هو الشيخ أبو محمد عبد الله بن عجال الغزواني أصلُه من مراكش من غزوان، قبيلة من عرب تامسنا، ولِدَ بمدينة القصر الكبير وبها تعلم مبادئ علوم الدين والأدب, وكان في ابتداء أمره يقرأ العلمَ بمدرسة الوادي من عدوة الأندلس بفاس، فحصلت له إرادة فسافر إلى مراكش ولازم الشيخ التباع وتخرج به، ثم انتقل إلى بلاد الهبط فنزل بها على قبيلة، يقال لهم: بنو فزنكار، واجتمع عليه كثيرٌ من مريديه واشتهر أمرُه وعظُمَ صيتُه وكان يغزو مع السلطان, ومات فجأة وهو راكبٌ دابتَه ودُفن بتربته في حومة القصور.
بايع صالح بن يحيى العلقي رئيسُ الحُدَيدة وبيتُ الفقيه الإمامَ سعودًا على دين الله والسمع والطاعة، وحَسُنت عقيدته, فسيَّرَ إمامُ صنعاء عسكرًا حاصروا بندر الحديدة وأخذوه وأسروا ابن صالح، وكان والده استعمله أميرًا على الحُدَيدة, فجمع صالح جنوده وقومه وقبائل عديدة حاضرة وبادية نحو 3000 مقاتل، فنازل أهل زبيد وأخذوه عنوة، وغنموا منه من الأموال والمتاع الشيءَ الكثير، ولم يمتنع عليه إلا القلعةُ الأمامية وما تحميه، ثم خرج صالحٌ عن زبيد وعَزَل الأخماس وبَعَث بها إلى الدرعية، وقسَّم الباقيَ على جيشِه.
طلب رؤساءُ القَصيمِ مِن الإمام فيصل أن يبعَثَ إليهم الشيخَ عبد الله بن عبد الرحمن أبا بطين قاضيًا في بلدانهم، كمدرِّس لطلبة العلم في أوطانِهم، فأمر عليه الإمام فيصل وهو في بلد شقراء قاضيًا لأهل الوشم أن ينتَقِلَ إلى القصيم، فقَدِمَ عُنَيزة وأقام فيها، ثم طلبوا نزولَه عندهم وانتقاله إليهم بأهله، فانتقل بعياله عندهم واستوطن عُنيزة، فأكرموه غاية الإكرام وعظَّموه بما يستحِقُّه من الإعظام، فاجتمع عنده طلبةُ عِلمٍ كثيرون، ورحل إليه من الغرباء صغيرٌ وكبيرٌ، وانتفع به من طلبتهم كثير.
سنة الهيلق، وهي مجاعةٌ حلَّت في الكويت في عهد الشيخ عبد الله الثاني بن صباح الثاني الصباح, والهيلق كَلِمةٌ تعني الهلاك أو الهلك. حيث تعرَّضت الأقاليم المجاورة لإمارة الكويت لجفافٍ هائلٍ لم يكن بالحسبان حتى اضطروا إلى أكلِ ذمامِ البهائم التي تُذبَح, وكانت الكويتُ محصَّنة ولديها إمكانيةٌ لمواجهة مثل هذا الجفاف. فأصبحت الكويتُ الوجهة الرئيسيَّةَ للمنكوبين. وكانت يدُ الخير تنتظِرُهم حيث أمدُّوهم بالمال والطعام والمأوى, وظلَّ بعضهم بالكويت لفترة زوال الجفاف التي دامت ثلاث سنوات، والبعضُ استقَرَّ بالكويت.
بدأت حربُ الـ 33 يومًا بين العدو الصِّهْيَوْني وحزبِ اللهِ، وذلك بعد ما قام الحزب بأسر جنديَّيْنِ وقَتل 8 عندَ موقع تلة الراهب في مشارفِ بلدةِ عيتا الشعب في جنوبِ لُبنانَ، وتمَّ بهذه الحرب قتلُ أكثرَ من 1200 لُبنانيٍّ، وجُرحَ أكثرُ من 4000 مواطنٍ من الجنوب وكافَّة الأراضي اللُّبنانية، كما قام الصهاينةُ بقصف جميع الجسور في لُبنانَ من الجنوب إلى الشمال إلى البقاع، والوسط، والجبل، وقامت أيضًا بأكثرَ من مجزرةٍ كان أعظمُها مجزرةً ثانيةً في قانا، وكان ضحيتها ما لا يقِلُّ عن 55 قتيلًا معظمُهم من الأطفال والنساء.
اقتَحَمت أجهزةُ الأمنِ التابعةِ لشرطةِ الحكومةِ في غزةَ آخِرَ منزلٍ فرَّ إليه مُسَلَّحون من جماعةِ أنصار جند الله، الذين سَبَق أن أعلنوا قِيامَ إمارةٍ إسلاميَّةٍ بغزةَ تنطلِقُ من مدينةِ رَفَحَ. ونجَحَت قواتُ الأمنِ في اقتحامِ منزلِ عبد اللطيف موسى الذي فرَّ إليه كَثيرٌ من المُسَلَّحين، بعد أن حاصرَتْهم الشرطةُ لساعاتٍ في مسجدِ ابن تيمية، وقد أُعلِن بعد ذلك عن مقتَلِه و(20) من أتباعِه. وعبد اللطيف موسى من مواليدِ قطاعِ غزةَ ويبلُغ من العمر (50) عامًا، وحاصِلٌ على بكالوريوس في الطبِّ من جامعة الإسكندريَّة المِصريَّة.
تُوفِّي الأديبُ السُّعودي الحَدَاثي عبد الله عبد الجبار عن عمرٍ ناهَزَ الـ(93) عامًا. وقد وُلد في مكة عامَ (1919)، ويلقَّب بـ"الأستاذ"؛ كونُه أشرَف على طُلَّابِ البَعَثات التعليميَّةِ من الحجازِ في مصر في الأربعيناتِ. وأصبح كِتابَاه: ((التيارات الأدبيَّة في قلب الجزيرة العربية)) و((قصَّة الأدب في الحجاز)) اللَّذانِ اشترك في تأليفِهِما مع الدكتور عبد المُنعِم خفاجي من المراجِعِ التاريخيَّةِ في الأدب السُّعوديِّ الحديثِ. وله أعمالٌ قَصصيَّةٌ ومسرحيةٌ ومقالاتٌ صَحفيةٌ عديدةٌ، وكان أمينًا عامًّا لرابِطَةِ الأدبِ الحديثِ إبَّانَ إقامَتِه في مصر في الأربعيناتِ.
تُوفِّي الشيخُ محمد زهير الشاويش في مدينة بيروت وصُلِّي عليه ودُفن في مقابِرِ الأوقافِ الجديدة. وعُرِفَ باسمِ زهير الشاويش وهو محقِّقٌ ومؤلِّفٌ سورِيُّ الجنسيَّة. وُلد في حيِّ المَيدان بمدينة دمشق وكان صاحِبَ ومؤسِّسَ المكتَب الإسلاميِّ للطِّباعة والنشر والتوزيع بدمشق، ويُعَدُّ أحدَ أعلامِ الدَّعوَة السلفيَّة في العصرِ الحديثِ، كان له قَصبُ السَّبقِ والرِّيادة في نشرِ التُّراث العلميِّ وتحقيقِه، وقد قَضَى مُعظمَ حياتِه في طلبِ العلمِ ومُجالسةِ العُلَماء وطباعةِ كُتُبِهم، وكان رحمه الله حَريصًا على جمعِ المَخطوطات ونوادِرِ الكُتُب وتَتَبُّعِها في مَظانِّها.
هو الشيخُ محمَّد الطاهر بنُ محمَّد بنِ محمَّد الطاهر بن عاشورٍ، الشَّهير بالطاهرِ بنِ عاشورٍ، أحدُ الأعلامِ المشهورين والمفسِّرين المعروفين، وكان أديبًا خطيبًا، ومِن طلائع النَّهضة الحديثةِ النابهينَ في تُونس. كانت حياتُه -التي زادت على 90 عامًا- جهادًا في طلَبِ العِلم، أحدَثَت آراؤه نَهضةً في عُلوم الشريعة والتفسيرِ، والتربيةِ والتعليمِ، والإصلاح. وُلِدَ بتُونسَ سنةَ 1296هـ في أُسرةٍ عِلْمية عريقةٍ، تَمتدُّ أُصولها إلى بلادِ الأندلسِ. حفِظَ القرآنَ الكريمَ، وتعلَّم اللُّغة الفرنسيةَ، والْتَحق بجامعِ الزَّيتونةِ سنة 1310هـ وهو في الرابعة عشرة مِن عُمره، ولم تَمْضِ سنواتٌ قليلةٌ حتى عُيِّن مدرِّسًا من الطَّبقة الأُولى بعد اجتيازِ اختبارِها سنةَ 1324هـ. واختِيرَ للتَّدريسِ في المدرسة الصادقيةِ، وكان لهذه التَّجرِبة المبكِّرة في التدريسِ بين الزَّيتونة -ذات المنْهج التَّقليدي- والصادقيةِ -ذات التعليمِ العصْري المتطوِّر- أثَرُها في حياتِه، ثم اختِيرَ شيخًا لجامع الزَّيتونة في 1351هـ، وحاز الطاهرُ بن عاشور على لقبِ "شيخُ الإسلامِ المالكيُّ"؛ فكان أولَ شُيوخ الزَّيتونة الذين جَمَعوا بين هذينِ المنصبينِ، ولكنه لم يَلبْثَ أن استقالَ مِن المشيخة بعدَ سَنةٍ ونصفٍ؛ بسَبب العراقيلِ التي وُضِعت أمام خُطَطِه لإصلاحِ الزَّيتونة، وأُعِيدَ تعيينُه سنة 1364هـ، وفي هذه المرَّة أدخَل إصلاحاتٍ كبيرةً في نِظام التعليم الزَّيتوني، فارتفَع عددُ الطُّلاب الزَّيتونيين، وزادت عددُ المعاهدِ التَّعليمية. ولَدى استقلالِ تُونس أُسندت إليه رئاسةُ الجامعةِ الزيتونية سنةَ 1374هـ، وقد أحدَثَت آراؤه نَهضةً في عُلوم الشريعةِ والتفسيرِ، والتربيةِ والتعليمِ، والإصلاحِ، وكان لها أثَرُها البالغُ في استمرار جامعةِ الزَّيتونة في العطاء والرِّيادةِ، وكان ابنُ عاشور دَؤوبًا على مُكافَحةِ الاستعمار الذي كان يُسمَّى بالحمايةِ، وألْقى محاضراتٍ في جامعة السُّوربون بفرنسا، وجامعةِ إستانبول في تركيا، وجامعة عليكره في الهندِ. وشارَك في نَدوات علميةٍ كثيرة، وفي بعضِ مُؤتمرات المستشرقينَ، وكان عضوًا في المجمَع اللُّغوي بالقاهرةِ، ورابطةِ العالم الإسلامي بمكَّة. ومِن مُؤلَّفاته: كتاب تَفسير القُرآن المسمَّى بـ ((التَّحرير والتنوير)) الذي احتوى على خُلاصة آرائهِ الاجتهادية والتَّجديدية، وله كِتاب ((مَقاصِد الشريعة)). ومن المواقِف المشهورةِ للطاهرِ بنِ عاشورٍ رفْضُه القاطعُ استصدارَ فَتوى تُبِيحُ الفِطرَ في رمضانَ، وكان ذلك عام 1381هـ عندما دعا الحَبيب بُورقيبة الرئيسُ التُّونسي آنذاكَ العُمَّال إلى الفِطر في رمضانَ بدَعوى زِيادة الإنتاج، وطلَب من الشيخِ أنْ يُفتِيَ في الإذاعة بما يُوافِقُ هذا، لكن الشيخَ صرَّح في الإذاعةِ بما يُريده اللهُ تعالى، بعد أن قرَأ آية الصِّيام، وقال بعدها: "صدَق اللهُ، وكذَبَ بُورقيبة"، تُوفِّي الطاهر بنُ عاشورٍ رحمه الله في 13رجب 1393 هـ.
كان عَقيبَ هَدمِ الكنائِسِ وقوعُ الحريق بالقاهرة ومصر، فابتدأ يومَ السبت خامس عشر جمادى الأولى، وتواتَرَ إلى آخره، بدأ الحريقُ في رَبعٍ من أوقاف المارستان المنصوري، واشتد الأمرُ، والأمراءُ تُطفِئُه إلى عصر يوم الأحد، فوقع الصوتُ قبل المغرب بالحريقِ في حارة الديلم بزُقاق العريسة، قريب من دار كريم الدين الكبير، ودخل الليلُ واشتد هبوب الرياح، فسَرَت النار في عِدَّة أماكن، وبعث كريمُ الدين بولده علم الدين عبد الله إلى السلطان يُعَرِّفُه، فبعث عِدَّةً من الأمراء والمماليك لإطفائِه خوفًا على الحواصِلِ السلطانية ثم تفاقم الأمرُ، واحتاج أقسنقر شاد العمائر إلى جمع سائرِ السائقينَ والأمراء، ونزلت الحُجَّاب وغيرهم، والنار تَعظُمُ طُولَ نهار الأحد، وباتوا على ذلك، وأصبحوا يوم الاثنينِ والنار تُتلِفُ ما تمُرُّ به، والهَدٌّ واقع في الدور التي تجاور الحريق خشيةً مِن تعَلُّقِ النار فيها وسَرَيانها في جميع دور القاهرة، فلما كانت ليلة الثلاثاء خرج أمر الحريقِ عن القُدرة البَشَرية، وخرجت ريحٌ عاصِفةٌ ألقت النخيلَ وغَرَّقت المراكب، ونَشَرت النار، فنزل النائب بسائر الأمراء وجميعِ مَن في القلعة وجميعِ أهل القاهرة، ونُقِل الماءُ على جمال الأمراء، ولحِقَه الأمير بكتمر الساقي وأُخرِجَت جمالُ القرى السلطانية، ومُنِعَت أبواب القاهرة أن يخرج منها سقاء، ونُقِلَت المياه من المدارس والحمَّامات والآبار، وجُمِعَت سائر البنائين والنجارين، فهُدَّت الدور من أسفلِها والنار تحرِقُ في سقوفها، وعَمَل الأمراء الألوف وعِدَّتُهم أربعة وعشرون أميرًا بأنفُسِهم في إطفاء الحريقِ، بحيث صار من باب زويلة إلى حارة الروم بحرًا، ثم خَمِدَت النار وعاد الأمراء، فوقع الصياحُ في ليلة الأربعاء بربع الملك الظاهِرِ خارج باب زويلة وبقيسارية الفقراء، وهبَّت الرياح مع ذلك، فرَكِبَ الحُجَّاب والوالي وعملوا في إطفائها إلى بعد الظهر من يوم الأربعاء وهدموا دورًا كثيرةً مِمَّا حوله، فما كاد أن يفرغ العَمَلُ من إطفاء النار حتى وقعت النارُ في بيت الأمير سلار بخط القصرين، فأقبلوا إليه وإذا بالنار ابتدأت من أعلى البادهنج- المنفذ الذي يجيء منه الريح- وكان ارتفاعُه من الأرض زيادة على مائة ذراع- بذراع العمل- ورأوا فيه نِفطًا قد عُمِلَ فيه فتيلة كبيرة، فما زالوا بالنار حتى أُطفِئَت، من غير أن يكون لها أثرٌ كبير، ونُودِيَ بأن يُعمَلَ بجانِبِ كُلِّ حانوت بالقاهرةِ ومصرَ زيرُ ودن ملآن ماء، وكذلك بسائر الحارات والأزقَّة، فلما كانت ليلة الخميس: وقع الحريق بحارة الروم وبخارج القاهرة، وتمادى الحالُ كذلك، ولا تخلو ساعة من وقوعِ الحريق بموضع من القاهرة ومصر، وامتنع والي القاهرةِ والأمير بيبرس الحاجب من النَّومِ، فشاع بين الناس أنَّ الحريق من جهة النصارى لَمَّا أنكاهم هدم الكنائس ونهبها، وصارت النيرانُ توجَدُ تارة في منابر الجوامِعِ وتارة في حيطان المدارسِ والمساجد، ووُجِدَت النار بالمدرسة المنصورية، فزاد قلقُ النَّاسِ وكَثُر خوفهم، وزاد استعدادُهم بادِّخار الآلات المملوءة ماء في أسطُحِ الدور وغيرها، وأكثر ما كانت النارُ توجد في العلو، فتقع في زروب الأسطح والبادهنجانات، ويُوجَدُ النِّفطُ قد لُفَّ في الخِرَق المبَلَّلة بالزيت والقطران، فلما كانت ليلةُ الجمعة الحادي عشر جمادى الأولى قُبِضَ على راهِبَينِ خرجا من المدرسة الكهاريَّة بالقاهرة، وقد أضرما النارَ بها، وأُحضِرا إلى الأمير علم الدين سنجر الخازن والي القاهرة، فشَمَّ منهما رائحة الكبريت والزيت، فأحضرهما من الغدِ إلى السلطان، فأمر بعقوبتِهما حتى يعترفا، فلما نزل الأميرُ علم الدين بهما وجد العامَّةَ قد قبضت على نصرانيٍّ مِن داخل باب جامِعِ الظاهر بالحُسَينية، ومعه كعكة خِرَق بها نفط وقطران، وقد وضعها بجانِبِ المنبر، فلما فاح الدخانُ أنكروه, ووجدوا النصرانيَّ وهو خارج والأثَرُ في يديه، فعُوقِبَ قبل صاحبيه، فاعترف النصرانيُّ أنَّ جماعة من النصارى قد اجتمعوا وعَمِلوا النفط، وفَرَّقوه على جماعة ليَدورُوا به على المواضع، ثم عاقَبَ الأمير علم الدين الراهبينِ، فأقرا أنَّهما من دير البغل، وأنهما هما اللذانِ أحرقا سائر الأماكن التي تقَدَّمَ ذِكرُها، وذلك أنَّه لَمَّا مر بالكنائس ما كان، حَنِقَ النصارى من ذلك وأقاموا النياحةَ عليها، واتَّفَقوا على نكاية المسلمين، وعملوا النفطَ وحَشَوه بالفتائِلِ وعَمِلوها في سهامٍ ورَموا بها، فكانت الفتيلة إذا خرجت من السَّهمِ تقَعُ على مسافة مائة ذراع، فلما أنفقوا ذلك فَرَّقوه في جماعة، فصاروا يدورون في القاهرة بالليل، وحيث وجدوا فرصة انتهزوها وألقَوا الفتيلةَ، حتى كان ما كان، فطالع الأميرُ علم الدين السلطانَ بذلك، واتَّفَق وصول كريم الدين الكبير ناظر الخاص من الإسكندريَّة، فعَرَّفه السلطان ما وقع من القَبضِ على النصارى، فقال البطرق: هؤلاء سُفَهاءُ قد فعلوا كما فَعَل سُفَهاؤُكم، والحُكمُ للسلطان، وأقام البطركُ ساعةً، وقام فرَكِبَ بغلةً كان قد رُسِمَ له منذ أيام بركوبِها، فشَقَّ ذلك على الناس، وهَمُّوا به لولا الخوف ممن حوله من المماليك، فلما رَكِب كريم الدين من الغد صاحت العامَّةُ به: "ما يحِلُّ لك يا قاضي تحامي للنصارى، وقد أخربوا بيوت المسلمين، وتُركِبُهم البغال، فانتكى كريمُ الدين منهم نكايةً بالغةً، وأخذَ يُهَوِّنُ من أمر النصارى الممسوكين ويَذكُرُ أنَّهم سفهاء، وعرف السلطان ما كان من أمْرِ البُطرُقِ، وأنه اعتُنيَ به، فأمر السلطانُ الواليَ بعقوبة النصارى، فأقروا على أربعة عشر راهبًا بدير البغل، فقُبِضَ عليهم من الدير، وعُمِلَت حفيرةٌ كبيرة بشارع الصليبة، وأُحرِقَ فيها أربعة منهم في يوم الجمعة، وقد اجتمع من الناس عالمٌ عظيم، فاشتدت العامَّةُ عند ذلك على النصارى، وأهانوهم وسَلَبوهم ثيابَهم، وألقَوهم من الدوابِّ إلى الأرض، وركب السلطانُ إلى الميدان يوم السبت الثاني عشر من جمادى الآخر، وقد اجتمع عالمٌ عظيم، وصاحوا: "نصر اللهُ الإسلامَ، انصر دينَ محمَّد بن عبد الله"، فلما استقَرَّ السلطان بالميدان حتى أَحضَرَ له الخازنُ والي القاهرة نصرانيَّينِ قد قُبِضَ عليهما، فأُحرِقا خارجَ الميدان، وخرج كريم الدين الكبير من الميدان وعليه التشريفُ، فصاحت به العامة: "كم تحامي للنصارى"، وسَبُّوه ورموه بالحجارة، فعاد إلى الميدان، فشَقَّ ذلك على السلطان، واستشار الأمراءَ في أمر العامة، فأشار عليه الأميرُ جمال الدين أقوش نائِبُ الكرك بعزل الكُتَّاب النَّصارى، فإنَّ النَّاسَ قد أبغضوهم، فلم يُرضِه ذلك، وتقَدَّمَ السلطان إلى ألماس الحاجب أن يَخرُجَ في أربعة أمراء ويضَعَ السَّيفَ في العامَّةِ حتى ينتهيَ إلى باب زويلة، ويمُرَّ إلى باب النصرِ وهو كذلك ولا يرفَع السَّيفَ عن أحد، وأمرَ والي القاهرة أن يتوجَّهَ إلى بابِ اللوق والبحر، ويَقبِضَ من وجده، ويحمِلَهم إلى القلعة، وعَيَّن لذلك مماليكَ تَخرُجُ من الميدان، فبادر كريمُ الدين وسأل السلطانَ العَفوَ، فقَبِلَ شَفاعتَه، ورسم بالقبضِ على العامَّةِ مِن غَيرِ قَتلِهم، وكان الخبَرُ قد طار، ففَرَّت العامَّةُ حتى الغلمان، وصار الأميرُ لا يجِدُ مَن يُركِبُه، وانتشر ذلك، فغُلِّقَت جميعُ أسواق القاهرة، فما وصل الأمر إلى باب زويلة حتى لم يجِدوا أحدًا، وشَقُّوا القاهرةَ إلى باب النصر، فكانت ساعةً لم يمُرَّ بالناس أعظَمُ منها، ومَرَّ الوالي إلى باب اللوق وبولاق وباب البحر، وقبض كثيرًا من الكلابزة- من يتولَّى تربية الكلاب وبَيعَها- والنواتية –الملَّاحين- وأراذل العامَّة، بحيث صار كلُّ من رآه أخَذَه، وجفَل الناسُ مِن الخوف، وعَدوا في المراكب إلى بر الجيزة، فلما عاد السلطانُ إلى القلعة لم يجد أحدًا في طريقه، وأحضر إليه الوالي بمن قبض عليه وهم نحو المائتين، فرسم أن يُصلَبوا، وأفرد جماعةً للشَّنقِ وجماعةً للتوسيطِ، وجماعةً لقطع الأيدي، فصاحوا: "يا خوند- يا سيد- ما يحِلُّ لك، فما نحن الغُرَماء"، وتباكوا فَرَّقَ لهم بكتمر الساقي، وقام معه الأمراءُ، وما زالوا بالسلطان حتى رسم بصَلبِ جماعةٍ منهم على الخَشَبِ من باب زويلة إلى سوقِ الخَيلِ، وأن يُعَلَّقوا بأيديهم، فأصبحوا يومَ الأحدِ صفًّا واحدًا من بابِ زويلة إلى سوقِ الخيل تحت القلعة، فتوجَّعَ لهم الناس، وكان منهم كثيرٌ مِن بياض الناس، ولم تُفتَح القاهرة، وخاف كريم الدين على نفسِه، ولم يَسلُكْ من باب زويلة، وصَعِدَ القلعة من خارج السور، فإذا السلطانُ قد قَدَّم الكلابزة وأخَذَ في قطع أيديهم، فكشف كريم الدين رأسَه وقَبَّل الأرض، وباس رِجلَ السُّلطانِ، وسأله العفو، فأجابه السلطانُ بمساعدة الأمير بكتمر، وأمَرَ بهم فقُيِّدوا وأُخرِجوا للعَمَلِ في الحفير بالجيزة، ومات ممَّن قُطِعَ يَدَه رَجُلان، وأُمِرَ بحَطِّ من عُلِّقَ على الخَشَب، فللحالِ وقع الصوتُ بحريقِ أماكِنَ بجوار جامع ابن طولون، وبوقوعِ الحريق في القلعةِ، وفي بيت الأحمدي بحارة بهاء الدين من القاهرة، وبفُندق طرنطاي خارج باب البحر، فدُهِشَ السلطان، وكان هذا الفندق برسم تجارِ الزيت الوارد من الشام، فعَمَّت النار كلَّ ما فيه حتى العُمُد الرُّخام، وكانت ستة عشر عمودًا، طولُ كل منها ستة أذرع، ودوره نحو ذراعين، فصارت كلُّها جيرًا، وقُبِضَ فيه على ثلاثة نصارى معهم فتائِلُ النفط، اعتَرَفوا أنهم فعلوا ذلك، فخاف السلطانُ الفتنةَ ورجع إلى مداراتِهم، وتقَدَّم إلى الحاجِبِ بأن يخرُجَ وينادي: "من وجد نصرانيًّا فدَمُه ومالُه حلالٌ"، فلما سمعوا النداءَ صرخوا صوتًا واحدًا: "نصرك الله يا ناصِرَ دين الإسلام"، فارتجَّت الأرض، ونودِيَ عَقيبَ ذلك بالقاهرة ومصر: "من وُجِدَ من النصارى بعمامةٍ بَيضاءَ حَلَّ دمه، ومن وُجِدَ من النصارى راكبًا باستواءٍ حَلَّ دمه" وكُتِبَ مرسومٌ بلُبس النصارى العمائِمَ الزرق، وألَّا يركبوا فَرَسًا ولا بغلًا، وأن يركبوا الحميرَ عَرضًا، ولا يدخلوا الحَمَّام إلَّا بجَرَس في أعناقهم، ولا يتزَيَّوا بزيِّ المسلمين هم ونساؤُهم وأولادهم، ورُسِمَ للأمراء بإخراج النصارى من دواوينِهم ومن دواوين السلطان، وكُتِبَ بذلك إلى سائر الأعمال، وغُلِّقَت الكنائس والأديرة، وتجرَّأت العامة على النصارى، بحيث إذا وجدوهم ضربوهم وعَرَّوهم ثيابَهم، فلم يتجاسَرْ نصرانيٌّ أن يخرُجَ من بيته، ولم يُتحَدَّثْ في أمرِ اليهودِ، فكان النصرانيُّ إذا طرأ له أمرٌ يتزيَّا بزيِّ اليهودِ، ويلبَس عمامة صفراءَ يكتريها من يهوديٍّ ليخرُجَ في حاجتِه! واحتاج عِدَّةٌ من النصارى إلى إظهارِهم الإسلام، فأسلم السني ابن ست بهجة في يوم الثلاثاء سابع عشر جمادى الآخرة، وخُلِعَ عليه، وأسلم كثيرٌ منهم، واعترف بعضُهم على راهب بدير الخندق أنه كان يُنفِقُ المالَ في عَمَل النفطِ للحريق ومعه أربعة، فأُخِذوا وسُمِّروا.
هو أبو فِراسٍ الحارِثُ بنُ سعيد بن حمدان بن حمدون الحمداني ابنُ عَمِّ ناصر الدولة وسيف الدولة ابني حمدان، كان رأسًا في الفروسية والجُود, وبراعةِ الأدب وكان شاعِرًا وأميرًا, قال الصاحِبُ بن عبَّاد: " بُدئَ الشِّعرُ بمَلِك وهو امرؤُ القَيسِ, وخُتِمَ بمَلِك وهو أبو فراسٍ". فكان عامِلَ منبج لسيفِ الدَّولة الحمداني، وله وقائِعُ كثيرة. أُسِرَ مِن قِبَلِ الرومِ، وبقي أربع سنين في أسْرِهم، تناوَلَ في شِعرِه تَشَيُّعَه لآل البيت. أمَّا سبَبُ قَتلِه فأنَّه كان مقيمًا بحمص، فجرى بينه وبين أبي المعالي بن سيفِ الدولة بن حمدان وحشةٌ، فطلبه أبو المعالي، فانحاز أبو فِراسٍ إلى صدد، وهي قرية في طرفِ البرية عند حمص، فجمع أبو المعالي الأعرابَ مِن بني كلاب وغيرهم، وسَيَّرَهم في طلبه مع قرعويه، فأدركه بصدد، فكَبَسوه، فاستأمن أصحابُه، واختلط هو بمن استأمَنَ منهم، فقال قرعويه لغلامٍ له: اقتُلْه، فقَتَله وأخَذَ رأسَه، وتُرِكَت جُثَّتُه في البرية، حتى دفنها بعضُ الأعراب. له ديوانٌ مشهور. قُتِلَ وكان عمُرُه سبعًا وثلاثين سنة.
هو أبو منصور بُوَيه مؤيَّدُ الدولة بنُ رُكن الدولة الحسَن بن بُوَيه بن فناخسرو الديلمي الشيعي. كان وزيرُه هو الصَّاحِبَ إسماعيلَ بنَ عَبَّاد، الذي صحبه منذ صباه حتى صار وزيرًا له، فضبَطَ مملكتَه وأحسَنَ تدبيرَها. قال الصاحِبُ بنُ عَبَّاد لمؤيَّد الدولة في مرضِه: لو عهدْتَ إلى أحدٍ؟ فقال: أنا في شُغُلٍ عن هذا، ولم يَعهَدْ بالملك إلى أحدٍ، توفِّيَ مؤيَّد الدولة بجرجان، من خوانيقَ أصابته، وله ثلاثٌ وأربعون سنة. وكانت دولتُه سبع سنين, وجلس صمصام الدولة بنُ عَضُد الدولة للعزاء ببغداد، فأتاه الطائعُ لله معزيًا، ثم تشاور أكابِرُ دولة مؤيَّد الدولة فيمن يقوم مقامَه، فأشار الصاحِبُ إسماعيل بن عباد بإعادةِ فَخرِ الدَّولة بنِ رُكنِ الدولة، وأخي مؤيَّد الدولة إلى مملكتِه؛ إذ هو كبيرُ البيتِ، ومالِكُ تلك البلادِ قبل مُؤَيَّد الدولة، فلما وصَلَت الأخبارُ إلى فخر الدولة سار إلى جرجان، فلَقِيَه العسكر بالطاعة، وجلس في دست ملكيٍّ في رمضان بغير مِنَّةٍ لأحدٍ، وسُيِّرَت الخِلَعُ من الخليفةِ إلى فَخرِ الدولة، واتفَقَ فَخرُ الدولة وابنُ عَمِّه صمصام الدولة فصارا يدًا واحدةً.
سار محمد علي بعساكِرِه إلى بلد طامي عسير وألمع ورفيدة وغيرهم فأطاعت لهم رفيدة، وثبت طامي بن شعيب ومن معه من عسير وألمع وبني أحمر والأسمر، واستعَدُّوا لقتال محمد علي ومحاربته, ورتَّب طامي جموعَه ورعاياه، فجعل مع حوان عسكرًا عند الطلحة- وهي عدَّةُ قرى في بلاد ربيعة رفيدة- فزحف محمد علي على الطلحة فقاتله حوان وهزمه ثم تراجع الروم وثبتوا، ووقع في قوم حوان خيانةٌ وخِذلان فانهزموا واستولى الروم على عددٍ مِن الحصون.
اجتمَعَت الروم وتحشَّدَت، ووافت بابَ قلميَّة من طرسوس، فنفر أبو ثابتٍ أميرُ طرسوس بعد كوت بن الإخشيد، وكان استخلَفَه عند موته، فبلغ أبو ثابتٍ في نفيرِه إلى نهر الرجان في طلَبِهم، فأُسِرَ أبو ثابت، وأصيبَ النَّاسُ معه، وكان ابن كلوب غازيًا في دربِ السَّلامة – موقِعٌ كان يسمَّى بدرب الحدث، لكنَّ بني أمية سمَّوه بدرب السلامة- فلمَّا عاد ابنُ كلوب جمعَ مشايخَ الثغرِ لِيَتراضَوا بأميرٍ، فأجمعوا رأيَهم على ابنِ الأعرابيِّ، فولَّوه أمرَهم.
لم تتوقف الحرب بين إسبانيا والمسلمين؛ فقد استمرَّ خير الدين بربروسا في ممارسة الأعمال القتالية أثناء طريق عودته، فتوقَّف أمام مدينة جنوة، فارتاع مجلسُ شيوخها فأرسل له مجموعةً من الهدايا الثمينة مقابِلَ عدم التعرض للمدينة بأذًى، فتابع خير الدين طريقَه حتى وصل جزيرة (البا) التي كانت تحت حكم إسبانيا فاحتلَّها وغَنِمَ ما بها، كما احتَلَّ عددًا من المدن الساحلية، من بينها مدينة (لبياري) ورجع إلى إستانبول بسفُنِه مثقلةً بالغنائم، فاستُقبل كأحسَنِ ما تَستقبلُ به الأمُّ أبناءها البَرَرة.