جرى في بلاد سواحِلِ الشام حريقٌ مِن بلاد طرابلس إلى آخِرِ معاملة بيروت إلى جميع كسروان، أحرق الجبالَ كُلَّها ومات الوحوش كلُّها، مثل النمور والدب والثعلب والخنزير من الحريق، ما بقي للوحوشِ مَوضِعٌ يهربون فيها، وبقي الحريقُ عليه أيامًا، وهرب الناس إلى جانب البحر خوفًا من النار، واحترق زيتون كثير، فلما نزل المطرُ أطفأه بإذن الله تعالى، ومن العجب أن ورقة من شجرةٍ وقعت في بيتٍ مِن مدخنته، فأحرقت جميع ما فيه من الأثاث والثياب وغير ذلك، ومن حلية حرير كثير، وغالب هذه البلاد للدروز والرَّافضة.
قام أميرٌ مِن أمراء بني نصر يُدعى أبا سعيد محمد، وكان زوجَ أخت السلطان إسماعيل الثاني، فثار على صهره إسماعيلَ وقَتَله وأعلن نفسَه مَلِكًا باسم محمد السادس، ولكنه لم يلبَثْ أن ثار عليه أهلُ غرناطة فخلعوه فهَرَب من غرناطة إلى ملك قشتالة ولم يلبث أن قُتِلَ هناك، ثمَّ إن الوزير المريني عمر الفودودي جهَّزَ محمد الخامس الغني بالله بقوَّة فجاز بها إلى الأندلُسِ مع وزيره لسان الدين ابن الخطيب ودخل غرناطة واسترَدَّ مُلكَه بعد هروب محمد السادس، وعَهِدَ بالوزارة إلى ابن الخطيب.
ما زال محمد الخامس الغني بالله يتابِعُ الغزو فزحف بقواتِه على مدينة قرمونه، واقتحم مدينةَ قشتالة، وكان محمَّد الخامس هذا قد استغَلَّ الأحداث الداخلية والفِتَن التي ثارت في قشتالة أيام ملكها بيدرو بعد وفاة أبيه الملك ألفونسو الحادي عشر، فكانت فترة قلاقل داخلية؛ حيث جرى بين بيدرو وأخيه هنري الذي استعان بالإنكليز وأما بيدرو فاستعان بالفرنسيين، فنشبت بينهما حروبٌ داخلية انتهت بقتل بيدرو وجلوس هنري على عرش الملك باسم هنري الثاني، فاستغل هذه الأحداثَ محمَّدٌ الخامس فقام بهذه الأعمال العسكريَّة.
بايع صالح بن يحيى العلقي رئيسُ الحُدَيدة وبيتُ الفقيه الإمامَ سعودًا على دين الله والسمع والطاعة، وحَسُنت عقيدته, فسيَّرَ إمامُ صنعاء عسكرًا حاصروا بندر الحديدة وأخذوه وأسروا ابن صالح، وكان والده استعمله أميرًا على الحُدَيدة, فجمع صالح جنوده وقومه وقبائل عديدة حاضرة وبادية نحو 3000 مقاتل، فنازل أهل زبيد وأخذوه عنوة، وغنموا منه من الأموال والمتاع الشيءَ الكثير، ولم يمتنع عليه إلا القلعةُ الأمامية وما تحميه، ثم خرج صالحٌ عن زبيد وعَزَل الأخماس وبَعَث بها إلى الدرعية، وقسَّم الباقيَ على جيشِه.
بدأت حربُ الـ 33 يومًا بين العدو الصِّهْيَوْني وحزبِ اللهِ، وذلك بعد ما قام الحزب بأسر جنديَّيْنِ وقَتل 8 عندَ موقع تلة الراهب في مشارفِ بلدةِ عيتا الشعب في جنوبِ لُبنانَ، وتمَّ بهذه الحرب قتلُ أكثرَ من 1200 لُبنانيٍّ، وجُرحَ أكثرُ من 4000 مواطنٍ من الجنوب وكافَّة الأراضي اللُّبنانية، كما قام الصهاينةُ بقصف جميع الجسور في لُبنانَ من الجنوب إلى الشمال إلى البقاع، والوسط، والجبل، وقامت أيضًا بأكثرَ من مجزرةٍ كان أعظمُها مجزرةً ثانيةً في قانا، وكان ضحيتها ما لا يقِلُّ عن 55 قتيلًا معظمُهم من الأطفال والنساء.
تُوفِّي الشيخُ محمد زهير الشاويش في مدينة بيروت وصُلِّي عليه ودُفن في مقابِرِ الأوقافِ الجديدة. وعُرِفَ باسمِ زهير الشاويش وهو محقِّقٌ ومؤلِّفٌ سورِيُّ الجنسيَّة. وُلد في حيِّ المَيدان بمدينة دمشق وكان صاحِبَ ومؤسِّسَ المكتَب الإسلاميِّ للطِّباعة والنشر والتوزيع بدمشق، ويُعَدُّ أحدَ أعلامِ الدَّعوَة السلفيَّة في العصرِ الحديثِ، كان له قَصبُ السَّبقِ والرِّيادة في نشرِ التُّراث العلميِّ وتحقيقِه، وقد قَضَى مُعظمَ حياتِه في طلبِ العلمِ ومُجالسةِ العُلَماء وطباعةِ كُتُبِهم، وكان رحمه الله حَريصًا على جمعِ المَخطوطات ونوادِرِ الكُتُب وتَتَبُّعِها في مَظانِّها.
وُلِدَ الدكتور أحمد زكي يماني في مكَّة المكرَّمة عام 1349هـ الموافق1930م، وحصل على بكالوريوس الحقوق من جامعة القاهرة في عام 1371هـ الموافق 1952م، وأكمل الدِّراساتِ العُليا في جامعتي نيويورك وهارفارد بالولاياتِ المتَّحِدة الأمريكيَّةِ.
وفي عام 1382هـ الموافق 1962م، عُيِّن وزيرًا للبترول في المملكة العربية السُّعوديةِ، واستمرَّ في منصبه قرابة 24 عامًا، وكان ممثِّلَ المملكةِ في منظَّمة الدُّوَلِ المصَدِّرة للنِّفطِ (أوبك).
توفي رحمه الله يوم الثلاثاء، في لندن عن عُمرٍ ناهز 90 عامًا، ودُفِنَ في مقابِرِ المُعَلَّاة بمكَّة.
وُلِد أبو الحسَنِ بني صدْر في مقاطعةِ همدانَ في إيرانَ، وكان والِدُه نصر الله شيعيًّا اثنَيْ عَشريًّا من الملالي النافذينَ في همدانَ، والذي كانت تربطُه صداقةٌ مع الخُميني.
تولَّى أبو الحسَنِ بني صدر مؤقَّتًا منصِبَ وزيرِ الشُّؤونِ الخارجيَّةِ في إيران عام 1979م،وكان أوَّلَ رئيسٍ لإيرانَ بعدَ الثَّورةِ الإيرانيَّةِ سنة 1979، التي انتصَرَت وأنهت الحُكمَ الملكيَّ.
تولَّى رئاسةَ الجُمهوريَّةِ الإيرانيَّةِلعامٍ واحدٍ من 1980 حتى 1981 ليلِيَه في هذا المنصِبِ محمَّد علي رجائي.
توفِّيَفي العاصِمةِ الفَرنسيَّةِ باريس عن عُمرٍ ناهز 88 عامًا.
هو الشيخُ محمَّد الطاهر بنُ محمَّد بنِ محمَّد الطاهر بن عاشورٍ، الشَّهير بالطاهرِ بنِ عاشورٍ، أحدُ الأعلامِ المشهورين والمفسِّرين المعروفين، وكان أديبًا خطيبًا، ومِن طلائع النَّهضة الحديثةِ النابهينَ في تُونس. كانت حياتُه -التي زادت على 90 عامًا- جهادًا في طلَبِ العِلم، أحدَثَت آراؤه نَهضةً في عُلوم الشريعة والتفسيرِ، والتربيةِ والتعليمِ، والإصلاح. وُلِدَ بتُونسَ سنةَ 1296هـ في أُسرةٍ عِلْمية عريقةٍ، تَمتدُّ أُصولها إلى بلادِ الأندلسِ. حفِظَ القرآنَ الكريمَ، وتعلَّم اللُّغة الفرنسيةَ، والْتَحق بجامعِ الزَّيتونةِ سنة 1310هـ وهو في الرابعة عشرة مِن عُمره، ولم تَمْضِ سنواتٌ قليلةٌ حتى عُيِّن مدرِّسًا من الطَّبقة الأُولى بعد اجتيازِ اختبارِها سنةَ 1324هـ. واختِيرَ للتَّدريسِ في المدرسة الصادقيةِ، وكان لهذه التَّجرِبة المبكِّرة في التدريسِ بين الزَّيتونة -ذات المنْهج التَّقليدي- والصادقيةِ -ذات التعليمِ العصْري المتطوِّر- أثَرُها في حياتِه، ثم اختِيرَ شيخًا لجامع الزَّيتونة في 1351هـ، وحاز الطاهرُ بن عاشور على لقبِ "شيخُ الإسلامِ المالكيُّ"؛ فكان أولَ شُيوخ الزَّيتونة الذين جَمَعوا بين هذينِ المنصبينِ، ولكنه لم يَلبْثَ أن استقالَ مِن المشيخة بعدَ سَنةٍ ونصفٍ؛ بسَبب العراقيلِ التي وُضِعت أمام خُطَطِه لإصلاحِ الزَّيتونة، وأُعِيدَ تعيينُه سنة 1364هـ، وفي هذه المرَّة أدخَل إصلاحاتٍ كبيرةً في نِظام التعليم الزَّيتوني، فارتفَع عددُ الطُّلاب الزَّيتونيين، وزادت عددُ المعاهدِ التَّعليمية. ولَدى استقلالِ تُونس أُسندت إليه رئاسةُ الجامعةِ الزيتونية سنةَ 1374هـ، وقد أحدَثَت آراؤه نَهضةً في عُلوم الشريعةِ والتفسيرِ، والتربيةِ والتعليمِ، والإصلاحِ، وكان لها أثَرُها البالغُ في استمرار جامعةِ الزَّيتونة في العطاء والرِّيادةِ، وكان ابنُ عاشور دَؤوبًا على مُكافَحةِ الاستعمار الذي كان يُسمَّى بالحمايةِ، وألْقى محاضراتٍ في جامعة السُّوربون بفرنسا، وجامعةِ إستانبول في تركيا، وجامعة عليكره في الهندِ. وشارَك في نَدوات علميةٍ كثيرة، وفي بعضِ مُؤتمرات المستشرقينَ، وكان عضوًا في المجمَع اللُّغوي بالقاهرةِ، ورابطةِ العالم الإسلامي بمكَّة. ومِن مُؤلَّفاته: كتاب تَفسير القُرآن المسمَّى بـ ((التَّحرير والتنوير)) الذي احتوى على خُلاصة آرائهِ الاجتهادية والتَّجديدية، وله كِتاب ((مَقاصِد الشريعة)). ومن المواقِف المشهورةِ للطاهرِ بنِ عاشورٍ رفْضُه القاطعُ استصدارَ فَتوى تُبِيحُ الفِطرَ في رمضانَ، وكان ذلك عام 1381هـ عندما دعا الحَبيب بُورقيبة الرئيسُ التُّونسي آنذاكَ العُمَّال إلى الفِطر في رمضانَ بدَعوى زِيادة الإنتاج، وطلَب من الشيخِ أنْ يُفتِيَ في الإذاعة بما يُوافِقُ هذا، لكن الشيخَ صرَّح في الإذاعةِ بما يُريده اللهُ تعالى، بعد أن قرَأ آية الصِّيام، وقال بعدها: "صدَق اللهُ، وكذَبَ بُورقيبة"، تُوفِّي الطاهر بنُ عاشورٍ رحمه الله في 13رجب 1393 هـ.
استولى الأمير جكم الجركسي الظاهري على حلب، وقد كان سابقًا خرج عن الطاعة وتمالأ مع التركمان والعربان وأحدث عدة فتن، وأنعم على الأمير علان نائب حماة بموجود دمرداش النائب السابق لحلب، وأحسن جكم السيرة في حلب، وولَّى في القلاع نوابًا من جهته، فاجتمعت له حلب وحماة وطرابلس، وأما الأمير شيخ المحمودي نائب الشام فإنه خرج لأخذ صفد وعمل ثلاثين مدفعًا، وعدة مكاحل للنفط ومنجنيقين، وجمع الحجَّارين والنقَّابين وآلات الحرب، وخرج من دمشق ومعه جميع من عنده من عسكر مصر والشام، وقرا يوسف بجماعته، وجماعة السلطان أحمد بن أويس متملك بغداد، والتركمان الجشارية، وأحمد بن بشارة بعشرانه، وعيسى بن الكابولي بعشيره، بعدما نادى بدمشق من أراد النهب والكسب فعليه بصفد، فاجتمع له خلائق، وسار ومعه مائة جمل تحمل المدافع والمكاحل والمجانيق، والزحَّافات، والبارود، ونحو ذلك من آلات الحصار، وولي الأمير ألطنبغا العثماني نيابة صفد، فكتب يستدعي عشران صفد وعربانها وتركمانها، فقدم الأمير شيخ بمن معه إلى صفد وبعث أمامه تقي الدين يحيى بن الكرماني، وقد ولَّاه العسكر، ومعه قطلوبغا رأس نوبة بكتابه إلى الأمير بكتمر شلق يدعوه إلى موافقته، ويحذِّره من مخالفته، ويُعلِمه أن الأمير جكم قد أخذ حلب من الأمير دمرداش بالقهر، وأنه قادم إليه ومعه الأمير علان نائب حماة، فلم يُذعِن له بكتمر، وأبى إلا قتاله، فأحاط الأمير شيخ بقلعة صفد وحصرها من جميع جهاتها، وقد حصَّنها الأمير بكتمر وشحنها بالرجال والآلات، فاستمرَّت الحرب بينهم أيامًا، جرح فيها من الشيخية نحو ثلاثمائة رجل، وقتل ما ينيف على خمسين فارسًا، ثم إن الأمير جكم خرج من حلب يريد دمشق، وقد حضر إليه شاهين دوادار الأمير شيخ يستدعيه، وكان جكم قد سلم القلعة إلى شرف الدين موسى بن يلدق، وعمل حجابًا وأرباب وظائف، وعزم على أن يتسلطن ويتلقب بالملك العادل، ثم أخر ذلك وقدم دمشق ومعه الأمير قانباي، والأمير تغري بردي القجقاري وجماعة، وقد خرج الأمير شيخ والأمراء إلى لقائه، وأنزله في الميدان، فترفع على الأمراء ترفعًا زائدًا أوجب تنكُّرَهم عليه في الباطن، إلا أن الضرورة قادتهم إلى الإغضاء، فأكرموه، وأنزلوه، وحلفوه على القيام معهم على السلطان وموافقتهم، وأخذ في إظهار شعار السلطنة، فشَقَّ عليهم ذلك، وما زالوا به حتى تركه، وأقام معهم بدمشق ثم توجَّه منها مخفًّا إلى طرابلس، وترك أثقاله بدمشق، ليجمع عساكر طرابلس وغيرها ممن انضم إليه، وأما الأمير شيخ فإنه وقع الصلح بينه وبين الأمير بكتمر نائب صفد، وتحالفوا جميعًا على الاتفاق، ثم سار جكم من طرابلس في عشرينه، وخيَّم ظاهرها، فبعث شيخ السلماني يستدعي علان، فبعث إليه نائب شيزر على عسكر، ففرَّ ابن أمير أسد بمن معه وترك أثقاله، فأخذها السليماني، ورتب أمر قلعة صهيون، وجعل بيازير بها، وتوجه إلى علان - -وقد نزل على بارين - فتلقاه وبالغ في كرامته، وأنزله بمخيمه، فأخذ شيخ عند ذلك في مكاتبة أمراء طرابلس وتركمانها يدعوهم إلى طاعته، فأجابوه بالسمع والطاعة، ووعدوه بالقيام معه، فاضطرب أمر جكم، وانسلَّ عنه من معه، طائفة بعد أخرى، فمضى إلى الناعم وقد كثر جمع السليماني، فمشى ومعه علان يريدان جكم فتركهم، ومضى إلى دمشق، فأدركه في طريقه إليها الأمير سعد الدين إبراهيم بن غراب، ويشبك العثماني، وأقبغا دوادار الأمير يشبك الدوادار، يحثُّونه على القدوم، وقد سار من دمشق فسار معهم، وأركب السليماني تركمان طرابلس في أثر جكم، فأخذوا بعض أطرافه، وقدم السليماني طرابلس وأعاد الخطبة للسلطان، ومهَّد أمورها، وكتب يُعلِم السلطان بذلك، ثم خرج منها بعد يومين يستنفر الناس، فاجتمع عليه خلائق من التركمان، والعربان، والعشران، وعسكر طرابلس وكثير من عسكر حلب، وطائفة من المماليك السلطانية، وكان العجل بن نعير قد استولى على معاملة الحصن والمناصف، واستولى فارس بن صاحب الباز -وأخوه حسين- على سواحل اللاذقية، وجبلة، وصهيون، وبلاطنس، واستولى علم الدين على حصن الأكراد، وعصى بها، واستولى رجب بن أمير أسد على قلعة المرقب، فطرد السليماني العجل من المعاملة، ونزل على حصن الأكراد وحصرها حتى أخذها، وأعاد بها الدعاء للسلطان، وأخذ في استرجاع الساحل، فقدم عليه الخبر بولاية الأمير قانباي طرابلس، ووصول متسلمه سيف الدين بوري -ومعه شهاب الدين أحمد الملطي- على ظهر البحر من ديار مصر، ففتَّ ذلك في عضده، وصار إلى علان نائب حماة، فأشار عليه ألَّا يسلم طرابلس حتى يراجع السلطان بما يترتب على عزله من الفساد بتبدُّد كل العساكر، فكتب بذلك، ودخل بوري والملطي إلى طرابلس، وتسلماها، وحلَّفا الأمراء وغيرهم للسلطان، ثم خرج الأمير شيخ المحمودي نائب الشام ومعه الأمير يشبك وبقية الأمراء إلى لقاء الأمير جكم، فعندما رأوه ترجل له يشبك، ونزل الأرض وسلم عليه، فلم يعبأ به، ولا التفت إليه، وجرى على عادته في الترفع والتكبر، فشقَّ ذلك على الأمير شيخ، ولام يشبك على ترجُّله، وعِيبَ جكم على ما كان منه، ودخلوا معه إلى دمشق والطبول تُضرَب وهو في مركب مهول، فنزل الميدان، وجرى على عادته في التكبر والترفع، فتنكرت القلوب، واختلفت الآراء، فكان جكم أمة وحدة يرى أنه السلطان، ويريد إظهار ذلك، والأمراء تَسوسُه برفق، حتى لا يتظاهر بالسلطنة، ورأيه التوجه إلى بلاد الشمال، ورأي بقية الأمراء المسير إلى مصر، فكانوا ينادون يومًا بالمسير إلى مصر، وينادون يومًا بالمسير إلى حماة وحلب، وينادون يومًا من أراد النهب والكسب فعليه بالتوجه إلى صفد، ثم قوي عزمهم جميعًا على قصد مصر، وبعثوا لرمي الإقامات بالرملة وغزة، وبرزوا بالخيام إلى قبة يلبغا في الرابع عشر، وخرج الأمير شيخ والأمير يشبك وقرا يوسف من دمشق، وندبوا الأمير يشبك وقرا يوسف إلى صفد، فسارا من الخربة في عسكر، ومضى الأمير شيخ إلى قلعة الصبيبة فاستعد الأمير بكتمر شلق نائب صفد، وأخرج كشافته بين يديه، ونزل بجسر يعقوب، فالتقى أصحابه بكشافة يشبك وقرا يوسف، واقتتلوا، فكثرت الجراحات بينهما، وغنم الصفديون منهم عشرة أفراس، فرجع يشبك وقرا يوسف إلى طبرية، ونزلا على البحيرة حتى عاد الأمير شيخ من الصبيبة، وقد حصَّن قلعتها، ثم ساروا جميعًا إلى غزة، وقد تقدَّمهم الأمير جكم، ونزل بالرملة والتقت مقدمة السلطان ومقدمة الأمراء واقتتلوا، فرحل السلطان من بلبيس بكرة نهار الأربعاء، ونزل السعيدية فأتاه كتاب الأمراء الثلاثة: شيخ، وجكم، ويشبك، بأن سبب حركتهم ما جرى بين الأمير يشبك والأمير إينال باي ابن الأمير قجماس من حظ الأنفس، حتى توجه يشبك بمن معه إلى الشام، فكان بها من خراب البلاد، وهلاك الرعية ما كان، وطلبوا منه أن يخرج أينال باي ودمرداش نائب حلب من مصر إلى الشام، وأن يُعطى لكل من يشبك وشيخ وجكم، ومن معهم بمصر والشام ما يليق به؛ لتخمد هذه الفتنة باستمرارهم على الطاعة، وتحقن الدماء، ويعمر ملك السلطان، وإن لم يكن ذلك تَلِفَت أرواح كثيرة، وخربت بيوت عديدة وقد كان عزمهم المكاتبة بهذا من الشام، لكن خشوا أن يُظَنَّ بهم العجز، فإنَّه ما منهم إلا من جعل الموت نصب عينيه، ثم بيت أمراء السلطان، وهم في نحو الثلاثة آلاف فارس وأربعمائة تركماني من أصحاب قرا يوسف، فاقتتل الفريقان قتالًا شديدًا، من بعد عشاء الآخرة إلى بعد نصف الليل، جُرِح فيه جماعة، وقُتِل الأمير صرق صبرًا بين يدي الأمير شيخ؛ لأنه ولي نيابة الشام من السلطان، وركب السلطان ومعه الأمير سودن الطيار، وسودن الأشقر هجنا، وساقوا على البر تحت غلس الصبح يريدون القلعة، وتفرقت العساكر وتركوا أثقالهم وسائر أموالهم، فغنمها الشاميون، ووقع في قبضتهم الخليفة وقضاة مصر، ونحو من ثلاثمائة مملوك، والأمير شاهين الأفرم، والأمير خير بك نائب غزة، وقدم المنهزمون إلى القاهرة، ولم يحضر السلطان ولا الأمراء الكبار، فكثر الإرجاف، وأقيم العزاء في بعض الدور وماج الناس، وكثُر النهب، حتى وصل السلطان قريب العصر ومعه الأمراء، إلى الأمير أقباي، وقد قاسى من العطش والتعب ما لا يوصف، فاستعدَّ وجمع إليه عساكره، وزحفت عساكر الشاميين من الريدانية، وقد نزلوا بها من أمسه وكثر اضطراب الناس بالقاهرة، وغلقت أبوابها ودروبها، وتعطلت الأسواق، وعزَّ وجود الماء، ووصلت العساكر قريبًا من دار الضيافة تحت القلعة، فقاتلهم السلطانية من بكرة النهار إلى بعد الظهر، فأقبل عدة من الأمراء إلى جهة السلطان طائعين له، منهم: أسن بيه أمير ميسرة الشام، والأمير يلبغا الناصري، والأمير سودن اليوسفي، وإينال حطب، وجمق، ففت ذلك في أعضاد من بقي، وعاد طائفة منهم، وحملوا خفهم وأفرجوا عن الخليفة والقضاة وغيرهم، وتسلل الأمير قطلوبغا الكركي، والأمير يشبك الدوادار، والأمير تمراز الناصري، وجركس المصارع في جماعة، واختفوا بالقاهرة وظواهرها، فوَلِيَ حينئذ الأمير شيخ المحمودي نائب الشام، والأمير جكم، وقرا يوسف، وطولو، في طائفة يسيرة، وقصدوا الشام، فلم يتبعهم أحد من عسكر السلطان، ونادى السلطان بالأمان، وأصبح فقَيَّد من استأمن إليه من الأمراء، وبعثهم إلى الإسكندرية، فاعتُقِلوا بها، وانجلت هذه الفتنة عن تلف مال العسكريين، فذهب فيها من الخيل والبغال والجمال والسلاح والثياب والآلات ما لا يدخل تحت حصر، وأما حلب فإن الأمير جكم لما سار عنها ثار بها عدة من أمرائها، ورفعوا سنجق السلطان بباب القلعة، فاجتمع إليهم العسكر، وحلفوا للسلطان، فقدم ابنا شهري الحاجب، ونائب القلعة من عند التركمان البياضية إلى حلب، وقام بتدبير الأمور يونس الحافظي، وامتدت أيدي عرب العجل بن نعير وتراكمين ابن صاحب الباز إلى معاملة حلب، فقسموها، ولم يَدَعوا لأحد من الأمراء والأجناد شيئًا.
لم يكتَفِ بيبرسُ الجاشنكيري بمُلكِ مِصرَ، بل ذهب يطلُبُ مِن الملك الناصِرِ المخلوعِ ما بيَدِه في الكرك، وذلك بتحريضِ وتخويفِ الأمراء له من الناصِرِ، فأصبح يريدُ أن يجرِّدَ النَّاصِرَ مِن كُلِّ شَيءٍ، فكان هذا من أسبابِ عَودةِ النَّاصِرِ لطَلَبِ المُلك، حيث حَبَس الناصِرُ مغلطاي رسولَ المظَفَّر بيبرس الذي جاء لأخذِ باقي أموالِ ومماليك الناصِرِ من الكرك، فخاف المظَفَّر بيبرس من ذلك، واشتهر بالدِّيارِ المِصريَّة حركةُ الملك الناصر محمَّد وخروجه من الكرك، فماجت النَّاسُ، وتحرك الأميرُ نوغاي القبجاقي، وكان شجاعًا مِقدامًا حادَّ المزاجِ قَوِيَّ النفس، وكان من ألزامِ الأمير سلار النائب، وتواعَدَ مع جماعةٍ مِن المماليك السلطانية أن يَهجُمَ بهم على السُّلطانِ الملك المظَفَّر إذا رَكِبَ ويَقتُلَه، فلما ركبَ المظَفَّر ونزل إلى بركةِ الجُبِّ استجمع نوغاي بمن وافقه يريدون الفَتكَ بالمظَفَّر في عودِه من البركة، وتقرب نوغاي من السلطانِ المظَفَّر بيبرس قليلًا قليلًا، وقد تغيَّرَ وجهُه وظهر فيه أماراتُ الشَّرِّ، ففطن به خواصُّ المظفر وتحَلَّقوا حول المظفر، فلم يجِدْ نوغاي سبيلًا إلى ما عزم عليه، وعاد المَلِكُ المظفر إلى القلعة فعَرَّفه ألزامه ما فَهِموه من نوغاي، وحَسَّنوا له القبضَ عليه وتقريرَه على من معه، فاستدعى المَلِكُ المظفَّر الأميرَ سلار وعرَّفه الخبَرَ، وكان نوغاي قد باطَنَ سلار بذلك، فحَذَّر سلار المَلِكَ المظَفَّر وخَوَّفَه عاقبةَ القَبضِ على نوغاي، وأن فيه فسادَ قلوب جميع الأمراء، وليس الرأيُ إلَّا الإغضاء فقط، وقام سلار عنه، فأخذ البرجيَّة بالإغراء بسلار وأنه باطَنَ نوغاي، ومتى لم يقبِضْ عليه فسد الحالُ، وبلغ نوغاي الحديثُ، فواعد أصحابَه على اللَّحاقِ بالملك الناصر، وخرج هو والأميرُ مغلطاي القازاني الساقي ونحو ستين مملوكًا وقت المغرب عند غَلقِ باب القلعة في ليلةِ الخميس خامس عشر جمادى الآخرة من هذه السنة، وقيلَ في أمر نوغاي وهروبِه وجهٌ آخَرُ، ثم أرسل خَلفَهم المَلِكُ المظَفَّر بيبرس مَن يعيدُهم، ولكن لم يَقدِروا عليهم وعادوا إلى مصر، أمَّا هؤلاء لَمَّا وصلوا إلى الناصر محمد وأعلموه بالأمرِ قَوِيَ في نفسه الرجوعُ للمُلكِ، فكاتب النوابَ فأجابوه بالسَّمعِ والطَّاعةِ، وأخذ المَلِكُ النَّاصِرُ في تدبيرِ أمرِه، وبينما المظَفَّر في ذلك ورد عليه الخبَرُ من الأفرم بخروجِ المَلِك الناصِرِ مِن الكرك، فقَلِقَ المظَفَّر من ذلك وزاد توَهُّمه؛ ونفَرَت قلوبُ جماعةٍ مِن الأمراء والمماليك منه، وخَشُوا على أنفُسِهم، واجتمع كثيرٌ من المنصوريَّة والأشرفيَّة والأويراتية وتواعدوا على الحَربِ، وأمَّا الملك المظَفَّر بيبرس هذا فإنَّه أخذ في تجهيزِ العساكِرِ إلى قتال المَلِك الناصِرِ محمد بن قلاوون حتى تمَّ أمرُهم وخرجوا مِن الدِّيارِ المِصريَّة في يوم السَّبتِ تاسِعَ شهر رجب وعليهم خمسةُ أمراء من مُقَدَّمي الألوفِ، فلم يكُنْ إلَّا أيامٌ وورد الخبر ثانيًا بمسير الملك الناصِرِ محمد من الكرك إلى نحو دمشق، فتجهَّزَت عسكر المظَفَّر بيبرس في أربعة آلاف فارس وخرجوا من القاهرة في العشرين من شعبان إلى العبَّاسة، ثمَّ إنَّ المظَفَّر أخذَ عَهدًا من الخليفة العباسي بمصر أنَّه هو السلطانُ، ولكن قَدِمَ عليه الخبَرُ في خامس عشرين شعبان باستيلاء الملك الناصر على دِمشقَ بغيرِ قِتالٍ، فعَظُمَ ذلك على المَلِك المظفَّر وأظهر الذِّلَّة، وخرجت عساكِرُ مِصرَ شيئًا بعد شيءٍ تريد المَلِكَ الناصِرَ حتى لم يبقَ عنده بالدِّيارِ المصريَّة سوى خواصِّه من الأمراء والأجناد، فلما كان يوم الثلاثاء سادس عشر رمضان استدعى الملِكُ المظَفَّر الأمراءَ كُلَّهم واستشارهم فيما يفعل، فأشار الأمير بيبرس الدوادار المؤرخ والأمير بهادر آص بنزوله عن المُلكِ والإشهادِ عليه بذلك كما فعله المَلِكُ الناصر، وتسير إلى الملك الناصر بذلك وتَستَعطِفُه، وتخرُجُ إلى إطفيح بمن تثِقُ به، وتقيمُ هناك حتى يَرِدَ جوابُ الملك الناصِرِ عليك فأعجبه ذلك، وقام ليجَهِّزَ أمْرَه، وبعث بالأميرِ بيبرس الدوادار إلى المَلِك الناصر محمد يُعَرِّفه بما وقع، وقيل إنه كتب إلى الملك الناصر يقولُ: " والذي أعَرِّفُك به أني قد رجعت أقلِّدُك بغيك؛ فإن حبستَني عددتُ ذلك خلوةً، وإن نفيتَني عددتُ ذلك سياحةً، وإن قتلتَني كان ذلك لي شهادةً" فلما سمع الملك الناصر ذلك، عَيَّنَ له صهيون ثمَّ اضطربت أحوالُ المظَفَّر بيبرس وتحَيَّرَ، وقام ودخل الخزائِنَ، وأخذ من المال والخيل ما أحَبَّ، وخرج من يومِه مِن باب الإسطبل في مماليكِه وعِدَّتُهم سبعُمائة مملوك، ومعه من الأمراءِ عِدَّةٌ، وعَلِمَت العوام بذلك فأخذوا باللَّحاقِ بهم وضَرْبِهم، وفي يوم الجمعة تاسع عَشَرِه خُطِبَ على منابر القاهرة ومِصرَ باسمِ الملك الناصر، وأُسقِطَ اسمُ الملك المظفر بيبرس هذا وزال مُلكُه، ولما فارق القلعةَ أقام بإطفيح يومين؛ ثم اتَّفَق رأيه ورأي أيدمر الخطيري وبكتوت الفتاح إلى المسير إلى بُرقة، وقيل بل إلى أسوان، ثم أمر الناصِرُ بإحضاره.
هو سعدُ بنُ إبراهيم زغلول، لُقب بزعيم نهضة مصر السياسية، وكان من أبرز خطبائِها في عصره. ولِدَ في إبيانة من قرى الغربية في يوليو عام 1858م وتوفِّيَ والده وهو في الخامسة، التحق سعد زغلول في السابعة من عمره بكُتَّاب القرية، حيث مكث فيه خمس سنوات، تعلَّم فيه القراءة والكتابة، وحَفِظ القرآن الكريم في سنة 1873م. ثم انتقل سعد زغلول إلى القاهرة للالتحاق بالأزهر، وتتلمذ على يد الشيخ محمد عبده، ولازم جمالَ الدين الأفغاني مدة، واشتغل بالتحرير في جريدة الوقائع المصرية مع الشيخ محمد عبده، واشترك بالثورة العُرابية، وقُبِض عليه سنة 1299هـ بتهمة الاشتراك في جمعية سرية، قيل إنها تسعى لقلب نظام الحكومة، فسُجِن شهورًا، ثم أُفرِجَ عنه، وحصل على إجازة الحقوق، واشتغل بالمحاماةِ حتى اختيرَ قاضيًا ثم مستشارًا، ثم تولى وزارة المعارف، فالعدل، فوكالة رئاسة الجمعية التشريعية، وقاد مصر بعد الحرب العالمية الأولى فتسَلَّم رئاسة الوزراء، ورئاسة مجلس النواب، وقام بالثورات ضِدَّ الإنجليز وظهر في صورة البطل الذي عَمِلَ على استقلال البلاد، مع أنَّ كل ما كان يفعَلُه تحت مرأى ومسمع إنجلترا!! وكان منعه من العمل السياسي واعتقالُه ونفيُه أكثَرَ من مرة قد ساهم في جعله زعيمًا وطنيًّا نافس زعماء وطنيين مصريين، مثل: مصطفى كامل، وخليفته محمد فريد، بل قيل إن بريطانيا هي من كلَّفته بالعمل للسفر إلى باريس لعَرضِ قضية استقلال البلاد، ومع ذلك منعته من السفر، ثم نفته إلى مالطا؛ ليصبح بذلك بطلًا وزعيمًا وطنيًّا يُصَفِّق لكل قراراته الجمهورُ المصري!! وكانت زوجته صفية فهمي التي تُعرَف بصفية زغلول على مبدأ الغربِ، هي من قامت بحرق حجابها بعد أن خلعَتْه هي وهدى شعراوي في ميدان الإسماعيلية في إحدى المظاهرات المنَدِّدة بالاحتلال الإنجليزي لمصر خلال ثورة 1919م!! لَمَّا عاد سعد زغلول من بريطانيا سنة 1920م كبطل وزعيم قومي أُعِدَّ لاستقباله خيمتان كبيرتان: خيمة للرجال، وخيمة للنساء، ولَمَّا نزل من الطائرة بدلًا من أن يتجه إلى خيمة الرجال توجَّه إلى خيمة النساء، وكانت مليئة بالنساء المحجَّبات، فلما وصل الخيمة استقبلته هدى شعراوي أمام الناس جميعًا، وعليها حجابُها، فنزع حجابَها عن وجهها فصَفَّقَت هي وصَفَّق جميعُ النساء الحاضرات ونزَعْن حجابهن!!
لمَّا استَلَم يَزيدُ بن الوَليدِ الخِلافَة بعدَ أن قُتلَ ابنُ عَمِّه الوَليد بن يَزيد اضْطَربَت الأُمور عليه واختَلفَت كَلمةُ بَنِي مَرْوان، وخرج سُليمانُ بن هِشام مِن السِّجْن واسْتَولى على الأَموالِ، وكان في سِجْن الوَليد بن يَزيد في عَمَّان ثمَّ حَضَر دِمَشق، وثار أَهلُ حِمص يُطالِبون بِدَمِ الوَليد بن يَزيد وخَلعَوا أَميرَهم، وثار أَهلُ فِلَسطين وبايَعوا يَزيدَ بن سُليمان، وأَهلُ الأردن كذلك ثاروا وبايَعوا محمَّدَ بن عبدِ الملك، وكان مَرْوان بن محمَّد في أرمينية يُحرِّض على الأَخذِ بِدَمِ الوَليد بن يَزيد، ثمَّ إنَّ يَزيد بن الوليد بايَعَ لأَخيهِ إِبراهيم مِن بَعدِه ومِن بَعدِه لِعبدِ العزيز بن الحَجَّاج؛ ولكن لم يَلبَث أن تُوفِّي يَزيد بالطَّاعون في 7 ذي الحِجَّة مِن العام نَفسِه فلم تَدُم خِلافتُه أَكثرَ مِن سِتَّة أَشهُر.
هو الخليلُ بن أحمد بن عمرو بن تميم الفراهيديُّ الأزدي اليحمدي، أبو عبد الرحمن: من أئمَّة اللغة والأدب، وواضِعُ علم العروضِ، إمامُ اللغة المعروف، ولد سنة 100هـ ونشأ بالبصرة، وأخذ النحوَ والقراءةَ والحديث عن أئمَّة العربية وكِبار الرواة، رحل إلى الباديةِ فسَمِعَ الفصيحَ وجمَع الغريبَ، حتى نبغَ في اللغة فأصبح عَلَمَها المشهورَ، وعنه أخذ سيبويهِ، انكَبَّ على العلم يستنبِطُ ويُعَلِّم ويؤلِّف، مع تقشُّفٍ في المعيشة وزُهدٍ، قيل: كان أوَّلًا على مذهب الخوارج الإباضيَّة، ثم رجع إلى مذهب أهل السنَّة، وهو أوَّل من ابتكر عِلمَ العَروضِ، وابتكر المُعجَمات ووضَعَ الخَطَّ على الشَّكلِ المُستعمَل، ألَّفَ في العَروض والخَطِّ والشَّكل والنَّقط والإيقاع، وأما أهمُّ مؤلَّفاته فهو كتاب "العَين" وهو معجَمٌ مُرَتَّبٌ على حسَبِ مخارجِ الحروفِ، مُبتدئا بحرفِ العين، فسُمِّي بذلك، لكنه لم يُتِمَّه، وكان سببُ موتِه أنَّه اصطدم رأسُه بساريةٍ في المسجدِ ارتَجَّ منها دماغُه، فكانت سببَ موته.
خُلِعَ المعتَزُّ والمؤيَّدُ ابنا المتوكِّل من ولاية العهد؛ وكان سببُ خَلعِهما أنَّ المنتصرَ لَمَّا استقامت له الأمور، قال أحمد بن الخصيب لوصيف بغا: إنَّا لا نأمَنُ الحَدَثانَ وأن يموتَ أميرُ المؤمنين، فيلي المعتزُّ الخلافةَ، فيُبيدُ خَضراءَنا ولا يُبقي منا باقيةً؛ والآنَ الرأيُ أن نعمل في خلعِ المعتَزِّ والمؤيَّد، فجدَّ الأتراك في ذلك، وألحُّوا على المنتصر، وقالوا نخلَعُهما من الخلافة، ونبايِعُ لابنك عبد الوهاب؛ فلم يزالوا به حتى أجابَهم، وأُحضر المعتَزُّ والمؤيَّدُ بعد أربعين يومًا من خلافةِ المنتصِر، وجُعِلا في دارٍ وأُبقِيا وأُكرِها على خَلعِ أنفُسِهما، وكتبا بذلك كتابًا، قال فيه المعتزُّ: «إنَّ أبي عقدَ البيعةَ لي بعد أخي، وكنتُ صغيرَ السِّنِّ، والآن فحيثُ تبيَّنتُ رُشدي وعَقَلتُ، علمتُ أنى لا أصلُحُ لهذا الأمرِ ولا أقومُ به، واشهدوا عليَّ أنَّني قد خلعتُ نفسي عمَّا كان رشَّحَني له أبى» وأُلزِمَ المؤيَّدُ بمثل ذلك، وأُمِرَ بالكتابِ أن يُنشَرَ في الآفاقِ ليُعلَمَ بأمرِه.