عزم السلطانُ سليمان القانوني- بعد أن استولى على بلغراد، السَّفَرَ بسائر جنوده إلى إسبانيا للاستيلاء عليها، وبدا للسلطان سليمان القانوني أنَّه لا بد له من رجلٍ يعتمد عليه في دخول تلك البلاد على أن يكون عالِمًا بأحوالها، فوقع اختياره على خير الدين بربروسا؛ لما يعرفه عنه من شجاعة وإقدام، وكثرة هجومِه على تلك النواحي، وما استردَّه من بلاد المسلمين في شمال إفريقيا، وكيف أقَرَّ الحكم العثماني فيها، فوجه إليه خطابًا يطلبه فيه إلى حضرته ويأمُره باستنابة بعضِ مَن يأمنه في الجزائر، فعزم خير الدين على السفرِ إلى إستانبول في هذه السنة، وعيَّن مكانَه حسن آغا الطوشي، ولَمَّا وصل إلى إستانبول احتُفل به واستُقبِل بكلِّ حفاوة، وفوَّض إليه الخليفةُ سليمان النظرَ في دار الصناعة، ومنحه لقب قبودان باشا وزير بحرية، حتى تظَلَّ له السلطة الكاملة لمساندةِ النظام في الجزائر؛ لتحقيق هدف الدولة في استعادة الأندلس.
كانت قلعة بندر قلعةً عثمانية مهمةً على الساحل الجنوبي من تورلا قربَ مدينة كيشنيف، انهزم الصدر الأعظم والسردار الأكرم عوض خليل باشا أمام رومانزوف في موقع كارتال قرب أيساكجي. فتمكَّن الجيش الروسي من الاستيلاء على القلعة، وقد ذبح الروس ُكافة المسلمين الموجودين في القلعة بالسيف، بلغ عددهم 50 ألف جندي عثماني، تمت مطاردتُهم بعد تركهم القتالَ والهروب من القلعة، فذبحهم الروس- الذين تكبدوا خسائر كبيرة على يد هؤلاء الجنود الأتراك- يقول يلماز: "كانت روسيا هي المنتصرةَ في الحرب في بداية خريف هذا العام، وهذه نقطة تحول في التاريخ؛ فلأولِ مرة في التاريخ تغلبُ دولة أوربية لوحدها في حربٍ شاملة مع الدولة العثمانية. إنَّ تركيا كانت حتى هذا التاريخ الدولةَ الأولى في العالَم، سقطت من حيث القدرةُ إلى الدرجة الرابعة بعد إنكلترا وفرنسا وروسيا بالتسلسل".
عَلِمت الدولةُ العثمانية أنَّ روسيا تريدُ الحربَ؛ لذا أرادت أن تبدأ هي بالحربِ قبل أن يستعِدَّ خصومُها؛ ولإيجاد سبب لذلك فقد طلبَت من السفير الروسي إبلاغَ حكومته عدَّة طلبات، وهي: تسليم حاكم الأفلاق الذي أعلن العصيان على الدولة العثمانية والتجأ إلى روسيا، التنازل عن حماية بلاد الكرج؛ لأنها تحت سيادة الدولةِ العثمانية، عزلُ القناصل الذين يثيرون السكانَ، وقَبولُ قناصِلَ عثمانيين في موانئ البحرِ الأسود، مِن حقِّ الدولة العثمانية تفتيشُ المراكب الروسية التجارية خوفًا من نقلها الأسلحة. وقد رفضت روسيا هذه الطلباتِ، فأعلنت الدولةُ العثمانية الحربَ عليها وطلب القائِدُ الروسي من الإمبراطورة كاترين الثانية الانسحابَ مِن بلاد القرم نتيجةَ عدَمِ الاستعداد، ولكنَّها رفضت ذلك، وأمرَتْه بالتقدُّمِ فامتثل وتمكَّنَ مِن أن يحتلَّ ميناء أوزي عام 1203هـ وأعلنت النمسا الحربَ على الدولةِ العثمانية تضامنًا مع روسيا.
طالت الحربُ مع أهل عنيزة بعد قَتْلِ أميرهم عبد العزيز المحمد أبو العليان وأثناء حصارِ عُنيزة حاول الأميرُ طلال بن رشيد أن يعقِدَ صلحًا بين عبد الله وأهل عنيزة، فأرسل سرًّا إلى الأمير عبد الله اليحيى السليم وزامل العبد الله أنَّ الإمام لا يكره الصلحَ ووَقْفَ القتالِ إذا كان طلبُ الصلح منكم، فأنابوه عنهم وقالو له إنَّك مفوَّضٌ مِن قِبَلِنا، فعرض على عبد الله رغبةَ أهل عنيزة في الصلحِ، فقال: عبد الله إذا قَبِلوا بشروطنا قَبِلْنا منهم الطاعةَ، فحضر عنده زامل العبد الله وأغلظ له في القَولِ لكَثرةِ نقضِهم العهدَ، ثم فرض عليهم أموالًا وسلاحًا كثيرًا، فتوسط لهم الأمير طلال فأسقط عبد الله جزءًا منها، فقبل زامل فأحضر أهل عنيزة المالَ والسلاح وتمت البيعةُ، وضَمِنَ الأمير طلال الوفاءَ بالعهدِ.
تأسَّست حركة الإخوان -وكان مقرها الرئيسي الأرطاوية- على يد الملك عبدالعزيز لخوض المعارك ضد خصومه، وكانوا تستعِرُ داخِلَهم جذوةُ الدين وأصبحوا لا يُقهَرون، وكان شعارهم في الحرب: (هَبَّت هبوبُ الجنة، أين أنت يا باغيها؟ وكلٌّ يبغيها)؛ لذلك فكانوا يحاربون، وقلَّما ينهزمون، يرون أنَّ الجنَّةَ أمامهم والنارَ خلفهم، فلا يتقهقرون ولا يولون الدبر، فانتشر خبرهم وذاع صيتهم حتى بلغ الدوائر الإنجليزية والشريف حسين الذي هابهم وأبلغ الانجليز عن قلقه منهم وتحريضه لهم للقضاء عليهم والضغط على الملك عبدالعزيز للإلغائهم والتخلص منهم.
تمكن الكولونيل هاملتون خلال رحلة له في الرياض أن يقضيَ يوما في الأرطاوية في أكتوبر 1917 أحدِ أهمِّ مراكز الإخوان، ليتعرف عليهم عن كثب فقدَّر عدد سكان الأرطاوية ب 35 ألف نسمة، وأرسل تقريره إلى جُدة ثم القاهرة فانتشر وأثار لديهم فزعًا ليس بقليل.
ما إن بدأ العمل على انفصال باكستان عن الهند حتى نظم المسلمون في كشمير المناطق التي تمكَّنوا من بسط نفوذهم عليها، وألَّف محمد إبراهيم حكومةَ كشمير الحرة (أزاد كشمير) في ذي 19 القعدة 1366 هـ / تشرين الأول، وتألف الجيشُ الكشميري، فلما وصلت القوات الهندية انضمَّت إلى قوات الحاكم الهندوسي في كشمير وبدؤوا بعمليات التطهير والقتل الجماعي لمسلمي كشمير، فنشب القتال بين الجيش الهندوسي ومجاهدي كشمير، ومع أنَّ المجاهدين كانوا يحملون أسلحة عادية أو من غير سلاح إلا أنهم استطاعوا المحافظة على أرض حكومة كشمير الحرة، وعند انتهاء الجيش الهندوسي من الاستعداد بوصول جميع قواته جوًّا من الهند قام بهجوم واسع النطاق؛ مما عرَّض باكستان نفسَها للخطر، فأرسلت باكستان ولأول مرة قواتٍ لها إلى كشمير؛ لاتخاذ مواقف دفاعية لحماية نفسِها من أي عدوان هندوسي.
نتيجةً لاستبداد عبد الكريم قاسم بالسلطة وإقصاء غيرِ الشيوعيين من زملاء الثورة جرت في البلادِ عِدَّةُ محاولات للانقلاب على عبد الكريم قاسم؛ منها محاولة رشيد عالي الكيلاني الذي عاد للبلاد بعد نجاحِ الثورة وإنهاء الحُكم المَلَكي، وأخذ عددٌ من الضباط الناقمين على قاسم بالتردُّد على الكيلاني في بيته، ويتحدثون في السياسة بكل صراحة، فترامى إلى قاسم أنَّ رشيد الكيلاني يُعِدُّ لانقلاب ضده، فدبر عبد الكريم قاسم مكيدةً للكيلاني عن طريق أكبر أعوانه، وهما عبد الرحيم الراوي، ومبدر الكيلاني ابن أخي رشيد، فاتهمهم العسكر أنَّهم قد أسَّسوا جمعيةً سياسية، وأن الكيلاني سيدعمُهم بالسلاح؛ لذلك تم القبضُ على الكيلاني وأعوانه، وحُكِمَ على رشيد الكيلاني بالقتل، لكنه لم ينفَّذ، ولما أُفرِجَ عنه انتقل إلى بيروت، وعاد إلى العراق بعد الانقلاب على قاسم وقتله في رمضان 1382هـ.
تغيَّب عن هذه القِمة (غير العادية) كلٌّ من مصرَ ولِيبيا، وشاركت فيها 19 دولةً عربيةً، اعترَفَت ضِمنيًّا -ولأوَّلِ مرَّةٍ- بحقِّ إسرائيلَ في الوُجود. وصدَر عنه بيانٌ خِتامي تضمَّن مجموعةً مِن القرارات؛ أهمُّها:
- إقرارُ مَشروع السلامِ العربيِّ مع إسرائيلَ، وأهمُّ ما تضمَّنه: انسحابُ إسرائيلَ من جميع الأراضي العربيةِ التي احتلَّتها عام 1967م، وإزالةُ المستعمراتِ الإسرائيليةِ في الأراضي التي احتُلَّت بعد عام 1967م، وقيامُ الدولة الفِلَسطينية المستقِلةِ وعاصِمَتُها القدسُ، وتأكيدُ حقِّ الشعب الفِلَسطيني في تَقريرِ مَصيره، وتعويضُ مَن لا يَرغَبُ بالعودةِ.
- الإدانةُ الشديدةُ للعُدوان الإسرائيلي على الشعبينِ اللُّبناني والفِلَسطيني.
- بخُصوص الحربِ العراقيةِ الإيرانيةِ، دعا المؤتمرُ إلى ضَرورة التزامِ الطرفينِ لِقَرارات مجلسِ الأمن، وأعلَنَ أنَّ أيَّ اعتداء على أيِّ قُطْرٍ عربيٍّ اعتداءٌ على البلاد العربية جميعًا.
- مُساندة الصومالِ في مُواجهة وإخراج القوةِ الأثيويبيةِ مِن أراضيها.
تَولَّى حزبُ العملِ الحُكمَ في إسرائيلَ برئاسة إيهود باراك، وواصَلَت إسرائيلُ عمليةَ توَسُّعِها الاستيطانيِّ، حيث صدرت الأوامرُ بإنشاء 2600 وحدةٍ سكنيةٍ في المُستَوطَنات القائمة في الضفة الغربية وقطاع غزَّةَ، بالإضافة إلى طرح عطاءات ببناءِ 3370 وَحْدةً سكنيةً جديدةً مُوزَّعةً على العديد من المستوطناتِ بالضفة الغربية وقطاع غزَّةَ، وقد رافقت هذا المخططَ حملةٌ إعلاميةٌ ضخمةٌ؛ لتضليلِ الرأي العام العالمي، وهذه الحملة تركَّزت على إعلان باراك عن عزمه إزالة 42 موقعًا استيطانيًّا عشوائيًّا، إلَّا أنَّ المستوطنين واصَلوا عمليات الاستيلاء على الأراضي، خصوصًا مُستوطناتِ مجمع غوش قطيف، وذلك فى مخالفةٍ واضحةٍ لما جاء في مذكرة شرم الشيخ، التي وقَّعَتْها السُّلْطة الوطنية الفِلَسْطينية مع حكومة باراك بتاريخ 5/9/1999م، والتي أكَّدت التزامَ إسرائيلَ بوقف النشاطاتِ الاستيطانيةِ في الأراضي المحتلَّة.
عبدُ الله الحبشيُّ الضالُّ زعيم فِرقةِ الأحباش، اسمُه عبدُ الله بن محمد من هرر بالحبشةِ، نَزَح من الحبشةِ إلى الشام بضَلالَتِه، وتنقَّل فيها حتى استقرَّ به المُقامُ في لُبنانَ، وأخَذ يدعو النَّاسَ إلى طريقَتِه، ويتعصَّب لها ويُناظِر من أجلِها، ويطبَعُ الكتبَ والصُّحُفَ الداعيةَ إليها؛ فانتشَرَ أَتباعُه وراجَت أفكارُه وهي أخلاطٌ من اعتقاداتِ الجهميةِ والمعتزِلَةِ والصوفيَّةِ القُبوريَّةِ، مع الوُقوعِ في بعضِ الصَّحابةِ والفتاوى الشاذَّة، وذلك بعد أنْ أثار الفِتنَ ضدَّ المسلمين في بلدِه؛ حيث تعاوَن مع حاكِمِ إندراجي صهر هيلاسيلاسي ضدَّ الجمعياتِ الإسلاميَّةِ لتحفيظ القرآن بمدينة هرر سنة (1367هـ) الموافق (1940م) فيما عُرف بفتنةِ بلاد كُلُب فتسبَّب في إغلاقِها، وكذلك تسبَّب في التضيِيقِ على الدُّعاةِ والمشايِخِ وسَجنِهم ونَفيِهم، حتى فرَّ الكثيرون منهم؛ ولذلك أطلَق عليه الناسُ هناك صفةَ (الفتَّان) أو (شيخ الفتنة).
حدَّدت منظمةُ الأُمم المتحدة للتربيةِ والعلوم والثَّقافة المشهورةُ باليونسكو اليوم الـ(18) من ديسمبر في كلِّ عامٍ يومًا عالميًّا للُّغة العربية، وذلك ضِمنَ الأيَّام الدولية التي تحتفِلُ بها المنظَّمة. وجاء قرارُ المَجلسِ التنفيذيِّ للمنظَّمة بناءً على طلبِ المملكة العربية السعودية والمغرب. وسبق أنْ بدَأَت المجموعةُ العربية لدى اليونسكو في ترتيب الاحتفالِيَّة الأولى لهذه المناسَبة وقامت بتدشينِ شعارٍ لليَومِ العالميِّ. واللغةُ العربية هي لغة (22) دولةً من الدُّول الأعضاء في اليونسكو، وهي لغةٌ رسميَّة في المنظَّمة، ويتحدَّث بها ما يزيد عن 422 مليون عربيٍّ، ويحتاج إلى استِخدامِها أكثرُ من مليارٍ ونصفٍ من المسلمين. وكانت الجمعيَّةُ العامَّة للأُمَم المتحدة في دورَتِها الثامنةِ والعشرين عامَ (1973م) قد اعتمَدَت اللغةَ العربيةَ ضِمنَ اللُّغاتِ الرسميَّةِ ولُغاتِ العملِ في الجمعيَّة العامَّة ولِجانِها الرئيسيَّةِ، إلى جانبِ الإنجليزية والفرنسية والإسبانية والصِّينية والرُّوسية.
قامتْ مجموعةٌ مِن ضُبَّاطِ القوَّاتِ المُسلَّحةِ التُّركيَّةِ بمحاولةٍ للانقلابِ على حكومةِ الرَّئيسِ رجب طيب أردوغان، وأعلن مدبِّرو الانقلابِ انقلابَهم، وإنشاءَ مجلسٍ يشكِّلُ الهيئةَ الحاكمةَ في البلدِ مِن خلالِ بيانٍ بثُّوه على القناةِ الرَّسميَّةِ التُّركيةِ بعد سيطرتِهم عليها. ولاقَت محاولةُ الانقلابِ رفضًا شَعبيًّا وسِياسيًّا مِن قياداتٍ حزبيَّةٍ وعسكريَّةٍ وبرلمانيَّة تركيَّةٍ، وممَّن رفضَ العمليَّةَ الانقلابيَّةَ قائدُ القُوَّاتِ البَحريَّة التُّركيةِ: الأميرال بوسطان أوغلو، وزعيمُ حزبِ الشَّعبِ الجُمهوريِّ المُعارضِ: كليجدار أوغلو، وقد فَشِلَتُ المحاولةُ الانقلابيَّةُ، وأعلَنَ رئيسُ الوُزراءِ السَّابقُ: أحمد داود أوغلو أنَّ السُّلطةَ عادت إلى قَبضةِ قُوَّاتِ الأمنِ الشرعيَّةِ، واتَّهمت تركيا جماعةَ فتح الله غولن بالوقوفِ خلفَ تلك المُحاولةِ، وعاودَتْ قناةُ "تي.آر.تي" الرَّسميَّةُ التُّركيةُ بَثَّها بعد انقطاعِها لساعاتٍ أثناءَ مُحاولةِ الانقلابِ.
بعد رحيلِ صلاح الدين عن عكَّا إلى الخروبة لِمَرَضِه، سمع الفرنج أنَّ صلاح الدين قد سار للصيد، ورأوا أنَّ عسكر اليزك- اليزك كلمة فارسية تعني مقدِّمة الجيش- عندهم قليلًا، وأنَّ الوحل الذي في مرج عكا كثيرٌ يمنع من سلوكه من أراد أن ينجدَ اليزك، فاغتنموا ذلك، وخرجوا من خندَقِهم على اليزك وقت العصر، فقاتلهم المسلمونَ، وقُتِلَ من الفريقين جماعة كثيرة، وعاد الفرنجُ إلى خندقهم، ولما عاد صلاح الدين إلى المعسكر سَمِعَ خبر الوقعة، فندب الناسَ إلى نصر إخوانهم، فأتاه الخبَرُ أن الفرنج عادوا إلى خندقهم، فأقام، ثم إنه رأى الشتاء قد ذهب، وجاءته العساكِرُ من البلاد القريبة منه دمشق وحمص وحماة وغيرها، فتقدم من الخروبة نحو عكَّا، فنزل بتل كيسان، وقاتل الفرنجَ كُلَّ يومٍ لِيَشغَلَهم عن قتال من بعكَّا من المسلمين، فكانوا يقاتِلون الطائفتَينِ ولا يسأمون، وكان الفرنجُ، في مدة مقامهم على عكا، قد عملوا ثلاثة أبراج من الخَشَب عالية جدًّا، وعملوا كل برج منها خمسَ طبقات، كل طبقة مملوءة من المقاتلة، وغَشُوها بالجلود والخل والطين والأدوية التي تمنَعُ النار من إحراقها، وأصلحوا الطرُقَ لها، وقدَّموها نحو مدينة عكا من ثلاثِ جِهات، وزحفوا بها في العشرين من ربيع الأول، فأشرَفَت على السور، وقاتَلَ من بالأبراج العالية مِن على السور، فانكشف المُسلمون، وشرع الفرنجُ في طم خندق المدينة، فأشرف البلدُ على أن يملِكَه الفرنج عَنوةً وقهرًا، فأرسل أهلُ عكا إلى صلاح الدين إنسانًا سبَحَ في البحر، فأعلمه ما هم فيه من الضيقِ، وما قد أشرفوا عليه من أخْذِهم وقَتْلِهم، فركب هو وعساكره وتقدموا إلى الفرنجِ وقاتلوهم من جميعِ جهاتهم قتالًا عظيمًا دائمًا يشغَلُهم عن مكاثرة البلد، فافترق الفرنجُ فرقتين: فرقةٌ تقاتل صلاح الدين، وفِرقةٌ تقاتل أهل عكا، إلَّا أنَّ الأمر قد خَفَّ عمن بالبلد، ودام القتالُ ثمانية أيام متتابعة، آخِرُها الثامن والعشرون من الشهر، وسَئِمَ الفريقان القتال، وملُّوا منه لملازمته ليلًا ونهارًا، والمسلمون قد تيقَّنوا استيلاء الفرنج على البلد؛ لِما رأوا من عَجزِ مَن فيه عن دفع الأبراج، فإنَّهم لم يتركوا حيلةً إلَّا وعملوها، فلم يُفِدْ ذلك ولم يُغنِ عنهم شيئًا، وتابَعوا رميَ النفطِ الطيار عليها، فلم يؤثِّرْ فيها، فأيقنوا بالبوارِ والهلاك، فأتاهم الله بنصرٍ مِن عنده وإذنٍ في إحراقِ الأبراج، فلما احترق البرجُ الأوَّلُ انتقل إلى الثاني، وقد هَرَب مَن فيه لخوفِهم، فأحرقوه، وكذلك الثالث، وأرسل صلاحُ الدين يطلب العساكِرَ الشرقيَّة، فأول من أتاه عماد الدين زنكي بن مودود بن زنكي، وهو صاحِبُ سنجار وديار الجزيرة، ثم أتاه علاء الدين ولد عز الدين مسعود بن مودود بن زنكي، سيَّرَه أبوه مقدَّمًا على عسكره وهو صاحِبُ الموصل، ثم وصل زين الدين يوسف صاحِبُ إربل، وكان كل منهم إذا وصل يتقَدَّم إلى الفرنج بعسكره، وينضَمُّ إليه غيرهم ويقاتلونهم، ثم ينزلون، ووصل الأسطول من مصر، فلما سَمِعَ الفرنج بقُربِه منهم جَهَّزوا إلى طريقه أسطولًا ليلقاه ويقاتِلُه، فركب صلاح الدين في العساكر جميعِها، وقاتلهم من جهاتهم ليشتَغِلوا بقتاله عن قتالِ الأسطول ليتمَكَّنَ مِن دخول عكا، فلم يشتغلوا عن قَصدِه بشيء، فكان القتالُ بين الفريقين برًّا وبحرًا، وكان يومًا مشهودًا لم يؤرَّخْ مِثلُه، وأخذ المسلمونَ من الفرنج مركبًا بما فيه من الرِّجالِ والسلاح، وأخذ الفرنجُ من المسلمين مثلَ ذلك، إلا أن القتلَ في الفرنج كان أكثَرَ منه في المسلمين، ووصل الأسطولُ الإسلاميُّ- بحمد الله- سالِمًا.
بعد أن قام الظَّاهِرُ برقوق بالاستيلاء على مِصرَ وعودَتِه إليها، بقي منطاش في دمشق عاصيًا على السلطان برقوق، وأخَذَ منطاش بعلبكَّ بعد أن حاصرها محمد بن بيدمر أربعةَ أشهر، ثم إنَّ الظاهر برقوقًا جَهَّز العساكِرَ إلى دمشق لأخْذِها من منطاش، فلما بلغ منطاش قدومُ العساكر برز من دمشق، وأقام بقبَّة يلبغا، ثم رحل نصفَ ليلة الأحد ثالث عشر جمادى الآخرة بخواصِّه، وهم نحو الستمائة فارس، ومعه نحو السبعينَ حملًا ما بين ذَهَبٍ ودراهم وقماش، وتوجه نحو قارا والنبك، بعد أن قَتَل المماليك الظاهرية، والأميرُ ناصر الدين محمد بن المهمندار، وإن الأمير الكبير أيتمش خرج من سجنه بقلعة دمشق وأفرجَ عَمَّن بها، ومَلَك القلعة، وبعث إلى النوابِ يُعلِمُهم، وسَيَّرَ كتابه إلى السلطان بذلك، فسار النوابُ إلى دمشق ومَلَكوها بغير حرب، ثمَّ إن منطاش توجه إلى الأمير نعير، ومعه عنقا بن شطى أمير آل مرا، ثم قدم البريدُ بأن منطاش ونعيرًا جمعَا جمعًا كبيرًا من العُربان والأشرفية والتركمان، وساروا لمحاربة النواب، فخرج الأمير يلبغا الناصري والأمير ألطبغا الجوباني بالعساكر من دمشق إلى سليمة، ثم اجتمع البَيْدَمرية والطازية والجنتمرية في طوائف من العامة بدمشق يريدون أخْذَها، فسَرَّح الأمير الكبير أيتمش الطائر من القلعةِ إلى سليمة يُعلِمُ الأمير يلبغا الناصري بذلك، فركب ليلًا في طائفةٍ مِن العسكر، وقَدِمَ دمشق وقاتَلَهم ومعه ألابغا العثماني حاجب الحجاب بدمشق، فقُتِلَ بينهما خلقٌ كثير من الأتراك والعوام وكَسَرَهم، وقَبَض على جماعة ووسَّطَهم تحت قلعة دمشق، وحَبَس جماعة، وقَطَع أيديَ سبعمائة رجل، وعاد إلى سليمة، وافترقت جمائِعُ منطاش وعساكر الشام ثلاث فرق، وتولى الأميرُ يلبغا الناصري محاربةَ الأمير نعير، فكسَرَه، وقتل جمعًا مِن عُرْبانه، وركب قفا نعيرٍ إلى مَنازِلِه، وحارب الأميرُ قرا دمرداش منطاشَ ومَن معه من التركمان، فضرَبَ كُلٌّ منهما الآخر، فوقعت الضربةُ بكَتِفِ منطاش، وقُطِعَت أصابع قرا دمرداش، وخامَرَ جماعة من الأشرفية على منطاش وصاروا في جملةِ الأمير ألطبغا الجوباني، فأحسن إليهم وقرَّبَهم، فلما وقعت الحربُ اتفق الأشرفيَّةُ مع بعض مماليكِه وقَتَلوه، وقبضوا على الأمير مأمور ووسَّطوه- قتلوه- وقتلوا الأمير أقبغا الجوهري وعِدَّةً من الأمراء، فكانت حروبًا شديدة، قُتِلَ فيها بين الفِرَق الثلاث خَلقٌ لا يُحصي عددَهم إلا خالقُهم سبحانه وتعالى, ونَهَبَت العربُ والعشير جميعَ ما كان مع العسكَرينِ، وقَدِمَ البريد بذلك، وأن منطاش انكسر، فأقام الأشرفيَّةُ بدله ألطبغا الأشرفي، فحضر منطاش من الغَدِ وأراد قتْلَه، فلم تمَكِّنْه الأشرفية من ذلك، وإنَّ الناصري لَمَّا رجع من محاربة نعير جمع العساكِرَ وعاد إلى دمشق، ثم خرج بعد يومين وأغار على آل علي، ووسَّط- قتل- منهم مائتي نفس، ونهب كثيرًا من جِمالِهم، وعاد إلى دمشق، ثم قَدِمَ البريد من دمشق بأن الأمير قَشْتَمُر الأشرفي، الحاكِمَ بطرابلس من جهة منطاش، سَلَّمَها من غير قتال، وأنَّ حماة وحمص أيضًا استولت العساكرُ السلطانية عليهما، ثم قَدِمَ البريد من دمشق بفرار منطاش عن أرض حَلَب، ومعه عنقاءُ بن شطي، خوفًا على نَفسِه مِن نعير، وأنَّه توجَّهَ في نحو سبعمائة فارس من العَرَبِ، أخذهم على أنَّه يكبس التركمان ويأخذ أعناقَهم، فلما قطع الدربند أخذَ خُيولَ العرب، وسار إلى مرَعش، وترك العربَ مُشا، فعادوا.
خرج الإمامُ محمد بن عبد الوهاب من العُيينة بنجدٍ يدعو إلى دينِ الله القويم، وقد كانت منطقةُ نجد في هذه الفترة انتشر فيها الشِّركُ والبِدَع، فلقي الشيخُ صعوبات كثيرة إلى أن يسَّرَ الله له الأميرَ محمد بن سعود أمير الدرعية، فتم بينهما اتفاقٌ تاريخي في هذا العام عُرِف "باتفاق الدرعية" لَمَّا وصل الشيخ محمد بن عبد الوهاب إلى الدرعية دخل على شخصٍ مِن خيارها في أعلى البلد يقال له: محمد بن سويلم العريني، فنزل عليه, ويقالُ إنَّ هذا الرجل خاف من نزوله عليه وضاقت به الأرضُ بما رَحُبت، وخاف من أميرِ الدرعية محمد بن سعود، فطمأَنَه الشيخ وقال له: أبشِرْ بخير، وهذا الذي أدعو الناسَ إليه دينُ الله، وسوف يُظهِرُه الله، فبلغ محمَّدَ بن سعود خبرُ الشيخ محمد، ويقال: إن الذي أخبره به زوجتُه، جاء إليها بعضُ الصالحين وقال لها: أخبري زوجَك الأمير محمدًا بهذا الرجل، وشجِّعيه على قَبولِ دعوته، وحَرِّضيه على مؤازرته ومساعدتِه، وكانت امرأةً صالحةً طَيِّبةً، فلما دخل عليها محمد بن سعود أمير الدرعية وملحقاتها قالت له: أبشر بهذه الغنيمة العظيمة! هذه غنيمة ساقها الله إليك، رجلٌ داعية يدعو إلى دينِ الله، ويدعو إلى كتاب الله، يدعو إلى سنَّةِ رَسولِ الله عليه الصلاة والسلام، يا لها من غنيمة! بادِرْ بقَبوله وبادر بنُصرته، ولا تقف في ذلك أبدًا، فقبل الأمير مشورتَها، ثم تردد هل يذهب إليه أو يدعوه إليه؟! فأشير عليه، ويقال: إن المرأة أيضًا هي التي أشارت عليه مع جماعة من الصالحين، وقالوا له: لا ينبغي أن تدعوه إليك، بل ينبغي أن تقصِدَه في منزله، وأن تقصِدَه أنت وأن تعظِّمَ العلم والداعيَ إلى الخير، فأجاب إلى ذلك لما كتب الله له من السعادةِ والخيرِ- رحمةُ الله عليه، وأكرم الله مثواه- فذهب إلى الشيخ في بيت محمد بن سويلم العريني، ورحب به قائلًا: "أبشر ببلاد خيرٍ مِن بلادك، وأبشر بالعِزِّ والمنعة، فقال الشيخ محمد: وأنا أبشِّرُك بالعز والتمكين، وهذه كلمةُ لا إله إلا الله، من تمسَّك بها وعمل بها ونصرها، مَلك بها البلادَ والعباد، وهي كلمةُ التوحيد، وأوَّلُ ما دعت إليه الرسل، من أوَّلهم إلى آخرهم, ثم بين الشيخ محمد بن عبد الوهاب للأمير محمد بن سعود حقيقةَ الإسلام والإيمان، وأخبره ببطلان ما عليه أهل نجد من عبادة الأوثان والأصنام والأشجار، فقال الأمير له: يا شيخ، لاشك عندي أنَّ ما دعوتَ إليه أنَّه دين الله الذي أرسل به رسُلَه وأنزل به كتُبَه، وأنَّ ما عليه اليوم أهلُ نجد من هذه العبادات الباطلة هو كما ذكرت نفسُ ما كان عليه المشركون الأولون من الكُفرِ باللهِ والإشراك، فأبشِرْ بنُصرتِك وحمايتك والقيام بدعوتِك، ولكن أريد أن أشتَرِطَ عليك شرطين: نحن إذا قمنا بنصرتك وجاهدنا معك ودان أهلُ نجد بالإسلام وقَبِلوا دعوة التوحيد، أخاف أن ترتحِلَ عنا وتستبدل بنا غيرَنا، والثاني: أن لي على أهل الدرعية قانونًا آخذُه منهم وقت حصاد الثمارِ، وأخاف أن تقول: لا تأخذ منهم شيئًا، فقال الشيخ: أما الشرط الأول فابسُطْ يدك أعاهِدْك: الدَّمُ بالدَّمِ، والهدمُ بالهدم، وأما الثاني فلعل الله أن يفتحَ عليك الفتوحاتِ فيُعَوِّضَك من الغنائِمِ والزكوات ما هو خيرٌ منه. فتمَّ التعاهد والاتفاق بينهما"، فقام الأمير محمد بن سعود بمؤازرة الشيخ ودَعْمِه وحمايته؛ ليقوم بتبليغ الدعوة، فانطلق الشيخ محمد يصحح الأوضاعَ الدينية المتردِّية، فقويت الدرعية سياسيًّا ودينيًّا, ثم انطلقت منها الجيوشُ لتوحيد الأجزاء المتفَرِّقة من نجد وما حولها ونشْرِ الدعوة فيها.