هو الشيخ العلامة أبو بكر حسين بن أبي بكر بن غنام الأحسائي المالكي مذهبًا التميمي نسبًا، ولد ببلدة المبرز بالأحساء ونشأ بها وقرأ على علمائها، ثم نزح منها إلى الدرعية، فقدمها على الإمام عبد العزيز بن محمد والشيخ محمد بن عبد الوهاب فأكرماه وأنزلاه المنزلة الرفيعة، فاستقرَّ في الدرعية وجلس فيها لطلاب العلم يقرؤون عليه علم النحو والعروض فقط، منهم الشيخ العلامة سليمان بن عبد الله ابن الشيخ المجدد محمد بن عبد الوهاب, والشيخ عبد الرحمن بن حسن ابن الشيخ محمد بن عبد الوهاب، والشيخ عبد العزيز ابن الشيخ العلامة حمد بن ناصر بن معمر. كانت له اليد الطولى في معرفة العلم وفنونِه, وصنَّف مصنفات منه: العقد الثمين في شرح أصول الدين, وألف تاريخه المشهور بتاريخ ابن غنام وسمَّاه "روضة الأفكار والأفهام لمرتاد حال الإمام وتعداد غزوات ذوي الإسلام" وله معرفة في الشعر والنثر، وله قصائد طوال موجودة في تاريخه, وهي تدل على طولِ نَفَسه في الشعر, وتوفِّي في الدرعية.
بعث محمد على صاحب مصر عسكرًا كثيفًا ووجَّهه إلى ناحية اليمن، لَمَّا استقر بمكة وجدة، فأرسل تلك العساكر برًّا وبحرًا، فسَيَّرَ في البحر أكثَرَ من أربعين سفينة وبندروا عند القنفذة, وكان في القنفذة عسكر من عسير نحو 500 مقاتل، فحصرهم الروم (جيش محمد علي) ورموهم بالمدافِعِ والقنابر، فلم يزالوا محاصرين لهم حتى أخرجوهم بالأمان واستولوا على القنفذة، وكان أميرُ عسير وتهامة طامي بن شعيب قد سار بجميع الشوكة من رعيته وتوجه إلى الحجاز، فلما بلغه استيلاءُ قوات محمد علي على القنفذة حَرَف جيوشه إليهم وقصدهم فيها، ومعه أكثَرُ من ثمانية آلاف مقاتل، فنازلهم فيها ووقع قتال شديدٌ، فنصر الله طامي ومن معه وقتلوا منهم رجالًا كثيرة وأخذوا المحطةَ وما فيها، ومِن خَيلِهم نحو 500، وغنموا من الركابِ ما لا يبلغه العدُّ، والمتاع والسلاح والأزواد ما لا يبلغه العدُّ، حتى قيل إنَّ الخيام التي أخذوا تزيد على 1000 خيمة، وانهزم شريدُهم في السفن؛ وذلك أنهم لما انهزموا تركوا المحطةَ وجنبوها وتوجهوا إلى السفن وركبوها، ونزلوا عن الخيلِ وتركوها فغَنِمَها أهل عسير مع رحايلهم وخيامهم ووجدوا باشتهم في الخيام فقتلوه.
مع ما تمتَّع به الإخوانُ (إخوان من أطاع الله) من بسالةٍ وبطشٍ بالأعداء ورغبةٍ في الجهادِ، لكن بدا منهم جفاءٌ وغلظة مع من يخالِفُهم في طريقتِهم من الحضَرِ عُمومًا، والبدو خصوصًا، ممَّن لم يلحَقْ بهم في الهِجَر، وصاروا يتهمونَهم بالضلالِ، وربما رموهم بالكُفرِ، فانتشر من جرَّاءِ هذا الأمر الفوضى في البلادِ، وكاد ينقَطِعُ حبل الأمن والسلام، فعقد السلطان عبد العزيز ابن سعود مؤتمرًا في الرياض في هذا العام للنظرِ فيما استحدث الإخوانُ مِن تُهَمٍ وأحكامٍ حَضَره كبارُ الرؤساء والعلماء وقرَّروا بعد البحث ستة أمور:
1- الكُفرُ لا يُطلَقُ على بادية المسلمين الثابتين على دينهم.
2- لا تفاوُتَ بين لابسِ العقال ولابسِ العمامة إذا كان معتقَدُهم واحدًا.
3- لا فرقَ بين الحضر الأولينَ والمهاجرين الآخرين.
4- لا فرقَ بين ذبيحةِ البدوي الذي في ولايةِ المسلمين، ودَربُه دَربُهم، ومُعتقدُه مُعتقدُهم، وبين ذبيحةِ الحضر الأولين والمهاجرين.
5- لا حَقَّ للمهاجرين أن يعتدُوا على النَّاسِ الذين لم يُهاجِروا؛ كأن يضربوهم، أو يتهدَّدوهم، أو يُلزِموهم بالهِجرةِ.
6- لا يحِقُّ لأحدٍ أن يهجُرَ أحدًا بدويًّا كان أو حضريًّا بغيرِ أمرٍ واضحٍ، وكُفرٍ صَريحٍ، وبدون إذنٍ مِن وليِّ الأمرِ أو الحاكِمِ الشرعيِّ.
بعد أن ضَمَّ الملك عبدالعزيز الحجازَ حاول الإبقاء على النظام الإداري الذي وضعه المَلِكُ حسين في الحجاز، والتوفيق بين عُلماء الدين في نجد والحجاز، واستمَرَّت أعمال الشركات الأجنبية في الحجاز، وكان الوضعُ في الحجاز أكثَرَ تطورًا من نجد؛ حيث وجودُ الإدارة وَفقَ المعايير العثمانية والميزانية المالية، والجيش النظامي والمدارس على النظام الحديث حتى المرحلة الثانوية، كما كان يوجدُ في الحجاز صحيفة "القبلة" الناطقة باسم الحكومةِ، كما أدرك الملك عبدالعزيز أهميةَ إدخال الوسائل الحديثة للدولة من الهاتف والراديو والسيارة وغيرها، بعد أن اطَّلع على أثَرِها في الحياة العامة والخاصة، إلَّا أنَّ بعضَ هذه الوسائل الحديثة كانت مرفوضةً من بعض علماء نجد وإخوان من أطاع الله خاصة، كالهاتف والتلغراف والراديو، على أنها من أعمال "الشيطان". ومعظم شعوب العالم حتى في أوروبا استنكرتها في بدايتها ظنًّا منها أنَّها من أعمال السحر، ولكِنَّ الملك عبدالعزيز أصرَّ على استخدامها فانتشرت السيارة والتليفون في البلاد، ثم قام الملكُ عبد العزيز بإجراء بعض التغييرات السياسية؛ فعيَّن ابنَه فيصلًا نائبًا للمَلِك في الحجاز في منتصف عام 1926م، وأصدر "التعليمات الأساسية للمملكة الحجازية" وهو كالدستور، حدَّد وضع نائب الملك، ومجلس الشورى، والإدارة العامة.
السيد سابق صاحبُ كتابِ "فقه السُّنة"، تخرَّج في كليَّة الشريعة، من مواليد محافظة المنوفية مركز الباجور قرية إسطنها، بدأ يكتُب في فقه الطهارة، معتمِدًا على كتب فقه الحديث، التي تُعنى بالأحكام، مثل: (سُبل السلام) للصنْعانيِّ، شرح (بلوغ المرام) لابن حَجَر، و(نيل الأوطار) للشوْكاني، وشرح (مُنْتَقى الأخيار من أحاديث سيد الأخيار) لابن تَيْميةَ الجدِّ، وغير ذلك من المصادر المختلِفة، مثل (المُغْني) لابن قُدامة، و(زاد المعاد) لابن القَيِّم، وغيرهما، قُدِّم للمحاكَمةِ في قضية مَقتَل النُّقْراشي باشا، حيث زَعَموا في ذلك الوقت أنَّه هو الذي أفتى الشابَّ القاتلَ عبد المجيد حسن بجواز قَتلِه، وكانت الصحُف تُلَقِّبُه في ذلك الوقت بـ (مفتي الدماء)، ولكنَّ المحكمةَ برَّأَتْه، وأخْلَت سبيلَه، ثم اعتُقِلَ في سنةِ 1949م واقْتيدَ إلى مُعتَقَل الطور.
عُيِّنَ بعد ذلك مديرًا لإدارة الثقافة في وزارة الأوقاف، في عهد وزير الأوقاف أحمد حسن الباقوري، ثم انتقل في السنين الأخيرة من عمره إلى (جامعة أم القرى) بمكَّة المكرَّمة، وتُوفيَ -رحمه الله- عن عُمرٍ يُناهز 85 سنةً، ودُفنَ بمدافن عائلته بقرية إسطنها، حيث مسقطُ رأسِه.
تُوفِّي الشَّيخُ عبدُ الرحمن البانِي رحمه الله عن عُمُر يناهِزُ المائةَ عامٍ. وهو من مواليد دمشق عامَ (1329هـ) الموافِقَ (1911م)، وهو من أسرةٍ دِمَشقية اشتُهِرت بالعلم، ومن عُلماءِ العربيَّة المعدودين، وصاحِبُ آراءٍ إصلاحيَّةٍ في قضايا التربيةِ الإسلاميَّة، قضى أكثرَ من سبعين سنةً في ميادين التَّربيَةِ طالبًا ومتعلِّمًا، ومدرِّسًا ومعلِّمًا، وموجِّهًا ومفتِّشًا، ومُشرِفًا ومُنظِّرًا، وخَبيرًا ومُستشارًا. تولَّى التدريسَ في دارِ المعلِّمين بدِمَشق، ودارِ المعلِّمات، وفي كُلِّيتَيِ الشريعةِ والتربيةِ بجامعة دمشق، عَمِل في وِزارة المعارِفِ السعودية، وفي إدارةِ معاهِدِ إعدادِ المعلِّمين، وشارَكَ في تأسيسِ المعهد العالي للقضاءِ، ووَضعِ مناهِجِه، وشارَك أيضًا في وَضعِ سياسَةِ التَّعليمِ بالمملكة، وكان عُضوًا خبيرًا في اللَّجنةِ الفرعِيَّة لسياسة التَّعليم. كمَا أسهَمَ في تأسيسِ مدارسِ تحفيظِ القرآن الكريم بالمملكة. وكُلِّف بالتَّدريسِ في كُلِّية الشريعةِ وكُلِّية اللُّغَة العربية بجامعة الإمامِ محمد بن سعود الإسلامية بالرياض، ولم يَعتنِ الشيخُ عبدُ الرحمن بتأليفِ الكتبِ؛ إذ كان جلُّ اهتمامِه متَّجِهًا إلى ما يراه أهمَّ وأجدَى وهو وَضعُ المناهِجِ والخُططِ التَّربويَّةِ، والعملُ في مَيادِين الإصلاحِ والتَّربيةِ.
وُلِدَ الدكتورُ عبد السَّتَّار أبو غُدَّة عام ١٣٥٩هـ الموافق 1940م بحَلَب. حصل على ليسانس في الشريعة عام ١٣٨٤هـ الموافق 1964م من جامعة دمشق، كما حصل على ليسانس في الحقوقِ عام ١٣٨٥هـ الموافق 1965م من نفس الجامعةِ، وحصل على ماجستير في الشريعةِ عام ١٣٨٦هـ الموافق 1966م، ثمَّ ماجستير في علومِ الحديثِ عام ١٣٨٧هـ الموافق 1967م، ثمَّ على الدكتوراه في الشَّريعةِ في مجالِ (الفقهِ المقارِن) عام ١٣٩٥هـ الموافق 1975م كلُّها من جامعةِ الأزهرِ.
كان رحمه الله متخصِّصًا في فقهِ المعامَلاتِ الماليَّةِ والدِّراساتِ المَصرِفيَّة الإسلاميَّة، إضافةً إلى فقهِ الزَّكاةِ والأوقافِ، وفِقهِ المحاسَبةِ والمراجَعةِ، والدِّراساتِ القانونيَّة.
عَمِلَ أستاذًا في العديد من الجامعات في المملكةِ العربيَّةِ السعوديَّةِ والكويت ومصر وغيرها. وكان باحثًا في الموسوعةِ الفِقهيَّةِ بوزارةِ الأوقافِ بالكويت، وعضوَ مجلِسِ المعايير والمجلِسِ الشَّرعيِّ لهيئة المحاسَبة والمراجَعة للمُؤَسَّساتِ الماليَّة الإسلاميَّة، وعضوَ المجلسِ الأوربيِّ للإفتاءِ والبُحوثِ.
له العديدُ من المؤلَّفاتِ؛ منها: الخيارُ وأثرُه في العقودِ، دورُ الفِقهِ الإسلاميِّ في العَصرِ الحاضِرِ، بحوثٌ في الفقهِ الطِّبي والصِّحَّة النَّفسيَّة من منظورٍ إسلاميٍّ، دليل الزكاة.
تُوفِّي في مونتريال بكندا يوم الجمعة عن عمرٍ ناهز 80 عامًا.
لَمَّا مَلَك الخطا بلادَ ما وراءَ النَّهرِ، خَرَجَ منها الغُزُّ الأتراكُ وهم طائفةٌ مِن مُسلِمي التُّركِ، كانوا بما وراء النَّهرِ، فقَصَدوا خراسان وكانوا خَلقًا كثيرًا، فأقاموا بنواحي بَلخٍ يَرْعَون في مراعيها، فأراد الأميرُ قماج وهو صاحِبُ بلخ، إبعادَهم، فصانعوه بشَيءٍ مِن المال بَذَلوه له، فعاد عنهم، فأقاموا على حالةٍ حَسَنةٍ لا يؤذونَ أحدًا، يُقيمونَ الصَّلاةَ, ويُؤتُونَ الزَّكاةَ, ثمَّ إنَّ قماج عاوَدَهم وأمَرَهم بالانتِقالِ عن بلَدِه، فامتَنَعوا، وانضَمَّ بَعضُهم إلى بعضٍ، واجتَمَعَ معهم غَيرُهم من طوائِفِ التُّركِ، فسار قماج إليهم في عَشرةِ آلافِ فارِسٍ، فجاء إليه أمراؤُهم وسألوه أن يَكُفَّ عنهم، ويَترُكَهم في مَراعيهم، ويُعطونَه مِن كلِّ بَيتٍ مِئَتي دِرهمٍ فِضَّة، فلم يُجِبْهم إلى ذلك، وشَدَّدَ عليهم في الانتزاحِ عن بَلَدِه، فعادوا عنه، واجتَمَعوا وقاتلوه، فانضَمَّ إليه العسكَرُ الخُراساني, فلمَّا سَمِعوا بقُربِ الغز الأتراك منهم أجفَلوا مِن بينِ يَدَيه هاربين؛ لِما دخَلَ قُلوبَهم مِن خَوفِهم والرُّعبِ منهم؛ فلَمَّا فارقها السُّلطانُ سنجر والعَسكَر، دخَلَها الغز ونَهَبوها أفحَشَ نَهبٍ وأقبَحَه، وذلك في جمادى الأولى من هذه السَّنةِ، وقُتِلَ بها كثيرٌ مِن أهلِها وأعيانِها، ولَمَّا خرج سنجر مِن مَروٍ قَصَدَ إندرابة وأخَذَه الغزُّ أسيرًا، ثم عاودوا الغارةَ على مَروٍ في رَجَب مِن هذه السَّنةِ، فمَنَعَهم أهلُها، وقاتلوهم قِتالًا بَذَلوا فيه جُهدَهم وطاقَتَهم، ثمَّ إنَّهم عَجَزوا، فاستَسلَموا إليهم، فنَهَبوها أقبَحَ مِن النَّهبِ الأوَّلِ ولم يتركوا بها شَيئًا، وكان قد فارق سنجر جميعُ أمراءِ خُراسان ووزيرُه طاهر بن فخر الملك بن نظام الملك، ولم يَبْقَ عِندَه غيرُ نَفَرٍ يَسيرٍ مِن خواصِّه وخدَمِه، فلمَّا وصلوا إلى نيسابور أحضروا المَلِكَ سُليمان شاه بن السُّلطان محمد، فوصَلَ إلى نيسابور تاسِعَ عَشَرَ مِن جمادى الآخرة مِن هذه السَّنةِ، فاجتمعوا عليه، وخَطَبوا له بالسَّلطنةِ، وسار في هذا الشَّهرِ جَماعةٌ مِن العَسكَرِ السُّلطاني إلى طائفةٍ كَثيرةٍ مِن الغز، فأوقعوا بهم، وقَتَلوا منهم كثيرًا، وانهزم الباقونَ إلى أمرائِهم الغزيَّةِ فاجتَمَعوا معهم، ولَمَّا اجتَمَعَت العساكِرُ على المَلِك سُليمان شاه ساروا إلى مَرْوٍ يَطلُبونَ الغز، فبَرَز الغز إليهم، فساعةَ رآهم العَسكَرُ الخراساني انهزموا وولَّوا على أدبارِهم، وقَصَدوا نيسابور، وتَبِعَهم الغز، فمَرُّوا بطوس، فنَهَبوها، وسَبَوا نِساءَها، وقَتَلوا رجالَها، وخَرَّبوا مساجِدَها ومساكِنَ أهلِها، ولم يَسلَمْ مِن جَميعِ ولاية طوس إلَّا البلد الذي فيه مَشهَدُ عليِّ بنِ موسى الرضي، ومواضِعُ أُخَرُ لها أسوار، وساروا منها إلى نيسابور، فوَصَلوا إليها في شَوَّال سنة 549، ولم يَجِدوا دونها مانِعًا ولا مُدافعًا، فنهبوها نهبًا ذريعًا، وقَتَلوا أهلَها، فأكثَروا حتى ظنُّوا أنَّهم لم يُبقوا بها أحدًا، حتى إنَّه أُحصِيَ في مَحلَّتَينِ خَمسةَ عشَرَ ألفَ قَتيلٍ مِن الرجال دونَ النِّساءِ والصِّبيانِ، وسَبَوا نساءَها وأطفالها، وأخَذوا أموالهم، وبَقِيَ القتلى في الدُّروبِ كالتِّلالِ بَعضُهم فوقَ بَعضٍ، واجتَمَع أكثَرُ أهلِها بالجامِعِ المنيعي وتحصَّنوا به، فحصَرَهم الغز فعَجَزَ أهلُ نيسابور عن مَنْعِهم، فدخل الغزُّ إليهم فقَتَلوهم عن آخِرِهم، وكانوا يَطلُبونَ مِن الرَّجُلِ المال، فإذا أعطاهم الرجُلَ مالَه قَتَلوه، وقتلوا كثيرًا مِن أئمَّةِ العُلَماءِ والصَّالحينَ، وأحرقوا ما بها من خزائِنِ الكُتُبِ، ولم يَسلَمْ إلَّا بَعضُها. وحَصَروا شارستان، وهي منيعةٌ، فأحاطوا بها، وقاتَلَهم أهلُها مِن فوقِ سُورِها، وقصدوا جوين فنَهَبوها، وقاتَلَهم أهل بحراباذ من أعمالِ جوين، وبَذَلوا نفوسَهم لله تعالى، وحَمَوا بَيضَتَهم, والباقي أتى النَّهبُ والقتلُ عليه، ثمَّ قصدوا أسفرايين فنَهَبوها وخَرَّبوها، وقتلوا في أهلِها فأكثَروا، ولَمَّا فَرَغَ الغزُّ مِن جوين وأسفرايين عاودوا نيسابور، فنَهَبوا ما بَقِيَ فيها بعد النَّهبِ الأول، وكان قد لحِقَ بشَهرستان كثيرٌ مِن أهلها، فحَصَرَهم الغزُّ واستولوا عليها، ونَهَبوا ما كان فيها لأهلِها ولأهلِ نيسابور، ونهبوا الحرمَ والأطفال، وفَعَلوا ما لم يفعَلْه الكُفَّارُ مع المُسلِمينَ، وكان العَيَّارون أيضًا ينهَبونَ نيسابورَ أشَدَّ مِن نهبِ الغُز ويفعلونَ أقبَحَ مِن فِعْلِهم، ثمَّ إنَّ أمرَ الملكِ سُليمانَ شاه ضَعُفَ، وكان قبيحَ السِّيرةِ سَيِّئ التدبيرِ، وإنَّ وَزيرَه طاهِرَ بنَ فخر الملك بن نظام الملك توفِّيَ في شوال سنة 548 فضَعُفَ أمرُه، واستوزر سُلَيمان شاه بعده ابنَه نظم الملك أبا علي الحَسَن بن طاهر وانحَلَّ أمرُ دَولَتِه بالكليَّة، ففارق خراسان في صفر سنة 549 وعاد إلى جرجان، فاجتمَعَ الأُمَراءُ وراسلوا الخان محمود بن محمد بن بغراخان، وهو ابنُ أخت السُّلطان سنجر، وخَطَبوا له على منابِرِ خُراسان، واستدعَوه إليهم، فمَلَّكوه أمورهم، وانقادوا له في شوال سنة 549، وسارُوا معه إلى الغزِّ وهم يحاصِرونَ هراة، وجرت بينهم حروبٌ، كان الظَّفَرُ في أكثَرِها للغز، ورَحَلوا في جُمادى الأولى من سنة 550 مِن على هراة إلى مَرْوٍ، وعاودوا المُصادرةَ لأهلِها.
وقَّعَت أعضاءُ دُول الجامعة العربية معاهدةَ دفاع وتعاون مشترك بينها، نصَّت على الآتي: إنَّ حكومات حضرة صاحب الجلالة مَلِك المملكة الأردنية الهاشمية، وحضرة صاحب الفخامة رئيس الجمهورية السورية، وحضرة صاحب الجلالة ملك المملكة العراقية، وحضرة صاحب الجلالة ملك المملكة العربية السعودية، وحضرة صاحب الفخامة رئيس الجمهورية اللبنانية، وحضرة صاحب الجلالة ملك المملكة المصرية، وحضرة صاحب الجلالة ملك المملكة المتوكلية اليمنية رغبةً منها في تقوية وتوثيق التعاون بين دُول الجامعة العربية حِرصًا على استقلالِها والمحافظة على تراثها المشتركِ، واستجابةً لرغبة شعوبها في ضَمِّ الصفوف لتحقيق الدفاعِ المشتَرَك عن كيانها وصيانة الأمن والسلام وفقًا لمبادئ ميثاق جامعة الدول العربية وميثاق الأمم المتحدة ولأهدافِها، وتعزيزًا للاستقرار والطمأنينة وتوفير أسباب الرفاهية والعمران في بلادها: قد اتَّفَقَت على عقد معاهدة لهذه الغاية، وأنابت عنها مفوضين، وقد اتَّفَقوا على ما يأتي: المادة 1: تؤكِّدُ الدول المتعاقدة حرصًا على دوام الأمن والسلام واستقرارهما وعَزمِها على فَضِّ جميع منازعاتها الدولية بالطُّرُق السلمية سواءٌ في علاقاتها المتبادلة فيما بينهما أو في علاقاتها مع الدول الأخرى. المادة 2: وتطبيقًا لأحكام المادة السادسة من ميثاق جامعة الدول العربية والمادة الحادية والخمسين من ميثاقِ الأمم المتحدة يخطر على الفور مجلس الجامعة ومجلس الأمن بوقوعِ الاعتداء وما اتُّخِذ في صدده من تدابيرَ وإجراءات. المادة 3: تتشاور الدولُ المتعاقدة فيما بينها بناءً على طلب إحداها كلمَّا هددت سلامةَ أراضي أية واحدة منها أو استقلالها أو أمنها, وفي حالة خطر حرب داهم أو قيام حالة دولية مفاجئة يخشى خطرها تبادر الدولُ المتعاقِدةُ على الفور إلى توحيدِ خطَطِها ومساعيها في اتخاذ التدابير الوقائية والدفاعية التي يقتضيها الموقف. المادة 4: رغبةً في تنفيذ الالتزامات السالفة الذكر على أكمل وجهٍ تتعاون الدول المتعاقدة فيما بينها لدعمِ مقوِّماتها العسكرية وتعزيزها وتشترك بحسَبِ مواردها وحاجاتها في تهيئة وسائلها الدفاعية الخاصة والجماعية؛ لمقاومة أي اعتداء مسلح. المادة 5: تُؤلَّف لجنة عسكرية دائمة من ممثِّلي هيئة أركان حرب جيوش الدول المتعاقدة لتنظيم خطط الدفاع المشترك، وتهيئة وسائله وأساليبه. وتحَدَّد في ملحق هذه المعاهدة اختصاصات هذه اللجنة الدائمة، بما في ذلك وضع التقارير اللازمة المتضَمِّنة عناصر التعاون والاشتراك المشار إليهما في المادة الرابعة، وتَرفَعُ هذه اللجنة الدائمة تقاريرَها عمَّا يدخل في دائرة أعمالها إلى مجلس الدفاع المشترك المنصوص عنه في المادة التالية. المادة 6: يُؤلَّفُ تحت إشراف مجلس الجامعة مجلِسٌ للدفاع المشترك يختَصُّ بجميع الشؤون المتعلِّقة بتنفيذ أحكام المواد 2،3،4،5 من المعاهدة، ويُستعان على ذلك باللجنة العسكرية الدائمة المشار إليها في المادة السابقة. ويتكَوَّن مجلس الدفاع المشترك المشار إليه من وزراء الخارجية والدفاع الوطني للدول المتعاقدة أو من ينوبون عنهم. وما يقرِّرُه المجلس بأكثرية ثلثي الدول يكون ملزِمًا لجميع الدول المتعاقدة. المادة 7: استكمالًا لأغراض هذه المعاهدة وما ترمى إليه من إشاعة الطمأنينة وتوفير الرفاهية في البلاد العربية ورفع مستوى المعيشة فيها تتعاون الدول المتعاقدة على النهوض باقتصاديات بلادِها، واستثمار مرافِقِها الطبيعية، وتسهيل تبادل منتجاتها الوطنية الزراعية والصناعية، وبوجهٍ عام على تنظيم نشاطها الاقتصادي وتنسيقِه، وإبرام ما تقتضيه الحال من اتفاقات خاصة لتحقيق هذه الأهداف. المادة 8: ينشأ مجلس اقتصادي من وزراء الدول المتعاقدة المختصِّين بالشؤون الاقتصادية، أو من يمثِّلونهم عند الضرورة؛ لكي يقترح على حكومات تلك الدول ما يراه كفيلًا بتحقيق الأغراض المبيَّنة في المادة السابقة. وللمجلس المذكور أن يستعينَ في أعماله بلجنة الشؤون الاقتصادية والمالية المشار إليها في المادة الرابعة من ميثاق جامعة الدول العربية. المادة 9: يعتبر الملحَقُ المرفق بهذه المعاهدة جزءًا لا يتجزَّأُ منها. المادة 10: تتعهد كل من الدول المتعاقدة بألَّا تعقد أي اتفاق دولي يناقضُ هذه المعاهدة. وبألَّا تسلك في علاقاتها الدولية مع الدول الأخرى مسلكًا يتنافى مع أغراض هذه المعاهدة. المادة 11: ليس في أحكامِ هذه المعاهدة ما يمَسُّ أو يقصد به أن يمس بأية حال من الأحوال الحقوق والالتزامات المترتبة، أو التي قد تترتب للدول الأطراف فيها بمقتضى ميثاق الأمم المتحدة أو المسؤوليات التي يضطلع بها مجلس الأمن في المحافظة على السلام والأمن الدولي. المادة 12: يجوز لأية دولة من الدول المتعاقدة بعد مرور عشر سنوات من نفاذ هذه المعاهدة أن تنسحب منها في نهاية سنة من تاريخ إعلان انسحابها إلى الأمانة العامة لجامعة الدول العربية. وتتولى الأمانةُ العامة إبلاغَ هذا الإعلان إلى الدول المتعاقدة الأخرى. المادة 13: يُصَدَّق على هذه المعاهدة وفقًا للأوضاع الدستورية المرعيَّة في كل من الدول المتعاقدة. وتُودَع وثائق التصديق لدى الأمانة العامة لجامعة الدول العربية، وتصبح المعاهدة نافذةً من قِبَلِ من صدَّق عليها بعد انقضاء خمسة عشر يومًا من تاريخ استلام الأمانة العامة وثائق تصديق أربع دول على الأقل. وحُرِّرت هذا المعاهدة باللغة العربية في الإسكندرية بتاريخ 2 رمضان سنة 1369هـ الموافق 17 يونيو سنة 1950م من نسخة واحدة تُحفَظُ في الأمانة العامة لجامعة الدول العربية، وتُسَلَّم صورة منها مطابِقة للأصل لكل دولة من الدول المتعاقدة.
بعدَ انْتِصار المسلمين في مَوقعةِ عَيْنِ شَمْسٍ مَكَّنَ هذا النَّصرُ مُعسكراتِ المسلمين مِن أن تَشْرُفَ على حِصْن بابِ لِيُون مُباشرةً مِن جِهَتِه الشَّماليَّة والشَّرقيَّة، وكانت أَسوارُ هذا الحِصْن تَضُمُّ مِساحةً تَزيدُ عن السِّتِّين فَدَّانًا, ضرَب المسلمون حِصارًا قَوِيًّا على الحِصْن المَنيعِ، غيرَ عابِئِينَ بِمَجانيق الرُّومِ، تَدفَعُهم حَماسَتُهُم، وحُبُّ الجِهادِ ونَيْلُ الشَّهادةِ في مُهاجَمةِ الحِصْن، والقِيامِ بِسِلسلةٍ مِن المُناوَشات التي كانت نَتائِجُها تُضْعِفُ مَعنوِيَّات المُحاصَرين، ولم يَكَدْ يَمْضي على الحِصار شهرٌ حتَّى دَبَّ اليأسُ في نَفْسِ "المُقَوْقِس" حاكمِ مِصْرَ، فأرسَل في طَلَبِ المُفاوَضَةِ والصُّلْحِ، فبعَث عَمرُو بن العاصِ وَفْدًا مِن المُفاوِضين على رَأْسِه عُبادةُ بن الصَّامتِ الذي كُلِّفَ بألَّا يَتَجاوَزَ في مُفاوَضَتِه أُمورًا ثلاثة يَختارُ الرُّومُ واحدةً منها، وهي: الدُّخولُ في الإسلامِ، أو قُبولُ دَفْعِ الجِزيَةِ للمسلمين، أو الاحْتِكامُ إلى القِتالِ، فلم يَقْبَلْ الرُّومُ العَرْضَيْن الأوَّلَيْن، وأَصَرُّوا على مُواصَلَةِ القِتالِ، وحاوَلَ المُقَوْقِسُ أن يَعْقِدَ صُلْحًا مع عَمرٍو بعدَ أن تَيَقَّنَ أنَّه لا قِبَلَ له بِمُواجَهَةِ المسلمين، وآثَرَ الصُّلْحَ وحَقْنَ الدِّماءِ، واخْتار أن يَدْفَعَ الجِزيَةَ للمسلمين، وكتَب شُروطَ الصُّلْحِ، وأَرْسلها إلى هِرقلَ إمبراطور الرُّومِ للمُوافقَةِ عليها، وأَسْرعَ إلى الإسكندريَّة مُغادِرًا الحِصْنَ، وأَردَفَ شُروطَ الصُّلْحِ بِرِسالةٍ إلى هِرقلَ يَعْتَذِرُ فيها لِهِرقلَ عمَّا أَقْدَمَ عليه مِن الصُّلْحِ مع المسلمين، فما كان مِن هِرقلَ إلَّا أن أَرسَل إليه وإلى قادةِ الرُّومِ يُعَنِّفُهُم على تَخاذُلِهِم وتَهاوُنِهِم إزاءَ المسلمين، ولم يكُن لهذا مَعْنًى سِوى رفضِ شُروطِ الصُّلْحِ، اسْتأنفَ المسلمون القِتالَ وشَدَّدوا الحِصارَ بعدَ فشلِ الصُّلْحِ، وفي أثناءِ ذلك جاءت الأنباءُ بوَفاةِ هِرقل ففَتَّ ذلك في عَضُدِ الجُنودِ داخِلَ الحِصْنِ، وزادَهُم يأسًا على يأسٍ، في الوقت الذي صَحَّتْ فيه عَزائمُ المسلمين، وقَوِيَتْ مَعنوِيَّاتُهم، وفي غَمْرَةِ الحِصارِ تَطوَّع الزُّبيرُ بن العوَّام بِتَسَلُّقِ سُورِ الحِصْنِ في ظَلامِ اللَّيلِ، وتَمَكَّنَ بِواسطَةِ سُلَّمٍ وُضِعَ له أن يَصعَدَ إلى أعلى السُّورِ، ولم يَشعُرْ الرُّومُ إلَّا بِتَكبيرةِ الزُّبيرِ تَهُزُّ سُكونَ اللَّيلِ، ولم يَلْبَثْ أن تَبِعَهُ المسلمون يتسابقون على الصُّعودِ، تَسبِقُهُم تَكبيراتُهم المُدَوِّيَةُ فتَنخَلِع لها أفئدةُ الرُّوم التي ملأها اليأسُ، فكانت تلك التَّكبيرات أمضى مِن كلِّ سِلاحٍ قابلهم، حتَّى كان قائد الحِصْن يَعرِض الصُّلْحَ على عَمرٍو ومُغادرةَ الحِصْنِ.
سار الأميرُ أبو القاسم، أميرُ صقليَّة، من المدينةِ يريدُ الجِهادَ، وسببُ ذلك أنَّ مَلِكًا مِن مُلوكِ الفِرنجِ، يقال له بردويل، خرجَ في جموعٍ كثيرةٍ مِن الفرنجِ إلى صقليَّةَ، فحصَرَ قَلعةَ مَلطةَ ومَلَكَها، وأصاب سريتَينِ للمُسلمينِ، فسار الأميرُ أبو القاسم بعساكِرِه ليُرحِّلَه عن القلعة، فلمَّا قاربَها خاف وجَبُن، فجمع وجوهَ أصحابِه، وقال لهم: إنِّي راجِعٌ مِن مكاني هذا، فلا تكسروا عليَّ رأيي. فرجع هو وعساكِرُه، وكان أسطولُ الكُفَّارِ يُسايرُ المُسلِمينَ في البَحرِ، فلمَّا رأَوا المُسلِمينَ راجِعينَ أرسَلوا إلى بردويل، ملِكِ الرُّومِ، يُعلِمونَه ويقولونَ له: إنَّ المُسلِمينَ خائِفونَ منك، فالحَقْ بهم فإنَّك تظفَرُ. فجَرَّد الفرنجيُّ عَسكَرَه من أثقالِهم، وجَدَّ في السير، فأدركهم في العشرينَ مِن المحرم، فتعبَّأ المسلمون للقتال، واقتتلوا، واشتَدَّت الحرب بينهم، فحَمَلَت طائفةٌ مِن الفرنج على القلبِ والأعلام، فشَقُّوا العسكر ووصلوا إليها، وقد تفَرَّق كثيرٌ مِن المسلمين عن أميرِهم أبي القاسم، واختَلَّ نِظامُهم، فوصل الفرنجُ إليه، فأصابته ضربةٌ على أمِّ رأسِه فقُتِل، وقُتِلَ معه جماعةٌ مِن أعيانِ النَّاسِ وشُجعانِهم، ثم إنَّ المنهزمين من المسلمين رجعوا مُصَمِّمينَ على القتال ليظفَروا أو يموتوا، واشتَدَّ حينئذ الأمرُ، وعَظُمَ الخَطبُ على الطائفتين، فانهزم الفرنجُ أقبَحَ هَزيمةٍ، وقُتِلَ منهم نحوُ أربعة آلافِ قَتيلٍ، وأُسِرَ مِن بطارقتهم كثيرٌ، وتبعوهم إلى أن أدركَهم الليل، وغَنِموا من أموالِهم كثيرًا. وأفلَتَ مَلِكُ الفِرنجِ هاربًا ومعه رجلٌ يهوديٌّ كان خصيصًا به، فوقف فرَسُ الملك، فقال له اليهودي: اركَبْ فَرَسي، فإن قُتِلْتُ فأنت لوَلَدي. فرَكِبَه المَلِكُ وقُتِلَ اليهودي، فنجا المَلِكُ إلى خيامِه وبها زوجتُه وأصحابه فأخذهم وعاد إلى روميَّة، ولَمَّا قُتِلَ الأميرُ أبو القاسم كان معه ابنُه جابر، فقام مقامَ أبيه، ورحل بالمسلمينَ لِوَقتِهم، ولم يمكِّنْهم من إتمام الغنيمةِ، فتركوا كثيرًا منها، وسأله أصحابُه ليُقيمَ إلى أن يجمَعَ السِّلاحَ وغَيرَه ويَعمُرَ به الخزائِنَ، فلم يفعل، وكانت ولايةُ أبي القاسم على صقلية اثنتي عشرة سنة وخمسة أشهر وخمسة أيام. وكان عادلًا، حسنَ السيرة، كثيرَ الشَّفَقة على رعيَّتِه والإحسانِ إليهم، عظيمَ الصدقةِ، لم يُخَلِّفْ دينارًا ولا درهمًا ولا عقارًا؛ فإنه كان قد وقف جميعَ أملاكِه على الفُقَراء وأبوابِ البِرِّ.
وقعَ غَلاءٌ وفَناءٌ عَظيمان ببغداد وغَيرِها مِن البلادِ، بحيث خَلَتْ أَكثرُ الدُّورِ وَسُدَّتْ على أَهلِها أَبوابُها بما فيها، وأَهلُها مَوتى فيها، ثم صار المارُ في الطَّريقِ لا يَلقى الواحدَ بعدَ الواحدِ، وأكلَ النَّاسُ الجِيَفَ والنَّتَنَ مِن قِلَّةِ الطَّعامِ، ووُجِدَ مع امرأةٍ فَخِذُ كَلْبٍ قد اخْضَرَّ, وشَوَى رَجلٌ صَبِيَّةً في الأَتُونِ وأَكَلَها، وسَقطَ طائرٌ مَيِّتٌ مِن حائطٍ فاحْتَوَشَتْهُ خمسُ أَنفُسٍ فاقتَسموهُ وأَكلوهُ. قال ابنُ الجوزي يَصِفُ خبرَ هذا الوباءِ: " في جُمادى الآخِرة: وَردَ كِتابٌ مِن تُجَّارِ ما وَراءَ النَّهرِ قد وقع في هذه الدِّيارِ وَباءٌ عَظيمٌ مُسرِفٌ زَائِدٌ عن الحَدِّ، حتى أنَّه خَرجَ من هذا الإقليمِ في يَومٍ واحدٍ ثمانية عشر ألف جِنازةٍ، وأحصى مَن مات إلى أن كُتِبَ هذا الكِتاب فكانوا ألف ألف وستمائة ألف وخمسين ألفًا، والنَّاسُ يَمُرُّون في هذه البلادِ فلا يَرونَ إلَّا أسواقًا فارغةً، وطُرقاتٍ خاليةً، وأبوابًا مُغلقةً، حتى إنَّ البَقرَ نَفَقَت. وجاء الخَبرُ من أذربيجان وتلك البلادِ بالوباءِ العظيمِ، وأنَّه لم يَسْلَم من تلك البلادِ إلا العَددُ اليَسيرُ جدًّا. وَقعَ وباءٌ بالأهواز وبواط وأَعمالِها وغَيرِها، حتى طَبَقَ البلادَ، وكان أكثرَ سَببِ ذلك الجوعُ، كان الفقراءُ يَشوون الكِلابَ، ويَنبُشون القُبورَ، ويَشوون المَوتى ويَأكلُونهم، وليس للناسِ شُغلٌ في اللَّيلِ والنَّهارِ إلا غَسلُ الأمواتِ وتَجهيزُهُم ودَفنُهُم، فكان يُحفَر الحُفَير فيُدفَن فيه العشرون والثلاثون، وكان الإنسانُ بينما هو جالس إذ انشَقَّ قَلبُه عن دَمِ المُهْجَةِ، فيَخرُج منه إلى الفَمِ قَطرةٌ فيموتُ الإنسانُ مِن وَقتِه، وتاب النَّاسُ، وتَصدَّقوا بأَكثرِ أَموالِهم فلم يَجِدوا أحدًا يَقبَل منهم، وكان الفَقيرُ تُعرَض عليه الدَّنانيرُ الكَثيرة والدَّراهِم والثِّياب فيقول: أنا أُريدُ كَسرةً، أُريدُ ما يَسُدُّ جُوعي. فلا يجد ذلك، وأَراقَ النَّاسُ الخُمورَ وكَسَروا آلات اللَّهوِ، ولَزِموا المساجِدَ للعِبادةِ وقِراءةِ القُرآن, وفي يومِ الأربعاءِ لِسَبعٍ بَقِينَ مِن جُمادى الآخرة احتَرقَت قَطِيعةُ عيسى، وسُوقُ الطَّعامِ، والكَنِيسُ، وأَصحابُ السَّقْطِ، وبابُ الشَّعيرِ، وسُوقُ العَطَّارين، وسُوقُ العَروسِ، والأَنماطِيِّين، والخَشَّابين، والجَزَّارين، والتَّمَّارين، والقَطيعَةُ، وسُوقُ مُخَوَّل، ونَهرُ الزُّجاجِ، وسُوَيْقَةُ غالبٍ، والصَّفَّارين، والصَّبَّاغين، وغَيرُ ذلك مِن المواضع، وهذه مُصيبةٌ أُخرى إلى ما بالنَّاسِ مِن الجُوعِ والغَلاءِ والفَناءِ، فضَعُفَ النَّاسُ حتى طَغَت النَّارُ فعَمِلَت أَعمَالَها، فإنَّا لله وإنَّا إليه راجعون".
مَلَكَ قِوامُ الدَّولةِ أبو سَعيدٍ كربوقا التُّركيُّ مَدينةَ المَوصِل، فأَسَرَهُ تاجُ الدولةِ تتش لمَّا قَتَلَ أتسز وبوزان، فلمَّا أَسَرَهُ أَبقَى عليه، ولم يكُن له بلدٌ يَملِكُه إذا قَتلَه، كما فَعلَ الأُميرُ بوزان، فإنه قَتَلَهُ واستَولَى على بِلادِه الرها وحران. ولم يَزَل قِوامُ الدولةِ مَحبوسًا بحَلَب إلى أن قُتِلَ تتش، ومَلَكَ ابنُه المَلِكُ رضوان حَلَب فأَرسلَ السُّلطانُ بركيارق رَسولًا يَأمُرهُ بإطلاقِه وإطلاقِ أَخيهِ التونتاش، فلمَّا أُطلِقَا سارا واجتَمَع عليهما كَثيرٌ من العَساكِر البَطَّالين، فأَتَيَا حران فتَسَلَّماها، وكاتَبَهُما محمدُ بنُ شَرفِ الدولةِ مُسلمِ بنِ قُريشٍ العُقيليُّ، وهو بنصيبين، ومعه ثروانُ بنُ وهيب، وأبو الهَيْجاءِ الكُرديُّ، يَستَنصِرونَ بهما على الأَميرِ عليِّ بنِ شَرفِ الدولةِ العُقيليِّ، وكان بالمَوصِل قد جَعلَهُ بها تاجُ الدولةِ تتش بعدَ وَقعَةِ المُضَيَّع, فسار قِوامُ الدولةِ إليهم، فلَقِيَهُ محمدُ بنُ شَرفِ الدولةِ على مَرحَلتَينِ من نصيبين، واستَحلَفَهُما لِنَفسِه، فقَبَضَ عليه قِوامُ الدولةِ بعدَ اليَمينِ، وحَمَلَهُ معه، وأَتَى نصيبين، فامتَنَعت عليه، فحَصَرَها أربعين يومًا، وتَسَلَّمها، وسار إلى المَوصِل فحَصَرَها، فلم يَظفَر منها بشيءٍ، فسار عنها إلى بلدٍ، وقَتَلَ بها محمدَ بنَ شَرفِ الدولةِ، وغَرَّقَهُ، وعاد إلى حِصارِ المَوصِل، ونَزلَ على فَرسَخٍ منها بقَريَةِ باحلافا، وتَركَ التونتاش شَرقيَّ المَوصِل، فاستَنجَد عليُّ بنُ مُسلمِ بن قُريشٍ العُقيليُّ صاحِبُها بالأَميرِ جكرمش، صاحِبِ جَزيرَةِ ابنِ عُمَرَ، فسار إليه نَجدَةً له، فلمَّا عَلِمَ التونتاش بذلك سار إلى طَريقِه، فقاتَلَهُ، فانهَزَم جكرمش، وعاد إلى الجَزيرَةِ مُنهَزِمًا، وصار في طاعَةِ قِوامِ الدولةِ، وأَعانَهُ على حَصْرِ المَوصِل، وعُدِمَت الأَقواتُ بها وكلُّ شيءٍ، حتى ما يُوقِدونَه، فأَوقَدوا القِيرَ، وحَبَّ القُطنِ. فلمَّا ضاقَ بصاحِبِها عليٍّ الأَمرُ وفارَقَها وسار إلى الأَميرِ صَدقَةَ بن مزيد الأَسَديِّ، أَميرِ العَربِ بالحِلَّةِ، وتَسَلَّم قِوامُ الدولةِ البلدَ بعدَ أن حَصَرَهُ تِسعةَ أَشهُر، وخافَهُ أَهلُه لأنه بَلَغَهم أن التونتاش يُريدُ نَهبَهم، وأن قِوامَ الدولةِ يَمنَعهُ من ذلك، فاشتَغَل التونتاش بالقَبضِ على أَعيانِ البَلدِ، ومُطالَبَتِهم بوَدائِع البلدِ، واستَطالَ على قِوامِ الدولةِ، فأَمَرَ بقَتْلِ التونتاش، فقُتِلَ في اليومِ الثالثِ، وأَمِنَ الناسُ شَرَّهُ، وأَحسَنَ قِوامُ الدولةِ السِّيرَةَ فيهم، وسارَ نحوَ الرَّحبَة، فمُنِعَ عنها، فمَلَكَها ونَهَبَها واستَنابَ بها وعاد.
في سَنةِ خَمسٍ وتسعين حَصَر الأفضَلُ والظاهِرُ وَلَدا صلاح الدين دمشقَ؛ لأخذها مِن عَمِّهما الملك العادل ورحلا عنها، على عَزمِ المقام بحوران إلى أن يخرُجَ الشتاء، فلمَّا أقاموا برأس الماء وجد العسكَرُ بردًا شديدًا، لأنَّ البَردَ في ذلك المكان في الصَّيفِ موجود، فكيف في الشِّتاءِ، فتغَيَّرَ العزم عن المقام، واتَّفَقوا على أن يعود كلُّ إنسانٍ منهم إلى بلده، ويعودوا إلى الاجتماعِ، فتفَرَّقوا تاسع ربيع الأول، فعاد الظاهِرُ وصاحب حمص إلى بلادِهما، وسار الأفضَلُ إلى مصر، فوصل بلبيس، فأقام بها، ووصَلَتْه الأخبارُ بأنَّ عَمَّه الملك العادل قد سار من دمشقَ قاصِدًا مصر ومعه المماليكُ الناصريَّة، وكان عسكَرُه بمصر قد تفَرَّقَ عن الأفضل، فسار كلٌّ منهم إلى إقطاعِه ليربعوا دوابهم، فرام الأفضَلُ جَمْعَهم من أطراف البلاد، فأعجَلَه الأمر عن ذلك، ولم يجتَمِعْ منهم إلا طائفة يسيرة ممَّن قَرُب إقطاعه، ووصل العادل، فسار عن بلبيس، ونزل موضعًا يقال له السائحُ إلى طرف البلاد، ولقاء العادل قبل دخول البلادِ سابع ربيع الآخر، فانهزم الأفضَلُ، ودخل القاهرةَ ليلًا، وسار العادِلُ فنزل على القاهرة وحَصَرَها، فجمع الأفضَلُ مَن عنده من الأمراء واستشارهم، فرأى منهم تخاذلًا، فأرسل رسولًا إلى عَمِّه في الصلحِ وتسليم البلاد إليه، وأخْذِ العوض عنها، وطَلَب دمشق، فلم يجِبْه العادل، فنزل عنها إلى حرَّان والرَّها فلم يُجِبْه، فنزل إلى ميافارقين وحاني وجبل جور، فأجابه إلى ذلك، وتحالَفوا عليه، وخرج الأفضَلُ مِن مصر ليلة السبت ثامن عشر ربيع الآخر، واجتمع بالعادِل، وسار إلى صرخد، ودخل العادِلُ إلى القاهرة يوم السبت ثامن عشر ربيع الآخر، ولَمَّا وصل الأفضل إلى صرخد أرسل مَن تسَلَّمَ ميافارقين وحاني وجبل جور، فامتنع نجمُ الدين أيوب بن الملك العادل من تسليم ميافارقين، وسَلَّمَ ما عداها، فتردَّدَت الرسل بين الأفضل والعادل في ذلك، والعادِلُ يزعم أنَّ ابنَه عصاه، فأمسك عن المُراسلة في ذلك؛ لعِلمِه أن هذا فِعلٌ بأمر العادل، ولَمَّا ثبتت قدم العادل بمصرَ قَطَعَ خطبة الملك المنصور بن الملك العزيز في شوال وخَطَب لنفسه، وحاقَقَ الجندَ في إقطاعاتهم، واعتراضهم في أصحابِهم ومن عليهم من العسكر المقَرَّر، فتغَيَّرَت لذلك نياتُهم.
استولى الصالح نجم الدين أيوب على مصر، ثم استولى عمه الصالح إسماعيل على دمشق، ثم إن الناصر داود بن الملك المعظَّم الذي كان أطلق الصالح نجم الدين أيوب مِن أسرِه إلى مصر فمَلَكها على أن يعطيه بعضَ البلاد فخلفه، فانحاز إلى الصالح إسماعيل ومعهم كذلك صاحب حمص، كل هذه الأمور من النزاعات بين أمراء البيت الأيوبي أدت إلى تولد شرارة الحرب بينهم، فخاف الصالح عماد الدين صاحب دمشق من الملك الصالح نجم الدين صاحب مصر، فكاتب الفرنج، واتفق معهم على معاضدته ومساعدتِه، ومحاربة صاحب مصر، وأعطاهم قلعةَ صفد وبلادها، وقلعة الشقيف وبلادها، ومناصفة صيدا وطبرية وأعمالها، وجبلَ عاملة وسائر بلاد الساحل، وعزم الصالح عماد الدين على قصد مصر لِمَا بلغه من القبض على المماليك الأشرفية والخُدَّام ومُقَدَّمي الحلقة وبعض الأمراء، وأن من بقي من أمراء مصر خائف على نفسه من السلطان، فتجهَّز وبعث إلى المنصور صاحب حمص، وإلى الحلبيين وإلى الفرنج يطلب منهم النجدات، وأذن الصالح إسماعيل للفرنج في دخول دمشق وشراء السلاحِ، فأكثروا من ابتياع الأسلحة وآلات الحرب من أهل دمشق، فأنكر المسلمون ذلك، ثمَّ برز الصالح إسماعيل من دمشق، ومعه عساكِرُ حمص وحلب وغيرها، وسار حتى نزل بنهر العوجاء، فبلغه أن الناصر داود قد خيم على البلقاء، فسار إليه، وأوقع به، فانكسر الناصرُ داود، وانهزم إلى الكرك وأخذ الصالحُ أثقاله، وأسَرَ جماعة من أصحابه، وعاد إلى العوجاء وقد قَوِيَ ساعده واشتدت شوكتُه، فبعث يطلب نجدات الفرنج، على أنَّه يعطيهم جميع ما فتحه السلطان صلاح الدين يوسفُ، ورحل ونزل تل العجول فأقام أيامًا، ولم يستطع عبور مصر، فعاد إلى دمشق؛ وذلك أن الملك الصالح نجم الدين لما بلغه حركة الصالح إسماعيل من دمشق ومعه الفرنج، جرَّد العساكِرَ إلى لقائه، فألقاهم، وعندما تقابل العسكران ساقت عساكر الشام إلى عساكر مصر طائعةً، ومالوا جميعًا على الفرنج، فهزموهم وأسَرُوا منهم خلقًا لا يُحصَون، وبهؤلاء الأسرى عَمَرَ السلطان الملك الصالح نجم الدين قلعةَ الروضة، والمدارس الصالحية بالقاهرة، ثم تمَّ الصلح مع الفرنج، وأطلق الملك الصالح نجم الدين الأسرى بمصر من الجنود والفرسان والرجَّالة.