بعَث رسولُ الله صلى الله عليه وسلم سَرِيَّةَ غالبِ بنِ عبدِ الله اللَّيثيِّ، إلى بني عُوَالٍ وبني عبدِ بنِ ثَعلبةَ بالمَيْفَعَةِ، وقِيلَ إلى الحُرَقَاتِ مِن جُهَيْنَةَ في مائةٍ وثلاثين رجلًا؛ فهجَموا عليهم جميعًا، وقتَلوا مَن أَشرفَ لهم، واسْتاقوا نَعَمًا وشَاءً، وفي هذه السَّرِيَّةِ قَتَلَ أُسامةُ بنُ زيدٍ نَهِيكَ بن مِرْدَاسٍ بعدَ أن قال: لا إلَه إلَّا الله. فلمَّا قَدِموا وأُخْبِرَ النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم، كَبُرَ عليه وقال: (أَقَتلتَهُ بعدَ ما قال: لا إلَه إلَّا الله؟!). فقال: إنَّما قالها مُتَعَوِّذًا قال: (فَهَلَّا شَققتَ عن قَلبِه فتَعلمُ أَصادِقٌ هو أم كاذبٌ؟).
بعد أن جاءت الأخبارُ بتحَرُّك المغول إلى الشام وبَعْثهم الرسائِلَ التهديديَّة للأمراء عقَدَ الأمير سيف الدين قطز في مصر اجتماعًا حضره الفُقَهاءُ وعلى رأسِهم العِزُّ بن عبد السلام بأخذ أموالٍ مِن العامَّة لتجهيز الجيوشِ, ثم قبض قطز على الملك نور الدين عليِّ بن المعز أيبك الملقَّب بالمنصور صاحب مصر، وذلك في غيبةِ أكثر الأمراءِ مِن مماليك أبيه وغيرِهم في الصيد، فلمَّا قبض على المنصور بَعَث به وبأخيه وأمِّه إلى دمياط، واعتَقَلَهم في برج عَمَرَه وسماه برجَ السلسلة، ثم سيَّرَهم إلى بلاد الأشكري وقبض على بعضِ الأمراء واعتقَلَهم وتسلطَنَ هو وسمَّى نفسَه بالملك المظفَّر، واعتذر إلى الفُقَهاءِ والقُضاة وإلى ابن العديم الرَّسول الذي جاء من الشامِ لمساعدتهم ضِدَّ المغول، فإنه قال: لا بدَّ للناسِ مِن سلطانٍ قاهرٍ يقاتِلُ عن المسلمين عَدُوَّهم، وهذا صبيٌّ صغير لا يعرفُ تدبير المملكةِ، فكانت مدَّة المنصور سنتين وثمانية أشهر وثلاثة أيام، وكانت قد كثُرَت مفاسد الملك المنصور علي، واستهتر في اللَّعِب وتحكَّمَت أمُّه فاضطربت الأمور، فجلس المظفَّر سيف الدين قطز على سريرٍ بقلعة الجبل يوم السبت الرابع والعشرين من ذي القعدة، وهو ثالثُ ملوك المماليك بمصر، وقطز بضم القاف والطاء المهملة وسكون الزاي، وهو لفظٌ مَغولي.
لَمَّا فَرَغ عبدُ المؤمِنِ مِن فاس، سار إلى مراكشَ، وهي كرسيُّ مَملكةِ المُرابِطينَ، وهي مِن أكبَرِ المُدُنِ وأعظَمِها، وكان صاحِبُها حينئذ إسحاقَ بنَ عليِّ بنِ يوسف بن تاشفين، وهو صَبيٌّ، فنازلها، فضَرَب خيامَه في غَربيِّها على جَبَل صغيرٍ، وبنى عليه مدينةً له ولِعَسكَرِه، وبنى بها جامِعًا وبنى له بناءً عاليًا يُشرِفُ منه على المدينةِ، ويرى أحوالَ أهلِها وأحوالَ المُقاتِلينَ مِن أصحابِه، وقاتَلَها قِتالًا كثيرًا، وأقام عليها أحدَ عَشَرَ شَهرًا، فكان مَن بها من المُرابِطينَ يَخرُجونَ يُقاتِلونَهم بظاهرِ البلد، واشتد الجوعُ على أهلِه، وتعَذَّرَت الأقواتُ عِندَهم. ثمَّ زَحَف إليهم يومًا، وجعل لهم كمينًا، وقال لهم: إذا سَمِعتُم صوتَ الطَّبلِ فاخرُجوا. تقَدَّمَ عَسكَرُه، وقاتلوا، وصَبَروا، ثمَّ انهزموا لأهلِ مراكش لِيَتبَعوهم إلى الكمينِ الذي لهم، فتَبِعَهم المُلَثَّمونَ إلى أن وصلوا إلى مدينةِ عبد المؤمن، فهَدَموا أكثَرَ سُورِها، وصاحت المَصامِدة بعبدِ المؤمِنِ ليأمُرَ بضَربِ الطَّبلِ لِيَخرُجَ الكَمينُ، فقال لهم: اصبِروا حتى يَخرُجَ كُلُّ طامعٍ في البَلَدِ، فلمَّا خرج أكثَرُ أهلِه، أمر بالطَّبلِ فضُرِبَ وخَرَج الكمينُ عليهم، ورجَعَ المصامِدةُ المُنهَزمينَ إلى المُلَثَّمينَ، فقتلوا كيف شاؤوا، وعادت الهزيمةُ على المُلَثَّمين، فمات في زحمةِ الأبوابِ ما لا يُحصيه إلَّا اللهُ سُبحانَه. وكان شيوخُ المُلَثَّمين يُدَبِّرونَ دَولةَ إسحاقَ بنِ علي بن يوسف لصِغَرِ سِنِّه، فاتفق أنَّ إنسانًا مِن جملتهم يقال له عبدُ الله بن أبي بكر خرج إلى عبدِ المؤمِنِ مُستأمِنًا وأطلعه على عَوراتِهم وضَعْفِهم، فقَوِيَ الطمعُ فيهم، واشتَدَّ عليهم البلاءُ، ونُصِبَ عليهم المنجنيقاتُ والأبراجُ، وفَنِيَت أقواتُهم، وأكلوا دوابَّهم، ومات مِن العامَّةِ بالجوعِ ما يزيدُ على مئة ألف إنسان، فأنتن البَلَدُ مِن ريحِ الموتى. وكان بمراكش جيشٌ مِن الفرنج كان المرابِطونَ قد استنجدوا بهم، فجاؤوا إليهم نجدةً، فلمَّا طال عليهم الأمرُ، راسلوا عبد المؤمِنِ يسألونَ الأمانَ فأجابَهم إليه، ففَتَحوا له بابًا من أبواب البلدِ يقال له بابُ أغمات، فدخَلَت عساكِرُه بالسيف، وملكوا المدينةَ عَنوةً، وقَتَلوا مَن وجدوا، ووصلوا إلى دارِ أمير المُسلِمينَ، فأخرجوا الأميرَ إسحاقَ وجميعَ مَن معه من أمراء المرابطين فقُتِلوا، وجَعَل إسحاقُ يرتَعِدُ رَغبةً في البقاء، ويدعو لعبدِ المؤمِنِ ويبكي، فقام إليه سَيرُ بن الحاج، وكان إلى جانِبِه مكتوفًا فبَزَق في وجهِه، وقال: تبكي على أبيك وأمِّك؟ اصبِرْ صَبْرَ الرجالِ؛ فهذا رجلٌ لا يخافُ اللهَ ولا يَدينُ بدِينٍ. فقام الموحِّدونَ إلى ابنِ الحاجِّ بالخَشَبِ فضَرَبوه حتى قَتَلوه، وكان من الشُّجعانِ المعروفين بالشجاعة، وقُدِّمَ إسحاقُ على صِغَرِ سِنِّه، فضُرِبَت عُنُقُه سنة 542، وهو آخِرُ ملوكِ المرابطين، وبه انقَرَضَت دولتُهم، وكانت مُدَّةُ ملكِهم سبعين سَنة، ووَلِيَ منهم أربعةٌ: يوسف، وعلي، وتاشفين، وإسحاق. ولَمَّا فتَحَ عبدُ المؤمِنِ مراكش أقام بها، واستوطَنَها واستقَرَّ مُلكُه. قال ابنُ الأثير: "لَمَّا قَتَل عبدُ المؤمن مِن أهلِ مراكش فأكثَرَ فيهم القَتلَ، اختفى مِن أهلِها، فلَمَّا كان بعد سَبعةِ أيَّامٍ أمَرَ فنُودِيَ بأمانِ مَن بَقِيَ مِن أهلِها، فخَرَجوا، فأراد أصحابُه المَصامِدةُ قَتْلَهم، فمَنَعَهم، وقال: هؤلاء صُنَّاعٌ، وأهلُ الأسواقِ مَن ننتَفِعُ به، فتُرِكوا، وأمَرَ بإخراجِ القتلى مِن البَلَد، فأخرَجوهم، وبنى بالقَصرِ جامِعًا كبيرًا، وزخرَفَه فأحسَنَ عَمَلَه، وأمر بهَدمِ الجامع الذي بناه أميرُ المُسلِمينَ يوسُفُ بن تاشفين. ولقد أساء يوسُفُ بن تاشفين في فِعْلِه بالمُعتَمِد بنِ عَبَّاد صاحِبِ إشبيلية، وارتكَبَ بسَجنِه على أسوأِ حالةٍ وأقبَحِ مَركَبٍ، فلا جرَمَ سَلَّطَ الله عليه في عَقِبه مَن أربى في الأخذِ عليه وزاد، فتبارك الحيُّ الدائِمُ الملك، الذي لا يزولُ مُلكُه، وهذه سُنَّةُ الدنيا، فأُفٍّ لها، ثمَّ أُفٍّ، نسألُ اللهَ أن يَختِمَ أعمالَنا بالحُسنى.
لمَّا جُرِحَ السُّلطانُ ألب أرسلان أَوصَى لابنِه ملكشاه، وكان معه، وأَمرَ أن يَحلِف له العَسكرُ، فحَلَفوا جَميعُهم، وكان المُتَوَلِّي للأَمرِ في ذلك نِظامُ المُلْكِ، وأَرسلَ ملكشاه إلى بغداد يَطلُب الخُطبةَ له، فخُطِبَ له على مَنابِرِها، وأَوصَى ألب أرسلان ابنَه ملكشاه أيضًا أن يُعطِي أَخاهُ قاروت بك بن داود أَعمالَ فارس وكرمان، وشَيئًا عَيَّنَهُ من المالِ، وأن يُزَوَّجَ بِزَوجَتِه، وكان قاروت بك بكرمان، وأَوصَى أن يُعطَى ابنَه إياز بن ألب أرسلان ما كان لأَبيهِ داودَ، وهو خمسمائة ألف دِينارٍ، وقال: كلُّ مَن لم يَرضَ بما أَوصَيتُ له فقاتِلُوهُ، واستَعينوا بما جَعلتُه له على حَربِه، وعاد ملكشاه من بِلادِ ما وراءَ النَّهرِ، فعَبرَ العَسكرُ الذي قَطعَ النَّهرَ في نَيِّفٍ وعشرين يومًا في ثلاثة أيامٍ، وقام بوِزارَةِ ملكشاه نِظامُ المُلْكِ، وزاد الأَجنادَ في مَعايِشِهم سبعَ مائةِ ألفِ دِينارٍ، وعادوا إلى خُراسان، وقَصَدوا نَيسابور، وراسَلَ ملكشاه جَماعةَ المُلوكِ أَصحابَ الأَطرافِ يَدعوهُم إلى الخُطبَةِ له والانقِيادِ إليه، وأَقامَ إياز أرسلان بِبَلخ وسار السُّلطانُ ملكشاه في عَساكرِه من نَيسابور إلى الرَّيِّ.
هو المَلِكُ العادِلُ، ناصِر أمير المؤمنين، تقيُّ الملوك، ليثُ الإسلام، أبو القاسِم نور الدين محمود بن الأتابك قسيم الدولة أبي سعيد زنكي بن الأمير الكبير آقسنقر التركي، السلطاني، الملكشاهي. ولِيَ جدُّه آقسنقر نيابةَ حَلَب للسلطان ملكشاه بن ألب آرسلان السلجوقي. وُلِدَ نور الدين يوم الأحد سابع عشر شوال سنة 511؛ وكان أسمَرَ اللَّونِ طويلَ القامةِ حَسَنَ الصورة، ليس بوجهِه شَعرٌ سوى ذقنه. كان ملكًا عادلًا، زاهدًا عابدًا وَرِعًا، متمسكًا بالشريعةِ، مائلًا إلى أهل الخير، مجاهدًا في سبيل الله. لما حاصر أبوه قلعةَ جعبر كان نور الدين في خدمته، فلما قُتِلَ أبوه سار نور الدين بعساكرِ الشام إلى مدينة حلب فمَلَكَها. وملك أخوه سيفُ الدين غازي مدينةَ الموصل. قال الذهبي فيه: " كان نور الدين حامِلَ رايتي العدل والجهاد، قلَّ أن ترى العيونُ مِثلَه، حاصر دمشق، ثمَّ تمَلَّكَها، وبَقِيَ بها عشرين سنة. افتتح أولًا حُصونًا كثيرة، منها فامية، والراوندان، وقلعة إلبيرة، وعزاز، وتل باشر، ومرعش، وعين تاب، وهزم البرنس صاحِبَ أنطاكية، وقتله في ثلاثة آلافٍ من الفرنج، وأظهر السُّنَّةَ بحلب، وقمع الرافِضةَ. وبنى المدارسَ بحلب وحمص ودمشق وبعلبك، والجوامع والمساجد، وسُلِّمَت إليه دمشق للغلاء والخوف، فحَصَّنها، ووسَّعَ أسواقها، وأنشأ المارستان ودارَ الحديث، والمدارس، ومساجد عدة، وأبطل المكوسَ مِن دار بطيخ، وسوق الغنم، والكيالة، وضمان النهر والخمر، ثم أخذ من العدوِّ بانياس والمنيطرة، وكسر الفرنجَ مَرَّات، ودَوَّخهم وأذَلَّهم. وكان بطلًا شجاعًا وافِرَ الهيبة، حسَنَ الرَّمي، مليح الشكل، ذا تعبُّد وخوف ووَرَع، وكان يتعرَّضُ للشهادة، سمعه كاتبه أبو اليسر يسأل الله أن يحشُره من بطون السباع وحواصل الطير. وبنى دار العدل، وأنصف الرعيَّةَ، ووقف على الضعفاء والأيتام والمجاورين، وأمر بتكميلِ سور المدينة النبويَّة، واستخراج العين بأُحُدٍ دفَنَها السَّيلُ، وفتح درب الحجاز، وعَمَرَ الخوانق والربُطَ والجسور والخانات بدمشق وغيرها، وكذا فعَلَ إذ ملك حران وسنجار والرَّها والرقة ومنبج وشيزر وحمص وحماة وصرخد وبعلبك وتدمر, ووقف كتبًا كثيرة, وكسر الفرنجَ والأرمن على حارم وكانوا ثلاثين ألفًا، فقل من نجا، وعلى بانياس." جهَّز نور الدين جيشًا لجبا مع نائبه أسد الدين شيركوه، فافتتح مصر، وقهَرَ دولتها الرافضيَّة، وهربت منه الفرنجُ، وقتل شاورَ الذي غدر به وبشيركوه، وصَفَت الديار المصرية لشيركوه نائبِ نور الدين، ثم لصلاح الدين، فأباد العُبَيديين، واستأصلهم، وأقام الدَّعوة العباسية. وكان نور الدين مليحَ الخط، كثيرَ المطالعة، يصلي في جماعةٍ، ويصوم ويتلو ويُسَبِّح، ويتحَرَّى في القوت، ويتجنب الكِبرَ، ويتشبَّه بالعلماء والأخيار. قال أبو الفرج بن الجوزي: "وليَ نور الدين الشامَ سنين، وجاهد الثغور وانتزع من أيدي الكفار نيفًا وخمسين مدينةً وحِصنًا، منها: الرها، وبنى مارستان في الشام أنفق عليه مالًا، وبنى بالموصل جامعًا غرم عليه ستين ألف دينار، وكانت سيرته أصلح من كثير من الولاة، والطرق في أيامه آمنة، والمحامد له كثيرة، وكان يتديَّنُ بطاعة الخلافة، وتَرَك المكوسَ قبل موته، وبعث جنودًا افتتحوا مصر، وكان يميل إلى التواضع ومحبة العلماء وأهل الدين, وأحلفَ الأمراء على طاعة ولده الصالح إسماعيل بعده, وعاهَدَ ملك الإفرنج صاحِبَ طرابلس وقد كان في قبضته أسيرًا على أن يطلقه بثلاثمائة ألف دينار وخمسين ومائة حصان وخمسمائة زردية، ومثلها تراس إفرنجية ومثلها قنطوريات وخمسمائة أسير من المسلمين، وأنه لا يعبر على بلاد الإسلام سبع سنين وسبعة أشهر وسبعة أيام، وأخذ منه في قبضته على الوفاء بذلك مائةً من أولاد كبراء الإفرنج وبطارقتهم, فإن نكث أراقَ دماءَهم، وعزم على فتح بيت المقدس، فوافته المنية في شوال هذه السنة" وقال الموفق عبد اللطيف: كان نور الدين لم ينشف له لبدٌ من الجهاد، وكان يأكلُ مِن عَمَل يده، ينسخ تارةً، ويعمَلُ أغلافًا تارة، ويلبَسُ الصوف، ويلازم السجادة والمصحَف، وكان حنفيًّا، يراعي مذهبَ الشافعي ومالك, وكان ابنُه الصالح إسماعيل أحسَنَ أهل زمانه." قال ابنُ خَلِّكان: "افتتح من بلاد الفرنجة عدَّة حصون، منها مرعش وبهسنا، وحارم، وأعزاز وبانياس وغير ذلك ما تزيد عدتُه على خمسين حصنًا. ثم سيَّرَ الأمير أسد الدين شيركوه إلى مصر ثلاث دفعات، وملكها السلطان صلاح الدين في الدفعة الثالثة نيابة عنه، وضرب باسمِه السكَّة والخطبة بمصر، وكان زاهدًا عابدًا متمسِّكًا بالشرع، مجاهِدًا كثير البر والأوقاف، له من المناقب ما يستغرق الوصفَ". توفي يوم الأربعاء حادي عشر من شوال، بعِلَّة الخوانيق، وأشار عليه الأطباء بالفصد فامتنع، وكان مهيبًا فما رُوجِعَ, ودُفِنَ بقلعة دمشق, فقد كان يلازم الجلوسَ والمبيت فيها، ثم نُقل منها إلى المدرسة التي أنشأها بدمشق، عند سوق الخواصين، وكانت ولايته ثمانية وعشرين سنة وأشهرًا, وكان لموته وقعٌ عظيم في قلوب الناس، وتأسفوا عليه؛ لأنه كان محسنًا محمود السيرة، ولَمَّا توفي نور الدين قام ابنه الملك الصالح إسماعيل بالمُلك بعده، وكان عمرُه إحدى عشرة سنة، وحلف له الأمراء والمقَدَّمون بدمشق، وأقام بها، وأطاعه الناس بالشام وصلاحُ الدين بمصر، وخُطِبَ له بها، وضرب السكة باسمه، وتولى تربيتَه الأميرُ شمس الدين محمد بن عبد الملك المعروف بابن المقدم، وصار مدبِّرَ دولته؛ فقال له كمال الدين بن الشهرزوري ولِمَن معه من الأمراء: "قد علمتُم أن صلاح الدين صاحِبَ مصر هو من مماليك نورِ الدين ونوَّابه أصحاب نور الدين، والمصلحة أن نشاورَه في الذي نفعله، ولا نُخرِجُه من بيننا فيَخرُج عن طاعتنا، ويجعل ذلك حُجَّة علينا، وهو أقوى منا؛ لأنه قد انفرد اليوم بملك مصر، فلم يوافِقْ هذا القولَ أغراضَهم، وخافوا أن يدخُلَ صلاح الدين ويُخرِجَهم، فلم يمضِ غيرُ قليل حتى وردت كتُبُ صلاح الدين إلى المَلِك الصالح يُعَزِّيه ويهنئه بالمُلك، وأرسل دنانيرَ مِصريَّةً عليها اسمه ويُعَرِّفُه أنَّ الخطبة والطاعة له كما كانت لأبيه".
تعهَّد قادةُ حركَتَيْ حماس وفتح الفِلَسْطينيَّتينِ في مكَّة المكرَّمة بحقن الدماء الفِلَسْطينية، وتشكيل حكومة وَحْدة وطنيَّة، وَسْطَ تأكيدات بضرورة الوصول إلى اتفاقٍ، وقال الرئيس الفِلَسْطيني محمود عباس مُفتَتِحًا الجلسةَ: "لن نخرُجَ من هذا المكان المقدَّس إلَّا ونحن مُتَّفِقون"، ومن جانبِه قال رئيسُ المكتَب السياسي لحماس خالد مشعل في كلمة ألقاها بعد الرئيس الفلسطيني: "جئنا لنتَّفِق، ولن نغادرَ هذا المكان إلَّا مُتَّفِقين"، وأضاف أنَّ على المجتمع الدولي أنْ يحترمَ اتفاق الفِلَسْطينيِّين، ويَعترِفَ بواقعِهم، "ويتعاملَ معه بجِدِّيَّة"، داعيًا المجتمِعينَ إلى "حوارٍ على قاعدة الانفتاحِ والأُخوَّة والمحبَّة"، وحضرَ الاجتماعَ رئيسُ الحكومة الفِلَسْطينية إسماعيل هنية الذي دعا من جهته "إلى الاتفاق على ميثاق شرفٍ يُحرِّمُ الاقتتال، ويُعزِّزُ الوَحْدةَ الوطنية"، وأضاف: "نُريدُ اتِّفاقًا شاملًا، وليس فقط اتِّفاقًا جزئيًّا يُنْهي حالةَ الاحتقان"، وأكَّد عباس أنَّه اتَّفق مع مِشعل على برنامج للمُحادَثات يَتمحورُ حولَ "تشكيل حكومة الوَحْدة الوطنية"، وتعزيز "أُسس الشراكة"، و"إعادة بناءِ وتأهيل مُنظَّمة التحرير الفِلَسْطينية"، و"تعميق الوِفاق الوطني"، وفي ختام الجلسة الافتتاحية دَعا مشعل مناصري وناشطي حركَتَيْ حماس وفتح إلى أنْ يَلتَزِموا، ويَنضَبِطوا انضباطًا كاملًا دونَ أيِّ تجاوُزاتٍ في الشارع الفِلَسْطيني؛ من أجْل إعطاء فُرصة لنجاح الحوارِ، علمًا أنَّ الداعيَ لهذه القمة هو خادمُ الحرمَينِ الشريفَينِ الملك عبد الله بن عبد العزيز رحمَه اللهُ.
سار مُعِزُّ الدولة ومعه المطيعُ لله إلى البصرةِ; لاستنقاذها مِن يَدِ أبي القاسم عبدِ الله بن أبي عبد الله البريدي، وسَلَكوا البريَّةَ إليها، فأرسل القرامِطةُ مِن هجَرَ إلى مُعِزِّ الدولة ينكرون عليه مسيرَه إلى البريةِ بغير أمْرِهم، وهي لهم، فلم يجِبْهم عن كتابهم، وقال للرَّسولِ: قل لهم مَن أنتم حتى تستأمِروا، وليس قصدي مِن أخذِ البَصرةِ غَيرَكم، وستَعلَمونَ ما تلقونَ مني. ولَمَّا وصل معزُّ الدولة إلى الدرهميَّة أو الدَّرهمة، استأمن إليه عساكِرُ أبي القاسم البريدي، وهرب أبو القاسمِ في الرابع والعشرين من ربيع الآخر إلى هجر، والتجأ إلى القرامِطة، ومَلَكَ مُعِزُّ الدولة البصرةَ، فانحلَّت الأسعارُ ببغداد انحلالًا كثيرًا.
رسم السلطانُ المَلِكُ الأشرَفُ أنَّ الأشرافَ بالديارِ المِصريَّة والبلاد الشامية كُلَّهم يَسِمونَ عمائِمَهم بعلامةٍ خَضراءَ بارزةٍ للخاصَّةِ والعامَّةِ؛ إجلالًا لحَقِّهم وتعظيمًا لقَدْرِهم؛ ليُقابَلوا بالقَبولِ والإقبالِ، ويَمتازوا عن غَيرِهم من المُسلِمينَ، فوقع ذلك ولَبِسَ الأشرافُ العمائِمَ الخُضرَ، فقال الأديبُ شَمسُ الدين محمد بن إبراهيم الشهير بالمزين، في هذا المعنى:
أطرافُ تيجانٍ أتَت مِن سُندُسٍ
خُضرٍ كأعلامٍ على الأشرافِ
والأشرفُ السُّلطانُ خَصَّصَهم بها
شرفًا لنَعرِفَهم من الأطرافِ
وقال في ذلك الأديبُ شمس الدين محمد بن أحمد بن جابر الأندلسي:
جعلوا لأبناءِ الرَّسولِ علامةً
إنَّ العلامةَ شأنُ مَن لم يُشهَرِ
نورُ النبُوَّةِ في كريمِ وُجوهِهم
يُغني الشَّريفَ عن الطرازِ الأخضَرِ
هو الملك الظاهر برقوق أبو سعيد أولُ من ملك مصر من الجراكسة، وَلِيَ سلطانها سنة 784 وبنى المدرسة البرقوقية بمصر بين القصرين. ثم خُلِع، ثم أعيد إلى أن مات سنة 801؛ ففي يوم الثلاثاء خامس شهر شوال ابتدأ مرض السلطان الظاهر برقوق، وذلك أنه ركب للعب الكرة بالميدان في القلعة على العادة، فلما فَرَغ منه قدم إليه عسل نحل ورد من كختا، فأكل منه ومن لحم بلشون، ودخل إلى قصوره، فعكف على شرب الخمر، فاستحال ذلك خلطًا رديًّا لزم منه الفراش من ليلة الأربعاء، وتنوَّع مرضه حتى أُيس منه لشدة الحمى، وضَعْف القوى، فأرجفت بموته في يوم السبت تاسعه، واستمَرَّ أمره يشتد إلى يوم الأربعاء الثالث عشر، فشنع الإرجاف، وغُلِّقت الأسواق، فلما أصبح يوم الخميس استدعى الخليفةُ المتوكل على الله أبا عبد الله محمدًا، وقضاة القضاة وسائر الأمراء الأكابر والأصاغر وجميع أرباب الدولة إلى حضرة السلطان، فحَدَّثهم في العهد لأولاده، فابتدأ الخليفة بالحَلِف للأمير فرج ابن السلطان أنَّه هو السلطان بعد وفاة أبيه، ثم حلف بعده القضاة والأمراء، ثم مات بعد منتصف ليلة الجمعة خامس عشر شوال، وقد تجاوز الستين سنة، منها مدةُ حكمه بديار مصر منذ صار أتابك العساكر عوضًا عن الأمير طشتمر العلاي الدوادار، إلى أن جلس على تخت السلطة أربع سنين وتسعة أشهر وعشرة أيام، ومنذ تسلطن إلى أن مات ست عشرة سنة وأربعة أشهر وسبعة وعشرون يومًا، منها سلطته إلى أن خُلِع ست سنين وثمانية أشهر وعشرون يومًا، وسلطته منذ أعيد إلى أن مات تسع سنين وثمانية أشهر، والفترة بينهما ثمانية أشهر وتسعة أيام، ومدةُ حكمه أتابكًا وسلطانًا إحدى وعشرون سنة وعشرة أشهر وستة عشر يومًا، اجتمع بالقلعة الأمير الكبير أيتمش وسائر الأمراء وأرباب الدولة، واستدعى الخليفة وقضاة القضاة، وشيخ الإسلام البلقيني، ومن عادته الحضور، فلما تكاملوا بالإسطبل السلطاني أُحضِرَ فرج ابن الملك الظاهر برقوق، وخطب الخليفة وبايعه بالسلطة، وقلَّده أمور المسلمين، فقَبِل تقليده، وأُحضِرَت خِلعة سوداء أُفيضت على فرج، ونُعِت بالملك الناصر، ومضى حتى جلس على التخت بالقصر، وقبَّل الأمراءُ كُلُّهم له الأرضَ على العادة، وألبس الخليفة التشريفَ وكان عمره يومها قرابة الثلاث عشرة سنة.
كان عبدُ الله بن سلامٍ رَضي اللهُ عنه حَبْرًا من أحبارِ يَهودَ، عالِمًا، قال: لمَّا سَمِعتُ برسولِ الله صلَّى اللهُ عليه وسلَّم عَرَفتُ صِفَتَه واسمَه وزَمانَه الذي كنا نتوقَّعُ له، فكنتُ مُسِرًّا لذلك، صامِتًا عليه، حتى قَدِمَ رسولُ الله صلَّى اللهُ عليه وسلَّم المدينةَ، فلمَّا نزل بقُباءٍ، في بني عَمرِو بنِ عَوفٍ، أقبل رجلٌ حتى أخبَرَ بقُدومِه، وأنا في رأسِ نَخلةٍ لي أعمَلُ فيها، وعمَّتي خالِدةُ بنتُ الحارِثِ تحتي جالِسةٌ، فلما سمعتُ الخبرَ بقُدومِ رسولِ الله صلَّى اللهُ عليه وسلَّم كَبَّرتُ، فقالت لي عَمَّتي حين سَمِعَت تكبيري: خيَّبَك اللهُ! واللهِ لو كُنتَ سَمِعتَ بموسى بنِ عِمرانَ قادِمًا ما زِدتَ! قال: فقلتُ لها: أيْ عمَّةُ، هو واللهِ أخو موسى بنِ عِمرانَ، وعلى دينِه، بُعِث بما بُعِث به. قال: فقالت: أيِ ابنَ أخي، أهوَ النبيُّ الذي كُنَّا نُخبَرُ أنه يُبعَثُ مع نَفَسِ السَّاعةِ؟ قال: فقلتُ لها: نعم. قال: فقالت: فذاك إذن. قال: ثم خرجتُ إلى رسولِ الله صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، فأسلَمتُ، ثم رَجَعتُ إلى أهلِ بيتي، فأمرتُهم فأسلموا.
قال: وكَتمتُ إسلامي من يهودَ، ثم جِئتُ رسولَ الله صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، فقلتُ له: يا رسولَ الله، إنَّ يهودَ قومٌ بُهتٌ، وإنِّي أُحِبُّ أن تُدخِلَني في بعضِ بُيوتِك، وتُغيِّبَني عنهم، ثم تَسألَهم عني، حتى يُخبِروك كيف أنا فيهم، قَبْلَ أن يعلَموا بإسلامي؛ فإنَّهم إنْ عَلِموا به بَهَتوني وعابوني. قال: فأدخَلَني رسولُ الله صلَّى اللهُ عليه وسلَّم في بعضِ بُيوتِه، ودَخَلوا عليه، فكلَّموه وساءَلوه، ثم قال لهم: "أيُّ رجلٍ عبدُ الله بنُ سَلامٍ فيكم؟" قالوا: سيِّدُنا وابنُ سيِّدِنا، وحَبرُنا وعالِمُنا. قال: فلمَّا فَرَغوا من قولِهم خرجتُ عليهم، فقلتُ لهم: يا مَعشرَ يهودَ، اتَّقوا اللهَ واقبَلوا ما جاءكم به، فواللهِ إنَّكم لَتعلمون إنَّه لَرسولُ الله، تَجِدونَه مَكتوبًا عِندكُم في التَّوراةِ باسمِهِ وصِفَتِه، فإنِّي أشهَدُ أنَّه رسولُ الله صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، وأُومِن به وأُصدِّقُه وأعرِفُه. فقالوا: كَذَبْتَ. ثم وَقَعوا بي، قال: فقلتُ لرسولِ الله صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: ألَمْ أُخبِرْك يا رسولَ الله أنهم قومٌ بُهتٌ، أهلُ غدرٍ وكذبٍ وفُجورٍ! قال: فأظهَرتُ إسلامي وإسلامَ أهلِ بيتي، وأسلَمَت عمَّتِي خالِدةُ بنتُ الحارِثِ، فحَسُن إسلامُها.
غَزَا قُتيبةُ بن مُسلِم كاشْغَر, وهي أَدْنَى مَدائِن الصِّين، وحَمَل مع النَّاسِ عِيالَهُم لِيَضَعَهُم في سَمَرْقَنْد فلمَّا بَلَغ النَّهْرَ اسْتَعمَل رَجُلًا مِن مَوالِيه يُقالُ له الخَوارِزْمي على مَقْطَع النَّهْر، وقال: لا يَجُوزَنَّ أَحَدٌ إلَّا بِجَوازٍ منه، ومَضَى إلى فَرْغانَة، وأَرسَل مَن يُسَهِّل له الطَّريقَ إلى كاشْغَر، وبَعَث جَيْشًا مع كَبيرِ بن فُلان إلى كاشْغَر، فغَنِمَ وسَبَى سَبْيًا، فخَتَمَ أَعْناقَهُم، وأَوْغَل حتَّى بَلَغ قَرِيبَ الصِّين، ثمَّ بَعَث قُتيبةُ إلى مَلِك الصِّين رُسُلًا يَتَهَدَّدُه ويَتَوَعَّدُه ويُقْسِم بالله لا يَرجِع حَتَّى يَطَأَ بِلادَه ويَخْتِم مُلوكَهُم وأَشْرافَهُم، ويَأخُذ الجِزْيَةَ منهم أو يَدخُلوا في الإسلام. فكَتَب إليه مَلِكُ الصِّين: أن ابْعَث إِلَيَّ رَجُلًا شَريفًا يُخْبِرُني عنكم وعن دِينِكُم. فانْتَخَب قُتيبةُ عَشرةً لهم جَمالٌ وأَلْسُن وبَأْسٌ وعَقْلٌ وصَلاحٌ، فأَمَر لهم بِعُدَّةٍ حَسَنَة، ومَتاعٍ حَسَن مِن الخَزِّ والوَشْي وغَيرِ ذلك، وخُيولٍ حَسَنَة، وكان منهم هُبيرَةُ بن مُشَمْرِج الكِلابي، فقال لهم: إذا دَخَلْتُم عليه فأَعْلِموه أَنِّي قد حَلَفْتُ أَنِّي لا أَنْصَرِف حَتَّى أَطَأَ بِلادَهم، وأَخْتِم مُلوكَهُم وأَجْبِي خَراجَهُم. سار الوَفْدُ وعليهم هُبيرَة، فلمَّا دَخَلوا على المَلِك وَجَدوا مَمْلَكَة عَظِيمَة حَصِينَة ذاتَ أَنهارٍ وأَسواقٍ وحُسْنٍ وبَهاءٍ، فدَخَلوا عليه في قَلْعَة عَظِيمَة حَصِينَة، بِقَدْرِ مَدينَةٍ كَبيرَة، فقال المَلِكُ لِتُرْجُمانِه: قُل لهم: ما أنتم؟ وما تُريدون؟ فقالوا: نحن رُسُل قُتيبةَ بن مُسلِم، وهو يَدعوك إلى الإسلامِ، فإن لم تَفعَل فالجِزْيَة، فإن لم تَفعَل فالحَرْب, فأَعطَى الجِزْيَة فقَبِلَها منه قُتيبةُ.
لم يكتَفِ المأمونُ باعتناقِ مسألةِ القَولِ بخلقِ القرآن، بل كتب إلى عمَّالِه في الأمصارِ بامتحانِ العُلَماءِ في هذه المسألة من أجاب وإلَّا كان العقابُ، وربَّما بطانتُه من العلماء كانوا وراء هذا الامتحان، فكتب المأمونُ إلى نائبه ببغداد إسحاقَ بن إبراهيم بن مُصعَب يأمُرُه أن يمتَحِنَ القُضاةَ والمحَدِّثين بالقَولِ بخَلقِ القرآن، وأن يرسل إليه جماعةً منهم، وكتب إليه يستحِثُّه في كتابٍ مُطَوَّل، وكتب غيره مَضمونُها الاحتجاجُ على أنَّ القرآنَ مُحدَثٌ، وكُل مُحدَث مخلوقٌ، وهذا احتجاجٌ لا يوافِقُه عليه كثيرٌ مِن المتكلِّمينَ فَضلًا عن المحدِّثينَ؛ فإنَّ القائلينَ بأنَّ الله تعالى تقوم به الأفعالُ الاختياريَّة لا يقولونَ بأنَّ فِعلَه تعالى القائِمَ بذاتِه المقَدَّسة، مخلوقٌ، بل لم يكن مخلوقًا، بل يقولون: هو محدَثٌ وليس بمخلوق، بل هو كلامُ اللهِ القائِمُ بذاته المقدَّسة، وما كان قائمًا بذاته لا يكون مخلوقًا، وقد قال الله تعالى: {مَا يَأْتِيهِمْ مِنْ ذِكْرٍ مِنْ رَبِّهِمْ مُحْدَثٍ}، وقال تعالى، {وَلَقَدْ خَلَقْنَاكُمْ ثُمَّ صَوَّرْنَاكُمْ ثُمَّ قُلْنَا لِلْمَلَائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ) فالأمر بالسجودِ صدر منه بعد خلقِ آدم، فالكلامُ القائمُ بالذاتِ ليس مخلوقًا، والمقصودُ أن كتاب المأمونِ لَمَّا ورد بغدادَ قُرئ على الناس، وقد عيَّنَ المأمون جماعةً مِن المحدِّثينَ لِيُحضِرَهم إليه، وهم: محمد بن سعد كاتب الواقدي، وأبو مسلِم المُستملي، ويزيدُ بن هارون، ويحيى بن مَعين، وأبو خيثمة زُهير بن حرب، وإسماعيلُ بن أبي مسعود، وأحمد بن الدورقي، فبُعِثَ بهم إلى المأمونِ في الرقَّة، فامتحنهم بخلْقِ القرآنِ، فأجابوه إلى ذلك وأظهروا موافقتَه وهم كارهون، فردَّهم إلى بغداد وأمرَ بإشهارِ أمرِهم بين الفُقَهاء، ففعل إسحاقُ ذلك وأحضر خَلقًا من مشايخِ الحديثِ والفُقَهاءِ وأئمَّة المساجد وغيرِهم، فدعاهم إلى ذلك عن أمرِ المأمون، وذكَرَ لهم موافقة أولئك المحدِّثين له على ذلك، فأجابوا بمِثلِ جواب أولئك موافقةً لهم، ووقَعَت بين الناس فتنةٌ عظيمةٌ. ثم كتب المأمونُ إلى إسحاق أيضًا بكتابٍ ثانٍ يستدِلُّ به على القولِ بخَلقِ القُرآنِ بِشُبَهٍ من الدلائِلِ لا تحقيقَ تحتها ولا حاصلَ لها، بل هي من المُتشابِه، وأورد من القرآنِ آياتٍ هي حُجَّةٌ عليه، وأمَرَ نائبه أن يقرأ ذلك على النَّاسِ وأن يَدعُوَهم إليه وإلى القَولِ بخلقِ القرآن، فأحضَرَ أبو إسحاق جماعةً من الأئمَّة؛ منهم قاضي القضاة بشر بن الوليد الكندي، ومقاتل، وأحمد بن حنبل، وقُتَيبة، وعليُّ بن الجعْد، وغيرهم، وقال لبشرٍ: ما تقولُ في القرآن؟ قال: القرآنُ كلامُ الله، قال: لم أسألْك عن هذا، أمخلوقٌ هو؟ قال: الله خالِقُ كُلِّ شَيءٍ، قال: والقرآنُ شَيءٌ؟ قال: نعم، قال: أمخلوقٌ هو؟ قال: ليس بخالقٍ، قال: ليس عن هذا أسألُك، أمخلوقٌ هو؟ قال: ما أُحسِنُ غيرَ ما قلْتُ لك. قال إسحاقُ للكاتب: اكتُبْ ما قال، ثم سأل غيرَه وغيره ويجيبونَ بنَحوِ جوابِ بِشرٍ. من أنه يقالُ: لا يُشبِهُه شيءٌ مِن خَلقِه في معنًى من المعاني، ولا وجهٍ مِن الوجوهِ، فيقول: نعم، كما قال بِشرٌ. ثم سأل قتيبةَ، وعُبيد الله بن محمَّد، وعبد المنعم بن إدريس بن نبت، ووهب بن منبه وجماعةً، فأجابوا أنَّ القرآنَ مجعولٌ؛ لِقَولِه تعالى: {إِنَّا جَعَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا} والقرآنُ مُحدَثٌ لِقَولِه تعالى: {مَا يَأْتِيهِمْ مِنْ ذِكْرٍ مِنْ رَبِّهِمْ مُحْدَثٍ}. قال إسحاق: فالمجعولُ مَخلوقٌ، قالوا: لا نقولُ مخلوقٌ، لكن مجعولٌ. فكتب مقالَتَهم ومقالةَ غَيرِهم إلى المأمونِ.
كان حِصنُ عرقة، وهو من أعمال طرابلس، بيد غلام للقاضي فخر الملك أبي علي بن علي بن عمار، صاحب طرابلس، وهو من الحصون المنيعة، فعجز غلام ابن عمار عن حمايته، فضاق به القوت وانقطعت عنه الميرة؛ لِطولِ مُكث الفرنج في نواحيه، فأرسل إلى أتابك طغتكين، صاحب دمشق، وقال له: أرسل من يتسلمُ هذا الحصن مني؛ قد عجزت عن حفظه، ولأن يأخذَه المسلمون خيرٌ لي دنيا وآخرة من أن يأخُذَه الفرنج. فبعث إليه طغتكين صاحبًا له اسمه إسرائيل في ثلاثمائة رجل، فتسلم الحصن، فلما نزل غلام ابن عمار منه رماه إسرائيل في الأخلاط بسهمٍ فقَتَله، وكان قصده بذلك ألَّا يَطَّلِعَ أتابك طغتكين على ما خلفه بالقلعة من المال، وأراد طغتكين قَصْدَ الحِصنِ للاطلاع عليه، وتقويته بالعساكر والأقوات وآلات الحرب، فنزل الغيث والثلج مدة شهرين ليلًا ونهارًا فمنعه، فلما زال ذلك سار في أربعة آلاف فارس ففتح حصونًا للفرنج، منها حصن الأكمة. فلما سمع السرداني الفرنجي ابن أخت صنجيل بمجيء طغتكين، وهو على حصار طرابلس، توجَّه في ثلاثمائة فارس، فلما أشرف أوائل أصحابه على عسكر طغتكين انهزموا، وخلوا ثقلهم ورحلهم ودوابَّهم للفرنج، فغنموا وقَوُوا به، وزاد في تجمُّلِهم، ووصل المسلمون إلى حمص على أقبح حال من التقطُّع، ولم يُقتَل منهم أحد لأنه لم تجرِ حربٌ، وقصد السرداني إلى عرقة، فلما نازلها طلب من كان بها الأمان، فأمنهم على نفوسهم، وتسلم الحصن، فلما خرج من فيه قبض على إسرائيل، وقال: لا أطلقه إلا بإطلاق فلان، وهو أسير كان بدمشق من الفرنج منذ سبع سنين، ففودي به وأُطلقا معًا، ولما وصل طغتكين إلى دمشق بعد الهزيمة أرسل إليه ملك القدس يقول له: لا تظن أنني أنقض الهدنة لِلَّذي تمَّ عليك من الهزيمة، فالملوك ينالهم أكثرُ مما نالك، ثم تعود أمورُهم إلى الانتظام والاستقامة، وكان طغتكين خائفًا أن يقصِدَه بعد هذه الكسرة فينالَ من بلده كلَّ ما أراد.
عنِ ابنِ عُمَرَ قال: كان المسلمون حين قَدِموا المدينةَ يجتَمِعون فيتَحيَّنون الصَّلواتِ، وليس يُنادي بها أحدٌ، فتَكلَّموا يومًا في ذلك فقال بعضُهم: اتَّخِذوا ناقوسًا مِثلَ ناقوسِ النَّصارى، وقال بعضُهم: قَرْنًا مِثْلَ قَرْنِ اليَهودِ. وقال عبدُ الله بنُ زيدٍ: (لمَّا أَمَر رسولُ الله صلى الله عليه وسلم بالنَّاقوسِ يُعملُ لِيُضرَبَ به للنَّاسِ لِجَمْعِ الصَّلاةِ طاف بي وأنا نائمٌ رجلٌ يَحمِلُ ناقوسًا في يَدِه فقلتُ: يا عبدَ الله أَتبيعَ النَّاقوسَ؟ قال: وما تصنعُ به؟ فقلتُ: نَدعو به إلى الصَّلاةِ قال: أفلا أَدُلُّك على ما هو خيرٌ مِن ذلك؟ فقلتُ له: بلى. قال: فقال: تقولُ: الله أَكبرُ، الله أَكبرُ، الله أَكبرُ، الله أَكبرُ، أَشهدُ أن لا إلَه إلَّا الله، أَشهدُ أن لا إلَه إلَّا الله، أَشهدُ أنَّ محمَّدًا رسولُ الله، أَشهدُ أنَّ محمَّدًا رسولُ الله، حَيَّ على الصَّلاةِ، حَيَّ على الصَّلاةِ، حَيَّ على الفَلاحِ، حَيَّ على الفَلاحِ، الله أَكبرُ، الله أَكبرُ، لا إلَه إلَّا الله. قال: ثمَّ اسْتأخَر عَنِّي غيرَ بَعيدٍ، ثمَّ قال: وتقولُ إذا أَقمتَ الصَّلاةَ: الله أَكبرُ، الله أَكبرُ، أَشهدُ أن لا إلَه إلَّا الله، أَشهدُ أنَّ محمَّدًا رسولُ الله، حَيَّ على الصَّلاةِ، حَيَّ على الفَلاحِ، قد قامتِ الصَّلاةُ، قد قامتِ الصَّلاةُ، الله أَكبرُ، الله أَكبرُ، لا إلَه إلَّا الله. فلمَّا أَصبحتُ أَتيتُ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم فأخبرتُه بما رأيتُ، فقال إنَّها لَرُؤْيا حَقٌّ إن شاء الله، فقُمْ مع بلالٍ فَأَلْقِ عليه ما رَأيتَ فَلْيُؤَذِّنْ به؛ فإنَّه أَندى صوتًا منك. فقمتُ مع بلالٍ فجعلتُ أُلْقِيهِ عليه ويُؤذِّنُ به، قال فسمِع ذلك عُمَرُ بنُ الخطَّابِ وهو في بيتِه، فخرج يَجُرُّ رِداءَهُ ويقولُ: والذي بعثَك بالحقِّ يا رسولَ الله، لقد رأيتُ مِثلَ ما رَأى. فقال رسولُ الله صلى الله عليه وسلم: فللهِ الحمدُ).
حاوَلَ بَعضُ الأمراء القضاءَ على برقوق وقَتْلَه، لكنَّه استطاع أن يقبِضَ عليهم ويسجِنَهم، ولكنه استمَرَّ بعد مَسْك هؤلاء في تخوف عظيم، واحترز على نفسه من مماليكِه وغيرِهم غايةَ الاحتراز، فأشار عليه بعد ذلك أعيانُ خشداشيته- زملاء مهنته- وأصحابه مثل أيتمش البجاسي، وألطنبغا الجوباني أمير مجلس، وقردم الحسني، وجركس الخليلي ويونس النوروزي الدوادار وغيرهم أن يتسلطَنَ ويحتَجِبَ عن الناس ويستريح ويُريحَ مِن هذا الذي هو فيه من الاحترازِ مِن قيامه وقعودِه، فجَبُنَ عن الوثوب على السلطنةِ وخاف عاقبةَ ذلك، فاستحَثَّه الأمراء، فاعتذر بأنه يهابُ قُدَماءَ الأمراء بالديار المصرية والبلاد الشامية، فركِبَ سودون الفخري الشيخوني حاجِبُ الحُجَّاب ودارَ على الأمراء سرًّا حتى استرضاهم، وما زال بهم حتى كلَّموا برقوقًا في ذلك وهَوَّنوا عليه الأمرَ وضَمِنوا له أصحابَهم من أعيان النواب والأمراء بالبلاد الشامية، وساعدهم في ذلك موتُ الأمير آقتمر عبد الغني؛ فإنَّه كان من أكابر الأمراء، وكان برقوقٌ يجلس في الموكِبِ تحتَه لِقِدَم هِجرتِه، وكذلك بموتِ الأمير أيدمر الشمسي؛ فإنه كان أيضًا من أقران اقتمر عبد الغني، فماتا في سنة واحدة، فعند ذلك طابت نفسُه وأجاب، وصار يقَدِّمُ رِجلًا ويؤخر أخرى، حتى كان يوم الأربعاء تاسع عشر شهر رمضان من هذه السنة طلع الأمير قطلوبغا الكوكائي أمير سلاح وألطنبغا المعلم رأس نوبة إلى السلطان الملك الصالح أمير حاج فأخذاه من قاعة الدهيشة وأدخلاه إلى أهلِه بالدور السلطانيَّة، وأخذا منه النمجاة- سيف خاص بالملك أو السلطان- وأحضراها إلى الأتابك برقوقٍ العثماني، وقام بقيَّةُ الأمراء من أصحابه على الفور وأحضروا الخليفةَ والقُضاة وسَلْطَنوه، وخُلِعَ الملك الصالح من السلطنة، فكانت مُدَّة سلطنته على الديار المصرية سنة واحدة وسبعة أشهر تنقُصُ أربعة أيام، على أنَه لم يكن له في السلطنة من الأمر والنهي لا كثيرٌ ولا قليل، أما السلطان المَلِكُ الظاهر فهو أبو سعيدٍ سَيفُ الدين برقوق بن آنص العثماني اليلبغاوي الشركسي، القائم بدولة الشراكسة بالدِّيارِ المصرية، وهو السلطان الخامس والعشرون من ملوك الترك بالديار المصرية، والثاني من الشراكِسة، إن كان المَلِكُ المظَفَّر بيبرس الجشنكير شركسيًّا؛ فقد قيل إن أصله تركي، وعليه فبرقوق هذا هو الأول من ملوك الشراكسة، وهو الأصحُّ، جلس على تخت الملك في وقت الظهر من يوم الأربعاء تاسع عشر شهر رمضان بعد أن اجتمع الخليفةُ المتوكل على الله أبو عبد الله محمد والقضاة وشيخُ الإسلام سراج الذين عمر البلقيني، وخطب الخليفة المتوكل على الله خطبة بليغة، ثم بايعه على السَّلطنةِ وقَلَّدَه أمورَ المملكة، ثم بايعه من بعدِه القضاة والأمراء، ثم أُفيضَ على برقوق خِلعة السلطنة، وهي سوداء خليفتية على العادة، وأشار السراجُ البلقيني أن يكون لَقَبُه الملك الظاهر؛ فإنَّه وقت الظهيرة والظهور، وقد ظهر هذا الأمرُ بعد أن كان خافيًا، فتلَقَّبَ بالملك الظاهر، وبه يبدأُ عهد المماليك البُرجية وينتهي عهدُ المماليك البحريَّة، ويُذكَرُ أن أصله من بلاد الشركس، ثمَّ أُخِذَ من بلاده وبِيعَ بمدينة قرم، فاشتراه خواجا عثمان بن مسافر وجلبه إلى مصر فاشتراه منه الأتابك يلبغا العمري الخاصكي الناصري في حدود سنة 764 وقبلها بيسير وأعتَقَه وجعله من جملة مماليكِه، واستمَرَّ أمره حتى صار أتابكَ العساكِرِ.
والشراكسة شعب مسلم موطنه الأصلي مرتفعات القوقاز بين البحر الأسود وبحر قزوين.