اتَّفَق بظاهِرِ القاهرةِ أمرٌ اعتُنِي بضَبطِه، وهو أنَّه كان بناحية اللوق كوم يُعرفُ بكوم الزل يأوي إليه أهلُ الفسوق من أوباشِ العامَّة، فأخذ بعضُهم منه مَوضِعًا ليبنيَ له فيه بيتًا، فشَرَع في نقل الترابِ منه، فبينا هو يحفِرُ إذ ظهر له إناءُ فخَّار فيه مكاتيبُ دار كانت في هذا البُقعةِ، وتدُلُّ على أنه كان به أيضًا مَسجِدٌ، ورأى آثار البنيان، فأشاع أحدُ شياطينِ العامَّة- وكان يقال له شُعَيبٌ- أنَّه رأى في نَومِه أنَّ هذا البنيان على قَبرِ بعض الصحابة رَضِيَ الله عنهم، وأنَّ مِن كراماتِه أنَّه يُقيمُ المُقعَد ويَرُدُّ بصَرَ الأعمى، وصار يصيحُ ويُهَلِّلُ ويُظهِرُ اختلالَ عَقلِه، فاجتمَعت عليه الغوغاء، وأكثروا مِن الصياح، وتناولوا تلك الأرضَ بالحَفرِ حتى نزلوا فيها نحوَ قامتينِ، فإذا مَسجِدٌ له محرابٌ، فزاد نشاطُهم، وفَرِحوا فرحًا كبيرًا، وباتوا في ذِكرٍ وتَسبيحٍ، وأصبَحوا وجَمَعَهم نحو الألف إنسان، فشالوا ذلك الكوم، وساعَدَهم النساء، حتى إنَّ المرأة كانت تشيل الترابَ في مقنَعِها، وأتاهم الناسُ مِن كل أَوبٍ، ورفعوا معهم الترابَ في أقبِيَتِهم وعمائِمِهم، وألقَوه في الكيمان، بحيث تهيَّأَ لهم في يومٍ واحدٍ ما لا تفي مُدَّةُ شَهرٍ بنَقلِه، وحَفَر شُعَيبٌ حُفرةً كبيرة، وزعم أنَّها مَوضِعُ الصحابي، فخرج إليه أهلُ القاهرة ومصر أفواجًا، وركِبَ إليه نِساءُ الأمراءِ والأعيان، فيأخُذُهنَّ شُعَيبٌ ويُنزِلُهنَّ تلك الحفرة لزيارتِها، وما منهنَّ إلَّا من تدفَعُ الدنانيرَ والدَّراهم، وأشاع شُعَيبٌ أنه أقام الزَّمنى، وعافى المرضى، وردَّ أبصارَ العِميانِ، في هذه الحُفرة، وصار يأخذُ جماعةً مِمَّن يُظهِرُ أنَّه من أهل هذه العاهات، ويَنزِلُ بهم إلى الحُفرةِ، ثم يُخرِجُهم وهم يُسَبِّحونَ: الله أكبر الله أكبر، ويزعُمونَ أنَّهم قد زال ما كان بهم، فافتَتَن الناس بتلك الحُفرة، ونزلت أمُّ السلطانِ لزيارتها، ولم تبقَ امرأةٌ مشهورة حتى أتتها، وصار للنَّاسِ هناك مجتَمَعٌ عظيم، بحيث يُسرَجُ به كلَّ ليلة نحو مائتي قنديل، ومن الشُّموعِ الموكبيَّة شيءٌ كثير، فقامت القضاةُ في ذلك مع الأميرِ أرغون العلائي والأمير الحاج آل ملك نائب السُّلطان، وقَبَّحوا هذا الفِعلَ، وخَوَّفوا عاقبَتَه، حتى رُسِمَ لوالي القاهرة أن يتوجَّهَ إلى مكان الحفرة ويكشِفَ أمْرَها، فإن كان فيها مقبورٌ يُحمَلُ إلى مقابِرِ المُسلِمينَ ويُدفَنُ به سِرًّا، ثمَّ يُعفى الموضِعُ، فلما مضى إليه ثارت به العامَّةُ تُريدُ رَجْمَه، وصاحوا عليه بالإنكارِ الشَّنيعِ حتى رماهم الجُندُ بالنشَّاب، فتفَرَّقوا، وهَرَب شُعَيبٌ ورفيقه العجوي، وما زال الحفَّارون يعملون في ذلك المكانِ إلى أن انتَهَوا فيه إلى سرابِ حمام، ولم يجدوا هناك قبرًا ولا مَقبورًا، فطَمُّوه بالتراب، وانصَرَفوا، وقد انحَلَّت عزائِمُ النَّاسِ عنه، بعدما فُتِنوا به، وضَلُّوا ضلالًا بعيدًا، وجَمَع شُعَيبٌ ورفيقه كثيرًا من المالِ والثيابِ شيئًا طائلًا!!
هو الشيخُ أبو محمد عثمان بن محمد الملقب بـ (فودي) بن عثمان بن صالح بن هارون بن محمد أحدُ علماء نيجيريا، كان مالكيَّ المذهب. ولِدَ في قرية طقِل في شمال نيجيريا، سنة 1169هـ يعتبرُ عثمان دان فوديو مؤسِّسَ دولة تكرور في سوكوتو في غربِ أفريقيا قريبًا من نهر الكونغو، وكان قد عاد من الحجِّ وهو ممتلئٌ حماسةً للإصلاح الديني، فكَثُر أتباعُه والمتحمِّسون لأفكارِه، فلما زاد عددُ أتباعه ومريديه، وفكَّرَ في الاتصال بأحدِ الملوك ليشُدَّ مِن أزره، فلجأ إلى أقوى ملوكِ الهوسة- وهو وقتذاك- الملِكُ نافتا (ملك غوبر)، وشرح له الإسلامَ الصحيح وطلبَ إليه إحياءَ معالم الدين، وإقامةَ العدل بين الناس. فاستجاب له أوَّلَ الأمر وأسند إليه الفتوى والإرشادَ بمجلِسِه وديوانه، غيرَ أنَّ بعض مدَّعي العلمِ الحاقدين قاموا يعَيِّرونه لاتصاله بالمَلِك ويتَّهمونه بالرياء والسعي إلى الجاه والسلطان، ووشَوا به عنده، ومنهم من أنكر عليه بعضَ أقواله وأفعاله، فوقعت بينه وبين المَلِك جفوة سافر بسَبَبِها الشيخ إلى بلاد زمفرة وكبي. يقول الإمام محمد بللو ابن الشيخ عثمان بن فودي عن معاناة والده: "ثم إنَّه لما برز هكذا، وكثُرَ أتباعه من العلماء والعوام، وتراسل الخلقُ إلى الاقتداء به، وكفاه اللهُ من ناوأه من علماءِ وَقتِه، حتى نشر أعلامَ الدين، وأحيا السنة الغرَّاء، فتمكَّنت في البلد أيَّ تمكين- نصَبَ أهل الدنيا له العداوةَ مِن أمراء هذه البلاد،..... وإنما غاظهم ما يرون من ظهورِ الدين وقيام ما درس مِن معالم اليقين، وذَهاب بقاءِ ما هم فيه من الضَّلالِ والباطِلِ والتخمين، مع أنَّ سَلطنتَهم.. مؤسَّسة على قواعِدَ مخُالِفة للشريعة.... فلمَّا أوضح الشيخُ الطريق، واهتدى إليه أهلُ التوفيق... وبقِيَ أهل الدنيا من علماءِ السوء والملوك في طغيانِهم يعمهون،... فجعل أولئك الملوك والعلماء يؤذون الجماعةَ (أتباعه)، ويعترضون كلَّ من ينتسب إلى الشيخ،... ولم يزَلْ كُلُّ من تولى من ملوكِ بلادنا مجتَهِدًا في إطفاءِ ذلك النور، ويكيد بالشيخِ وبجماعته، ويمكُرُ بهم ويحتال في استئصالهم" استطاع الشيخ عثمان بالدعوة أن يوحِّدَ تلك الجماعات المتناثرة في شتى أقاليم الحوصة ويجعل منها جماعةً واحدةً مُتماسِكةً، فأصبح له جَيشٌ قوي، ثم تعرض لولايات الحوصة الإسلامية، فسقطت واحدة تلوَ الأخرى في يدِه، وكان قد قسَّم مملكتَه على ولديه، ومات في هذه السنة بعد أن أسَّس مملكةً كبيرة سُرعان ما هبَّ الإنجليز للتدخل فيها, ولفودي مؤلَّفات كثيرة تجاوزت 150 كتابًا. توفِّي في ولاية سقطو (سوكوتو) بنيجيريا.
عنِ البَراءِ بنِ عازبٍ رضِي الله عنهما قال: "لمَّا قَدِمَ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم المدينةَ صلَّى نحوَ بيتِ المَقدسِ سِتَّةَ عشرَ أو سَبعةَ عشرَ شهرًا، وكان يُحِبُّ أن يُوَجَّهَ إلى الكعبةِ، فأنزل الله تعالى: {قَدْ نَرَى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّمَاءِ فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضَاهَا} [البقرة: 144]، فَوُجِّهَ نحوَ الكعبةِ، وصلَّى معه رجلٌ العصرَ، ثمَّ خرج فمَرَّ على قومٍ مِنَ الأنصارِ فقال: هو يَشْهَدُ أنَّه صلَّى مع النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم، وأنَّه قد وُجِّهَ إلى الكعبةِ، فانحرفوا وهُم ركوعٌ في صلاةِ العصرِ.
هو كعبُ بن زُهيرِ بن أبي سُلْمَى المُزَنِيُّ، أبو المُضَرَّبِ, الشَّاعرُ ابنُ الشَّاعرِ، وأَبُوهُ أَشْعَرُ منه، كان كعبٌ في الجاهِليَّة شاعرًا مَعروفًا ولمَّا ظهَر الإسلامُ هَجا النَّبيَّ صلَّى الله عليه وسلَّم وشَبَّبَ بنِساءِ المسلمين، فأَهْدَر النَّبيُّ صلَّى الله عليه وسلَّم دَمَهُ، فجاء مُسْتَأْمِنًا إلى النَّبيِّ صلَّى الله عليه وسلَّم، فأَمَّنَهُ وقَبِلَ منه، فأَنشَدهُ لامِيَّتَهُ المشهورة التي مَطلَعُها: بانَتْ سُعادُ فقلبي اليومَ مَتْبولُ، ويُقالُ: إنَّ النَّبيَّ صلَّى الله عليه وسلَّم أَعطاهُ البُردَةَ التي اشتراها بعدَ ذلك مُعاويةُ مِن بعضِ وَلَدِه فصارت للخُلفاءِ بعدَ ذلك يَتَوارَثُونَها.
الرافقة مدينة كانت متَّصلة البناء بالرقة، وهما على ضفَّة الفرات، وبينهما مقدار ثلاثمائة ذراع، ثم إن الرقَّة خربت وغلب اسمُها على الرافقة وصار اسمُ المدينة الرقة (وهي الموجودة حاليًّا في سوريا) ففي هذه السَّنة أمرَ الخليفةُ العباسي المنصور ببناء الرافقة، على منوالِ بناء بغداد، فلما أراد أهلُ الرقَّة منْعَه من بنائها همَّ في محاربتِهم. كما أمرَ ببناء سورٍ وعَمَلِ خندقٍ حول الكوفة، وأخذَ ما غَرِمَ على ذلك من أموالِ أهلِها، من كلِّ إنسانٍ مِن أهل اليسار أربعينَ درهمًا، وقد فرضَها أولًا خمسة دراهم، خمسة دراهم، ثم جباها أربعين أربعين.
مدينة تيهرت، أسسَّها عبد الرحمن بن رستم بن بهرام، وكان مولًى لعثمانَ بن عفان، وكان خليفةً لأبي الخطاب أيامَ تغلُّبِه على إفريقية، ولما دخل ابن الأشعث القيروان فرَّ عبد الرحمن إلى الغرب بما خلفَ مِن أهله وماله، فاجتمعت إليه الإباضية، وعزموا على بنيان مدينةٍ تجمَعُهم، فنزلوا بموضعِ تيهرت، وهي غَيضة يكثر فيها الشجر بين ثلاثة أنهارٍ، فبنوا مسجدًا من أربع بلاطات، واختَطَّ الناسُ مساكِنَهم، وكانت في الزمان الخالي مدينةً قديمة، فأحدثها عبد الرحمن بن رستم وبقي بها إلى أن مات في سنة 168
لَمَّا قُتِلَ خفاجة بن سفيان استعمل الناسُ ابنه محمدًا، وأقره محمد بن أحمد بن الأغلب أبو الغرانيق- صاحِبُ القيروان- على ولايته, كان ذلك في عام خمس وخمسين ومائتين، وفي رجب من عام سبع وخمسين ومائتين قُتِلَ الأميرُ محمد، قتله خَدَمُه الخصيان نهارًا وكتموا قَتْلَه، فلم يعرَفْ إلَّا مِن الغد، وكان الخدَمُ الذين قتلوه قد هربوا فطُلِبوا فأُخِذوا وقُتِلَ بعضُهم، ولَمَّا قُتِلَ استعمل محمَّدُ بن أحمد بن الأغلب على صقلية أحمدَ بن يعقوب بن المضاء بن سلمة، فلم تطُلْ أيَّامُه.
ولَّى المعتمِدُ على الله وَلَدَه جعفرًا العهدَ من بعدِه، وسماه المفوِّضَ إلى الله، وولاه المغرِبَ، وضمَّ إليه موسى بن بغا ولايةَ إفريقية ومصر والشام والجزيرة والموصل وأرمينية وطريق خراسان وغير ذلك، وجعل الأمرَ مِن بعد ولَدِه لأبي أحمد المتوكِّل، ولَقَّبَه الموفَّق بالله، وولاه المشرِقَ وضم إليه مسرورًا البلخي وولَّاه بغداد والسواد والكوفة وطريق مكة والمدينة واليمن وكسكر وكور دجلة والأهواز وفارس وأصبهان والكرخ والدينور والري وزنجان والسند، وكتب بذلك مكاتباتٍ وقُرِئَت بالآفاق، وعَلَّقَ منها نُسخةً بالكعبة.
دخل طاهِرُ بنُ محمَّد بنِ عمرِو بنِ الليث بلادَ فارس في عسكَرِه وأخرجوا عنها عامِلَ الخليفة، فكتب الأميرُ إسماعيلُ بنُ أحمد الساماني إلى طاهر يذكُرُ له أنَّ الخليفةَ المعتضِدَ قد ولَّاه سجستان، وأنَّه سائر إليها فعاد طاهِرٌ لذلك، فولَّى المعتضِدُ مولاه بدرًا فارِسَ، وأمره بالشُّخوصِ إليها لَمَّا بلغه أنَّ طاهرًا تغلب عليها، فسار إليها في جيشٍ عظيمٍ في جمادى الآخرة، فلما قَرُب من فارس تنحَّى عنها مَن كان بها من أصحابِ طاهرٍ، فدخَلَها بدر، وجَبى خراجَها وعاد طاهرٌ إلى سجستان.
هو سُليمانُ بنُ مُحمَّد بن أحمد أبو موسى النحوي الكوفيُّ المعروفُ بالحامضِ، وقد صَحِبَ ثعلبًا أربعين سنةً وخَلَفَه في حلقتِه, وكان أوحَدَ النَّاسِ في البيانِ واللُّغةِ والشِّعرِ، وكان قد أخذ عن البصريِّينَ وكان حسَنَ الوراقةِ في الضَّبطِ وكان يتعصَّبُ على البصريِّينَ فيما أخذَ عنهم، وإنما قيل له الحامِضُ؛ لشَراسةِ أخلاقِه، وأوصى بكتُبه لأبي فاتك المقتدري بخلًا بها أن تصيرَ إلى أحدٍ مِن أهل العلمِ، وصنَّف "غريبَ الحديثِ" و"خلق الإنسان" و"الوحوش" و"النبات" وكان ديِّنًا صالِحًا، روى عنه أبو عُمَرَ الزَّاهِدُ، وتوفي ببغداد، ودُفِن بباب التبن.
بعد مَقتَل عُمَرَ بنِ حَفصون استلم ابنُه سليمان قيادةَ الثَّورةِ، وبقي على سيرةِ أبيه، ثم قُتِلَ في هذه السنة, كان سليمانُ قد ركب وخرج عن مدينة ببشتر مركزِ الثَّورةِ ومَقَرِّها. معارِضًا لبعض الحشَمِ المجاورينَ له من العسكر، فتبادرت إليه الخيلُ مِن الجهة التي كان فيها عبدُ الحميد الوزير، فصُرِعَ سليمانُ عن فرسِه، فاحتزَّ رأسَه سعيدُ بن بعلي العريف المعروف بالشفة، وقطعت يداه ورجلاه، وبعث الوزيرُ عبد الحميد برأسِه وجُثَّتِه ويديه مُبَعَّضةً مفترقةً، فرُفِعَت على باب السدَّة بقرطبةَ في خشبة عاليةٍ، وكان الفتحُ فيه عظيمًا سارًّا لجميع المُسلمين.
طرد الخليفةُ الرَّجَّالةَ وهم المُشاة من الجيش الذين كانوا بدارِ الخلافةِ عن بغداد، وذلك أنَّه لَمَّا رَدَّ المُقتَدِر إلى الخلافة شَرَعوا ينفسونَ بكلامٍ كثيرٍ عليه، ويقولون: من أعان ظالِمًا سَلَّطَه اللهُ عليه، ومن أصعد الحِمارَ على السَّطحِ يقدِرُ أن يُطيحَه، فأمر بإخراجِهم ونفيِهم عن بغداد، ومن أقام منهم عُوقِبَ، فأُحرِقَت دورٌ كثيرةٌ مِن قراباتِهم، واحتَرَق بعضُ نسائهم وأولادهم، فخرجوا منها في غايةِ الإهانةِ، فنزلوا واسِطَ وتغَلَّبوا عليها وأخرجوا عامِلَها منها، فرَكِبَ إليهم مؤنِسٌ الخادِمُ فأوقع بهم بأسًا شديدًا، وقتل منهم خلقًا كثيرًا، فلم يَقُم لهم بعد ذلك قائمةٌ.
كان الطَّاعونُ ببِلادِ الهِندِ والعَجَمِ، وعَظُمَ إلى الغاية، وكان أكثَرُه بغُزنة وخراسان وجرجان والريِّ وأصبهان ونواحي الجَبَل إلى حلوان، وامتَدَّ إلى المَوصِل والجزيرة وبغداد، ثمَّ امتَدَّ إلى شيراز، وتَبِعَه غلاءٌ شديد، واستسقى النَّاسُ فلم يُسْقَوا، وكان عامًّا في جميعِ البلادِ، وكَثُرَ المَوتُ، فدُفِنَ في أصبهانَ في عِدَّةِ أيَّامٍ أربعونَ ألفَ مَيِّتٍ، وكَثُرَ الجُدريُّ في النَّاسِ فأُحصي بالموصِلِ أنَّه مات به أربعةُ آلاف صبي، ولم تخْلُ دارٌ مِن مصيبةٍ لعُمومِ المصائِبِ وكثرةِ الموت، وممَّن أُصيبَ بالجُدريِّ الخليفةُ القائِمُ بأمرِ اللهِ ثمَّ سَلِمَ.
سيَّرَ المَلِكُ أبو الفتح مودود بنُ مسعود بن سبكتكين عَسكَرًا مع حاجِبٍ له إلى نواحي خراسان، فأرسل إليهم داود أخو طغرلبك- وهو صاحِبُ خراسان- ولَدَه ألب أرسلان في عسكرٍ، فالتَقَوا واقتتلوا فكان الظَّفَرُ للمَلِك ألب أرسلان، وعاد عسكَرُ غزنة مُنهَزمًا، وفي صَفَر سار جمعٌ مِن الغز إلى نواحي بست، وفعلوا ما عُرِفَ منهم من النَّهبِ والشَّرِّ، فسَيَّرَ إليهم أبو الفتح مودود عسكرًا، فالتَقَوا بولاية بست، واقتتلوا قتالًا شديدًا انهزم الغزُّ فيه، وظَفِرَ عسكر مودود، وأكثروا فيهم القَتلَ والأَسْر.
كان القاضي أبو عبدِ الله القضاعي قد تَوَجَّه من عند المُستَنصِر حاكم مصر العُبيدي برِسالةٍ إلى مُتَمَلِّكِ الرُّومِ، فقَدِمَ وهو بالقُسطنطينيَّة رَسولُ السُّلطانِ طُغرلبك بن سلجوق يَلتَمِس من المَلِكَة تيودورا أن تُمَكِّنَ رَسولَه مِن الصَّلاةِ في جامعِ قُسطنطينيَّة، فأَذِنَت له في ذلك؛ فدَخلَ إليه وصَلَّى به، وخَطَبَ للخَليفةِ القائمِ بأَمرِ الله العبَّاسي. فبَعَثَ القَضاعيُّ بذلك إلى المُستنصِر، فأحاط المُستنصِر بما في بِيعَةِ قُمامَة وأَخذَهُ، وأَخرجَ البِطْرَكَ منها إلى دارِ مُفرَدَةٍ؛ وأَغلقَ أَبوابَ كنائِس مصر والشام، وطالَب الرُّهبانَ بالجِزيَةِ لأَربعِ سِنين، وزاد على النَّصارى في الجِزيَة. وكان هذا ابتداءُ فَسادِ ما بين الرُّومِ والمِصريِّين.