بينظير بوتو سياسيةٌ باكستانيةٌ، وابنةُ السياسي ورئيس باكستان السابق ذو الفقار علي بوتو، وهي من مواليد مدينة كراتشي، بعد إكمالها لدراستها في جامعة هارفارد بالولايات المتحدة، وجامعة أكسفورد في بريطانيا، عادت إلى باكستانَ بمُدَّة قليلة قبلَ الانقلاب على أبيها الذي قاده ضياء الحق، نشأت "بنظير بوتو" في أسرةٍ سياسيةٍ عريقةٍ، فكان جَدُّها "السير شاهنواز بوتو" الذي يُعَدُّ أحدَ الشخصيات السياسية المشهورة في الهند البريطاني، فقد تولَّى مناصبَ عاليةً جدًّا في الحكومة البريطانية، كان منها مساعدةُ الحاكم الإنجليزي للهند، ورئاسة وزراء إقليم (جوناغر) في الهند، وحصل على عدة ألقابٍ من الحكومة الاستعمارية البريطانية في الهند، منها (خان بهادر)، و(السير)، وكان قد شكَّل حزبًا سياسيًّا باسم (حزب الشعب السندي)، أما "ذو الفقار علي بوتو" (والد بنظير بوتو) فقد مشى على خُطى أبيه، فبعد ما تخرَّج في كلية (بركلي) المشهورة في كاليفورنيا، وجامعة أكسفورد الشهيرة رجَعَ إلى كراتشي عامَ 1953م، وبدأ يشتَغِلُ في المحاماة والتدريس، ثم شكَّلَ حزب الشعب الباكستاني عامَ 1967م، وفي عام 1977م حصل حزبُ الشعبِ على الأغلبية، وشكَّلَ الحكومة، وتولَّى "ذو الفقار علي بوتو" رئاستَها، أمَّا "بنظير بوتو" فقد نشأت أثناءَ هذه الأحداث الساخنة، وفي هذه الأسرة السياسية العريقة، ومن هنا كانت ترى نفسَها أحقَّ الناسِ بالحُكم والسُّلْطة، وترى أنها وُلدت لتحكُمَ ولتقودَ، وكانت دراسة "بوتو" تصُبُّ في سياق وُصولها للحُكم، فكانت دراستُها الابتدائية والثانوية في مدينة كراتشي، وروالبندي، ومدينة مري، في مدارسَ تنصيريَّةٍ، ومن ثَمَّ سافرت إلى أمريكا عامَ 1969م وبَقِيَت في جامعة هارفارد إلى عام 1973م، وحصلت على شهادة البكالوريوس، ثم انتقلت إلى بريطانيا، ودرست القانونَ الدوليَّ، والدبلوماسيةَ في جامعة أكسفورد الشهيرة من عام 1973م، إلى عام 1977م، وأثناءَ هذه السنوات نفسِها درسَت في كلية (مارغريت هال) التابعة لجامعة أكسفورد فلسفةَ السياسةِ، عاشت "بوتو" أغلبَ وقتِها في الخارج، ورجعَت إلى باكستانَ عامَ 2007م، بعد اتفاقياتٍ عقَدَتها مع الجنرال مشرف بضغوطٍ أمريكيةٍ وبريطانيةٍ وضمانهما، بأنها ستُسهِّل لمشرف مهمة البقاء في منصب رئاسة الدولة في مقابلِ أنْ يُعطيَها فُرصةَ تولي رئاسة الوزراء في الحكومة القادمة، وعند عودتها تم اغتيالُها يومَ 27/12/2007م.
خرجت الفرنج فارسُها وراجِلُها من وراء خنادقهم في عكا، وتقَدَّموا إلى المسلمين، وهم كثيرٌ لا يُحصى عددهم، وقصدوا نحوَ عسكر مصر، ومُقَدَّمهم الملك العادل أبو بكر بن أيوب، وكان المصريونَ قد ركبوا واصطَفُّوا للقاء الفرنج، فالتقوا واقتتلوا قتالًا شديدًا، فانحاز المصريون عنهم، ودخل الفرنجُ خيامَهم، ونَهَبوا أموالهم، فعطف المصريُّون عليهم، فقاتلوهم مِن وَسطِ خيامهم فأخرجوهم عنها، وتوجَّهت طائفة من المصريين نحو خنادِقِ الفرنج، فقطعوا المَدَد عن أصحابِهم الذين خرجوا، وكانوا متَّصِلينَ كالنمل، فلما انقطعت أمدادُهم ألقَوا بأيديهم، وأخَذَتْهم السيوفُ مِن كل ناحية، فلم ينج منهم إلا الشَّريدُ، وقُتِلَ منهم مقتلة عظيمة، يزيد عددُ القتلى على عشرة آلاف قتيل، وكانت عساكِرُ الموصل قريبةً من عسكر مصر، وكان مُقَدَّمُهم علاء الدين خوارزم شاه بن عز الدين مسعود صاحب الموصل، فحملوا أيضًا على الفرنج، وبالغوا في قتالِهم، ونالوا منهم نيلًا كثيرًا، ولَمَّا جرى على الفرنج هذه الحادثة خَمَدت جمرتُهم، ولانت عريكتُهم، فلما كان بعد يومين أتت الفرنجَ أمدادٌ في البحر فعادت نفوسُهم فقَوِيَت واطمأنَّت، وأخبرهم أن الأمدادَ واصلة إليهم يتلو بعضُها بعضًا، فتماسكوا وحَفِظوا مكانهم، ثمَّ إن الكند هري نصَبَ منجنيقًا ودباباتٍ وعرادات، فخرج مَن بعكا من المسلمين فأخذوها، وقَتَلوا عندها كثيرًا من الفرنج؛ ثم إنَّ الكند هري بعد أخْذِ مجانيقه أراد أن ينصِبَ منجنيقًا، فلم يتمَكَّنْ من ذلك؛ لأن المسلمينَ بعكا كانوا يمنعونَ مِن عَمَلِ ستائِرَ يستَتِرُ بها مَن يرمي من المنجنيق، فعمل تلًّا من تراب بالبعد من البلد، ونَصَبوا وراءه منجنيقين، وصار التلُّ سترة لهما، وكانت الميرةُ قد قلَّت بعكا، فأرسل صلاح الدين إلى الإسكندرية يأمُرُهم بإنفاذ الأقوات واللحوم وغير ذلك في المراكب إلى عكا، فتأخَّرَ إنفاذها، فسَيَّرَ إلى نائبه بمدينةِ بيروت في ذلك، فسَيَّرَ سفينةً عظيمة مملوءةً مِن كل ما يريدونه، وأمَرَ مَن بها فلَبِسوا ملبسَ الفِرنجِ وتَشَبَّهوا بهم ورفعوا عليها الصُّلبانَ، فلَمَّا وصلوا إلى عكا لم يشُكَّ الفِرنجُ أنَّها لهم، فلم يتعَرَّضوا لها، فلما حاذت ميناء عكَّا أدخلها مَن بها، ففرح بها المسلمون، وانتَعَشوا وقَوِيَت نفوسُهم، وتبلَّغوا بما فيها إلى أن أتَتْهم الميرةُ من الإسكندرية، ثم في حادي عشر شوال، خرج النصارى في عددٍ كالرمل كثرةً وكالنارِ جَمرةً، فلما رأى صلاح الدين ذلك نقل أثقالَ المسلمين إلى قيمون، وهو على ثلاثةِ فراسِخَ عن عكَّا، وكان قد عاد إليه فَرقٌ مِن عساكِرِه لَمَّا هلك ملك الألمان، ولَقِيَ الفرنج على تعبئة حسنة، فسار الفرنجُ شَرقيَّ نهرٍ هناك حتى وصلوا إلى رأس النهر، فشاهدوا عساكِرَ الإسلام وكثرتها، فارتاعوا لذلك، ولقيهم الجالشية- جالش كلمة فارسية تعني تحدي- وأمطروا عليهم من السِّهام ما كاد يستُرُ الشمس، فلما رأوا ذلك تحولوا إلى غربيَّ النهر، ولَزِمَهم الجالشية يقاتلونهم، والفرنجُ قد تجمعوا، ولزم بعضُهم بعضًا، فلما كان الغدُ عادوا نحو عكا ليعتَصِموا بخندَقِهم، والجالشيةُ في أكتافهم يقاتلونهم تارةً بالسيوف وتارةً بالرماح وتارةً بالسهام، فلما بلغ الفرنجُ خَندَقَهم، ولم يكُنْ لهم بعدها ظهورٌ منه، عاد المسلمون إلى خيامِهم، وقد قتلوا من الفرنج خلقًا كثيرًا، وفي الثالث والعشرين من شوال كَمَن جماعة من المسلمين، فخرج لهم الفرنجُ في نحو أربعمائة فارس واستطرد لهم المسلمون إلى أن وصلوا الكمينَ، فخرجوا عليهم فلم يُفلِتْ من الفرنج أحد, واشتَدَّ الغلاء عليهم, ثم زاد الأمرُ شِدَّةً عليهم عند هيجانِ البَحرِ وانقطاعِ المراكِبِ في فصل الشتاء, فأرسى الفرنجُ مراكِبَهم بصور؛ خوفًا عليها على عادتِهم في صور في فَصلِ الشتاء, فانفتح الطريقُ إلى عكا في البَحرِ، فأرسل أهلُها إلى صلاح الدين يَشكُونَ ما نزل بهم، وكان بها الأمير حسام الدين أبو الهيجاء السمين، فشكى مِن ضَجَرِه بطول المقام والحرب، فأمر صلاح الدين بإنفاذِ نائبٍ وعسكَرٍ إليها بدلًا منهم وأمَرَ أخاه العادِلَ بمباشرة ذلك فانتقل إلى جانب البحر عند جبَلِ حيفا وجمَعَ المراكبَ والشواني- سفن حربية كبيرة- وبَعَث العساكر إليها شيئًا فشيئًا، كلما دخلت طائفةٌ خرج بدلها، فدخل عشرون أميرًا بدلا من ستين, وعادت مراكِبُ الفرنج بعد انحسارِ الشتاء فانقطعت الأخبارُ عن عكا وعنها، وكان من الأمراء الذين دخلوا عكا سيف الدين علي بن أحمد المشطوب، وعز الدين أرسلان مقَدَّم الأسدية، وابن عز الدين جاولي، وغيرهم، وكان دخولهم عكا أوَّلَ سنة سبع وثمانين.
هو محمد علي جناح أول حكام باكستان المستقِلَّة في 8 ذي القعدة (11 أيلول 1948م)، لقَّبه مواطنوه بلقب "قائد أعظم" وهو مؤسس دولة باكستان. ولد في 27 ديسمبر سنة 1876، وكان أبوه تاجرًا متوسط الثراء، وعضوًا في أسرة من الخوجات تعيش في كراتشي. وتلقى محمد تعليمَه الأول في بومباي، ثم في مدرسة الإسلام السندية، وفي المدرسة العليا لجماعة المبعوثين المبشرين في كراتشي. ولَمَّا حصل على إجازة القبول في الجامعة بُعِث إلى إنجلترا سنة 1892 حيث نال شهادة القانون سنة 1896 من كلية لنكولن. وعاش في لندن في الأيام الأخيرة للأحرارِ على مذهب غلادستون، وأظهر في هذه الأثناء اهتمامًا شديدًا بالحياة العامة، وفي هذه المرحلة أيضًا اتخذ سمة الإنجليز في الظاهر -وقد جرى حتى السنة الأخيرة من حياته على لُبس اللباس الإنجليزي الخالص، وكان يُلقي جميع أحاديثه الهامة بالإنجليزية حتى الكلمة التي ألقاها في الإذاعة بمناسبة قبول خطة التقسيم، ثم ترجمها آخرون إلى الأوردية -حتى أصبح "مستر جناح" الذي عاد إلى الهند سنة 1896م، وبدأ في السنة التالية يمارس مهنة المحاماة في بومباي. ولم يلبث بعد عدة سنوات عجاف أن أصبح من أئمة رجال المحاماة في بومباي. وكانت استجابة الجماهير لجديته واستقامته، وليس لحرارة كلماته. وكانت أوَّلُ مشاركة لجناح في السياسة الهندية هي عضويتَه للمؤتمر الوطني الهندي، وقد حضر دورة انعقاد سنة 1906 بوصفه كاتِبَ سر خاص لنوروجي الذي كان في حينها رئيسًا للمؤتمر الوطني. وبعد ذلك بثلاث سنوات -أي في يناير سنة 1910- اتخذ مقعده عضوًا في أول مجلس تشريعي ليمثِّلَ مُسلِمي بومباي، وكان أول عضو غير رسمي يحقِّقُ سَنَّ قانون تشريعي، وكان في هذه الحالة قانونًا يصَحِّحُ وضع الأوقاف الإسلامية. وفي سنة 1913 انضم جناح إلى الرابطة الإسلامية، وهو باق شخصية مؤثرة في المؤتمر الإسلامي, وفي سنة 1919 استقال من المجلس التشريعي؛ احتجاجًا على توسيع سلطة الشرطة في القمع. وكان جناح قد تزوَّج للمرة الأولى وهو بَعدُ طفل قَبلَ رحيله إلى إنجلترا سنة 1892، ولكن زوجته توفيت وهو في خارج البلاد، وكان زواجُه الثاني من ابنة سَريٍّ من سراة اليارسيين سنة 1918. ولم يكن زواجًا موفَّقًا، فانفصل الطرفان فكانت أخته فاطمة ترعى شؤونه المنزلية معظم حياته. ولعب جناح دورًا في الحياة الهندية العامة ما بين سنتي 1920 و 1931. وقد انتُخِبَ في جمعية مركزية، وكان مندوبًا في المؤتمرين الأولين للمائدة المستديرة (سنة 1930 - 1931). وفي هذه المرحلة بدأ يعمل في المجلس الخاص للمحامين، وأقام دارًا في لندن، وأصبح لا يزور الهندَ إلا زيارات متقطعة. وكانت عودتُه الأخيرة سنة 1935 بعد تنفيذ الأحكام الدستورية الجديدة، وقد نظَّم وقاد حركة باكستان، وأصبح أول حاكم عام للدولة الجديدة. فإن الرابطة في انتخابات سنة 1946 قد كسبت جميع مقاعد المسلمين تقريبًا، ولم يستطع أحد إنكار موقف جناح من حيث هو المتحَدِّث باسم الأغلبية الساحقة. وقد اشترك جناح اشتراكًا فعَّالًا في المفاوضات التي أدت إلى قيام مشروع التقسيم، وكان لا يكُفُّ عن الإلحاح بأن المسلمين يجِبُ أن يُسمَحَ لهم بأن يختاروا لأنفُسِهم دولة مستقلة. وفي يونيه سنة 1947 تحقق غرضه وقامت دولة باكستان في منتصف ليلة 14 - 15 أغسطس سنة 1947. وتولى هو منصِبَ الحاكِم العام لها ورئيس الجمعية التأسيسية. وقد وجه جناح جهوده الأولى نحو إنهاء سَفكِ الدم والحقد الجماعي. وما وافى هذا الوقت حتى كان جناح قد بلغ السبعين من عمره، وكانت صحَّتُه تبدو عليها أمارات الانهيار. ومع ذلك فقد رأسَ إقامة الجهاز الحكومي وكان مسيطرًا سيطرة فعالة على تدبير الأمور. وفي خلال سنة 1948 ازدادت صحتُه وَهْنًا على وَهنٍ، وأدركته المنية في 11 سبتمبر. وكان جناح رجلا غيَّرَ مجرى التاريخ، صحيحٌ أنه كان ثمة شعور قومي إسلامي قبله، لكنه أسبغ عليه الثقة بالنفس، وكان جناح رجلًا نزيهًا لا يحيد، وربما كان من العسير على المرء أن يحِبَّه غيرَ أنه يحمل المرءَ على الإعجاب به. كان وطنيًّا مُسلِمًا، وإن لم يكن في أعماقه رجلَ دين. وعنده أنَّ التراث الإسلامي حضارة وثقافة وكيان قومي. ثم هو قد أسس دولة ثابتة الأركان، قيل إنه كان إسماعيليًّا، وفي قول آخر أنَّه كان شيعيًّا، وبغَضِّ النظر عن انتمائه الطائفي فإنه لم يظهر أي أثر للطائفية في عَمَلِه في باكستان، بل قيل إنه أوصى أحد علماء السنة أن يصلِّيَ عليه بعد موته، وبعد وفاة جناح تم تعيينُ الخواجا نظام الدين الذي كان رئيسًا لحكومة البنغال قبل استقلال باكستان.
أَسَر تاج الملوك بوري بن طغتكين، صاحب دمشق، الأميرَ دبيس بن صدقة، صاحب الحلة، وسلَّمه إلى أتابك زنكي بن آقسنقر، وسببُ ذلك أن دبيس لما فارق البصرة جاءه قاصد من الشام من صرخد يستدعيه إليها؛ لأن صاحبها كان خصيًّا، فتوفي هذه السنة، وخَلَّف جارية سُرِّية له، فاستولت على القلعة وما فيها، وعَلِمَت أنَّها لا يتم لها ذلك إلا بأن تتصل برجل له قوة ونجدة، فوُصِف لها دبيس بن صدقة وكثرة عشيرته، وذُكِرَ لها حاله، وما هو عليه بالعراق، فأرسلت تدعوه إلى صرخد لتتزوج به، وتُسلِّمَ القلعة وما فيها من مال وغيره إليه. فأخذ الأدلَّاءَ معه، وسار من أرض العراق إلى الشام، فضَلَّ به الأدلاء بنواحي دمشق، فنزل بناسٍ من كلب كانوا شرقي الغوطة، فأخذوه وحملوه إلى تاج الملوك، صاحب دمشق، فحبسه عنده، وسمع أتابك عماد الدين زنكي الخبر، وكان دبيس يقع فيه وينال منه، فأرسل إلى تاج الملوك يطلب منه دبيسًا ليسلِّمَه إليه، ويُطلِقَ وَلَده، ومن معه من الأمراء المأسورين، وإن امتنع من تسليمه سار إلى دمشق وحصرها وخرَّبها ونهب بلدها، فأجاب تاج الملوك إلى ذلك، وأرسل عماد الدين زنكي سونجَ بن تاج الملوك، والأمراء الذين معه، وأرسل تاج الملوك دبيسًا، فأيقن دبيس بالهلاك، ففعل زنكي معه خلافَ ما ظن، وأحسن إليه، وحمل له الأقواتَ والسلاح والدواب وسائر أمتعة الخزائن، وقدَّمه حتى على نفسه، وفعل معه ما يفعل أكابر الملوك، ولما سمع المسترشد بالله بقبضه بدمشق أرسل سديد الدولة بن الأنباري، وأبا بكر بن بشر الجزري، من جزيرة ابن عمر، إلى تاج الملوك يطلب منه أن يسلم دبيسًا إليه؛ لِما كان متحققًا به من عداوة الخليفة، فسمع سديد الدولة ابن الأنباري بتسليمه إلى عماد الدين، وهو في الطريق، فسار إلى دمشق ولم يرجِع، وذم أتابك زنكي بدمشق، واستخَفَّ به، وبلغ الخبر عماد الدين، فأرسل إلى طريقه من يأخذه إذا عاد، فلما رجع من دمشق قبضوا عليه، وعلى ابن بشر، وحملوهما إليه، فأما ابن بشر فأهانه وجرى في حقه مكروه، وأما ابن الأنباري فسجنه، ثم إن المسترشد بالله شفع فيه فأُطلق، ولم يزل دبيس مع زنكي حتى انحدر معه إلى العراق.
هو الشَّيخُ، الإمام، العلَّامة، المقرئ، الأصولي، الفقيه، النحوي، جمال الأئمَّة والمِلَّة والدين أبو عمرو بن الحاجب عثمانُ بن عُمَر بن أبي بكر بن يونس الدويني الكردي الأصل، الإسنائي المولد، ثمَّ المصري, المالكي. كان مولده في آخر سنة 570 بأسْنا وهي بلدة صغيرة بصعيد مصر، كان والده حاجبًا للأمير عز الدين موسك الصلاحي. اشتغل أبو عمرو بالقاهرة في صغره بالقرآنِ الكريم، ثم بالفقهِ على مذهب الإمام مالك، رضي الله عنه، ثم اشتغلَ بالعلم فحَرَّرَ النحو تحريرًا بليغًا، ثم قرأَ القراءات، وبرع في علومِه وأتقنها غايةَ الإتقان. تفقه فسادَ أهل عصرِه، وكان رأسًا في علوم كثيرة، منها الأصول والفروع والعربية والتصريف، والعروض والتفسير، وغير ذلك، وقد استوطن دمشق سنة 617، ودرَّس بها للمالكية جامعها وبالنورية المالكية، وتخرج به الأصحاب، حتى كان خروجُه من دمشق بصحبةِ الشيخ عز الدين بن عبد السلام سنةَ ثمان وثلاثين، فصارا إلى الدِّيار المصرية، وكان من أذكى الأئمَّة قريحةً، وكان حُجَّةً متواضعًا عفيفًا كثير الحياء منصفًا محبًّا للعلم وأهله، بارعًا في العلوم متقنًا لمذهب مالك بن أنس، وله مختصر في الفقه انتظم فيه فوائد ابن شاش، ومختصر في أصول الفقه، استوعب فيه عامة فوائد الإحكام لسيف الدين الآمدي، وشرح المفصل والأمالي في العربية، والمقدمة المشهورة في النحو، اختصر فيها مفصَّل الزمخشري وشَرَحَها، والتصريف وشرحه، وعروض على وزن الشاطبية. وسار بمصنفاته الركبانُ. قال القاضي ابن خلكان: " وصنَّفَ في أصول الفقه، وكلُّ تصانيفه في نهاية الحسن والإفادة، وخالف النحاةَ في مواضِعَ، وأورد عليهم إشكالاتٍ وإلزاماتٍ تَبعُد الإجابة عنها، وكان من أحسَنِ خَلقِ الله ذهنًا, ولما عاد إلى القاهرة جاءني مرارًا بسبب أداء شهاداتٍ، وسألته عن مواضِعَ في العربية مُشكِلة، فأجاب أبلغَ إجابة بسكونٍ كثيرٍ وتثَبُّت تام" توفي بالإسكندرية ضاحي نهار الخميس 26 شوال، ودفن خارج باب البحر بتربة الشيخ الصالح ابن أبي شامة.
لَمَّا عيَّن سليمان باشا صاحب العراق ثويني بن عبد الله رئيسًا للمنتفق وقَدِمَ ثويني البصرةَ، فرح به أهلُ البصرة وما حولها من الأوطان فرحًا شديدًا, وقالوا: هذا الذي سيأخذُ الثأر ويخربُ تلك الديار- التابعة لدولة الدرعيَّة- وأتته منهم القصائِدُ يحضُّونه ويحَرِّضونه ويعجِّلونه بالمسير, وعَمِلَ محمد بن فيروز قصيدةً في التحريض على أتباعِ الدرعية. استنفر ثويني رعاياه وحشد عُربان المنتفق وأهل الزبير والبصرة وجميع عُربان الظفير وبني خالد، بقيادة برَّاك بن عبد المحسن، ونزل مع جموعِه الجهراء 3 أشهر يحشدُ مزيدًا من البوادي والعساكر والمدافِعِ وآلاتِ الحربِ والرَّصاص والبارود والطعام، فاجتمع له ما يعجزُ عنه الحصرُ، وأركب عساكِرَه في السفنِ مِن البصرةِ، وقصد الأحساءَ في قوةٍ هائلة, فلما بلغ الإمام عبد العزيز ذلك أمَّر على أهل الخرج والفرع ووادي الدواسر والأفلاج والوشم وسدير وجبل شمر، فاجتمعوا واستعمَلَ عليهم أميرًا هو محمد بن معيقل، فساروا ونزلوا قريةَ الماء المعروف في الطف من ديار بني خالد، وأمر الإمام عبدُ العزيز عُربانَ مطير وسبيع والعجمان وقحطان والسهول وعُربان نجد أن يحتَشِدوا بأموالهم وأهليهم ويقصدون ديار بني خالد، ثم أمر على ابنِه الأمير سعود أن يسيرَ بقوة من أهل الدرعية وبلاد العارضِ، ونزل سعود بالتنهات الروضة المعروفة عند الدهناء، ثم نزل حفر العتك فأقام عليه شهرًا. أما ثويني فنزل بالطف ثم رحل منه إلى الشباك الماء المعروف في ديرة بني خالد، وبينما ثويني ينصب خيمتَه عدا عليه عبدٌ اسمُه طعيس فطعنه طعنةً أدت إلى قتله في ساعتِها، فلما قُتل ثويني وقع التخاذُلُ والفشلُ في جنودِه والعساكرِ التي جمعها، فارتحلوا منهزمين لا يلوي أحدٌ على أحد، فتبعهم حسن بن مشاري بمن معه يقتُلون ويغنمون إلى قربِ الكويت وحازوا منهم أموالًا عظيمةً من الإبل والغنم والأزواد والأمتاع وجميع المدافِعِ والقنابر، فلمَّا بلغ الأمير سعود مقتلُ ثويني، أقبل من مكانه إليهم وقسَّم الغنائم وعزَل أخماسَها, ثم سار ونزل شمال الأحساءِ، فخرج إليه أهلُها وبايعوه على دين الله والسَّمع والطاعة.
هو عبد العزيز بن إبراهيم بن عبد الرحمن الثعالبي: زعيمٌ تونسيٌّ، وهو عالم، أديب، كاتب، خطيب، سياسي، صحافي, جزائري الأصلِ، ولِدَ بتونس في 15 شعبان 1293هـ. حَفِظَ القرآن الكريم وأتمَّ الدراسة الأولية في البيت على يد مدرس خاص، ثم دخل مدرسة "باب سويقة الابتدائية" في تونس، ثم التحق بجامع الزيتونة وتخرج سنة 1896م، وأخذ يتردَّدُ على المدرسة الخلدونية حتى حصل على الدراسات العليا. وبظهور أولِ حزب لتحرير تونس ومقاومة الاستعمار الفرنسي حزب "تونس الفتاة" كان الثعالبي من أوائل من انضم إليه؛ ليؤسِّسَ بعدها الحزبَ الوطني الإسلامي الذي كان يدعو إلى تحرير العالم العربي كله، وقيام الوحدة بين أقطاره. وكان قد كتب وعمل محررًا في صحيفتي "المبشر" و"المنتظر" إلى أن عطَّلَتْها الحكومة، ثم أصدر جريدة "سبيل الرشاد" وكرَّسها للوعظ والإرشاد والدعوة إلى الإصلاح. وبعد سنة عطَّلتْها الحكومة وأصدرت قانونًا قيَّدت به الصحافة. جاهر الثعالبي بطلبِ الحرية لبلاده، فسجنه الفرنسيون، ولَمَّا أُطلِقَ سَراحُه سافر إلى باريس، وزار الأستانة والهند وجاوى، وعاد إلى تونس قُبيلَ سنة 1332ه / 1914م، وقد حلَّ الفرنسيون حزب تونس الفتاة، فعَمِل في الخفاء مع بقايا من أعضائه بالدعاية والمنشورات. وسافر إلى باريس بعد الحرب العالمية الأولى فطبع كتابه "تونس الشهيدة" بالفرنسية. واتُّهِم بالتآمر على أمن الدولة الفرنسية، فاعتُقِلَ ونقل سجينًا إلى تونس، وأخلي سبيله بعد 9 أشهر سنة 1920م، فرأس حزب "الدستور"، وقد ألفه أنصاره وهو في السجن، وأنشأ مجلة "الفجر" في أغسطس 1920, ثم غادر الثعالبي تونس مرة أخرى سنة 1923م متنقلًا بين مصر وسورية والعراق والحجاز والهند، مشاركًا في حركاتها الوطنية، ولا سيما مقاومة الاستعمار الفرنسي، ثم عاد إلى تونس سنة 1937م، فناوأه بعضُ رجال حزبه، فابتعد عن الشؤون العامة إلى أن توفي في تونس. من كُتُبِه: تاريخ شمال إفريقية، وفلسفة التشريع الإسلامي، ومحاضراتُه في جامعة آل البيت ببغداد نُشِرت تباعًا في مجلَّتِها، وتاريخ التشريع الإسلامي، ومذكرات في خمسة أجزاء عن رحلته إلى مصر والشام والحجاز والهند وغيرها، و"معجزة محمد رسول الله صلَّى الله عليه وسلم".
ظهَرَ السُّفيانيُّ بدمشقَ وبويع بالخلافةِ، واسمُه عليُّ بن عبد الله بن خالد بن يزيد بن معاوية بن أبي سفيان، وطرَدَ عامِلَ الأمينِ عن دمشق- وهو سليمانُ بن أبي جعفر- بعد أن حصَرَه السفيانيُّ بدمشق مدَّةً، ثمَّ أفلت منه، وخالد بن يزيد جدُّ السفياني هذا، هو الذي وضع حديثَ السُّفياني في الأصل؛ فإنَّه ليس بحديثٍ، غيرَ أن خالدًا لَمَّا سَمِعَ حديثَ (المهديُّ من أولادِ عليٍّ في آخِرِ الزَّمانِ) أحَبَّ أن يكونَ مِن بني سُفيانَ من يظهَرُ في آخر الزمان، فوضعَ حديثَ السُّفياني؛ فمشى ذلك على بعضِ العوامِّ، ثم بعث الأمينُ إليه جيشًا، لكنهم بَقُوا في الرقَّة ولم يسيروا إلى دمشق؛ فقد قاتله ابنُ بيهس محمد بن صالح وغلَبَه وضَعُف أمر السفياني وقُتِلَ ممَّن كان معه الكثيرُ، ثمَّ قُبِضَ عليه وسُجِنَ، ثمَّ هرب بعد ذلك.
ظهر اختلالُ حالِ هارونَ بنِ خِمارَوَيه بنِ أحمد بن طولون بمصر، واختلَفَت القوَّاد، وطَمِعوا فانحَلَّ النظام، وتفَرَّقَت الكلمة، فأقاموا له أحدَ أمراءِ أبيه يديرُ الأمورَ ويُصلِحُ الأحوال، وهو أبو جعفرِ بن أبان، وكان عند والدِه وجَدِّه مُقَدَّمًا كبيرَ القَدرِ، فأصلحَ مِن الأحوالِ ما استطاع، وكان مَن بدمشق من الجُندِ قد خالفوا على أخيه جيشِ بنِ خِمارَوَيه، فلما تولى أبو جعفرٍ الأمورَ سَيَّرَ جيشًا إلى دمشق عليهم بدرُ الحمامي، والحسينُ بن أحمد الماذرائي، فأصلحا حالَها وقرَّرا أمور الشامِ، واستعملا على دمشقَ طغج بن جف واستعملا على سائر الأعمال، ورجعا إلى مصرَ والأمور فيها اختلالٌ، والقُوَّاد قد استولى كلُّ واحدٍ منهم على طائفةٍ مِن الجند وأخذَهم إليه، وهكذا يكون انتقاضُ الدُّوَل، وإذا أراد الله أمرًا فلا مَرَدَّ لحُكمِه، وهو سريعُ الحِسابِ.
هو بهاءُ الدَّولةِ أبو نَصرِ بنُ عَضدِ الدَّولة بنِ بُوَيه الديلميُّ الشيعيُّ، وهو المتحَكِّمُ حينئذٍ بالعراقِ، خلع بهاءُ الدَّولةِ الخليفةَ الطائِعَ للهِ، ونصَبَ القادرَ باللهِ مَكانَه. بينما كان هو خاضِعًا للسُّلطانِ محمودِ بنِ سبكتكين، مُداريًا له، مُؤثِرًا لمُصافاتِه بحُكمِ الجِوارِ. كان مرَضُه الذي مات فيه تتابع الصَّرَع مثل مرَضِ أبيه، وكان موتُه بأرجان، وحُمِلَ إلى مشهد أميرِ المؤمنين عليٍّ، فدُفِنَ عند أبيه عَضُدِ الدَّولة، وكان مُلكُه 24 سنة، وقيل 22 سنة، وعمره 42 سنة و9 أشهر، ولَمَّا توفِّيَ وَلِيَ المُلكَ بعده ابنُه سلطان الدَّولة أبو شُجاع، وسار من أرجان إلى شيراز، وولَّى أخاه جلالَ الدَّولةِ أبا طاهر بنَ بهاء الدَّولة البَصرةَ، وأخاه أبا الفوارِسِ كرمان. بقيَ أبو شجاعٍ في المُلكِ 12 سنة، وأَخَذَت الدَّولةُ البُويهيَّة تتناقَصُ خِلالَها.
ألزم الوزيرُ أبو القاسِمِ المَغربيُّ الأتراكَ والمولَّدينَ لِيَحلِفوا لمُشَرف الدَّولةِ البويهي، وكَلَّف مُشرف الدَّولة المُرتضى ونِظام الحضرتَينِ أبا الحَسَن الزينبي، وقاضي القضاة، وأبا الحَسَن بن أبي الشوارب، وجماعةً مِن الشهود بالحضور، فظَنَّ الخليفةُ القادِرُ بالله أنَّ التحالُفَ لِنيَّةٍ مَدخولةٍ في حَقِّه، فبعث من دارِ الخليفةِ مَن منع الباقينَ بأن يحلِفوا، وأنكر على المُرتَضى والزينبي وقاضي القُضاة حُضورَهم بلا إذنٍ، واستُدْعُوا إلى دارِ الخلافة، وأُظهِرَ عَزمُ الخليفة على الرُّكوبِ, وبلغ ذلك إلى مُشرف الدَّولة، وانزعج منه، فتردَّدَت الرسائلُ بين الخليفةِ ومُشرف الدَّولة باستحالةِ أن يكون هذا الحَلِفُ ضِدَّه، وانتهى الأمرُ إلى أن حلَفَ مُشرف الدَّولة على الطَّاعةِ والمُخالَصة للخَليفةِ، وكان وقوعُ اليَمينِ في يومِ الخميسِ الحاديَ عَشَر من صفَر، وتولى أخْذَها واستيفاءَها القاضي أبو جعفرٍ السمناني، ثم حلَفَ الخليفةُ لِمُشرف الدَّولة.
وَصلَ أَصحابُ السُّلطان طُغرُلبك إلى فارس، وبلغوا إلى شيراز، ونزلوا بالبَيضاءَ، واجتمع معهم العادلُ أبو منصور الذي كان وزيرَ المَلِكِ أبي كاليجار، ودَبَّرَ أَمرَهم، فقَبَضوا عليه وأخذوا منه ثلاثَ قِلاعٍ، وهي: قَلعةُ كَبْزَة، وقَلعةُ جُوَيْم، وقَلعةُ بَهَنْدَر، فأقاموا بها، وسار مِن الغُزِّ نحو مائتي رَجُلٍ إلى الأَميرِ أبي سعدٍ، أخي المَلِكِ الرَّحيم، وصاروا معه، وراسَل أبو سعدٍ الذي بالقِلاعِ المذكورةِ، فاستَمالَهم فأطاعوه وسَلَّموهُ القِلاعَ، إليه وصاروا في خِدمتهِ، واجتمع العَسكرُ الشيرازي، وعليهم الظَّهيرُ أبو نَصرٍ، وأوقعوا بالغُزِّ ببابِ شيراز، فانهزم الغُزُّ، وأُسِرَ تاجُ الدِّين نَصرُ بن هبة الله بن أحمد، وكان من المُقَدَّمين عند الغُزِّ، فلمَّا انهزم الغُزُّ سار العَسكرُ الشيرازي إلى فَسا، وكان قد تَغلَّب عليها بعضُ السَّفِل، وقَوِيَ أَمرُه لاشتغالِ العَساكرِ بالغُزِّ، فأزالوا المُتَغَلِّب عليها واستَعادُوها.
هو أبو المُظَفَّرِ مَنصورُ بن نِظامِ الدِّينِ نَصرِ بنِ نَصيرِ الدَّولةِ مَروانَ بنِ دوستك الكُرديُّ، صاحِبُ دِيارِ بَكرٍ، تَوَلَّى الحُكمَ بعدَ وَالدِه نِظامِ الدِّين في ذي الحجَّةِ سَنةَ 472هـ، ودَبَّرَ دَولتَهُ ابنُ الأَنبارِيِّ، ولم يَزَل في مُلكِه إلى أن انقَرَضَ أَمرُ بَنِي مَروانَ على يَدِ فَخرِ الدَّولةِ بنِ جَهيرٍ حين حارَبَهُ، وكان جكرمش قد قَبَضَ عليه بالجَزيرَةِ، وتَرَكَهُ عند رَجلٍ يَهوديٍّ، فمات في دارِه، وحَمَلَتهُ زَوجتُه إلى تُربَةِ آبائِه، فدَفَنَتهُ ثم حَجَّت، وعادَت إلى بَلدِ البَشْنَوِيَّة. قال ابنُ الأَثيرِ: " كان مَنصورٌ شُجاعًا، شَدِيدَ البُخْلِ، له في البُخْلِ حِكاياتٌ عَجيبَة، فتَعْسًا لِطالِبِ الدُّنيا، المُعرِض عن الآخِرَةِ، ألا يَنظُر إلى فِعلِها بأَبنائِها، بينما مَنصورٌ هذا مَلِكٌ مِن بَيتِ مَلِكٍ آلَ أَمرُه إلى أن ماتَ في بَيتِ يَهودِيٍّ، نَسألُ الله تعالى أن يُحسِن أَعمالَنا، ويُصلِح عاقِبَةَ أَمرِنا في الدنيا والآخرة، بمَنِّهِ وكَرَمِه".
هرب تاجُ الدَّولةِ بهرام وزيرُ الحافظ لدينِ الله الفاطمي صاحِبِ مِصرَ، وكان قد استوزَرَه بعد قَتلِ ابنِه حَسَن، وكان نصرانيًّا أرمنيًّا، فتمَكَّنَ في البلاد واستعمَلَ الأرمن وعزل المُسلِمين، وأساء السيرةَ فيهم وأهانَهم هو والأرمنُ الذين ولَّاهم وطَمِعوا فيهم، فلم يكُنْ في أهلِ مِصرَ مَن أنِفَ ذلك إلَّا رضوان بنُ الريحيني؛ فإنَّه لَمَّا ساءه ذلك وأقلَقَه جَمَعَ جَمعًا كثيرًا وقَصَد القاهرة، فسمِعَ به بهرام، فهَرَب إلى الصعيد مِن غيرِ حَربٍ ولا قتال، وقصَدَ مدينةَ أُسوانَ فمَنَعَه واليها من الدُّخولِ إليها وقاتَلَه، فقَتَل السودانُ مِن الأرمنِ كثيرًا، فلمَّا لم يَقدِرْ على الدخولِ إلى أسوان أرسل إلى الحافِظِ يَطلُبُ الأمانَ فأمَّنَه، فعاد إلى القاهرةِ، فسُجِنَ بالقَصرِ، فبَقِيَ مُدَّةً، ثمَّ ترَهَّبَ وخرج من الحَبسِ. وأمَّا رضوانُ فإنَّه وزر للحافِظِ ولُقِّبَ بالمَلِك الأفضَلِ، وهو أوَّلُ وزيرٍ للمِصريِّينَ لُقِّبَ بالمَلِك.
وصَلَ السُّلطانُ مسعودٌ إلى بغداد على عادتِه في كلِّ سَنَةٍ، وجمَعَ العساكِرَ، وتجهَّزَ لِقَصدِ أتابك زنكي، وكان حَقَد عليه حِقدًا شديدًا؛ بسبَبِ أنَّ أصحابَ الأطراف الخارجينَ على السُّلطانِ مَسعودٍ، كانوا يَخرُجونَ عليه بتَحريضٍ من أتابك زنكي، ويقولُ إنَّه هو الذي سعى فيه وأشار به لعِلْمِه أنَّهم كُلَّهم كانوا يَصدُرونَ عن رأيِه، فلمَّا تفَرَّغَ السُّلطانُ هذه السَّنَةَ، جَمَعَ العساكِرَ لِيَسيرَ إلى بلادِه، فسَيَّرَ أتابك يستعطِفُه ويستميلُه، فأرسل إليه السُّلطانُ أبا عبد الله بنَ الأنباري في تقريرِ القواعد، فاستقرَّت القاعِدةُ على مئةِ ألفِ دينارٍ يَحمِلُها إلى السُّلطان ليعودَ عنه، فحَمَل عشرينَ ألف دينار أكثَرُها عروض، ثمَّ تنَقَّلَت الأحوالُ بالسُّلطان إلى أن احتاجَ إلى مداراةِ أتابك وأطلَقَ له الباقيَ استمالةً له وحِفظًا لقَلْبِه، وكان أعظَمُ الأسبابِ في قعودِ السُّلطانِ عنه ما يَعلَمُه مِن حَصانةِ بِلادِه وكثرةِ عَساكِرِه وكثرةِ أموالِه.