وقِتالُ من أعانه".
خَرَج إليون مِن القُسطنطينيَّة ومعه مائةُ أَلفِ فارِس، فأُخبِرَ بذلك البَطَّال وهو عبدُ الله الأنطاكي فأَخبَر البَطَّالُ أَميرَ عَساكِر المسلمين بذلك، وكان الأَميرُ مالِك بن شَبيب، وقال له: المَصلَحةُ تَقتَضِي أن نَتحَصَّن في مَدينَة حَرَّان فنَكُون بها حتَّى يَقدُم علينا سُليمانُ بن هِشام بالمَدَد، فأَبَى عليه ذلك ودَهمَهم الجَيشُ، فاقْتَتَلوا قِتالًا شَديدًا والأَبطالُ تَحومُ بين يدي البَطَّال ولا يَتَجاسر أَحدٌ أن يُنَوِّه باسمِه خَوفًا عليه مِن الرُّوم، فاتَّفَق أن ناداهُ بَعضُهم وذَكَر اسمَه غَلَطًا منه، فلمَّا سمع ذلك فِرسانُ الرُّوم حَمَلوا عليه حَملةً واحِدةً، فاقْتَلعوه مِن سَرْجِه بِرِماحِهم فأَلقوه إلى الأَرضِ، ورَأى النَّاسَ يُقتَلون ويُأسَرون، وقُتِلَ الأميرُ الكَبيرُ مالِكُ بن شَبيب، وانكَسَر المسلمون وانطلقوا إلى تلك المدينة الخَراب فتَحَصَّنوا فيها، وانطَلَق ليون إلى المسلمين الذين تَحَصَّنوا فحاصَرَهم، فبينما هم في تلك الشِّدَّةِ والحِصار إذ جاءَتهُم البُرُدُ بِقُدومِ سُليمان بن هِشام بالمَدَدِ، ففَرَّ ليون في جَيشِه هارِبًا راجِعًا إلى بِلادِه -قَبَّحَهُ الله- فدَخَل القُسطنطينيَّة وتَحصَّن بها.
انهزم نور الدين محمود بن زنكي من الفرنج، تحت حصن الأكراد، وهي الوقعة المعروفة بالبقيعة، وسببُها أن نور الدين جمع عساكِرَه ودخل بلاد الفرنج، ونزل في البقيعة تحت حصن الأكراد، محاصرًا له عازمًا على قصد طرابلس ومحاصرتها، فبينما الناس يومًا في خيامِهم وسط النهار، لم يَرُعْهم إلا ظهور صلبان الفرنج من وراء الجبل الذي عليه حِصن الأكراد، وذلك أن الفرنجَ اجتمعوا واتَّفَق رأيهم على كبسة المسلمين نهارًا، فإنَّهم يكونون آمنين، فركبوا من وقتهم، ولم يتوقفوا حتى يجمعوا عساكرهم، وساروا مُجِدِّين، فلم يشعر بذلك المسلمون إلا وقد قَرُبوا منهم، فأرادوا منعهم، فلم يطيقوا ذلك، فأرسلوا إلى نور الدين يعرفونَه الحال، فرهقهم الفرنج بالحملةِ، فلم يثبت المسلمون، وعادوا يطلُبون معسكر المسلمين، والفرنج في ظهورهم، فوصلوا معًا إلى العسكَرِ النوري، فلم يتمكن المسلمون من ركوب الخيل وأخْذ السلاح، إلا وقد خالطوهم، فأكثروا القتلَ والأسر، وكان أشدَّهم على المسلمين الدوقس الرومي؛ فإنه كان قد خرج من بلاده إلى الساحل في جمع كثير من الروم، فقاتلوا محتسبين في زعمهم، فلم يُبقوا على أحد، وقَصَدوا خيمةَ نور الدين وقد ركب فيها فرسَه ونجا بنفسه، ونزل نور الدين على بحيرة قدس بالقرب من حمص، وبينه وبين المعركة أربعةُ فراسخ، وتلاحق به مَن سَلِم من العسكر، وقال له بعضهم: ليس من الرأي أن تُقيم هاهنا؛ فإن الفرنج ربما حمَلَهم الطمع على المجيء إلينا، فنؤخَذَ ونحن على هذه الحال؛ فوبَّخه وأسكته، وقال: إذا كان معي ألفُ فارس لقيتُهم ولا أبالي بهم، ووالله لا أستظِلُّ بسقف حتى آخذ بثأري وثأر الإسلامِ، ثم أرسل إلى حلب ودمشق، وأحضرَ الأموال والثياب والخيام، والسلاح والخيل، فأعطى اللباسَ عِوَضَ ما أخذ منهم جميعه، فعاد العسكر كأن لم تُصِبْه هزيمة، وكلُّ من قتل أعطى أقطاعَه لأولاده، وأما الفرنج فإنهم كانوا عازمينَ على قصد حمص بعد الهزيمة لأنَّها أقرب البلاد إليهم، فلما بلغهم نزول نور الدين بينها وبينهم قالوا: لم يفعَلْ هذا إلا وعنده قوة يمنعُنا بها، ثم إن الفرنج راسلوا نور الدين يطلبون منه الصلحَ، فلم يُجِبهم، وتركوا عند حصن الأكراد من يحميه وعادوا إلى بلادِهم.
سار شهاب الدين غازي بن الملك العادل أبي بكر بن أيوب صاحب قلعة سرماري، وهي من أعمال أرمينية إلى خلاط، لأنه كان في طاعة صاحب خلاط، فحضر عنده، واستخلف ببلده أميرًا من أمرائه، فجمع هذا الأمير جمعًا وسار إلى بلاد الكرج، فنهب منها عدة قرى وعاد، فسمعت الكرج بذلك، فجمع صاحب دوين، واسمه شلوة، وهو من أكابر أمراء الكرج، عسكره وسار إلى سرماري فحصرها أيامًا، ونهب بلدها وسوادها ورجع، فسمع صاحب سرماري شهاب الدين الخبر، فعاد إلى سرماري، فوصل إليها في اليوم الذي رحل الكرج عنها، فأخذ عسكره وتبعهم، فأوقع بساقتهم، فقتل منهم وغنم، واستنقذ بعض ما أخذوا من غنائم بلاده، ثم إن صاحب دوين جمع عسكره وسار إلى سرماري ليحصرها، فوصل الخبَرُ إلى شهاب الدين بذلك، فحَصَّنها، وجمع الذخائر وما يحتاج إليه، فأتاه من أخبره أن الكرج نزلوا بوادي بني دوين وسرماري، وهو وادي ضيق، فسار بجميع عسكره جريدة –الجريدة: خَيْلٌ لا رَجَّالة فيها- وجَدَّ السير ليكبس الكرج، فوصل إلى الوادي الذي هم فيه وقت السحر، ففرق عسكره فرقتين: فرقةً من أعلى الوادي، وفرقة من أسفله، وحملوا عليهم وهم غافلون، ووضعوا السيف فيهم، فقتلوا وأسروا، فكان في جملة الأسرى شلوة أمير دوين، في جماعة كثيرة من مقدميهم، ومن سلم من الكرج عاد إلى بلدهم على حال سيئة، ثم إن ملك الكرج أرسل إلى الملك الأشرف موسى بن العادل، صاحب ديار الجزيرة، وهو الذي أعطى خلاط وأعمالها الأمير شهاب الدين، يقول له: كنا نظن أننا صلح، والآن فقد عمل صاحب سرماري هذا العمل، فإن كنا على الصلح فنريد إطلاق أصحابنا من الأسر، وإن كان الصلح قد انفسخ بيننا فتعرفنا حتى ندبِّر أمرنا، فأرسل الأشرف إلى صاحب سرماري يأمره بإطلاق الأسرى وتجديد الصلح مع الكرج، ففعل ذلك واستقرت قاعدة الصلح، وأُطلق الأسرى.
أهلَّت هذه السَّنةُ والنَّاسُ في أمرٍ مَريجٍ؛ لغيبة السلطانِ النَّاصِرِ أحمد بالكرك، وعند الأمراءِ تشوُّش كبير، ثمَّ قَدِمَ كِتابُ السلطان إلى الأمراءِ يُطَيِّبُ خواطِرَهم، ويُعَرِّفُهم أنَّ مِصرَ والشام والكرك له، وأنَّه حيث شاء أقام، ورسم أن تُجهَّزَ له الأغنامُ مِن بلاد الصعيد، وأكَّد في ذلك، وأوصى آقسنقر بأن يكون مُتَّفِقًا مع الأمراءِ على ما يكون من المصالحِ، فتنكَّرَت قلوبُ الأمراء ونفَرَت خواطرهم، واتَّفَقوا على خَلعِ السلطان وإقامة أخيه إسماعيل في يومِ الأربعاء حادي عشر المحرم، فكانت مدة ولايته ثلاثةَ أشهر وثلاثة عشر يومًا، منها مدَّةُ إقامته بالكرك ومراسيمُه نافذة بمصرَ أحد وخمسون، وإقامته بمصرَ مدة شهرين وأيام، وكانت سيرتُه سيئة، نَقَم الأمراءُ عليه فيها أمورًا، منها أنَّ رُسُلَه التي كانت تَرِدُ مِن قِبَلِه إلى الأمراء برسائِلِه وأسرارِه أوباشُ أهل الكرك، فلما قَدِموا معه إلى مصر أكثَروا من أخذِ ولاياتٍ ومِناصِبَ وهم غيرُ أهل لها، ومنها تحكُّمهم على الوزيرِ وغَيرِه، وحَجْبُهم السلطانَ حتى عن الأمراءِ والمماليك وأربابِ الدولة، فلا يمكِنُ أحدًا من رؤيتِه سوى يومي الخميس والاثنين نحو ساعة، ومع ذلك فإنَّه جمع أموالَ أبيه وغيرها من الأموال والحيواناتِ والمتاع ونَقَله كُلَّه إلى الكرك، ثم جلس السلطانُ الجديدُ الصالحُ إسماعيلُ على تخت الملك يوم الخميسِ ثاني عشر المحرم، بعد خَلْعِ أخيه باتِّفاقِ الأمراء على ذلك؛ لأنَّه بلَغَهم عنه أنَّه لَمَّا أخرجه الأميرُ قوصون فيمن أُخرِجَ إلى قوص أنَّه كان يصومُ يومي الاثنين والخميس، ويشغَلُ أوقاته بالصَّلاةِ وقراءة القرآن، مع العِفَّة والصيانة عمَّا يُرمَى به الشباب من اللهو واللعب، وحَلَف له الأمراءُ والعساكر، وحَلَف لهم السلطانُ ألَّا يؤذيَ أحدًا، ولا يقبِضَ عليه بغير ذنب يُجمَعُ على صِحَّتِه، ودُقَّت البشائِرُ، ولُقِّبَ بالملك الصالح عماد الدين، ونودي بالزِّينة.
هو الشيخُ الإمام العلامة الحافظُ الحجَّة الرُّحَلة الفقيه المقرئ المسنِد المؤرخ الخطيبُ: شهاب الدين أبو العباس أحمد بن محمد بن أبي بكر بن عبد الملك بن الزين أحمد بن الجمال محمد بن الصفي محمد بن المجد حسين بن التاج علي القسطلاني الأصل، القتيبي المصري الشافعي، ويعرف بالقسطلاني علَّامة الحديث, وأمُّه حليمة ابنة الشيخ أبي بكر بن أحمد بن حميدة النحاس. ولِدَ في الثاني والعشري ذي القعدة سنة 851 بمصر ونشأ بها فحفظ القرآن والشاطبيتين, والقراءات السبع ثم العشر، وكذا أخذ القراءات عن الشمس بن الحمصاني إمام جامع ابن طولون, وقرأ صحيحَ البخاري بتمامه في خمسة مجالسَ على الشاوي، وكذا قرأ عليه ثُلاثيات مسند أحمد، وحجَّ غير مرة وجاور سنة أربع وثمانين ثم سنة أربع وتسعين وسنتين قبلها على التوالي. وجلس للوعظ بالجامع العمري سنة ثلاث وسبعين وكذا بالشريفية بالصبانيين، بل وبمكة, ولم يكن له نظيرٌ في الوعظ، وكان يجتمع عنده الجمُّ الغفير مع عدم ميلِه في ذلك، وولي مشيخة مقام أحمد بن أبي العباس الحرَّاز بالقرافة الصغرى، وأقرأ الطلبة وجلس بمصر شاهدًا رفيقًا لبعض الفضلاء, وبعده اعتزل وتفرَّغ للكتابة, فكتب بخطِّه لنفسه ولغيره أشياء، بل جمع في القراءات العقود السنية في شرح المقدمة الجزرية في التجويد، ومن مؤلفاته: إرشاد الساري على صحيح البخاري، انتهى منه سنة 916, وتحفة السامع والقاري بختم صحيح البخاري, ونفائس الأنفاس في الصحبة واللباس, والروض الزاهر في مناقب الشيخ عبد القادر, وعمل تأليفًا في مناقبه سماه: نزهة الأبرار في مناقب الشيخ أبي العباس الحرَّار, وتحفة السامع والقارئ بختم صحيح البخاري. وهو كثير الأسقام قانعٌ متعفِّف جيد القراءة للقرآن والحديث والخطابة، شجيُّ الصوت بها، مشارك في الفضائل، متواضع متودِّد لطيف العشرة سريعُ الحركة. قال محي الدين عبد القادر العَيدَروس: "وارتفع شأنُه بعد ذلك فأُعطيَ السعدَ في قَلَمِه وكَلِمِه، وصنَّف التصانيف المقبولة التي سارت بها الركبانُ في حياته، ومن أجَلِّها شرحُه على صحيح البخاري مزجًا في عشرة أسفار كبار، لعله أحسَنُ شروحِه وأجمعُها وألخصُها، ومنها المواهب اللدُنِّية بالمنح المحمدية، وهو كتاب جليل المقدار عظيم الوقع كثير النفع، ليس له نظير في بابه، ويحكى أن الحافظ السيوطي كان يغُضُّ منه ويزعم أنه يأخذ من كتبه ويستمدُّ منها ولا ينسبُ النقل إليها، وأنَّه ادَّعى عليه بذلك بين يدي شيخ الإسلام زكريا فألزمه ببيان مدَّعاه، فعدد عليه مواضِعَ قال إنه نقَلَ فيها عن البيهقي، وقال إن للبيهقي عدةَ مؤلفات فليذكرْ لنا ما ذكر في أي مؤلفَّاته ليُعلَمَ أنَه نقل عن البيهقي، ولكنه رأى في مؤلفاتي ذلك النقلَ عن البيهقي فنقله برُمَّته، وكان الواجب عليه أن يقول نقل السيوطي عن البيهقي، وحكى الشيخ جار الله بن فهد رحمه الله: أنَّ الشيخ رحمه الله تعالى قصد إزالةَ ما في خاطر الجلال السيوطي فمشى من القاهرة إلى الروضة، وكان السيوطي معتزلًا عن الناس بالروضة فوصل القسطلاني إلى باب السيوطي ودق الباب فقال له: من أنت؟ فقال: أنا القسطلاني جئتُ إليك حافيًا مكشوف الرأس ليطيبَ خاطرُك عليَّ، فقال له: قد طاب خاطري عليك، ولم يفتح له الباب ولم يقابله! وبالجملة فإنه كان إمامًا حافظًا متقنًا جليل القدر حسن التقرير والتحرير، لطيف الإشارة بليغ العبارة، حسن الجمع والتأليف، لطيف الترتيب والتصنيف، كان زينة أهل عصره، ونقاوة ذوي دهره، ولا يقدح فيه تحامُلُ معاصريه عليه، فلا زالت الأكابر على هذا في كل عصرٍ- رحمهم الله" أصيب القسطلاني بالفالج، ثم توفي ليلة الجمعة السابع محرم بالقاهرة ودفن بالمدرسة العينية جوار منزله، ووافق يومُ دفنه الثامن محرم دخولَ السلطان سليم الأول العثماني عَنْوةً إلى مصر وتملُّكه بها.
أول هذه السنة وصلت سرية للريِّ من التتر من عند مَلكِهم جنكيزخان، وهؤلاء غيرُ الطائفة الغربية، وكان من سَلِمَ من أهلها قد عادوا إليها وعَمَروها، فلم يشعروا بالتتر إلا وقد وصلوا إليها، فلم يمتَنِعوا عنهم، فوضعوا في أهلها السيفَ وقتلوهم كيف شاؤوا، ونهبوا البلد وخَرَّبوه، وساروا إلى ساوة ففعلوا بها كذلك، ثمَّ إلى قم وقاشان، وكانتا قد سَلِمَتا من التتر أولًا، فإنَّهم لم يقربوهما، ولا أصاب أهلَهما أذًى، فأتاهما هؤلاء وملكوهما، وقتلوا أهلَهما، وخَرَّبوها، وألحقوهما بغيرِهما من البلاد الخراب، ثم ساروا في البلادِ يُخرِبون ويقتلون وينهَبون، ثم قصدوا همذان، وكان قد اجتمع بها كثيرٌ ممن سَلِمَ من أهلها، فأبادوهم قتلًا وأسرًا ونهبًا، وخرَّبوا البلد، وكانوا لَمَّا وصلوا إلى الريِّ رأوا بها عسكرًا كثيرًا من الخوارزمية، فكَبَسوهم وقتلوا منهم، وانهزم الباقون إلى أذربيجان، فنزلوا بأطرافِها، فلم يَشعُروا إلا والتترُ أيضًا قد كبسوهم ووضعوا السيفَ فيهم، فولوا منهزمين، فوصل طائفةٌ منهم إلى تبريز، وأرسلوا إلى صاحِبِها أوزبك بن البهلوان يقولون: إن كنتَ موافِقَنا فسَلِّمْ إلينا من عندك من الخوارزمية، وإلا فعرفنا أنك غير موافقٍ لنا، ولا في طاعتِنا، فعمد إلى من عنده من الخوارزمية فقتل بعضَهم وأسر بعضهم، وحمل الأسرى والرؤوس إلى التتر، وأنفذ معها من الأموال والثياب والدواب شيئًا كثيرًا، فعادوا عن بلاده نحو خراسان، فعلوا هذا وليسوا في كثرة، كانوا نحو ثلاثة آلاف فارس، وكان الخوارزمية الذين انهزموا منهم نحو ستة آلاف راجل، وعسكر أوزبك أكثرُ من الجميع، ومع هذا فلم يحَدِّثْ نَفسَه ولا الخوارزمية بالامتناع منهم.
كان صنجيل الفرنجي قد ملك مدينة جبلة، وأقام على طرابلس يحصرها، فحيث لم يقدر أن يملكها بنى بالقرب منها حصنًا وبنى تحته ربضًا، وأقام مراصد لها، منتظرًا وجود فرصة فيها، فخرج فخر الملك أبو علي بن عمار، صاحب طرابلس، فأحرق ربضه، ووقف صنجيل على بعض سقوفه المتحرقة، ومعه جماعة من القمامصة -كبار القساوسة- والفرسان، فانخسف بهم، فمرض صنجيل من ذلك عشرة أيام ومات، وحُمل إلى القدس فدُفن فيه، ثم إن ملك الروم أمر أصحابه باللاذقية ليحملوا الميرةَ إلى هؤلاء الفرنج الذين على طرابلس، فحملوها في البحر، فأخرج إليها فخر الملك بن عمار أسطولًا، فجرى بينهم وبين الروم قتال شديد، فظَفِر المسلمون بقطعة من الروم فأخذوها، وأسروا من كان بها وعادوا، ولم تزل الحرب بين أهل طرابلس والفرنج عدةَ سنين، فعدمت الأقوات بها، وخاف أهلها على نفوسهم وأولادهم وحرمهم، فجلا الفقراء وافتقر الأغنياء، وظهر من ابن عمار صبر عظيم وشجاعة ورأي سديد، ومما أضر بالمسلمين فيها أن صاحبها استنجد سقمان بن أرتق فجمع العساكر وسار إليه، فمات في الطريق وأجرى ابن عمار الجرايات على الجند والضَّعَفة، فلما قلَّت الأموال عنده شرع يقسط على الناس ما يخرجه في باب الجهاد، فأخذ من رجلين من الأغنياء مالًا مع غيرهما، فخرج الرجلان إلى الفرنج وقالا: إن صاحبنا صادَرَنا، فخرجنا إليكم لنكون معكم، وذكرا لهم أنه تأتيه الميرة من عرقة والجبل، فجعل الفرنج جميعًا على ذلك الجانب يحفظُه من دخول شيء إلى البلد، فأرسل ابن عمار وبذل للفرنج مالًا كثيرًا ليسَلِّموا الرجلين إليه فلم يفعلوا، فوضع عليهما مَن قتلهما غيلةً.
هو العلَّامة أبو محمد عبد العزيز بن عبد السلام بن القاسم بن الحسن بن محمد المهذب، المشهورُ بالعز بن عبد السلام السلمي الدمشقي الشافعي شيخ المذهب ومُفيدُ أهله، وله مصنَّفاتٌ حِسانٌ، منها التفسير الكبير، واختصار النهاية، والقواعد الكبرى والصغرى قواعد الأحكام في مصالح الأنام، وكتاب الصلاة، والفتاوى الموصلية، وغير ذلك، ولد سنة 578 وقيل سنة سبع، وسَمِعَ كثيرًا، واشتغل على فخر الدين بن عساكر وغيره، وبرع في المذهَبِ وجَمَعَ عُلومًا كثيرة، وأفاد الطلبةَ ودَرَّسَ بعدة مدارس بدمشق، وولي خطابتَها ثم نفاه صاحِبُها إلى مصر بسَبَبِ أنَّه شنع عليه لتسليمه صفد والشقيف للصليبيين لقاءَ مساعدته على صاحبِ مصر، فدَرَّس بمصرَ وخَطَب وحكم. قال الذهبي: " دخل الشيخ عز الدين بن عبد السلام الشافعي إلى ديار مصر، وأقبل عليه السلطانُ الملك الصالح نجم الدين أيوب إقبالًا عظيمًا، وولَّاه الخطابة والقضاء، فعزل نفسَه من القضاءِ مرتين وانقطع" انتهت إليه رئاسة الشافعيَّةُ، وقُصِدَ بالفتاوى من الآفاق، وكان رحمه الله آمرًا بالمعروف ناهيًا عن المنكر لا يخافُ في الله لومة لائم، ذكر جلال الدين السيوطي: "ولي الشيخُ عز الدين بن عبد السلام قضاءَ مِصرَ والوجه القبلي، وكان قَدِمَ في هذه السنة من دمشق بسبب أن سلطانَها الملك الصالح إسماعيل استعان بالفرنج وأعطاهم مدينةَ صيدا وقلعة الشقيف. فأنكر عليه الشيخُ عز الدين، وتَرَك الدعاء له في الخطبة، فغضب السلطانُ منه، فخرج إلى الديارِ المصريَّة، فأرسل السلطان الملك الصالح إسماعيل إلى الشيخ عز الدين؛ وهو في الطريق من يتلطَّفُ به في العَودِ إلى دمشق، فاجتمع به ولاينه، وقال له: ما نريد منك شيئًا إلا أن تنكَسِرَ للسلطان، وتقَبِّلَ يَدَه لا غير, فقال الشيخ له: يا مسكين، ما أرضاه يُقَبِّلُ يدي فضلًا عن أن أقبِّلَ يده! يا قوم، أنتم في وادٍ وأنا في وادٍ! والحمد لله الذي عافانا ممَّا ابتلاكم. فلما وصل إلى مصر، تلقَّاه سلطانها الصالحُ نجم الدين أيوب وأكرمه، وولَّاه قضاء مصر، فاتفق أن أستاذ داره فخر الدين عثمان بن شيخ الشيوخ- وهو الذي كان إليه أمر المملكة- عمد إلى مسجدٍ بمصر، فعَمِلَ على ظهره بناء طبلخاناه– مكان تدق فيه الطبول والأبواق- وبَقِيَت تُضرَبُ هناك، فلما ثبت هذا عند الشيخِ عز الدين حكَمَ بهَدمِ ذلك البناء، وأسقطَ عدالةَ فخر الدين، وعزَلَ نفسه من القضاء، ولم تَسقُطْ بذلك منزلة الشيخ عند السلطان، ولَمَّا تولى الشيخ عز الدين القضاء تصَدَّى لبيع أمراء الدَّولةِ من المماليك الأتراك، وذكر أنه لم يَثبُت عنده أنهم أحرار، وأنَّ حُكمَ الرِّقِّ مُستصحَبٌ عليهم لبيت مالِ المسلمين، فبَلَغَهم ذلك، فعَظُمَ الخطبُ عندهم، والشيخُ مُصَمِّمٌ لا يُصَحِّحُ لهم بيعًا ولا شراءً ولا نكاحًا، وتعطَّلَت مصالحُهم لذلك؛ وكان من جملتِهم نائبُ السلطنة، فاستثار غضبًا، فاجتمعوا وأرسلوا إليه، فقال: نعقِدُ لكم مجلسًا، وننادي عليكم لبيتِ مال المسلمينَ، فرفعوا الأمرَ إلى السلطان، فبعث إليه فلم يرجِعْ، فأرسل إليه نائِبَ السلطنة بالملاطفةِ فلم يُفِدْ فيه، فانزعج النائبُ، وقال: كيف ينادِي علينا هذا الشَّيخُ، ويبيعُنا ونحن ملوكُ الأرضِ؟! واللهِ لأضربَنَّه بسيفي هذا، فرَكِبَ بنفسه في جماعته، وجاء إلى بيتِ الشيخ والسَّيفُ مسلول في يده، فطرق البابَ، فخرج ولدُ الشيخ، فرأى مِن نائبِ السلطان ما رأى، وشرحَ لأبيه الحال، فقال له: يا ولدي، أبوك أقلُّ من أن يُقتَلَ في سبيل الله، ثم خرج, فحين وقَعَ بصَرُه على النائِبِ يَبِسَت يدُ النائب، وسَقَط السيف منها، وأُرعِدَت مفاصِلُه، فبكى وسأل الشيخَ أن يدعو له، وقال: يا سيدي أيش تعمل؟ فقال: أنادي عليكم وأبيعُكم، قال: ففيم تَصرِفُ ثمَنَنا؟ قال: في مصالحِ المسلمينَ، قال: من يَقبِضُه؟ قال: أنا. فتَمَّ ما أراد، ونادى على الأمراءِ واحدًا واحدًا، وغالى في ثمَنِهم ولم يَبِعْهم إلَّا بالثَّمَن الوافي، وقَبَضَه وصَرَفه في وجوهِ الخير". توفي في عاشر جمادى الأولى وقد نيف على الثمانين، ودُفِنَ مِن الغد بسفحِ المقَطَّم، وحضر جنازتَه السلطان الظاهِرُ وخَلقٌ كثير، وقد كان يُعرَفُ بسلطانِ العلماء؛ لأنه كان مهابًا من قِبَل السلاطينِ، وكان يقول الحقَّ أمامَهم ولا يخافُهم، ويُفتي بلا مداهنةٍ بما يراه، وأشهَرُ ذلك فتواه لَمَّا جاء ابنُ العديم إلى مصر يحمِلُ رسالة استنجاد من قِبَلِ الناصر صلاح الدين صاحِبِ دمشق ضِدَّ التتار فجمَعَ الفقهاء والقضاة ليستفتوهم بأخذ المالِ من العامة لتجهيزِ الجيوشِ، فكان كلامُ العِزِّ بن عبد السلام هو الذي عوَّلوا عليه، وهو أنَّه قال: لا يأخُذُ السلطانُ مِن العامة أيَّ مالٍ إلا بعد أن ينتهيَ المالُ الذي في بيت المال، ثمَّ تُنفَقُ الجواهر والذَّهَب وما إلى ذلك التي عند الملوكِ والأمراءِ حتى يُصبِحوا في القَدرِ كالعامَّة، فحينها يجوزُ لهم أخذُ المال من العامة؛ لأن واجِبَ الجهادِ بالمالِ والنَّفسِ أصبَحَ على الجميعِ، فرحمه الله وجزاه خيرًا.
لما رأى أهل بلاد الهبط ما وقع من افتراق الكلمة وتوقُّد الفتن، بايعوا محمد بن الشيخ المعروف بزغودة، وكان الذي قام بدعوته الشريفَ أبا الحسن علي بن محمد بن علي بن عيسى بن عبد الرحمن الإدريسي المحمدي اليونسي المعروف بابن ريسون، وهي أم جدة علي نزيل تاصروت، وبايعوه على الكتاب والسنة، وعلى إحياء الحق وإماتة الباطل، فلما بلغ خبَرُه أخاه عبد الله، خرج لقتاله فالتقى الجمعان بوادي الطين واقتتلوا، فانهزم عبد الله وتقدم محمد إلى فاس فدخلها واستولى عليها في شعبان من هذه السنة، وقبض على بعض عمَّال عبد الله فقتلهم واستصفى أموالهم، وفي آخر شعبان وقعت الحربُ بينهما بمكناسة فانهزم محمد ودخل عبد الله فاس في مستهل رمضان من السنة وأظهر العفوَ عن الخاصِّ والعامِّ، ثم قتل أهلُ فاس قائدَه ابنَ شعيب وأخذوا حِذرَهم من عبد الله، ثم وقع قتال بين أهل الطالعة وأهل فاس الجديد ودام أيامًا عديدة حتى اصطلحوا لتاسع رجب من سنة 1029 ثم إن عبد الله خرج لقتال أخيه محمد، فوقعت المعركة بينهما بوادي بهت، فانهزم محمد وفرَّ شريدًا إلى أن قتله ابنُ عمه
هو الشَّيخُ الإمامُ العالمُ العَلَمُ العلَّامةُ الفقيهُ الحافِظُ الزاهِدُ العابِدُ القدوةُ شيخُ الإسلامِ: تقيُّ الدين أبو العباس أحمد بن شهاب الدين أبي المحاسن عبد الحليم بن أبي البركات عبد السلام بن عبد الله بن أبي القاسم محمد بن الخضر بن محمد ابن الخضر بن علي بن عبد الله بن تيمية الحراني ثمَّ الدمشقي، وكان مولِدُه يومَ الاثنين عاشر ربيع الأول بحران سنة 661، وقَدِمَ مع والده وأهلِه إلى دمشقَ وهو صغير، فسَمِعَ الحديثَ وقرأ بنفسِه الكثيرَ، وطلب الحديثَ وكُتُبَ الطبقاتِ والأثباتِ، ولازم السَّماعَ بنفسه مُدَّةَ سنين، وقَلَّ أن سَمِعَ شَيئًا إلَّا حَفِظَه، ثم اشتغل بالعلومِ، وكان ذكيًّا كثيرَ المحفوظ، فصار إمامًا في التفسير وما يتعلَّق به عارفًا بالفقه، فيقال: إنه كان أعرَفَ بفقه المذاهِبِ مِن أهلِها الذي كانوا في زمانِه وغيره، وكان عالِمًا باختلاف العلماء، عالِمًا في الأصول والفروعِ، والنحو واللغة، وغير ذلك من العلوم النَّقليَّة والعقلية، وما قُطع في مجلسٍ، ولا تكَلَّمَ معه فاضِلٌ في فنٍّ مِن الفنونِ إلَّا ظَنَّ أنَّ ذلك الفَنَّ فَنُّه، ورآه عارفًا به متقِنًا له، وأما الحديثُ فكان حامِلَ رايتِه حافظًا له مميِّزًا بين صحيحِه وسقيمِه، عارفًا برجاله متضَلِّعًا من ذلك، وله تصانيفُ كثيرة وتعاليقُ مُفيدة في الأصولِ والفروع، كمُلَ منها جملةٌ وبُيِّضَت وكُتِبَت عنه وقُرِئَت عليه أو بَعضُها، وجملةٌ كبيرةٌ لم يُكمِلْها، وأثنى عليه وعلى علومِه وفضائِلِه جماعةٌ من عُلَماءِ عَصرِه، وأمَّا أسماءُ مُصَنَّفاتِه وسيرته وما جرى بينه وبين الفُقَهاءِ والدولة وحَبسُه مراتٍ وأحوالُه، فلا يُحتَمَلُ ذِكرُ جَميعِها في هذا الموضِعِ، توفِّيَ في ليلة الاثنين والعشرين من ذي القعدة بقلعةِ دمشق بالقاعةِ التي كان محبوسًا بها، وحضر جمعٌ كثيرٌ إلى القلعة، وأُذِنَ لهم في الدخول عليه، وجَلَس جماعة عنده قبل الغُسلِ واقتصروا على مَن يُغَسِّلُه، فلما فُرِغَ مِن غُسلِه أُخرِجَ ثم اجتمع الخَلقُ بالقلعة والطريقِ إلى الجامعِ، وامتلأ بالجامع أيضًا وصَحنِه والكلاسة وباب البريد وباب الساعات إلى باب اللبادين والغوارة، وحضرت الجنازةُ في الساعة الرابعة من النهار أو نحو ذلك ووُضِعَت في الجامع، والجندُ قد احتاطوا بها يحفَظونَها من النَّاسِ مِن شِدَّة الزحام، وصُلِّيَ عليه أولًا بالقلعة، تقدَّمَ في الصلاة عليه أولًا الشيخ محمد بن تمام، ثم صُلِّيَ عليه بالجامِعِ الأمويِّ عَقيبَ صلاة الظهر، وقد تضاعَفَ اجتِماعُ الناس ثم تزايد الجَمعُ إلى أن ضاقت الرِّحابُ والأزِقَّة والأسواق بأهلِها ومَن فيها، ثم حُمِلَ بعد أن صُلِّيَ عليه على الرؤوس والأصابع، وخرج النَّعشُ به من باب البريد واشتدَّ الزحامُ وعَلَت الأصواتُ بالبُكاء والنَّحيب والترحُّم عليه والثَّناء والدعاء له، وألقى الناسُ على نعشِه مناديلَهم وعمائِمَهم وثيابَهم، وذهبت النِّعالُ مِن أرجُلٍ, وبالجملةِ كان يومُ جنازته يومًا مشهودًا لم يُعهَدْ مثلُه بدمشقَ إلَّا أن يكون في زمَنِ بني أمية حين كان الناسُ كثيرين، وكانت دار الخلافة، ثم دُفِنَ عند أخيه قريبًا من أذان العصر على التحديد، ولا يمكِنُ أحدًا حصرُ من حضر الجِنازةَ، وتقريبُ ذلك أنَّه عبارةٌ عمَّن أمكنه الحضورُ من أهل البلَدِ وحواضِرِه ولم يتخلَّفْ مِن الناس إلا القَليلُ مِن الصغار والمخَدَّرات، وما تخلَّفَ أحدٌ من أهل العلمِ إلَّا النفرُ اليسير تخلَّف عن الحضور في جنازته، وهم ثلاثةُ أنفس: وهم ابنُ جملة، والصدر، والقفجاري، وهؤلاء كانوا قد اشتهروا بمعاداتِه فاختَفَوا من الناس خوفًا على أنفُسِهم، بحيث إنَّهم علموا متى خرجوا قُتِلوا وأهلَكَهم الناس، ورُئيَت له مناماتٌ صالحةٌ عَجيبةٌ، ورُثِيَ بأشعارٍ كثيرة وقصائِدَ مُطَوَّلة جدًّا، وقد أُفرِدَت له تراجِمُ كثيرة، وصَنَّف في ذلك جماعةٌ من الفضلاء وغيرهم، ويدُلُّ على علمِه وفَضلِه مُصَنَّفاتُه، كالتفسير، ومنهاج السنة، ودرء تعارض العقل والنقل، وفتاويه التي جُمِعَت، وغيرها كثير، كان جريئًا قويًّا لا يخاف في الله لومةَ لائم، حثَّ الناسَ والأمراء على جهاد التتار، بل ذهب بنفسه لمقابلةِ مَلِكهم قازان حين جاء ليدخُلَ دمشق وقال له: أنت تدعي أنك مسلم فلمَ جئت تغزو بلاد الإسلامِ؟ وغير ذلك من المواقف المشَرِّفة، مثل وقت استفتاه السلطان الناصر محمد بن قلاوون في قَتْلِ الفقهاء والقضاة الذين كانوا ضِدَّه يومَ خَلَع نفسَه وكانوا مع المظفَّر بيبرس، وكان منهم من آذى الشيخَ نَفسَه، فلم يُفْتِ له الشيخُ بأذِيَّتِهم، بل بيَّنَ له حُرمةَ وقَدرَ العُلَماءِ، وقال: إنَّه لا ينتصر لنفسِه، وكلُّ من آذاه فهو في حِلٍّ، وهذا من تمامِ فَضلِه وحُسنِ خُلُقِه، وله الأثرُ الكبيرُ في مُناظرة أهلِ البِدَع والعقائِدِ الفاسدة بما أحيا اللهُ على يديه ممَّا اندرس بين النَّاسِ منها، فكان بحَقٍّ مُجَدِّدًا للدين، فرحمه الله تعالى وجزاه عن الإسلامِ والمسلمين خيرًا.
أُنشِئَت هذه المكتبةُ في القرن الثاني الهجري ( الثامن الميلادي) على يدِ هارونَ الرشيد، وذلك بعد أن ضاقت مكتبةُ القَصرِ بما فيها من كتُبٍ, وعَجَزت عن احتواءِ القُرَّاء المتردِّدين عليها؛ ممَّا جعله يفكِّرُ في إخراجِها من القصر, وإفرادِها بمبنًى خاصٍّ بها, يَصلُحُ لاستيعابِ أكبَرِ عدَدٍ مِن الكتُبِ, ويكون مفتوحًا أمام كلِّ الدارسينَ وطُلَّابِ العِلمِ. فاختار لها مكانًا مُناسِبًا, وأقام عليه مبنًى مكَوَّنًا من عدَّةِ قاعات؛ قاعة للاطِّلاع, وقاعة للمُدارَسة, وقاعة لنَسخِ الكتُبِ الجديدة وتجليدِها, وقاعة للتَّرويحِ عن النَّفسِ وللاستراحةِ. ومسجِدًا للصلاةِ, ومكانًا يَبيتُ فيه الغُرَباء, تتوفَّرُ فيه مقوِّماتُ الحياةِ مِن طعامٍ وشَرابٍ وغَيرِه, ومخزنًا للكتُب, نظمَت فيه بحيثُ صار لكُلِّ فَنٍّ مِن الفنون العِلميَّة مكانٌ خاصٌّ به, وتُوضَعُ فيه مُرَتَّبةً في دواليبَ، ثم زوَّدها بما تحتاجُ إليه من أثاثٍ ومرافِقَ, وأحبارٍ وأوراقٍ للدارسين, وعيَّنَ لها المُشرِفينَ على إدارتِها, والعُمَّالَ القائمينَ على خدمة ورعايةِ زائريها. وواصلَ ابنُه المأمونُ بعده الاهتمامَ بتلك المكتبةِ، فأحضر مئاتِ النُّسَّاخ والشُّرَّاح والمُترجِمينَ مِن شَتَّى اللُّغات؛ لتعريبِ ونَقلِ الكتُبِ من لغَتِها الأصلية, حتى غَدَت من أعظَمِ المكتبات في العالَم, ووضع بها مرصدًا؛ ليكون تعليمُ الفلَكِ فيها تعليمًا عمليًّا، يجَرِّبُ فيها الطلابُ ما يدرُسونَه من نظريَّاتٍ عِلميَّةٍ, وبنى بها مستشفًى لعلاجِ المرضى وتعليمِ الطِّبِّ؛ إذ كان يؤمِنُ بأن العِلمَ النظري وحده لا جَدوى منه. وكتب إلى ملكِ الرومِ يسألُه الإذنَ في إنفاذِ ما عنده من العلومِ القديمة المخزونةِ المورَّثة عن اليونان, واجتمع لدى المأمونِ بذلك ثروةٌ هائلةٌ مِن الكتبِ القديمة, فشَكَّلَ لها هيئةً مِن المترجمينَ المَهَرة والشُّرَّاح والورَّاقينَ؛ للإشرافِ على ترميمِها ونَقلِها إلى العربيَّة, وعيَّنَ مسؤولًا لكلِّ لغةٍ يُشرِفُ على من يُترجِمونَ تُراثَها, وأجرى عليهم الرواتبَ العظيمة, حيث جعل لبعضِهم خمسَمائة دينارٍ في الشهر, أي ما يساوي 2كيلو جرام ذهبًا تقريبًا, بالإضافة إلى الأعطيات الأخرى, إذ أعطى على بعضِ الكتُبِ المُترجَمة وزنَها ذهبًا. وبعضُهم كان يقومُ بترجمة الأصلِ إلى لُغتِه هو, ثم يقومُ مترجِمٌ آخَرُ بنَقلِه إلى العربيَّةِ وغيرِها, ولم يقتَصِرْ دَورُ المترجمينَ على الترجمةِ فقط، وإنما قاموا بالتعليقِ على هذه الكتب، وتفسيرِ ما فيها من نظريَّات, ونَقْلها إلى حيِّز التطبيق, وإكمالِ ما فيها من نَقْصٍ, وتصويبِ ما فيها من خطأٍ؛ حيث كان عمَلُهم يُشبِهُ ما يسمَّى بالتحقيقِ الآن, وما إن انتهى عصرُ المأمون حتى كانت معظَمُ الكتُبِ اليونانيَّة والهنديَّة والفارسية وغيرِها من الكتب القديمة في علومِ الرياضةِ والفَلَك والطبِّ والكيمياءِ والهندسةِ موجودةً بصورتها العربيَّة الجديدةِ بمكتبة بيتِ الحكمةِ. كان للترجمةِ التي عَمِلَ عليها المأمونُ أثَرٌ واضِحٌ في تطوُّرِ الحركة العلميَّة لدى المسلمين إلَّا أنَّها نقَلَت معها بعضَ مُعتَقداتِ الأُمَم السابقة، وأفسدت على بعضِ المُسلِمين دينَهم. يقولُ شيخُ الإسلامِ ابنُ تيميَّة: "أظهر اللهُ مِن نورِ النبوةِ شَمسًا طَمَسَت ضوءَ الكواكبِ، وعاش السَّلَفُ فيها بُرهةً طويلةً، ثم خَفِيَ بعضُ نورِ النبوة؛ فعُرِّبَ بعضُ كتُبِ الأعاجِمِ الفلاسفةِ مِن الرومِ والفُرس والهند في أثناءِ الدولة العباسيَّة، ثم طُلِبَت كتُبُهم في دولة المأمونِ مِن بلاد الروم فعُرِّبَت، ودَرَسَها الناسُ وظهر بسبب ذلك من البِدَعِ ما ظهر، وكان أكثَرُ ما ظهر من علومِهم الرياضيَّة كالحسابِ والهيئةِ، أو الطبيعةِ كالطبِّ أو المنطقيَّة، فأمَّا الإلهيَّةُ: فكلامُهم فيها نَزْرٌ، وهو مع نزارتِه ليس غالِبُه عندهم يقينًا، وعند المسلمينَ من العلومِ الإلهيَّة الموروثة عن خاتَمِ المُرسَلين ما ملأ العالمَ نُورًا وهدًى". وقال أيضًا رحمه الله: "إنَّ أمَّتَنا- أهلَ الإسلامِ- ما زالوا يَزِنون بالموازينِ العَقليَّة, ولم يسمَعْ سَلَفًا بذكرِ هذا المنطقِ اليوناني, وإنَّما ظهر في الإسلامِ لَمَّا عُرِّبَت الكتبُ الروميَّة في عهد دولة المأمونِ"
كان هذا النَّصرانيُّ من أهل السويداء قد شَهِدَ عليه جماعةٌ أنَّه سَبَّ النبيَّ صلى الله عليه وسلم، وقد استجار هذا النصرانيُّ بعساف بن أحمد بن حجي أمير آل مري، فاجتمع شيخُ الإسلام تقي الدين ابنِ تيميَّة، والشيخ زين الدين الفارقي شيخُ دار الحديث، فدخلا على الأميرِ عزِّ الدين أيبك الحموي نائبِ السَّلطنة فكَلَّماه في أمرِه فأجابهما إلى ذلك، وأرسل ليُحضِرَه فخرجَا من عنده ومعهما خلقٌ كثيرٌ من الناس، فرأى الناسُ عسَّافًا حين قَدِمَ ومعه الرجلُ فسَبُّوه وشَتَموه، فقال عساف: هو خيرٌ منكم- يعني النصرانيَّ- فرجمَهما الناسُ بالحجارة، وأصابت عسَّافًا ووقعت خبطةٌ قويَّةٌ، فأرسل النائِبُ فطلب الشيخينِ ابنَ تيميَّةَ والفارقيَّ فضرَبَهما بينَ يديه، ورسَمَ عليهما في العذراويَّة، وقَدِمَ النصرانيُّ فأسلَمَ وعُقِدَ مجلسٌ بسَبَبِه، وأثبت بينه وبين الشهودِ عداوةً، فحُقِنَ دمُه، ثم استدعى بالشيخينِ فأرضاهما وأطلقَهما، ولحقَ النصرانيُّ بعد ذلك ببلادِ الحجاز، ثم في السنة التالية اتفق قتلُ عَسَّاف قريبًا من مدينة رسولِ اللهِ صلَّى الله عليه وسلَّم، قتَلَه ابنُ أخيه هنالك، وصَنَّف الشيخُ تقي الدين ابن تيميَّةَ بسَبَبِ هذه الواقعةِ كتابَه المشهورَ (الصارمُ المسلول على شاتِمِ الرَّسول).
كان أبو بكرٍ قد كتَب إلى خالدٍ أن يَلحقَ بالشَّام لِمُساندةِ أَجنادِ المسلمين، وأَمَدَّ هِرقلُ الرُّومَ بباهان، فطلَع عليهم وقد قَدَّمَ الشَّمامِسَةَ والرُّهْبانَ والقِسِّيسينَ يَحُضُّونهم على القِتالِ، ولمَّا قَدِمَ خالدٌ الشَّامَ أشار على الأُمراءِ أن يَجتمِعوا تحت قِيادةٍ واحدةٍ، فقال لهم: إنَّ تَأْمِيرَ بعضِكم لا يُنْقِصُكم عند الله ولا عند خَليفةِ رسولِ الله صلَّى الله عليه وسلَّم فهَلُمُّوا فَلْنَتَعاوَر الإمارةَ، فليَكُنْ عليها بَعضُنا اليومَ، والآخرُ غدًا، حتَّى يتَأَمَّرَ كُلُّكُم، ودَعوني أَتَوَلَّى أَمْرَكم اليومَ, فأَمَّرُوه. خرَجت الرُّومُ في تَعْبِئَةٍ لم يَرَ الرَّاءون مِثلَها قَطُّ، مِائتي ألفٍ وأربعين ألفًا، منهم ثمانون ألفًا مُقَيَّدٌ بالسَّلاسِل. وخرَج خالدٌ في تَعْبِئَةٍ لم تُعَبِّئْها العَربُ قبلَ ذلك، وكان المسلمون سِتَّة وثلاثين ألفًا. وقِيلَ سِتَّة وأربعين ألفًا, جعلهم خالدٌ في سِتَّة وثلاثين كُرْدُوسا إلى الأربعين كُرْدُوس، شَهِدَ اليَرموك ألفٌ مِن أصحابِ رسولِ الله صلَّى الله عليه وسلَّم، فيهم نحوٌ مِن مِائةٍ مِن أهلِ بدرٍ, وكان أبو سُفيانَ يَسيرُ فيَقِفُ على الكَراديس فيقول: الله الله، إنَّكم ذَادَةُ العَربِ، وأنصارُ الإسلامِ، وإنَّهم ذَادَةُ الرُّومِ وأنصارُ الشِرْكِ! اللَّهمَّ إنَّ هذا يومٌ مِن أيَّامِك، اللَّهمَّ أَنزِلْ نَصرَك على عِبادِك. قال رجلٌ لخالدٍ: ما أكثرَ الرُّومَ وأَقَلَّ المسلمين! فقال خالدٌ: ما أَقَلَّ الرُّومَ وأكثرَ المسلمين! إنَّما تَكْثُرُ الجُنودُ بالنَّصرِ وتَقِلُّ بالخُذلانِ، لا بعددِ الرِّجالِ، والله لوَدِدْتُ أنَّ الأشقرَ -يعني فَرَسَهُ- بَرَأَ مِن تَوَجُّعِه وأنَّهم أَضْعَفُوا في العَدَدِ. خرَج جَرَجَةُ أحدُ قادةِ الرُّومِ حتَّى كان بين الصَّفَّيْنِ، ونادى: لِيَخرُج إليَّ خالدٌ، فخرَج إليه خالدٌ، فوافَقَهُ بين الصَّفَّيْنِ، حتَّى اختلفت أَعناقُ دابَّتَيْهِما، فحاوَرهُ خالدٌ حتَّى دخَل في الإسلامِ وكانت وَهْنًا على الرُّومِ. أَمَّرَ خالدٌ عِكرِمةَ والقَعقاعَ، والْتَحَم النَّاسُ، وتَطارَد الفِرْسانُ وهُم على ذلك إذ قَدِم البَريدُ مِن المدينةِ، بموتِ أبي بكرٍ وتَأْميرِ أبي عُبيدةَ، فأسرَّ خالدٌ الخَبَرَ حتَّى لا يُوهِنَ الجيشَ، وحَمِيَ الوَطيسُ، واشْتَدَّ القِتالُ, وقام عِكرمةُ بن أبي جهلٍ يُنادي: مَن يُبايِع على الموتِ؟ فبايَعَهُ أربعمائة مِن وجوه المسلمين، فقاتلوا حتَّى أُثْبِتُوا جميعًا, فهزَم الله الرُّومَ مع اللَّيلِ، وصعَد المسلمون العَقبةَ، وأصابوا ما في العَسكرِ، وقتَل الله صناديدَهُم ورءوسَهُم وفِرسانَهُم، وقتَل الله أخا هِرقل، وأُخِذَ التَّذارِقُ، وقاتَل جَرَجَةُ قِتالًا شديدًا مع المسلمين، إلى أن قُتِلَ عند آخرِ النَّهارِ، وصلَّى النَّاسُ الأوُلى والعصرَ إيماءً، وتَضَعْضَع الرُّومُ، ونهد خالد بالقلبِ حتَّى كان بين خَيْلِهِم ورَجْلِهم، فانهزم الفِرْسان وتركوا الرَّجَّالةَ. ولمَّا رَأي المسلمون خيلَ الرُّومِ قد تَوجَّهَت للمَهْرَبِ أَفرَجوا لها، فتَفرَّقَت وقُتِلَ الرَّجَّالةُ، واقتحموا في خَندقِهم فاقْتَحَمه عليهم، فعَمِدوا إلى الوَاقُوصَةِ حتَّى هوى فيها المُقتَرِنون وغيرُهم، ثمانون ألفًا مِن المُقْتَرِنين، ودخَل خالدٌ الخَندقَ ونزَل في رِواقِ تَذارِق، وانتهت الهَزيمةُ إلى هِرقل وهو دون مَدينةِ حِمْصَ، فارْتَحَلَ.
فسَدَ أمرُ أنوشتكين الدزبري، نائبِ المستنصِرِ بالله الفاطميِّ، صاحِبِ مصر، بالشَّام، وكان الوزيرُ أبو القاسم الجرجرائي يقصِدُه ويَحسدُه، إلَّا أنَّه لا يجِدُ طريقًا إلى الوقيعةِ فيه، وأحسَّ الدزبري بما يجري، فأظهر ما في نفسِه، وأحضر نائبَ الجرجرائي عنده، وأمر بإهانتِه وضَرْبِه، ثمَّ إنه أطلق لطائفةٍ مِن العسكَرِ يَلزَمونَ خِدمَتَه أرزاقَهم، ومنع الباقينَ، فحَرَّك ما في نُفوسِهم، وقوِيَ طَمَعُهم فيه، بما كوتبوا به من مِصرَ، فأظهروا الشَّغبَ عليه، وقصَدوا قصْرَه، وهو بظاهِرِ البلد، وتَبِعَهم من العامَّة من يريد النَّهبَ، فاقتتلوا، فعَلِمَ الدزبري ضَعْفَه وعَجْزَه عنهم، ففارق مكانَه، وسار إلى بعلبك، فمنعه مستحفِظُها، وأخذ ما أمكَنَه أخذُه مِن مال الدزبري، وتَبِعَه طائفةٌ من الجند يَقفُونَ أثره، وينهبون ما يَقدِرونَ عليه، وسار الدزبري إلى مدينةِ حماة، فمُنِعَ عنها، وقُوتِلَ، وكاتب المقَلَّد الكناني الكفرطابي، واستدعاه، فأجابه وحضر عنده في نحو ألفَي رجلٍ مِن كفرطاب وغيرها، فاحتمى به، وسار إلى حلب، ودخلها، وأقام بها مُدَّةً، وتوفي في منتصَفِ جمادى الأولى من هذه السنة، فلما توفِّيَ فسدَ أمر بلاد الشام، وزال النِّظامُ، وطَمِعَت العرب، وخرجوا في نواحيه، فخرج حَسَّان بن المفرج الطائي بفلسطين، وخرج مُعِزُّ الدَّولة بن صالح الكلابي بحَلَب، وقصَدَها وحصرها، ومَلَك المدينةَ، وامتنع أصحابُ الدزبري بالقلعة، وكتبوا إلى مصرَ يَطلُبونَ النجدة، فلم يفعلوا، واشتغَلَ عَساكِرُ دمشق ومُقَدَّمُهم الحسين بن أحمد الذي ولي أمرَ دمشق، بعد الدزبري، بحَربِ حسَّان، ووقع الموت في الذين في القَلعةِ، فسَلَّموها إلى مُعِزِّ الدَّولة بالأمانِ.