بَعَث رسولُ الله صلَّى اللهُ عليه وسلَّم عُكَّاشةَ بنَ مِحصَنٍ رَضي اللهُ عنه إلى الغَمْرِ -ماءٍ لبني أسَدٍ- في أربعين رَجلًا، فيهم: ثابِتُ بنُ أقرَمَ، وشُجاعُ بنُ وَهبٍ؛ فخَرَج سَريعًا ونَذِرَ به القَومُ فهَرَبوا فنَزَلوا عَلياءَ بلادِهِم، ووَجَد ديارَهم خُلوفًا -أي: أهلُها غائِبون-، فبَعَث شُجاعَ بنَ وَهبٍ طَليعةً؛ فرَأى أثَرَ النَّعَمِ، فتَحمَّلوا فأصابوا مَن دَلَّهم على بَعضِ ماشيَتِهِم، فأمَّنوه، فدَلَّهم على نَعَمٍ لبني عمٍّ له، فأغاروا عليها، فاستاقوا مِائتَي بَعيرٍ؛ فأرسَلوا الرَّجلَ، وساقوا النَّعَمَ إلى المدينةِ، وقَدِموا على رسولِ الله صلَّى اللهُ عليه وسلَّم ولم يَلقَوا كَيدًا.
كان مِن أَبرَزِ نَتائجِ فَتحِ مكَّةَ أن أَخذتْ قَبائلُ العربِ وأَفرادُها يُبادِرون بإسلامِهم؛ لأنَّهم كانوا يَنتظِرون نَتيجةَ الصِّراعِ بين المسلمين وقُريشٍ، فعن عَمرِو بنِ سَلمةَ قال: كُنَّا بماءٍ مَمَرَّ النَّاسِ، وكان يَمُرُّ بِنا الرُّكبانُ فنسألُهم: ما للنَّاسِ، ما للنَّاسِ؟ ما هذا الرَّجلُ؟ فيقولون: يَزعُم أنَّ الله أَرسلَهُ، أَوْحى إليه -أو: أَوْحى الله بكذا- فكنتُ أَحفظُ ذلك الكلامَ، وكأنَّما يُقَرُّ في صدري، وكانتِ العربُ تَلَوَّمُ بإسلامِهم الفَتحَ، فيَقولون: اتْرُكوهُ وقَومَهُ، فإنَّه إن ظهَر عليهم فهو نَبِيٌّ صادِقٌ. فلمَّا كانت وَقعةُ أهلِ الفَتحِ بادَر كُلُّ قومٍ بإسلامِهم، وبَدَرَ أبي قومي بإسلامِهم.
غَضِبَ هِشامُ بن عبدِ الملك على أَميرِ خُراسان الجُنيدِ المُرِّيِّ فوَلَّى بَدَلًا عنه عاصِمَ بن عبدِ الله الهِلالِيَّ، وأَمَره أن يَسيرَ إليه وأن يَقتُلَه إن وَجَده حَيًّا، وكان الجُنيدُ مَريضًا ومات قَبلَ وُصولِ عاصِمٍ، فلمَّا وَصَل عاصِمٌ أَخَذ بالإساءَةِ إلى قادَةِ الجُنيدِ وأَظهَر القَسوَة، ممَّا أَثار عليه النَّاس، فخَرَج عليه الحارِثُ بن سُريجٍ وسار إلى الفارياب، وسَيَّرَ إليه عاصِمٌ جَيشًا وحَصَل قِتالٌ بينهم في بَلْخ هُزِمَ فيه جَيشُ عاصِم، وسار الحارِثُ فاسْتَولى على عِدَّةِ مُدُن واجْتَمَع له الكَثيرُ مِن النَّاس وقَوِيَ أَمرُه، وقِيلَ إنَّه كان يَدعو إلى بَيْعَةِ الرِّضا.
كان إيتاخُ التركي قائدَ جيشِ المتوكِّلِ وإليه المغاربة، والأتراك، والأموال، والبريد، والحِجابة، ودارُ الخلافة, وكان الأتراكُ بعد أن رشَّحوا المتوكِّلَ للخلافةِ بعد أبيه، بدأ تدخُّلُهم في شؤونِ الدَّولةِ، فلمَّا تمكَّنَ المتوكِّلُ من الخلافةِ، وقد أدرك خطرَ الأتراكِ على الدولةِ، عَمِلَ على تَصفيتِهم، وبدأ بمربِّيه إيتاخَ التركيِّ، فلما عاد إيتاخ مِن مكَّةَ، وكان حاجًّا تلك السنةَ كتب المتوكِّلُ إلى إسحاقَ بنِ إبراهيم ببغداد يأمُرُه بحَبسِه، فاحتال عليه إسحاقُ حتى حبَسَه، وقَيَّدَ إيتاخ، وجَعَلَ في عنُقِه ثمانين رطلًا فمات. وقيل: إنَّ موتَه كان بالعَطَشِ، وأنَّه أُطعِمَ فاستسقى، فمُنِعَ الماءَ حتى مات عطشًا.
خرجَت الرُّومُ قاصِدةً مدينة آمد، فنَزَلوا عليها وحصروها وقاتلوا أهلَها، فقُتِلَ منهم ثلاثُمائة رجلٍ، وأُسِرَ نحوُ أربعمائة أسيرٍ، ولم يمكِنْهم فتحُها، فانصرفوا إلى دارا، وقرُبوا من نصيبين، ولَقِيَهم قافلةٌ واردة من ميافارقين، فأخذوها، وهربَ النَّاسُ من نصيبين خوفًا منهم، حتى بلَغَت أجرة الدابَّة مائة درهم، وراسل سيفُ الدولة الأعرابَ ليهرَبَ معهم، وكان في نصيبين، فاتَّفَق أنَّ الرُّومَ عادوا قبل هربه، فأقام بمكانِه، وسار الرومُ مِن ديار الجزيرة إلى الشام، فنازلوا أنطاكية، فأقاموا عليها مدَّةً طويلة يقاتِلونَ أهلَها، فلم يمكِنْهم فَتحُها، فخَرَّبوا بلدها ونهبوه وعادوا إلى طرسوس.
لَمَّا استقَرَّ الأمرُ لأفتكين التركي في الشام ولم يستجِبْ لطَلَبِ المعِزِّ الفاطميِّ ليكونَ نائبًا له فيها. عزم المعِزُّ على المسير إليه ليأخُذَها منه، فبينما كانت العساكرُ تُجمَعُ للمُعِزِّ إذ توفِّيَ، وقام بعدَه ولدُه العزيز، فاطمأنَّ عند ذلك أفتكين بالشام، واستفحل أمرُه وقَوِيَت شوكتُه، ثمَّ اتَّفقَ أمرُ المِصريِّينَ على أن يبعثوا جوهرًا الصقليَّ لقتالِه وأخْذِ الشَّامِ مِن يده، فعند ذلك حلَفَ أهلُ الشام أنَّهم معه على الفاطميِّينَ، وأنهم ناصِحونَ له غيرُ تاركيه، ثُمَّ حصَلَت حروبٌ بينهم كان حاصِلُها استنجادَ أفتكين بالقرامطةِ، ولكِنْ كانت النهايةُ هي هزيمَتَهم أمامَ الفاطميِّينَ، وأُسِرَ أفتكين، وسُيِّرَ إلى مصرَ فأُكرِمَ فيها.
لَمَّا توفِّيَ الحَكَمُ بنُ عبد الرحمن بويعَ بخلافةِ الأندلُسِ ابنُه هشامٌ المؤيَّدُ بالله، وله يومئذٍ عشرُ سنينَ أو نحوها، بإشارة الوزراء والقُوَّاد, واختلفت البلادُ في أيامه، فأخذه حاجِبُه ابنُ أبي عامرٍ وحَبَسه، وحَجَبه عن النَّاسِ، فلم يكن أحدٌ يراه ولا يصل إليه، وقام المنصورُ أبو عامر بأمر الدولة القيامَ المَرضِيَّ، وعدل في الرعيَّة، وأقبلت الدُّنيا إليه، واشتغل بالغَزوِ، وفتحَ مِن بلاد الأعداءِ كثيرًا، وامتلأت بلادُ الأندلس بالغنائم والرقيق، وأدام اللهُ له الحالَ ستًّا وعشرين سنة، غزا فيها اثنتينِ وخمسينَ غَزاةً ما بين صائفةٍ وشاتيةٍ.
كان مَلِكُ قصدار قد صالحَ يَمينَ الدَّولةِ محمودَ سبكتكين على مالٍ يُؤدِّيه إليه، ثمَّ قطَعَه اغتِرارًا بحَصانةِ بَلَدِه، وكَثرةِ المضايِقِ في الطريقِ، واحتمى بايلك الخان، وكان يمينُ الدَّولة يريدُ قَصْدَها، فيتَّقي ناحيةَ إيلك الخان، فلمَّا فَسَدَ ذاتُ بينهما صَمَّمَ العزمَ وقَصَدَها وتجَهَّزَ، وأظهَرَ أنَّه يريدُ هَراةَ، فسار مِن غزنةَ في جمادى الأولى، فلمَّا استَقَلَّ على الطريقِ، سار نحو قصدار، فسبَقَ خَبَرُه، وقطَعَ تلك المضايقَ والجبَل، فلم يشعُرْ صاحِبُها إلَّا وعسكَرُ يمينِ الدَّولة قد أحاط به ليلًا، فطلب الأمانَ فأجابه وأخَذَ منه المالَ الذي كان قد اجتمَعَ عنده، وأقَرَّه على ولايتِه وعاد.
افتُتِحَت الجوالي –أموال الجزية- في المحَرَّم ببغداد، فأنفذ الملِكُ جلال الدَّولة البويهي فأخذ ما تحصَّلَ منها، وكانت العادةُ أن يُحمَلَ منها إلى الخُلفاءِ لا تُعارِضُهم فيها الملوك، فلمَّا فَعَل جلالُ الدَّولة ذلك، عَظُمَ الأمرُ فيه على القائِمِ بأمرِ الله واشتَدَّ عليه، وأرسَلَ مع أقضى القُضاة أبي الحسن الماوَردي في ذلك، وتكَرَّرت الرَّسائلُ، فلم يُصْغِ جلالُ الدَّولة لذلك، وأخذ الجواليَ، فجمع الخليفةُ الهاشميِّينَ بالدارِ والرجَّالة، وأرسل إلى أصحابِ الأطرافِ والقُضاة بما عزَمَ عليه، وأظهر العَزمَ على مفارقةِ بغداد، فلم يتِمَّ ذلك، وحدث وحشةٌ مِن الجِهَتينِ، فاقتَضَت الحالُ أنَّ المَلِك يتركُ معارضةَ النوَّاب الإماميَّة فيها في السنةِ الآتيةِ.
أُصيبَت مِصرُ بِقَحْطٍ شَديدٍ وغَلاءٍ شَديدٍ كاد يُهلِكُهم، فعَقدَ المُستنصِرُ الفاطِميُّ مع الإمبراطورِ البيزنطي قُسطنطين التاسِع مُعاهدةً مُوجِبُها أن يَمُدَّ الرُّومُ مِصرَ بالغِلالِ والأَقواتِ لِتَجاوُزِ المَجاعةِ التي حَلَّت بهم، لكنَّ إمبراطورَ الرُّومِ يَموتُ قبلَ الوَفاءِ بالمُعاهدةِ، ويَتولَّى أَمرَ الرُّومِ الإمبراطورة تيودورا فاشتَرطَت أن يَتَعهَّدَ الفاطِميونَ الدِّفاعَ عن الرُّومِ في حالِ التَّعَدِّي عليهم لِتُنَفِّذَ هذه المُعاهدة السَّابقة؛ لكنَّ المُستنصِرَ لم يَرضَ بهذا الشَّرْطِ، عِلْمًا أنَّ الرُّومَ كانوا قد أَرسَلوا هَدايا قبلَ ذلك منها كَثيرٌ مِن القَمحِ والغَلَّاتِ التي ساعدت في هذه المَجاعةِ، كما حَصَلَ قِتالٌ بين الرُّومِ وبين بَعضِ الجُيوشِ المُتاخِمَةِ لهم.
فتَحَ نورُ الدين محمود بن زنكي حِصنَ المنيطرة من الشام، وكان بيد الفرنج، ولم يحشِدْ له، ولا جمَعَ عساكِرَه، وإنما سار إليه جريدة- الجريدة خَيْلٌ لا رَجَّالة فيها- على غِرَّة منهم، وعَلِمَ أنه إن جمع العساكِرَ حَذِروا وجمعوا، وانتهز الفرصةَ وسار إلى المنيطرة وحصره، وجَدَّ في قتاله، فأخذه عَنوةً وقهرًا، وقتل من بها وسبى، وغَنِمَ غنيمة كثيرة، فإنَّ الذين به كانوا آمنين، فأخذتهم خيل الله بغتةً وهم لا يشعرون، ولم يجتمع الفرنج لدفعِه إلَّا وقد ملكه، ولو علموا أنه جريدة في قِلَّةٍ مِن العساكر لأسرعوا إليه، وإنما ظنُّوه أنه في جمع كثير، فلما ملكه تفَرَّقوا وأيِسُوا من رَدِّه.
كانت الفتنةُ ببغدادَ بين أمير العسكَرِ قطب الدين قايماز المظفري والخليفةِ المستضيء بأمرِ الله، وسَبَبُها أنَّ الخليفة أمرَ بإعادة عَضدِ الدين ابن رئيس الرؤساءِ إلى الوزارة، فمنع منه قُطب الدين، وأغلق بابَ النوبي وباب العامة، وبقيت دار الخليفة كالمحاصَرة، فأجاب الخليفةُ إلى تَركِ وَزارته، فقال قطب الدين: "لا أقنَعُ إلا بإخراج عضد الدينِ مِن بغداد؛ فأمر بالخروجِ منها" فالتجأ عضدُ الدين إلى صدر الدين شيخِ الشيوخ عبد الرحيم بن إسماعيل، فأخذه إلى رباطِه وأجاره، ونقله إلى دارِ الوزير بقطفتا، فأقام بها، ثمَّ عاد إلى بيته في جُمادى الآخرة.
سار جمعٌ كثيرٌ مِن الفرنج بالشَّامِ إلى مدينة حماة، وكَثُرَ جَمعُهم من الفرسان والرجَّالة؛ طمعًا في النهب والغارة، فشَنُّوا الغارة، ونَهَبوا وخَرَّبوا القرى، وأحرَقوا وأسروا وقَتَلوا، فلما سمع العسكرُ المقيم بحماة ساروا إليهم، وهم قليل، متوكلينَ على الله تعالى، فالتقوا واقتتلوا، وصدق المسلمونَ القتال، فنصرهم الله تعالى، وانهزم الفرنج، وكَثُرَ القتل والأسرُ فيهم، واستردُّوا منهم ما غَنِموه من السواد، وكان صلاحُ الدين قد عاد من مصر إلى الشامِ في شوال من السنة الماضية، وهو نازِلٌ بظاهر حمص، فحُمِلَت الرؤوس والأسرى والأسلاب إليه، فأمَرَ بقتل الأسرى فقُتِلوا.
لما نزل الفرنج بمرج عكَّا تجَّهزوا، وأخذوا معهم آلةَ الحصار من مجانيقَ وغيرها، وقصدوا قلعةَ الطور، وهي قلعةٌ منيعة على رأس جبلٍ بالقرب من عكا العادل قد بناها عن قريبٍ، فتقدموا إليها وحصروها وزحفوا إليها، وصَعِدوا في جبلها حتى وصلوا إلى سورها، وكادوا يملِكونه، فاتَّفق أن بعض المسلمين ممَّن فيها قتَل بعضَ ملوكهم، فعادوا عن القلعة فتركوها، وقصدوا عكَّا، وكانت مدة مُقامهم على الطور سبعة عشر يومًا، ولَمَّا فارقوا الطور أقاموا قريبًا، ثم ساروا في البحرِ إلى ديار مصر، فتوجَّه الملك المعظَّم إلى قلعة الطورِ فخَرَّبها إلى أن ألحَقَها بالأرض؛ لأنَّها بالقُربِ مِن عكا ويتعَذَّر حِفظُها.
سارت العساكر المستنصرية بصحبة الأمير سيف الدين أبي الفضائل إقبال الخاص المستنصري إلى مدينة إربل وأعمالها، وذلك لمرض مالكِها مظفر الدين كوكبري بن زين الدين، وأنَّه ليس له من بعده من يملك البلاد، فحين وصَلَها الجيشُ منَعَه أهلُ البلد فحاصروه حتى افتتحوه عنوةً في السابع عشر من شوال، وجاءت البشائرُ بذلك فضُرِبَت الطبول ببغداد بسَبَبِ ذلك، وفَرِحَ أهلُها، وكتب التقليدُ عليها لسيف الدين أبي الفضائل إقبال، فرتَّبَ فيها المناصِبَ وسار فيها سيرةً جيدة، وامتدح الشعراءُ هذا الفتحَ مِن حيث هو، وكذلك مدحوا فاتحَها سيف الدين أبا الفضائل.