بعد انتصار العثمانيين على الصليبين في فارنا كانت رغبة الثأر تأكل قلبَ هونياد قائد الجيش الصليبي المجري، وكان يريد الانتقامَ ومحو آثار هزيمتِه وهروبه من ساحة القتالِ، لَمَّا رأى هونياد أنَّ السلطان العثماني مراد الثاني قد خلَدَ إلى الراحة تاركًا أعباء السلطنة لابنه محمد الذي كان ما يزال فتيًّا سولت لهم أنفسُهم نقضَ العهود التي كانوا قد أبرَموها مع السلطانِ مراد بزعم أنَّ هذه العهود لم تكن بإذن البابا الذي هو وكيلُ المسيح في الأرض، فنقض النصارى عهودَهم، وحشدوا الجيوشَ لمحاربة المسلمين، فقام بتجهيز الحملة الصليبية السادسة ضد العثمانيين، اشترك فيها مائةُ ألف جندي من المجر وألمانيا وبولونيا وصقلية ونابولي، وتألف الجيش من 38 كتيبة، معظمها لا تعرف لغة الأخرى. وحاصروا مدينة فارنا البلغارية الواقعة على ساحل البحر الأسود، والتي كانت قد تحرَّرت على أيدي المسلمين. لَمَّا سمع المسلمون في أدرنة بحركة الصليبيين وزحْفِهم انتابَهم الفزع والرعبَ، وبعث رجال الدولة إلى السلطان مراد يستعجلون قدومَه لمواجهة هذا الخطر، وخرج السلطان المجاهد من خلوته ليقود جيوش العثمانيين ضدَّ التحالف الصليبي، واستطاع مراد أن يتفق مع الأسطول الجنوي لينقُلَ أربعين ألفًا من الجيش العثماني من آسيا إلى أوربا تحت سمع الأسطول الصليبي وبصرِه في مقابل دينار لكلِّ جندي، وتقدَّم جيشُ الصليبين الجرار حتى صحراء كوسوفا والتقى بالجيش العثماني الذي يقوده مراد الثاني، واستمَرَّ اللقاء ثلاثة أيام، بدءا من 18 شعبان 852 (17 من أكتوبر 1448م) وفي اليوم الثالث نجح السلطان مراد في محاصرة العدو الذي أنهكَه التعبُ وضرباتُ القوات العثمانية المتتالية، وأغلق أمامه طريق العودة. عجز هونياد قائد الجيش الصليبي المجري عن المقاومة، حتى إذا حلَّ الظلام تمكن من الهرب، تاركًا خلفه 17 ألف قتيل وعشرات الآلاف من الأسرى، وأعاد هذا النصر ذكرى انتصارِ السلطان مراد الأول على لازار ملك الصربِ في هذا المكان سنة 791 (1389م) أي قبل 59 عامًا من النصر الثاني، كما قضى على آمال الأوربيين في إخراج العثمانيين من بلاد البلقان لعصورٍ طويلة.
هو علي عدنان إرتكين مندريس المعروف بعدنان مندريس رئيس وزراء تركيا، ولِدَ في مدينة أيدين سنة 1317هـ، وهو سياسيٌّ حقوقي، ورجل دولة تركي ومن دهاة الأتراك, شارك في تأسيسِ رابع حزب معارِض معتَرَف به في تركيا، كما أنه يعتبَرُ أوَّلَ رئيس وزراء منتَخَب ديمقراطيًّا في تركيا عام 1385هـ, دخل الانتخاباتِ مُرشَّحًا للحزب الديموقراطي سنة 1950م ببرنامج توقَّعَت له كلُّ الدراسات الفشَلَ المطلق، فمع أنَّه خرج من حزب أتاتورك العلماني بعد أن انشقَّ عنهم، فقد كان من ضمن تعهُّداتِه التي أطلقها للأتراك في حملته الانتخابية أنَّه إذا نجح في الانتخابات برئاسة الوزراء يتعَهَّدُ بعودة الأذان باللغة العربية، والسماح للأتراك بالحَجِّ، وإعادة إنشاء المساجد، وتدريس الدين بالمدارس، وإلغاء تدخُّل الدولة في لباس المرأة، فكانت نتيجة الانتخابات حصولَ حزب أتاتورك العلماني على 32 مقعدًا، بينما حصل حزب مندريس الديموقراطي على 318 مقعدًا! وتسَلَّم عدنان مندريس منصِبَ أوَّلِ رئيس منتخب للوزراء، وجلال بايار رئيس الحزب رئيسًا للجمهورية، وقد عمل مندريس منذ فوزِ حِزبِه في الانتخابات على استعادة هويَّة تركيا الإسلامية التي صادرها كمال أتاتورك، فشرع بتنفيذِ وُعودِه التي أعلنها أثناء العملية الانتخابية؛ فعقد أول جلسة لمجلس الوزراء في غرة رمضان تيمُّنًا بالشهر الكريم، وسَمَح بالأذان باللغة العربية، وأطلق حريةَ لباس المرأة، وحرية تدريس الدين، وبدأ بتعمير آلافِ المساجد بعد أن كانت ممنوعةً من البناء، وأخلى المساجِدَ التي كانت الحكومةُ السابقة تستعمِلُها مخازن للحبوب، وأعادها لتكونَ أماكن للعبادة، كما سمح بتعليم اللغة العربية، وقراءة القرآن الكريم وتدريسه في جميع المدارس حتى الثانوية، وأنشأ أكثَرَ من عشرين معهدًا لتخريج الوعَّاظ والخطباء وأساتذة الدين، وسمح بإصدار المجلات والكتب التي تدعو إلى التمسك بالإسلام، وتقارَبَ مع العرب ضِدَّ إسرائيل، وفرض الرقابةَ على الأدوية والبضائع التي تُصنَعُ في إسرائيل، بل طَرَد السفير الإسرائيلي سنة 1956م، فتآمر عليه الأعداءُ في الداخل والخارج، فانقلب عليه جنرالات الجيش، وتم قتله -رحمه الله- شنقًا مع اثنين من وزرائه بعد محاكمةٍ صورية!
بدَأت المطالَبةُ في باكستانَ بتَقسيم باكستانَ الشرقيةِ (بنغلادش حاليًّا) عن باكستانَ الغربيةِ (باكستان الحالية)، وكان شَيخ مُجيب الرحمن (مُيوله اشتراكيةٌ) في باكستانَ الشرقيةِ هو الداعيَ إلى هذا الانفصالِ، وكان مِن المؤيِّدين أيضًا لهذا الانفصالِ ذو الفقار علي بوتو الشِّيعي، وأيَّد الأمريكانُ هذا التَّيار بمِثل ما أيَّدوا به مُجيب الرحمن، إضافةً إلى أنَّ الرئيسَ يحيى خان الشِّيعي أوعَز للشِّيعة بتَأْييد ذي الفقارِ هذا، وكان هذا الانفصالُ لصالِح الهندِ بالدَّرجة الأولى؛ لأن باكستانَ الدَّولةُ الوحيدةُ القادرة على التَّصدِّي لها في المنطقةِ، تفجَّر العصيانَ المسلَّح في باكستانَ الشرقيةِ، وارتُكِبت أبشعُ الجرائمِ، وسُلِبت المحلاتُ التِّجارية، وحُرِّق الناسُ وهم أحياءٌ، وهُتِكت الأعراضُ! فبدَأت الحربُ الثالثةُ بين باكستانَ والهندِ على طُول الجبهات في الشَّرْق والغرب، وكانت الهندُ قد عقَدت حِلفًا مع رُوسيا؛ لضَمان عدَمِ تدخُّل الصينِ، وكان على الهندِ أن تَرمِيَ بكلِّ ثقلِها على الجبهةِ الشرقيةِ؛ لتَنْتهي منها، فدفَعت باثنتيْ عشْرةَ فرقةً من المشاةِ وعِدَّةِ ألويةٍ مِن المدرَّعات؛ لتَقتحِمَ حُدود باكستانَ الشرقيةِ، وكان عددُ الجنود يَزيد على 240 ألف جُنديٍّ، ومعهم دبَّابات رُوسية ذاتُ مدافعَ ثقيلةٍ، بالإضافة للطائراتِ الرُّوسية، وهكذا تقدَّمت الهِند في الجبْهة الشرقيةِ برًّا وبحرًا، وكان في المقابلِ الدفاعُ الباكستانيُّ يَزيد عن ثمانينَ ألف مُقاتِل بدون طيرانٍ، ومع عدَم وُصول الإمدادات وانحصارِها من أكثرَ مِن جهةٍ، اندَحَرت القوات الباكستانيةُ، ثم استسْلَمت باكستانُ الشرقيةُ، وبدَأت الإبادةُ الجماعيةُ والمذابحُ الرهيبةُ؛ فقُتِل العلماءُ والناسُ، ومَثَّلوا بالجُثَث، وأُعلِنَ عن قِيام دَولة بنغلادش، فتسلَّم رئاسةَ الدولة نصرُ الإسلام، وغدا الجيشُ الباكستاني في الجناح الشرقيِّ كلِّه أسيرًا، ووقَّع قائدُه الجنرال نيازي وَثيقةَ الاستسلام، وأعلَنَ مَندوب بنغلاديش في بَيروت جلال الدين أحمد أنَّ دَولتَه ستَقوم على أساسٍ عَلْماني، وأمَّا على الجبهة الغربيةِ فلم تَستطِع الهندُ تحقيقَ الكثيرِ، ثم خرَج قرارٌ من الجمعية العُمومية بوقْفِ إطلاق النارِ ورَغم مُوافَقة باكستانَ على القرارِ، استمرَّت الهندُ في العُدوان إلى أن توقَّف القِتالُ في 29 شوَّال 1391هـ / 17 ديسمبر 1971م.
تُعدُّ مُعاهدةُ السلامِ بين مصرَ وإسرائيلَ عام 1979 أوَّلَ خَرْقٍ عربيٍّ للموقف العربيِّ مِن إسرائيل؛ حيث تعهَّدت الدَّولتانِ بمُوجِب هذه المعاهدةِ على إنهاءِ حالة الحرْبِ وإقامة عَلاقاتٍ وُديَّةٍ بينهما؛ تَمْهيدًا للتسويةِ التي تقومُ على مَبدأ (الأرض مُقابِل السلام)؛ فتَنسحِبُ إسرائيلُ مِن سيناء التي احتلَّتْها عام 1967، مُقابلَ اعترافِ مِصرَ بإسرائيلَ، وتنصُّ المعاهدةُ على: (أنَّ حُكومتي جُمهورية مصرَ العربية ودَولة إسرائيلَ، اقتِناعًا منهما بالضرورةِ الماسَّةِ لإقامةِ سلامٍ عادلٍ وشاملٍ ودائمٍ في الشرْق الأوسَطِ، وَفقًا لقرارَيْ مجلس الأمن 242 و338، إذ تُؤكِّدانِ من جديدٍ الْتزامَهما "بإطار السلامِ في الشرق الأوسط المتَّفَق عليه في كامَب دِيفيد" المؤرَّخ في 17 سبتمبر (أيلول) 1978، وإذ تُلاحظانِ أنَّ الإطارَ المشار إليه إنما قُصِدَ به أن يكونَ أساسًا للسلامِ ليس بين مصرَ وإسرائيلَ فحسْبُ، بل أيضًا بيْن إسرائيلَ وأيِّ مِن جِيرانها العرَبِ -كلٌّ فيما يَخُصُّه على مَبدأ (الأرض مُقابِل السلامِ)- ممن يكونُ على استعدادٍ للتفاوُضِ من أجْلِ السلامِ معها على هذا الأساسِ؛ ورغبةً منهما في إنهاء حالةِ الحرْب بينهما، وإقامةِ سلامٍ تَستطيع فيه كلُّ دولةٍ في المنطقة أن تعيشَ في أمْنٍ، واقتناعًا منهما بأنَّ عقْدَ معاهدةِ سلامٍ بين مصرَ وإسرائيلَ يُعدُّ خُطوةً مُهمَّةً في طريق السلامِ الشاملِ في المنطقةِ، والتوصُّلِ إلى تَسويةٍ للنِّزاع العربي الإسرائيليِّ بكافَّة نَواحيه، وإذ تَدْعوان الأطرافَ العربيةَ الأخرى في النِّزاع إلى الاشتراكِ في عملية السلامِ مع إسرائيلَ، على أساسِ مَبادئ إطار السلامِ المشارِ إليها آنفًا، واسْتِرشادًا بها، وإذ تَرْغبان أيضًا في إنماءِ العَلاقات الوُدِّية والتعاوُن بينهما وَفقًا لِميثاقِ الأُمَم المتحدةِ، ومَبادئ القانون الدوليِّ التي تَحكُم العَلاقات الدولية في وقْتِ السِّلمِ).
وكان الموقِّعون عن الجانبِ المصري: محمَّد أنور السادات رئيسُ جمهورية مصرَ العربية. وعن الجانبِ الإسرائيليِّ: مناحيم بيغن رئيسُ الوزراء الإسرائيليُّ. وشهِدَ التوقيعَ: جيمي كارتر رئيسُ الولايات المتحدة الأميركية.
تاريخُ التوقيعِ: 26 مارس (آذار) 1979- 27 ربيع الثاني 1399هـ.
كانت بِدايَة فَتْح الأَندَلُس بأن يُولْيان حاكِم الجَزيرَة الخَضْراء غَضِبَ مِن لُذْريق (رُودْريغُو) مَلِك الأَندَلُس فاتَّفَق مع موسى بن نُصَير على أن يَدُلَّه على عَوْراتِهم ويُدْخِلَه الأَندَلُس, فكَتَب موسى إلى الوَليد يَسْتَأْذِنُه في غَزْو الأَندَلُس, فكَتَب إليه الوَليدُ: خُضْها بِالسَّرايا، ولا تُغَرِّر بالمسلمين في بِحْرٍ شَديدِ الأَهوال. فكَتَب إليه موسى: إنَّه ليس بِبَحْرٍ مُتَّسِع، وإنَّما هو خَليجٌ يَبِينُ ما وَراءَه. فكَتَب إليه الوَليدُ: أن اخْتَبِرْها بالسَّرايا، وإن كان الأَمْرُ على ما حَكَيْتَ. فبَعَث موسى رَجُلًا مِن مَوالِيه يُقالُ له طَريف بن مالِك أبو زُرْعَة في أربعمائة رَجُل ومعهم مائة فَرَسٍ، وهو أوَّلُ مَن دَخَل الأَندَلُس مِن المسلمين، فسار في أربع سَفائِن، فخَرَج في جَزيرَة بالأَندَلُس، سُمِّيَت جَزيرَة طَريف لِنُزولِه فيها، ثمَّ أَغارَ على الجَزيرَة الخَضْراء، فأَصابَ غَنيمَةً كَثيرَة، ورَجَع سالمَّا. فلمَّا رأى النَّاسُ ذلك تَسَرَّعوا إلى الغَزْو.
أرسل المهديُّ ابنَه الرشيدَ لغَزوِ الرومِ صائفة، في خمسةٍ وتسعين ألفًا وتسعمائة وثلاثة وتسعين رجلًا، ومعه الربيع، فوغل هارونُ في بلاد الروم، ولقيه عسكرُ لقيظا قومس القوامسة، فبارزه يزيدُ بن مزيد الشيباني فأثخنه يزيدُ وانهزمت الرومُ، وغلب يزيدُ على عسكَرِهم. وساروا إلى الدمستق، وهو صاحِبُ المسالح، فحمل لهم مائة ألفِ دينار وثلاثة وتسعين ألفًا وأربعمائة وخمسين دينارًا، ومن الوَرِق أحدًا وعشرين ألف ألف درهم وأربعة عشر ألفًا وثمانمائة درهم. وسار الرشيدُ حتى بلغ خليجَ القسطنطينية، وصاحبُ الروم يومئذٍ عطسة امرأة أليون، فجرى الصلحُ بينها وبين الرشيد على الفِدية، وأن تُقيمَ له الأدلَّاء والأسواقَ في الطريق، وذلك أنَّه دخل مَدخلًا ضيِّقًا مَخوفًا، فأجابته إلى ذلك، ومقدارُ الفدية سبعون ألف دينار كلَّ سنة، ورجع عنها.
هو القاسِمُ بنُ سلَّام الهروي الأزدِيُّ ولاءً، ولد بمدينة هراة سنة 157هـ, أحد أئمَّة اللُّغة والفقه والحديثِ، والقرآن والأخبار وأيَّام الناس، كان أبوه عبدًا روميًّا, فطلب أبو عبيدٍ العِلمَ وسَمِعَ الحديثَ ودرسَ الأدبَ والفقه، ثم ارتحل إلى العراقِ نحوَ سنة 176هـ، له المصنَّفات المشهورة المنَتِشرة بين الناس، حتى يقال: إنَّ الإمامَ أحمدَ كتب كتابَه الغريبَ بِيَدِه- وهو أشهر كتُبِه- قال هلالُ بن العلاء الرقي: "مَنَّ الله على المسلمينَ بهؤلاء الأربعة: الشافعيُّ، تفَقَّه في الفقه والحديث، وأحمدُ بن حنبل في المحنة، ويحيى بن مَعينٍ في نفي الكَذِب، وأبو عُبَيد في تفسيرِ غَريبِ الحديثِ، ولولا ذلك لاقتحم النَّاسُ المهالِكَ"، وكان أبو عبيدٍ قد ولد بهراة، وأقام في بغداد، ثم انتقل إلى مصر، وكانت وفاتُه بمكَّة- رحمه اللهُ تعالى، وجزاه عن الإسلام والمسلمين خيرًا.
خرج بفلسطينَ المُبرقَعُ أبو حربٍ اليمانيُّ الذي زعَمَ أنَّه السُّفياني، فدعا بالأمرِ بالمعروفِ والنَّهيِ عن المنكرِ أولًا، إلى أن قَوِيَت شَوكتُه، فادعى النبوَّةَ. وكان سببُ خُروجِه أن جنديًّا أراد النزولَ في داره، فمنَعَتْه زوجتُه، فضَرَبها الجنديُّ بسوطٍ فأثَّرَ في ذراعها، فلما جاء المُبرقَعُ شكَت إليه، فذهب إلى الجنديِّ فقَتَله وهَرَب، ولَبِسَ بُرقعًا لئلَّا يُعرَف، ونزل جبالَ الغَور مُبرقَعًا، وحَثَّ الناسَ على الأمرِ بالمعروف والنهيِ عن المنكر، فاستجاب له قومٌ مِن فلَّاحي القُرى، وقَوِيَ أمرُه، فسار لحَربِه رجاءُ الحضاريُّ- أحدُ قُوَّاد المعتَصِم- في ألفِ فارسٍ، وأتاه فوجَده في مائةِ ألفٍ، فعسكر بإزائِه ولم يجسِرْ على لقائِه. فلمَّا كان أوانُ الزِّراعةِ تفَرَّقَ أكثَرُ أصحابِه في فلاحتِهم وبَقِيَ في نحو الألفينِ، فواقعه عند ذلك رجاءُ الحضاريُّ المذكور، وأسَرَه وحبَسَه حتى مات خنقًا في آخِرِ هذه السَّنةِ.
عقد الخليفةُ المعتمِدُ لأخيه الموفَّق أبي أحمد ومفلح لقتال الزنج، فلما سارا إلى البصرة واجههم علي بن أبان المهلبي فجرى القتالُ بينهما، وكان نتيجته مقتل مفلح وكثيرٍ من أصحابه، ثمَّ إنَّ يحيى بن محمد البحراني- وهو من طرف الزنج- سار نحو نهر العباس فلَقِيَه عسكرُ أصعجور، عامل الأهواز بعد منصور، وقاتلهم، وكان أكثَرَ منهم عددًا، فنال ذلك العسكر من الزنج بالنشاب، وجرحوهم، فعبَرَ يحيى النهرَ إليهم، فانحازوا عنه، وغَنِم سفنًا كانت مع العسكر، فيها الميرةُ، وساروا بها إلى عسكر صاحب الزِّنج على غير الوجه الذي فيه علي بن أبان، لتحاسُدٍ كان بينه وبين يحيى، فلقيهم جيش الموفَّق ورشقوهم بالنشاب، فأصابوا يحيى الذي حاول الهرب، ولكنه قُبِضَ عليه وسُيِّرَ إلى سامرَّا فقُطِعَت يده ورِجلُه من خِلافٍ ثمَّ ذُبِح، ورجع جيشُ الموفَّق لوباءٍ حلَّ بالجند بالإضافة لحريقٍ حصل للجيش.
هو أبو عبدالله محمد بن أحمد بن الأغلب، صاحبُ إفريقيَّة، المعروفُ بأبي الغرانيق؛ بسبب اهتمامه بصيد طيور الغرانيق، وُلد عام 237هـ، وكانت ولايته عشرَ سنين وخمسة أشهر وستة عشر يومًا من 250ه إلى 261هـ، كان عهدُه هادئًا زاهرًا, تمَّ في عهده تشييدُ سلسلةٍ من الحصون والمحارس الساحلية، غيرَ أنَّ الأغالبة مُنُوا بهزائمَ في عهده بجزيرة صقلية, وكانت إفريقيةُ في عهد أبي الغرانيق مزدهرةً تعيش نهضةً كاملة، وكانت خزائنُ الأمير عامرةً، وقد كان أبو الغرانيق عادلًا طيبًا نحو رعاياه, فكان غايةً في الجود، مسرفًا في العطاء، حسَنَ السيرة في الرعيَّة، رفيقًا بهم، غيرَ أنه عاش حياةَ عبث ولهو, ولَمَّا حضره الموت عقدَ لابنِه عِقالٍ العَهدَ، واستخلف أخاه إبراهيم لئلَّا ينازِعَه، وأشهَدَ عليه آل الأغلب ومشايخَ القيروان، وأمره أن يتولى الأمرَ إلى أن يكبَرَ ولَدُه.
هو أبو إبراهيمَ إسماعيلُ بن يحيى بن إسماعيل بن عمرو بن مسلمٍ المُزِني المصري، وُلِدَ بالفُسطاط في مصر في سنة 175ه. صاحِبُ الشافعيِّ، تفَقَّه عليه بمصرَ، ويعَدُّ من أئمَّة الحديث والفقه، كان من المقَدَّمين من أصحاب الشافعي وأعرَفِهم بمذهبه، حتى قال الشافعي: "المُزنيُّ ناصِرُ مذهبي"، ألَّفَ كتُبًا تُعتبَرُ مدارَ المذهب الشافعي، منها الجامع الصغير، ومختصر المختصر، والمنثور، والمسائل المعتبَرة، والترغيب في العِلم، وكتاب الوثائق، وغير ذلك، وكان إذا فرغَ مِن مسألة وأودعها مختَصرَه قام إلى المحرابِ وصلَّى ركعتين شكرًا لله تعالى, وقد امتلأت البلادُ بـ (مُختَصَره) في الفقه، وشرَحَه عِدَّةٌ مِن الكبارِ، وبلغ من انتشارِه أنَّ البِكرَ كان يكونُ في جَهازِها نُسخةٌ مِن مُختَصَر المُزنيِّ، كانت له عبادةٌ وفَضلٌ، وهو ثِقةٌ في الحديثِ، لا يُختَلَف فيه, حاذِقٌ من أهل الفقه، كان زاهدًا مجتهدًا، له مناظراتٌ، وكان قويَّ الحُجَّة، توفِّي بمصرَ.
خرج المعتضِدُ إلى المَوصِل، قاصدًا حَمدانَ بنَ حمدون التغلبيَّ؛ لأنَّه بلغه أنَّ حَمدانَ التَّغلِبيَّ مال إلى هارون الشاري الخارجي، ودعا له، فلمَّا بلغ الأعرابَ والأكرادَ مَسيرُ المعتَضِد تحالَفوا أنَّهم يُقاتِلونَ على دمٍ واحد، واجتمعوا وعَبَّوا عسكرَهم، وسار المعتضِدُ إليهم في خَيلِه، فأوقع بهم، وقتل منهم، وغرِقَ منهم في الزابِ خَلقٌ كثير. ثم تابع المعتَضِدُ سَيرَه إلى الموصل يريد قلعةَ ماردين، وكانت لحمدانَ بنِ حمدون، فهرب حمدانُ منها وخَلَّفَ ابنَه بها فنازلها المعتَضِد، وقاتل مَن فيها يومَه ذلك، فلما كان من الغدِ ركبَ المعتَضِدُ فصَعِد إلى باب القلعة، وصاح: يا ابنَ حَمدانَ, فأجابه، فقال له: افتَحِ الباب، ففَتَحه، فقعد المعتَضِدُ في الباب، وأمر بنقلِ ما في القلعةِ وهَدمِها، ثم وجه خلفَ ابنِ حمدون، وطُلِبَ أشدَّ الطَّلَبِ، وأُخِذَت أموالٌ له، ثم ظفرَ به المعتَضِد بعد عودتِه إلى بغدادَ.
سيَّرَ المهديُّ العُبَيديُّ- صاحب إفريقيَّة- ابنَه أبا القاسم من المهديَّة إلى المغرب في جيشٍ كثير، في صفر؛ لسبب محمَّد بن خرز الزناتيِّ، وذلك أنَّه ظفِرَ بعسكر من كتامة، فقتل منهم خلقًا كثيرًا، فعَظُم ذلك على المهديِّ، فسيَّرَ ولده، فلمَّا خرج تفرَّقَ الأعداءُ، وسار حتَّى وصل إلى ما وراء تاهَرت، فلمَّا عاد من سفرتِه هذه خطَّ برُمحِه في الأرض صفةَ مدينةٍ، وسمَّاها المحمَّدية، وهي المسيلة، وكانت خطَّته لبني كملان، فأخرجهم منها، ونقَلَهم إلى فَحص القَيروان، كالمتوقِّع منهم أمرًا؛ فلذلك أحب أن يكونوا قريبًا منه، وهم كانوا أصحابَ أبي يزيد الخارجيِّ، وانتقل خلقٌ كثير إلى المحمَّديَّة، وأمر عامِلَها أن يُكثِرَ من الطَّعامِ ويَخزِنَه ويحتفِظَ به ففعل ذلك، فلم يزَلْ مُخَزَّنًا إلى أن خرج أبو يزيدَ ولقيه المنصور، ومن المحمَّديَّة كان يمتارُ ما يريد؛ إذ ليس بالموضِعِ مدينةٌ سواها.
لَمَّا وزَر أبو عليِّ بنُ مقلة بسعايةِ نصر الحاجب أبي عبدالله بن البريدي وبذل له عشرينَ ألف دينار على ذلك، فقلَّدَ أبا عبد اللهِ بنَ البريديِّ الأهوازَ جميعَها، سوى السُّوسِ وجُنْدَيسابور، وقلَّدَ أخاه أبا الحُسَين الفراتيَّة، وقلَّدَ أخاهما أبا يوسف الخاصَّةَ والأسافل، على أن يكون المالُ في ذمَّةِ أبي أيُّوب السمسار إلى أن يتصرَّفوا في الأعمال، وكتب أبو عليِّ بنُ مقلة إلى أبي عبد الله في القبضِ على ابن أبي السلاسل، فسار بنَفسِه فقَبَضَ عليه بتُستَر، وأخذ منه عشرةَ آلاف دينار ولم يوصِلْها، وكان أبو عبد الله متهوِّرًا لا يفكِّرُ في عاقبةِ أمْرِه؛ لِما يتَّصِفُ به من المَكرِ والدَّهاءِ وقِلَّة الدين، ثمَّ إنَّ أبا عليِّ بن مقلة جعل أبا محمَّد الحسين بن أحمد الماذرائي مُشرفًا على أبي عبدالله بن البريدي، فلم يلتفِتْ إليه.
أنفذ أبو عبدالله البريدي جيشًا من البصرةِ إلى مذار، فأنفذ بجكم جيشًا إليهم، وعليهم توزون، فاقتتلوا قتالًا شديدًا، فكتب توزون إلى بجكم يطلُبُ أن يلحَقَ به، فسار بجكم إليهم من واسط، منتصَفَ رجبٍ، فلَقِيَه كتاب توزون بأنَّه ظفِرَ بهم وهزمهم، فأراد بجكم الرجوعَ إلى واسط، فأشار عليه بعضُ أصحابه بأن يتصَيَّد، فقَبِلَ منه، وتصيَّدَ حتى بلغ نهر جور، فسَمِعَ أنَّ هناك أكرادًا لهم مالٌ وثروةٌ، فشَرِهَت نفسُه إلى أخذه، فقَصَدَهم في قِلَّةٍ من أصحابه، فهرب الأكرادُ من بين يديه، ورمى هو أحدَهم فلم يصِبْه، فرمى آخَرَ فأخطأه أيضًا، وكان لا يخيبُ سَهمُه، فأتاه غلامٌ من الأكراد مِن خَلفِه وطَعَنَه في خاصرته، وهو لا يعرِفُه، فقتله، وذلك لأربعٍ بَقِينَ من رجب، واختلف عسكرُه، فمضى الديلم منهم خاصةً نحو البريدي، وكانوا ألفًا وخمسمائة، فأحسَنَ إليهم، وزاد أرزاقهم، وأوصلها إليهم دفعةً واحدة.