في ربيع الأول، سار أسد الدين شيركوه بن شاذي إلى ديار مصر، فمَلَكَها ومعه العساكر النورية، وسَبَبُ ذلك تمكُّن الفرنج من البلاد المصرية، وأنهم جعلوا لهم في القاهرة شحنةً وتسَلَّموا أبوابها، وجعلوا لهم فيها جماعةً من شجعانهم وأعيان فرسانهم، وحكَموا المسلمين حكمًا جائرًا، ورَكِبوهم بالأذى العظيم، فعَمِلوا أيضًا على تجهيز الجيوش لتمَلُّك مصر كلها، وشرعوا يتجهَّزون ويُظهِرون أنَّهم يريدون قصد مدينة حمص، فلما سمع نور الدين محمود بهم شرع يجمَعُ عساكِرَه، وأمَرَهم بالقدوم عليه، وجَدَّ الفرنج في السير إلى مصر، فقدموها، ونازلوا مدينة بلبيس، ومَلَكوها قهرًا مستهَلَّ صفر، ونهبوها وقتلوا فيها وأسروا وسَبَوا، وكان جماعة من أعيان المصريين قد كاتبوا الفرنج، ووعَدوهم النصرة، فقَوِيَ جنان الفرنج، وساروا من بلبيس إلى مصر، فنزلوا على القاهرة عاشِرَ صَفَر وحصروها، فخاف الناسُ منهم أن يفعلوا بهم كما فعلوا بأهل بلبيس، فحمَلَهم الخوف منهم على الامتناعِ، فحفظوا البلد، وقاتلوا دونَه وبذلوا جُهدَهم في حفظه، وأمر شاور بإحراق مدينة مصر تاسع صفر، وأمر أهلَها بالانتقال منها إلى القاهرة، وأن يُنهَب البلد، فانتقلوا، وبقُوا على الطرق، ونُهِبَت المدينة وافتقرَ أهلُها، وذهبت أموالُهم ونعمتهم قبل نزول الفرنج عليهم بيوم، خوفًا أن يملِكَها الفرنج، فبَقِيَت النار تحرقها أربعة وخمسين يومًا، وأرسل حاكمُ مصر العاضد العبيدي إلى نور الدين يستغيثُ به، ويُعَرِّفُه ضعف المسلمين عن دفع الفرنج، فشرع في تسيير الجيوش، وأما الفرنج فإنهم اشتدوا في حصار القاهرة وضَيَّقوا على أهلها، وشاوِر هو المتولي للأمر والعساكر والقتال، فضاق به الأمر، وضَعُف عن ردهم، فأخلد إلى أعمال الحيلة، فأرسل إلى ملك الفرنج يَذكُرُ له مودته ومحبته القديمة له، وأنَّ هواه معه؛ لخوفه من نور الدين والعاضد، فأجابه إلى ذلك على أن يعطوه ألف ألف دينار مصرية، يُعَجَّل البعض، ويُمهَل البعض فاستقرت القاعدةُ على ذلك، وجعل شاوِر يجمع لهم المال من أهل القاهرة ومصر، فلم يتحصَّل له إلا قدر لا يبلغ خمسة آلاف دينار، وهم في خلالِ هذا يراسلون نور الدين بما الناس فيه، وبذلوا له ثلث بلاد مصر، وأن يكونَ أسدُ الدين مقيمًا عندهم في عسكر، وأقطاعهم في الديار المصرية أيضًا خارجًا عن الثُّلث الذي لهم، وسار أسد الدين شيركوه من رأس الماء مجدًّا منتصف ربيع الأول، فلما قارب مصرَ رحل الفرنج عنها عائدين إلى بلادِهم بخُفَّي حُنَين خائبين مما أمَّلوا، وسمع نور الدين بعودهم، فسره ذلك، وأمر بضَربِ البشائر في البلاد، وبَثَّ رسله في الآفاق مبشرين بذلك، فإنه كان فتحًا جديدًا لمصر، وحفظًا لسائر بلاد الشام وغيرها، فأمَّا أسد الدين فإنه وصل إلى القاهرة سابع جمادى الآخرة، ودخل إليها، واجتمع بالعاضد، وخلع عليه وعاد إلى خيامِه بالعاضدية، وفرح به أهلُ مصر، وأُجريت عليه وعلى عسكره الجرايات الكثيرة، والإقامات الوافرة.
كان سببُها أنَّ المشركين نقَضوا العهدَ الذي بينهم وبين رسولِ الله صلى الله عليه وسلم، فأَغاروا على إحدى القَبائلِ المُحالفةِ للرَّسولِ عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ، وهي قَبيلةُ خُزاعةَ، ولمَّا عَلِمَ النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم بالأَمرِ أَمَرَ النَّاسَ بالتَّجَهُّزِ دون أن يُخبِرَهُم بوِجْهَتِه، ثمَّ مضى حتَّى نزَل بمَرِّ الظَّهرانِ وهو وادٍ قَريبٌ مِن مكَّةَ. فعنِ ابنِ عبَّاسٍ رضِي الله عنهما: أنَّ النَّبيَّ صلى الله عليه وسلم خرَج في رَمضانَ مِنَ المدينةِ ومعه عشرةُ آلافٍ، وذلك على رأسِ ثمانِ سِنين ونِصفٍ مِن مَقْدَمِه المدينةَ، فسار هو ومَن معه مِنَ المسلمين إلى مكَّةَ، يَصومُ ويَصومون، حتَّى بلَغ الكَدِيدَ، وهو ماءٌ بين عُسْفانَ، وقُدَيْدٍ أَفطَر وأَفطَروا. وكان أبو سُفيانَ قد رَأى جيشَ النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم قبلَ دُخولِه مكَّةَ، فهالَهُ ما رَأى، ثمَّ أَسلَم في أثناءِ ذلك، ثمَّ جاء إلى قومِه وصرَخ فيهم مُحذِّرًا لهم بأن لا قِبَلَ لهم بِجيشِ محمَّدٍ صلى الله عليه وسلم، وقال لهم ما قاله عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ: مَن دخَل دارَ أبي سُفيانَ فهو آمِن، ومَن أَغلَق عليه دارَهُ فهو آمِن، ومَن دخَل المسجِدَ فهو آمِن. فتَفرَّقَ النَّاسُ إلى دورِهِم وإلى المسجِدِ.
وعن عائشةَ رضي الله عنها: أنَّ النَّبيَّ صلى الله عليه وسلم دخَل عامَ الفتحِ مِن كَداءٍ التي بأعلى مكَّةَ. وقد أَهدَر النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم دَمَ بعضِ المشركين يومَ الفتحِ، ووجَد عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ حولَ البيتِ ثلاثمائةٍ وسِتِّين نُصُبًا، فجعل يَطعنُها بِعودٍ في يَدِه ويقولُ: (جاء الحقُّ وزَهَقَ الباطلُ، جاء الحقُّ، وما يُبْدِئُ الباطلُ وما يُعيدُ). وقد تَفاوَتت الرِّواياتُ في مُدَّةِ إقامتِه صلى الله عليه وسلم عامَ الفتحِ، و الأرجحُ -والله أعلم- أنَّها كانت تِسعةَ عشرَ يومًا.
هو أبو الفتوح الملك الصَّالح إسماعيلُ- صاحب حلب- بن نور الدين محمود بن الأتابك زنكي, وصى له والده محمود بمملكته وهو ابن إحدى عشرة سنة، فملَّكوه بدمشق، وحلفوا له بحلب، فأقبل صلاح الدين من مصر، وأخذ منه دمشق، فترحل إسماعيل إلى حلب، وكان شابًا ديِّنًا خَيِّرًا، عاقلًا بديع الجمال، محبَّبًا إلى الرعية وإلى الأمراء، ثم سار السلطان صلاح الدين، وحاصر حلب مُدَّةً، ثم ترحل عنها، ثم حاصرها، فصالحوه، وبذلوا له المعرَّةَ وغيرها، ثم نازل حلب ثالثًا، فبذل أهلُها الجهد في نصرة الملك الصالح، فلما ضَجِرَ السلطان، صالَحَهم وترحل، وأخرجوا إليه بنت نور الدين، فوَهَبها عزاز- بليدة قريبة من حلب- وكان تدبير مملكة حلب إلى أم الملك الصالح، وإلى شاذبخت الخادم وابن القيسراني. تعلل الملك الصالحُ بقولنج خمسة عشر يومًا، "فلما اشتد به المرض عَرَض عليه طبيبه خمرًا للتداوي، فأبى، وقال: قد قال نبيُّنا صلَّى الله عليه وسلَّم: ((إن الله لم يجعَلْ شفاءَ أمتي فيما حَرَّمَ عليها))، ولعلي أموتُ وهو في جوفي. ولما اشتد مرضُه أحضر الأمراء، وسائر الأجناد، ووصَّاهم بتسليم البلد إلى ابن عمه عز الدين مسعود بن مودود بن زنكي، واستحلفهم على ذلك، فقال له بعضهم: إنَّ عماد الدين ابن عمك أيضًا، وهو زوجُ أختك، وكان والدُك يحِبُّه ويؤثره، وهو تولى تربيتَه، وليس له غير سنجار، فلو أعطيتَه البلد لكان أصلحَ، وعز الدين له من البلاد من نهر الفرات إلى همذان، ولا حاجة به إلى بلدك، فقال له: إن هذا لم يغِبْ عني، ولكن قد عَلِمتُم أن صلاح الدين قد تغلَّبَ على عامة بلاد الشام سوى ما بيدي، ومتى سَلَّمتُ حلب إلى عماد الدين يعجِزُ عن حفظها، وإن ملكها صلاحُ الدين لم يبق لأهلنا معه مقامٌ، وإنْ سَلَّمتُها إلى عز الدين أمكَنَه حِفظُها بكثرة عساكره وبلادِه، فاستحسنوا قوله، وعجبوا من جودة فطنته مع شِدَّةِ مَرَضِه وصِغَرِ سنه. توفي في رجب، وعمره نحو تسع عشرة سنة, ولما قضى نحبه أرسل الأمراء إلى أتابك عز الدين يستدعونه إلى حلب، فسار هو ومجاهد الدين قايماز إلى الفرات، وأرسل فأحضر الأمراءَ عنده من حلب، فحضروا وساروا جميعًا إلى حلب، ودخلها في العشرين من شعبان، وكان صلاح الدين حينئذ بمصر، فأقام أتابك عز الدين مسعود بحلب عدة شهور، ثم سار عنها إلى الرقَّة.
سار الإمامُ سعود بجيوشه الكثيرة من جميع نواحي نجد والجنوب وعمان والأحساء وغير ذلك من البادي والحاضر، قاصدًا الشمال, وكان قد حدَث من عربان الظفير حوادِثُ من تضييع بعض فرائض الدين وإيواء المُحدَثين وإضافتهم، وأتاهم غزوٌ من بوادي الشمال، فأغاروا على بوادي المسلمين واجتازوا بالظفير فأضافوهم، وذكروا للإمام سعود أن أناسًا منهم يغزون مع أعداء المسلمين على بواديهم، وكان قبل ذلك قد حدَث بين الظفير ومطير بعضُ القتال، فقُتِل من مطير رجلٌ من رؤسائهم الدوشان. وقُتِل من الظفير مصلط بن الشايوش بن عفنان. فأرسل إليهم سعودٌ وهو في الدرعية فأصلح بينهم وكف بعضَهم عن بعض وتوعَّدَ من اعتدى منهم على الآخر, فلما سار سعود في هذه الغزوة اجتاز بوادي الظفير وهم في الدهناء على جهة لينة الماء المعروف, فأمرهم أن ينفِروا معهم غزاة، فنفر منهم شرذمةٌ رئيسُهم الشايوش بن عفنان، فاستغل سعود غزوهم، فانتهر الشايوش وغَضِب عليه فقال: إنهم عَصَوني وهم يريدون المسير لقتال مطير، فحَرف سعود الجيوش إلى الظفيري وشَنَّ عليهم الغارات وأمر فيهم بالقَتلِ والنهب، ثم بعد ذلك أعتق غالِبَهم من القتل, وأخذ جميعَ أموالهم ولم ينجُ منهم إلا الشريد من أقاصيهم، وتفرقوا فمنهم من هرب إلى المنتفق، والبعض إلى جزيرة العراق، والبعض الآخر إلى نجد, ثم رحل سعود إلى الزلفي وقسَّم الغنائمَ، وكان عند ظفير إبل وأغنام كثيرة لأهل سدير فأمرهم سعود أن يتعرفوا أموالَهم، وكل من عرف ماله أتى بشاهدين أو شاهد ويمينه ويأخذونه.
محمود درويش هو أحدُ الشُّعراءِ الفِلَسطينين الحداثيين الذين ارتَبَط اسمُهُم بشِعرِ الثورَةِ والوطن وكان مليئًا بالسُّخْرية والاستهزاء بالله وبالدين والمقدسات الإسلامية. وُلد درويش عام (1941) في قريةِ البَروةِ وهي قريةٌ فِلسطينيةٌ تقع في الجليلِ قُربَ ساحِلِ عَكَّا، وخَرَجت الأسرةُ برُفقة اللَّاجئين الفِلَسطينيين عامَ (1947) إلى لُبنان، ثم عادت متسلِّلةً عامَ (1949) بُعَيدَ توقيعِ اتِّفاقياتِ السلام المؤقَّتة، وبعد إنهائِه تعليمَه الثانويَّ انتَسَب إلى الحزب الشُّيوعي الإسرائيليِّ، وعَمِل في صُحف مثلِ "الاتحاد" و"الجديد" التي أصبح فيما بعدُ مشرِفًا على تحريرِها. في عام (1972) توجَّه إلى الاتِّحاد السوفيتِّي للدِّراسة، وانتَقَل بعدَها لاجِئًا إلى القاهرة في العامِ ذاتِه؛ حيث التحَقَ بمنظَّمة التَّحرير الفِلَسطينية، ثم لُبنان حيث عَمِل في مؤسَّساتِ النشرِ والدِّراسات التابعةِ لمنظَّمة التحرير الفلسطينية. ولقد مُنِح محمود درويش عِدَّةَ جوائزَ تقديرية، منها: درع الثورة الفِلَسطينية عامَ (1981)، جائزةُ لينين في الاتحاد السوفيتي عامَ (1983)، جائزة القاهرة للشِّعر العربي عام (2007). وأعلنت وِزارة الاتِّصالات الفِلَسطينية في (27 يوليو 2008) عن إصدارِها طابِعَ بريدٍ يحمِلُ صورةَ محمود درويش. ولقد اتُّهِم درويش بالزَّندقة؛ وذلك لِمَا وقَع في شِعرِه من التعدِّي على الذَّات الإلهيَّة وغيرِ ذلك، فمن ذلك قولُه -والعياذ بالله-: (نامِي فعَينُ الله نائِمَةٌ عنَّا)، (عَسانِي أصيرُ إلهًا.. إلهًا أصيرُ)، (عُيونُكِ شَوكةٌ في القلبِ تُوجِعُني.. وأعبُدها)، (إنْ خُلِقْنَا غَلْطَةً في غفلةِ الزَّمانِ).
خرج الحسين بن أحمد بن محمد بن إسماعيل بن محمد بن الأرقط عبدالله بن زين العابدين علي بن الحسين الكوكبي الطالبي بقزوين، فالتقى موسى بن بغا الكبير هو والحسين بن أحمد الكوكبي على فرسخٍ من قزوين، فاقتتلا قتالًا شديدًا، ولَمَّا التَقَوا صَفَّ أصحاب الكوكبي صفوفًا وأقاموا ترسَتَهم في وجوهِهم يتَّقون بذلك سهامَ أصحاب موسى، فلما رأى موسى أن سهامَ أصحابِه لا تصِلُ إليهم مع ما قد فعلوا، أمَرَ بما معه من النِّفطِ أن يُصَبَّ في الأرض التي التقى هو وهم فيها، ثمَّ أمَرَ أصحابَه بالاستطرادِ لهم وإظهارِ هزيمةٍ منهم، فلما فعل أصحابُه ذلك ظنَّ الكوكبي وأصحابُه أنَّهم انهزموا، فتبعوهم فلمَّا علم موسى أنَّ أصحاب الكوكبي قد توسَّطوا النِّفطَ أمرَ بالنار فأُشعِلَت فيه، فأخذت فيه النارُ وخرجت من تحت أصحابِ الكوكبي فجَعَلَت تحرِقُهم وهرب الآخرون، وكانت هزيمةُ القوم عند ذلك ودخول موسى إلى قزوين, وهرب الكوكبيُّ إلى الديلم.
استمَرَّ الحالُ على الغلاء في الأسعار بشكلٍ فاحشٍ جِدًّا وهلك معظَمُ الدوابِّ لعَدَمِ العَلَفِ، حتى لم توجَدْ دابة للكِراءِ، وهلكت الكلاب والقِطَطُ من الجوع، وانكشف حالُ كثيرٍ مِن الناس، وشَحَّت الأنفسُ حتى صار أكابِرُ الأمراء يمنعونَ مَن يدخُلُ عليهم من الأعيانِ عند مَدِّ أسمِطَتِهم، وكثُرَ تعزير محتَسِب القاهرة ومِصر لبيَّاعي لحوم الكلاب والمَيتات، ثمَّ تفاقم الأمر فأكل الناسُ الميتةَ مِن الكلابِ والمواشي وبني آدم، وأكل النِّساءُ أولادَهنَّ الموتى، ثم إن الأسعارَ انحَلَّت في شهرِ رَجَب ثم في شوال تزايد السِّعرُ وساءت ظنونُ الناس، وكثُرَ الشحُّ وضاقت الأرزاق ووَقَفَت الأحوال، واشتَدَّ البكاء وعَظُمَ ضجيجُ النَّاسِ في الأسواق من شِدَّةِ الغلاء، وتزايد الوباءُ بحيث كان يخرجُ مِن كل باب من أبواب القاهرةِ في كل يوم ما يزيدُ على سبعمائة ميت، ويُغَسَّل في الميضأة من الغرباءِ الطُّرَحاء في كلِّ يَومٍ نحوُ المائة والخمسين ميتًا، ولا يكاد يوجد باب أحدٍ من المستورين بالقاهرة ومصر إلَّا ويصبِحُ على بابه عِدَّةُ أمواتٍ قد طُرِحوا حتى يكَفِّنَهم، فيَشتَغِلَ نهارَه، ثم تزايد الأمر فصارت الأمواتُ تُدفَنُ بغير غسل ولا كفَنٍ، فإنه يدفَنُ الواحد في ثوبٍ ثم ساعة ما يوضع في حُفرتِه يؤخَذُ ثَوبُه حتى يُلبَسَ لميت آخرَ، فيكَفَّنُ في الثوب الواحد عدةُ أمواتٍ!! وعجز الناس عن مواراة الأموات في القبور لكثرتِهم وقِلَّة من يحفرُ لهم، فعملت حفائِرُ كِبارٌ ألقِيَت فيها الأمواتُ من الرجال والنساء والصبيان حتى تمتلئ الحفرةُ، ثم تطَمُّ بالترابِ، وانتُدِبَ أناسٌ لحَملِ الأموات ورَمْيهم في الحفر، فكانوا يأخذونَ عن كلِّ مَيتٍ نِصفَ درهم، فيحمِلُه الواحد منهم ويلقيه إمَّا في حفرة أو في النيلِ إن كان قريبًا منه، وصارت الولاةُ بالقاهرة ومصر تحمل الأموات في شباك على الجمال، ويعلِّقونَ الميِّتَ بيديه ورجليه من الجانبين، ويُرمى في الحفر بالكيمانِ مِن غير غُسلٍ ولا كفنٍ! ورُمِيَ كثيرٌ من الأموات في الآبار حتى تُملأَ ثمَّ تُردَم، ومات كثير من الناس بأطرافِ البلاد فبَقِيَ على الطرقات حتى أكلَته الكلابُ، وأكل كثيرًا منها بنو آدم أيضًا، وحُصِرَ في شَهرٍ واحد من هذه السنة عِدَّةُ مَن مات ممَّن قُدِرَ على معرفته، فبَلَغَت العدَّةُ مائة ألفٍ وسبعةً وعشرين ألف إنسان، وعَظُم الموتانُ في أعمال مصر كلِّها حتى خلت القرى، وتأخَّر المطرُ ببلاد الشام حتى دخل فصلُ الشتاء ليلة الخميسِ سادس صفر وهو سادس عشر ديسمبر ولم يقَعِ المطر، فتزايدت الأسعارُ في سائر بلاد الشام، وجَفَّت المياه، فكانت الدابةُ تُسقى بدرهمٍ شَربةً واحدةً، ويشرَبُ الرجُلُ برُبعِ دِرهمٍ شَربةً واحدة، ولم يبق عُشبٌ ولا مرعى، واشتد الغلاءُ بالحِجازِ!!
لَمَّا استَقَرَّت أحوالُ الفرنجِ في المهديَّة وصفاقِسَ سار قائِدُهم جرجي في أسطولٍ إلى قلعةِ إقليبيَّةَ، وهي قلعةٌ حَصينةٌ، فلَمَّا وصَلَ إليها سَمِعَت به العرب، فاجتَمَعوا إليها، ونزل إليهم الفِرنجُ، فاقتتلوا فانهزم الفِرنجُ وقُتِلَ منهم خلقٌ كثيرٌ، فرجعوا خاسرين إلى المهديَّة، وصار للفِرنجِ مِن طرابلس الغَرب إلى قريبِ تُونُسَ ومِن المغرب إلى دونَ القَيروان.
كان سَببُها أنَّ عِزَّ الدولة بختيارَ بنَ مُعِزِّ الدولة قلَّت عنه الأموالُ، فتوَجَّه مع جندِه إلى الأهواز، ليتعَرَّضوا لبختكين آزادرويه، وكان متولِّيَها، ويعملوا له حُجَّةً يأخذونُ منه مالًا ومِن غيره، فسار بختيار وعسكَرُه، وتخلَّفَ عنه سبكتكين التركي، فلمَّا وصلوا إلى الأهواز خدم بختكين بختيار وحَمَلَ له أموالًا جليلةَ المقدارِ، وبذل له من نَفسِه الطاعةَ، وبختيار يفكِّرُ في طريقٍ يأخُذُه به. فاتَّفَق أنَّه جرى فتنةٌ بين الأتراك والديلم، عندما نزل بعضُ الديلم دارًا بالأهواز، ونزل قريبًا منه بعضُ الأتراك، وكان هناك لَبِنٌ موضوعٌ، فأراد غلامُ الدَّيلميِّ أن يبنيَ به معلفًا للدوابِّ، فمنعه غلامُ التركي، فتضاربا، وخرجَ كُلُّ واحد من التركي والديلمي إلى نُصرةِ غُلامِه، فضَعُفَ التركي عنه، فرَكِبَ واستنصر بالأتراكِ، فرَكِبوا وركب الديلم، وأخذوا السِّلاحَ، فقُتِلَ بينهم أحدُ قُوَّاد الأتراك، وطلَبَ الأتراكُ بثأر صاحِبِهم، وقتلوا به من الديلم قائدًا أيضًا، وخَرَجوا إلى ظاهرِ البلد، واجتهد بختيار في تسكينِ الفتنة، فلم يُمكِنْه ذلك، فاستشار الديلمَ فيما يفعَلُه، وكان أُذُنًا يَتبَعُ كُلَّ قائلٍ، فأشاروا عليه بالقَبضِ على رؤساء الأتراكِ لتصفوَ له البلادُ، فأحضَروا بختكين وكاتِبَه سَهلَ بن بِشرٍ، وسباشى الخوارزمي بكتيجور، وكان حمًا لسبكتكين, فاعتقَلَهم وقَيَّدَهم، وأطلق الديلمَ في الأتراك، فنَهَبوا أموالَهم ودوابَّهم، وقُتِلَ بينهم قتلى، وهرب الأتراكُ، وأمر فنُودِيَ بالبصرة بإباحةِ دَمِ الأتراك، وكان بختيار قد واطأَ والدتَه وإخوتَه أنَّه إذا كتب إليهم بالقَبضِ على الأتراك يُظهِرونَ أنَّ بختيار قد مات، ويجلِسونَ للعزاء، فإذا حضر سبكتكين عندهم قبَضوا عليه، فلمَّا وَقَفوا على الكتُبِ وقع الصُّراخُ في داره، وأشاعوا موتَه، فعَلِمَ سبكتكين أنَّ ذلك مكيدة عليه، ودعاه الأتراكُ إلى أن يتأمَّرَ عليهم، فركِبَ في الأتراك، وحصَرَ دارَ بختيار يومين، ثم أحرَقَها ودخَلَها، وأخذ أبا إسحاقَ وأبا طاهِرٍ ابنَي مُعِزِّ الدولة ووالدتَهما ومن كان معهما، فسألوه أن يمكِّنَهم من الانحدارِ إلى واسط، ففعل، وانحدروا، وانحدر معهم الخليفةُ المطيع لله، ثم أعاد سبكتكين الخليفةَ ورَدَّه إلى داره، وذلك تاسِعَ ذي القعدة، واستولى على ما كان لبختيار جميعِه ببغداد، ونزل الأتراكُ في دور الديلمِ وتتَبَّعوا أموالَهم وأخذوها، وثارت العامَّةُ من أهل السُّنَّة ينصُرونَ سبكتكين؛ لأنه كان سُنِّيًّا، فخلع عليهم، وجعل لهم العُرَفاء والقُوَّاد، فثاروا على الشِّيعةِ وحاربوهم وسُفِكَت بينهم الدماء، وأُحرِقَت الكرخ حريقًا ثانيًا، وظهَرَت السُّنَّة عليهم.
استسلمت مدينة أشكودرا الواقعة في شمال ألبانيا والتي كانت خاضعة لحكم البنادقة إلى السلطان العثماني محمد الفاتح؛ حيث استخدم الفاتح في حصارها أنواعًا جديدة من الأسلحة النارية والمدافع الضخمة، وكانت حملة أشكودرا هي آخر حملات السلطان محمد الفاتح التي بلغت 25 حملة سلطانية كبرى.
في أثناءِ غَزوةِ خَيبرَ حَرَّمَ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم لُحومَ الحُمُرِ الأَهلِيَّةِ، وأَخبرَ أنَّها رِجْسٌ، وأمَر بالقُدورِ فأُلقِيتْ وهي تَفورُ بِلُحومِها، وأمَر بغَسلِ القُدورِ بعدُ، وأَحَلَّ حِينئذٍ لُحومَ الخَيْلِ وأَطعَمهُم إيَّاها, كما نَهى صلى الله عليه وسلم عن مُتعةِ النِّساءِ.
بدَأَت الحربُ بين العراقِ وإيرانَ في 13 ذي القعدة عام 1400هـ / 22 أيلول، باندفاعِ القواتِ العراقيةِ داخلَ إيرانَ؛ اعتمادًا على اتِّفاقية الجزائر التي تُطالِبُ الطرفينِ بالانسحابِ مِن المناطق المحتلَّةِ من أرْض الطرَفِ الآخَرِ، غيرَ أن إيرانَ لم تَنسحِبْ من مَنطقة زين القوسِ، وتجاهَلَت مُطالبةَ العراقِ لها بالانسحابِ، ثم قامتْ إيرانُ بهُجومٍ مُعاكس في جُمادى الأولى عام 1402هـ / آذار 1982م، وتمكَّنت مِن استعادة مَدينة المحمرة (خرمشهر) بعدما يَقرُب مِن شَهرينِ مِن بَدْء الهجوم، ثم اشتدَّت المعارضةُ الداخلية في العراقِ على الحرْب مِن عدة أطرافٍ؛ مِن إسلاميين، وشِيعةٍ، وحِزْبيينَ مُوالين لِسُوريَة وأكرادٍ، ولكنَّ الرئيس صدامًا لم يَأْبَه للمعارضين، فهاجَمَ هو أيضًا ناقلات النِّفط في شَهر شوال من عام 1402هـ / آب 1982م، في مُحاولة للضغْطِ على إيرانَ للصُّلح وإيقاف مُساعدتِها للأكرادِ، وشنَّت إيرانُ هُجومًا من الجبهةِ الشَّمالية، واستطاعَتْ احتلالَ ما يَقرُبُ من 700 كم2، وزادت العراقُ مِن الهجماتِ الصاروخيةِ والغاراتِ الجويةِ ضِدَّ المُدن والمنشآتِ النِّفطية في جزيرة خرج، وهدَّدت إيرانُ بإغلاقِ مَضيق هُرْمزَ حتى يتِمَّ حَجْزُ الخليج عن الاتِّصال ببقية البحارِ، وحاولت أمريكا ومِصر وسُوريَة والسُّعودية التوسُّطَ؛ لِيَتِم التفاوض بيْن العراق وإيرانَ، إلا أنَّ إيرانَ رفَضَت إلا بتَنحيةِ صدَّام عن الحكمِ وانسحابِ القوات العراقيةِ من المناطق التي دخلَتْها، ودفْعِ العراقِ تعويضاتٍ عن خسائرِ إيرانَ في هذه الحرب، وحرَصَت كلُّ دولة على التسلُّح بأحدث الأسلحةِ، وأمدَّت مصرُ العراقَ بمعِداتٍ عسكريةٍ تُقارِب ملياريْ دُولارٍ، وباعتِ الصِّين للعراقِ أسلحةً بما يقارب الثلاثةَ مِليارات دُولار، وزوَّدت أمريكا العراقَ بطائرات مروحيةٍ ومُعدات ثقيلةٍ، مع تَصريحِها بالحياد، وزوَّدت رُوسيا العراقَ بالأسلحةِ والصواريخِ، مع إعلانِها هي الأخرى الحيادَ، وباعت الكويتُ والسُّعودية رُبعَ مليونَ برميلٍ من النِّفط يوميًّا من المنطقة المحايدة لصالح العراقِ، أمَّا إيرانُ فاشترَتْ من الصِّين أسلحةً بقيمة 575 مليونَ دولارٍ، واشترَتْ من البرازيلِ وتشيلي، وزوَّدتها أمريكا ورُوسيا أيضًا بالأسلحةِ، وهاتانِ الدولتانِ مِن صالحهما بَقاءُ الحرب، ومن أهمِّ المصالحِ بيعُ الأسلحةِ وغيرها مِن المصالح الأخرى في المنطقة التي يُرِيدون أن تبقى غيرَ مُستقرَّةٍ دائمًا، ثم حشَدَت إيرانُ نِصف مليونَ مقاتلٍ قُرب شطِّ العرب، وأنشأَتِ العراقُ السُّدود والحواجزَ أمام الهجومِ الإيراني الذي قام بضَرْب الناقلاتِ الكويتية والسُّعودية وموانئ الدَّولتينِ النِّفطية، واستأنَفَ العراقُ الهجومَ على ناقلاتِ النِّفط الإيرانية، وفي جمادى الآخرة 1405هـ / آذار 1985م حشَدَت إيرانُ نِصف مليون مقاتل على الجبهةِ الجنوبية شَرق نَهر دِجْلة، وتمكَّنت مِن عُبور النهر، واتَّهَمت العراقَ باستعمالِ الأسلحةِ الكيماوية، وهاجَم العراقُ طَهرانَ بالصواريخ، وثلاثينَ مدينةً أخرى، وردَّت إيرانُ بالمثلِ، وفي شهر شوال / حُزيران احتلَّت العراقُ جَزيرة خرك الإيرانية، وفي مَطلع عام 1407هـ / أيلول 1986م دمَّرت العراق ناقلات النِّفط في جَزيرة لافان، وهاجمَت جزيرة لارك، وتقدَّمت إيرانُ إلى البصرةِ، ثم أخذَتِ التهديداتُ العسكريةُ الإيرانية تقِلُّ، فركَّزت العراقُ على الأكرادِ، وفي 8 جمادى الأولى 1407هـ / 8 كانون الثاني 1987م قامت فِرقةٌ إيرانية تَحمِل اسم (كربلاء 5) بهجومٍ نحوَ البصرة، ولكنها تكبَّدت خسائرَ جسيمةً، ثم أعقَبها هَجمات أخرى على طُول الحدودِ مع العراقِ، وما أنِ انتصَفَ العامُ حتى كان العراقُ قد استعاد كثيرًا من أراضيهِ التي كانت إيرانُ قد احتلَّتْها، وفي بداية النِّصف الثاني من عام 1408هـ / شباط 1988م، استأنَفَت العراقُ قصفَ المُدن بعد انقطاعٍ دامَ أكثر من عامٍ، وسبَقه استئنافُ قَصفِ الناقلاتِ، وفي رجب من العام نفْسِه بدأ جيشُ التحريرِ الوطني -وهو الجناحُ العسكريُّ لتجمُّع المقاومة الإيرانية من مُجاهدي خلق، والمدعومُ مِن العراق- ببَدْءِ عَملياته الهجوميةِ في إقليم عَرَبستان، ثم استعادتِ العراقُ الفاو في شَعبان، وفي ذي الحجة وافقتْ إيرانُ على قَرار مجلس الأمن رقم (598) دون قيدٍ أو شرطٍ بعد أن ماطَلَت أكثرَ من عامٍ، وتقدَّمت السرايا العراقيةُ داخِلَ إيران قبل عمليةِ انسحابِ إيران إلى خلْف الحدود، ودخلَت إيرانَ، وفي أواخر شَهر ذي الحجة دخلَت العراقُ وإيرانُ في مفاوضاتٍ لإنهاء الحرب، وطلَب العراق تأخيرَ تنفيذ وَقفِ إطلاق النار حتى تتمَّ المفاوضات المباشِرةُ مع إيرانَ تحت إشراف الأُمَمِ المتحدة، وفي 8 محرم 1409هـ / 20 آب 1988م توقَّف إطلاقُ النار، ووُضِعَ 350 ضابطًا من الأُمَمِ المتحدة للإشراف على تَنفيذ وقفِ إطلاق النارِ، وأقرَّ مجلسُ الشيوخ الأمريكي فَرْضَ عُقوبة اقتصادية على العراقِ، وامتنَعَت أمريكا مِن استيراد النِّفط العراقي، أمَّا المفاوضاتُ بين العراق وإيرانَ فكانت كلُّ دولةٍ تدَّعي أن شطَّ العرب من حقِّها، وبدأ الاختلافُ على بعضِ القضايا؛ كتَفتيش السُّفن العراقية في مَضيق هُرْمز، ومَن بدَأ بالحربِ، وغير ذلك، وبقِيَ الخلاف مُستحكمًا إلى صفر 1410هـ / أيلول 1989م، ثم في ربيع الثاني / تشرين الثاني وافقَت كلٌّ من العراق وإيرانَ على تبادُلِ الأسرى، بعد أنْ دامت الحربُ أكثرَ من 8 سنوات.
كثُرَ سُقوطُ الثَّلجِ بدِمشقَ حتى خرج عن العادةِ، وأنفقوا على إزالته من الأسطحِ ما ينيفُ على ثمانين ألف درهم؛ فإنَّه أقام يسقط أسبوعين، وفي هذه السنة تواتَرَ سُقوطُ البرد بأرض مصرَ، مع ريحٍ سوداء، وشَعَث عظيمٍ، وبَرقٍ ورَعدٍ سهول، ثم أعقب ذلك عامٌ شديد الحر، بحيث تطاير منها شَرَرٌ أحرق رؤوسَ الأشجار، وزريعة الباذنجان وبعض الكتَّان، حتى اشتد خوف الناس، وضجُّوا إلى الله تعالى، وجاء مطرٌ غزير، ثم بَرْدٌ فيه يبس لم يُعهَدْ مِثلُه، فكانت أراضي النواحي تُصبِحُ بيضاءَ من كثرة الجليد، وهَلَك من شدَّة البرد جماعةٌ من بلاد الصعيد وغيرها، وأمطرت السماءُ خمسةَ أيام متواليةً حتى ارتفع الماءُ في مزارعِ القصب قَدْرَ ذراعٍ، وعَمَّ ذلك أرض مصر قَبليَّها وبحريَّها، ففسدت بالريحِ والمطر مواضِعُ كثيرة، وقلَّت أسماكُ بحيرة نستراوة وبحيرة دمياط، والخلجان وبركة الفيل وغيرها؛ لِمَوتها من البرد، فتَلِفَت في هذه السنة بعامَّةِ أرض مصر وجميع بلاد الشام- بالأمطار والثلوج والبرد، وهبوب السمائم وشدة البرد- من الزُّروعِ والأشجار، والبائهم والأنعام والدور؛ ما لا يدخُلُ تحتَ حَصرٍ، مع ما ابتليَ به أهل الشام من تجريد عساكِرِها وتسخيرِ أهلِ الضياع وتسَلُّط العربان والعشير، وقِلَّة حُرمة السلطنة مصرًا وشامًا، وقطع الأرزاق وظُلم الرعيَّة.
اتَّفَق أحَدُ المِصريِّينَ مِن أصحابِ الحاكِمِ مع جماعةٍ مِن الحُجَّاجِ المصريِّينَ على أمرٍ سُوءٍ، وذلك أنَّه لَمَّا كان يومُ النَّفرِ الأوَّلِ، طاف هذا الرجُلُ بالبَيتِ، فلما انتهى إلى الحَجَرِ الأسودِ جاء ليُقَبِّلَه فضَرَبه بدبوسٍ كان معه ثلاثَ ضَرَباتٍ مُتَوالياتٍ، وقال: إلى متى نعبُدُ هذا الحجَرَ؟ ولا مُحمَّدٌ ولا عليٌّ يَمنَعُني ممَّا أفعله، فإنِّي أهدم اليومَ هذا البيتَ، وجعل يرتَعِدُ، فاتَّقاه أكثَرُ الحاضرينَ وتأخَّروا عنه؛ وذلك لأنَّه كان رجُلًا طُوالًا جَسيمًا، وعلى باب المسجِدِ الحَرامِ جَماعةٌ مِن الفُرسان وُقوفٌ لِيَمنعوه ممَّن يريدُ مَنْعَه من هذا الفِعلِ وأراده بسُوءٍ، فتقَدَّمَ إليه رجلٌ مِن أهلِ اليَمَنِ معه خِنجَرٌ فوَجَأَه به، وتكاثَرَ النَّاسُ عليه فقَتَلوه وقَطَّعوه قِطَعًا، وحَرَّقوه بالنَّارِ، وتَتَّبَعوا أصحابَه فقتلوا منهم جماعةً، ونَهَبَت أهلُ مَكَّةَ الرَّكبَ المصريَّ، وتعدَّى النَّهبُ إلى غيرهم، وجَرَت خبطةٌ عَظيمةٌ، وفِتنةٌ كبيرةٌ جِدًّا، ثم سكَنَ الحالُ بعد أن تُتُّبِعَ أولئك النَّفَرُ الذين تمالَؤوا على الإلحادِ في أشرَفِ البلادِ، غيرَ أنَّه قد سقط من الحَجَرِ ثلاثُ فِلَقٍ مِثل الأظفارِ، وبدا ما تحتَها أسمَرَ يَضرِبُ إلى صُفرةٍ، مُحَبَّبًا مثل الخَشخاشِ، فأخذ بنو شيبةَ تلك الفِلَقَ فعَجَنوها بالمِسْكِ وحَشَوا بها تلك الشُّقوقَ التي بَدَت، فاستمسَكَ الحَجَرُ.