هو الإمامُ العلَّامةُ الحافِظُ الفقيهُ، شيخ الحنابلةِ وعالِمُهم، أبو بكر أحمدُ بنُ محمَّد بن هارون بن يزيد البغدادي المعروفُ بالخَلَّال. ولِدَ سنة 234، أو في التي تليها، ويجوز أن يكون رأى الإمامَ أحمد، ولكنَّه أخذ الفقهَ عن خلقٍ كثيرٍ مِن أصحابه، رحل إلى فارس وإلى الشَّام والجزيرةِ يتطلَّبُ فِقهَ الإمامِ أحمدَ وفتاويَه وأجوبتَه، وكتب عن الكِبارِ والصِّغارِ، حتى كتب عن تلامذتِه، ثمَّ إنَّه صَنَّف كتابَ "الجامِع في الفقه" من كلام الإمام. قال الخطيب: "جمعَ الخَلَّالُ علومَ أحمدَ وتطَلَّبَها، وسافر لأجلِها، وكَتَبَها، وصنَّفَها كُتبًا، لم يكن فيمن ينتحِلُ مذهب أحمد أحدٌ أجمَعُ لذلك منه". له التصانيفُ الدائرة والكتُب السائرة، من ذلك الجامِعُ، والعِلَل، والسُّنَّة، والعِلم، والطبقات، وتفسير الغريب، والأدب، وأخلاق أحمد، وغير ذلك. سمع مِن الحسَنِ بنِ عَرَفةَ، وسعدانَ بنِ نصر، ومحمد بن عوف الحمصي وطبقته، وصحِبَ أبا بكر المروذي إلى أن مات، وسمع جماعةً من أصحاب الإمام أحمد، منهم صالح وعبدالله ابناه، وإبراهيم الحربي، والميموني، وبدر المغازلي، وأبو يحيى الناقد، وحنبل، والقاضي البرني، وحرب الكرماني، وأبو زرعة، وخَلقٌ سواهم سمع منهم مسائِلَ أحمدَ، ورحل إلى أقاصي البلاد في جَمعِها وسماعِها ممَّن سَمِعَها من الإمامِ أحمد وممن سَمِعَها ممَّن سَمِعَها منه، وشَهِدَ له شيوخُ المذهبِ بالفَضلِ والتقَدُّم، حدَّث عنه جماعةٌ منهم أبو بكر عبدالعزيز، ومحمد بن المظفر، ومحمد بن يوسف الصيرفي، وكانت له حلقة بجامع المهدي، ومات يوم الجمعة لليلتين خلتا من شهر ربيعٍ الآخر.
لما رأى أهل المغرب ما وقع بين السلطان أبي العباس أحمد الوطاسي صاحب فاس وأبي العباس أحمد السعدي المعروف بالأعرج صاحب مراكش من الاقتتال على الملك، والتهالك عليه، وفناء الخلق بينهم- دخلوا في الصلح بينهم والتراضي على قسمة البلاد، وحضر لذلك جماعةٌ من العلماء والصلحاء، منهم أبو حفص عمر الخطاب، وأبو الرواين المحجوب، وكان صاحب حالٍ وجذبٍ، فجعل الناس يوصونه بالسكوت مخافةَ أن يُفسِدَ عليهم أمرَهم، فلما دخلوا على أبي العباس الأعرج السعدي وأخيه ووزيره محمد الشيخ وتكلموا فيما جاؤوا لأجله، وجدوا فيهما شدةً وغلظة وامتناعًا من مساعدتهم على ما أرادوا، فحلف أبو حفص الخطاب لا دخلوها يعني فاسًا ما دمتُ على وجه الأرض فما دخلها السعديون حتى مات بعد مدة, وقد أُبرِمَ الصلح بين الطائفتين على أنَّ للسعديين من تادلا إلى السوس، ولبني وطاس من تادلا إلى المغرب الأوسط، وإن ممن حضر الصلح قاضيَ الجماعة بفاس أبا الحسن علي بن هارون المطغري، والإمامَ الشهير أبا مالك عبد الواحد بن أحمد الوانشريسي وغيرهما من مشايخ فاس, ولما تواطأت كلمةُ الحاضرين على الصلح وعقدوا شروطه وهدأت الأصوات وسكن اللجاج، أُتى بدواة وقرطاس ليكتب الصلح, فوضعت الدواةُ بين يدي أحد الفقهاء الحاضرين فوجم وانقبض ودفعَها عن نفسه استحياءً في ذلك المحفل أن يكتُب, فأنشأ أبو مالك الوانشريسي في الحين خطبةً بليغة ونسج الصلحَ على منوال عجيب، واخترع أسلوبًا غريبًا تحير فيه الحاضرون، وعجبوا من ثبات جأشه وجموم قريحته في مثل ذلك المشهد العظيم الذي تخرس فيه ألسن الفصحاء هيبةً وإكبارًا! فقام قاضي الجماعة وقبَّله بين عينيه، وقال: جزاك الله عن المسلمين خيرًا.
غزا الإمامُ عبد العزيز بن محمد بن سعود الرياضَ في صفَر, فنازل أهلَها أيامًا عديدة وضيَّق عليهم واستولى على بعضِ برودِها وهدم أكثَرَها وهدم المرقابَ، وحصل بينهم قتالٌ قُتِل فيه عددٌ من أهل الرياض، وكانت هذه الغزوةُ. يقول ابن بشر: "بعد هذه الوقعة دخل قلبَ دهام الرعبُ والخجَلُ، ودخله الخوفُ والوجَلُ، فلم تستقرَّ له عينٌ, وقام يحاول الانهزامَ، وجمع رؤساءَ بلَدِه وأخبَرَهم بحقيقة مقصِدِه وأنه ملئَ خوفًا ورعبًا، فصاحوا عليه بأجمَعِهم وقالوا: خذ منا العهدَ والميثاقَ، فقال لهم: دعوني، فليست هذه البلدُ لي وطنًا، ولا أجد لي بها أنسًا ولا سكنًا" فلما انتصف ربيع الثاني من هذا العام سار عبد العزيز للمرَّةِ الثانية في هذا العام لغزوِ الرياضِ، فلمَّا قَرُب منها جاءه البشير بأنَّ ابنَ دواس قد هرب من الرياض، فحَثَّ عبد العزيز السيرَ إليها فدخلها بعد أن ألقى اللهُ في قلب دهام الرعبَ، فخرج منها هو ونساؤه وعياله وأعوانه. يصف ابنُ بشر خروجَ ابن دواس من الرياض ودخولَ الإمام عبد العزيز بن محمد بقوله: "وهذا شيء حدث، فإنَّه ما خاف من أهل بلدِه خيانةً، بل كلُّهم صادقون معه، ولا حصل عليه تضييقٌ يُلجِئه إلى ذلك، والحرب بينه وبين المسلمين له وعليه، ولكنَّ الله سبحانه جعلها آيةً لِمن افتكر، وعبرةً لمن اعتبر. قيل إنه انتفخ سَحرُه وطاش قلبُه ولبُّه، فقام فزعًا مرعوبًا وركب خيلَه وركابَه، فلما ظهر من القصر، قال: يا أهل الرياض، هذا لي مدة سنين أحارب ابنَ سعود، والآن سئمت من الحرب، فمن أراد أن يتبعني فليفعَلْ, ففَرَّ أهل الرياض في ساقتِه الرجال والنساء، هربوا على وجوههم إلى البَرِّ، وقصدوا الخرجَ، وهلك منهم خلقٌ كثير عطشًا وجوعًا.. والرجل من أهل الرياض يأخذُ الغرب- نوع من الدلو كبير-يجعل فيه ماء ويحمله على ظهرِه، والغرب لا يمسِكُ الماء، والإبل عنده لا يركَبُها، وتركوها خاويةً على عروشها: الطعام واللحم في القدور، والسواني في المناحي، والأبواب لم تغلق, وفي البلدِ مِن الأموال ما يعجِزُ عنه الحصر, فلما دخل عبد العزيز الرياضَ نادى فيها بالأمانِ، فرجع كثيرٌ منهم وسكنوها، وحاز عبد العزيز ما فيها من أموالِ الهاربين من السلاحِ والطعام والأمتعة وغير ذلك، ومات ممَّن مع دهام في هزيمتِه أربعمائة.. وقد أقام هذه الحرب سبعة وعشرين سنة، وذكر لي أنَّ القتلى في هذه المدة نحو أربعة آلاف رجل: من أهل الرياض ألفان وثلاثمائة, ومن المسلمين ألف وسبعمائة". وقد ترتَّب على خروج دهام بن دواس نهائيًّا من الرياض منهزمًا, وقُضِيَ على أعتى خصوم الدعوة في نجدٍ, ودخول الرياض تحتَ حُكمِ دولة الدرعية.
بعد أن استطاع الشيخُ مبارك آل الصباح الاستيلاءَ على حُكمِ الكويت أبقى العلمَ العُثمانيَّ مرفوعًا في الكويت ليخَفِّفَ نقمةَ النَّاسِ عليه من قَتلِه لأخويه محمد وجراح ليستفردَ بالحكم، ومن جانبِ الدولة العثمانية فإنها لم تكنْ واثقةً به، ومنعًا لاعتراف أيِّ دولة باستقلاله عيَّنَتْه قائمقام في الكويت، أمَّا البريطانيون فكانوا يتخوَّفون من أمرين: من الحكومة العثمانية التي بدأت تعَزِّزُ قواتها في البصرة، وبدأت نواياها تتَّجِهُ إلى ضمِّ الكويت رسميًّا لها، وعدم تركها على وَضعِها، ومن طرفٍ آخَرَ تتخَوَّف من روسيا التي باتت تزاحمُها على الخليج العربي بالتقرُّبِ من الكويت لأخذِ الامتيازات وإنشاء محطاتٍ للفحم في الموانئ، فحاولت بريطانيا عن طريقِ المقيم البريطاني عقدَ اتفاقية مع مبارك الصباح، فتَمَّ إبرام اتفاقية مضمونُها عدم استقبال مبارك لأيِّ مبعوث دولة أجنبية، وتمت هذه الاتفاقيَّةُ بسريَّةٍ تامَّةٍ، وحاولت بريطانيا أيضًا أن تزيدَ عدد السفن البحرية الحربية بحُجَّةِ حماية الخليج العربي أمام الكويتِ، وحاول العثمانيون أن يتولَّوا بأنفُسِهم إدارة ميناء الكويت، ورفض ذلك مبارك فأرسل العثمانيون قوةً عسكريةً بحجَّةِ إقامة دارٍ للجمارك ومَدِّ خطٍّ للتلغراف، وفي الوقت نفسه قام البريطانيون بإعلامِ العثمانيين بأنَّ الكويتَ له استقلالُه، وأنَّ الأمور ستُصبِحُ خطيرةً إذا ما قام العثمانيون بإنشاءِ دار الجمارك في الكويت دون موافقةِ بريطانيا، وأصدر البريطانيون أوامِرَهم للمقيم البريطاني في الخليجِ العربي بالضغطِ على مبارك وتهديدِه حتى لا يتصَرَّفَ دون استشارةِ حكومة الهند، ثم إنَّ محاولات الدولة العثمانية لفَرضِ سُلطتِها على الكويت جَعَلت مباركًا يتصل بقائِدِ السفينة البريطانية سفنكس طالبًا منه إعلان الحكومة البريطانية بتجديدِ الحمايةِ الدائمةِ على الكويت، ورفضت بريطانيا ذلك أولًا، ثم استاء البابُ العالي من مبارك، فأصدر مرسومًا بنفيه من الكويت، ولكِنَّه استنجد بالسفُنِ البريطانية ليخَلِّصوه من هذا المرسوم، وبعد أن قام كرزن برحلةٍ إلى الخليج العربي والتي أدَّت إلى تركيز النفوذ البريطاني في الخليجِ بعد مناقشةٍ قوية مع الدولة العثمانية، تمَّ إعلانُ الحمايةِ البريطانية للكويت والتي أصبحت الكويت بموجِبِه منطقةَ نفوذٍ بريطانية، وتم تعيينُ ممَثِّل سياسي فيها، هو الضابط نوكس.
كانت الأرطاوية أول هجرة نشأت في نجد سنة 1329هـ حيث تولى رئاستها زعيم مطير فيصل الدويش , والتي تقع في الطريق بين الكويت والقصيم بقرب الزلفي ثم بعده نشأت هجرة الغطغط والتي تقع جنوب غربي الرياض حيث سكنها جزء من عتيبة تحت قيادة سلطان بن بجاد , ثم تتابع نشوء الهجر التي استوطنتها قبائل الجزيرة العربية بتشجيع ودعم الملك عبدالعزيز لها حيث وفر لهم المياه بحفر الآبار وبناء المساجد وتوفير المؤن الغذائية لهم والأعلاف لدوابهم كما أرسال إليهم العلماء وطلبة العلم يعلمونهم الدين وذلك لتحقيق عدة أغراض : منها الحد من تمرد هذه القبائل على سلطان الملك عبدالعزيز, واستثمار قوتهم العسكرية في إتمام توحيد الجزيرة العربية وقد بلغ عدد الهجر حوالي 200 هجرة ممتد في جميع أطراف ووسط الجزيرة العربية , ويبدوا أن بداية نشأة الهجر كحركة عسكرية أحيطت بشيء من الكتمان حتى أن جميع الرحالة الأجانب الذين كانوا يجوبون أرجاء جزيرة العرب من عام 1912م لم يلفت نظرهم في هذه الهجر أي حراك يدل على أنها تمثل ثكنات عسكرية سيكون لها شأن في تقرير عدد من التحولات السياسية على الرغم أن هؤلاء الرحالة كان من أهم مهامهم رصد أي نمو لقوة عسكرية أو تحركات جديدة في المنطقة . غيرَ أنَّ هذه الهجَر أورثت الملِكَ عبدالعزيز مشكلةَ تمويلها ماديًّا؛ فبعد أن باع أولئك الباديةُ جمالَهم وصاروا يتعصَّبونَ بالعِصابة البيضاءِ وأقاموا في الهجَر لا يعمَلونَ شَيئًا في أيامِ السِّلمِ؛ أصبحوا عالةً على الملك عبد العزيز, فأرسل لهم العُلَماءَ والوعَّاظَ يُعَلِّمونهم العِلمَ الشَّرعيَّ والتاريخ وسِيَرَ السَّلَفِ، ويرغِّبونَهم في العمَلِ. وكانت أول مشاركة عسكرية للإخوان مع الملك عبدالعزيز في معركة جراب 1914م ولكنهم ظهروا كقوة ضاربة بجانب الملك عبدالعزيز في معركة تربة 1919م حيث قلبوا موازين القوى داخل الجزيرة العربية لصالح الملك عبدالعزيز ضد خصومة لذلك كان للإخوان دور واضح في ضم كل من حائل وعسير والحجاز، واستمر الإخوان مصدر قوة للملك عبدالعزيز إلى أن حدث الخلاف معهم حول عدد من القضايا العصرية التي أدت إلى نهايتهم في معركة السبلة.
الحربُ السُّوفيتية في أفغانستانَ، أو الغزوُ السُّوفيتيُّ لأفغانستانَ؛ هو اسمٌ يُطلَق على حرْبٍ دامتْ عشْرَ سنواتٍ، كان هَدَف السُّوفيت المعلَنُ دعْمَ الحكومة الأفغانيةِ الصَّديقة للاتِّحاد السُّوفيتيِّ، والتي كانت تُعاني مِن هَجَمات الثوَّار المعارضِينَ للسُّوفيت، والذين حَصَلوا على دَعْمٍ مِن مجموعةٍ من الدول المناوئةِ للاتحادِ السُّوفيتي، مِن ضِمْنها الولاياتُ المتحدة الأمريكيةُ، والسُّعودية، وباكستانُ، والصِّين. أدخَلَ السُّوفيت قوَّاته في 25 ديسمبر 1979، وقد بدَأَ التدخل الرُّوسي -أو الاحتلال الرُّوسي- مع الرئيس الجديد بابرك كارمل الذي ما كان سِوى دُميةً يُحرِّكها الروسُ، بينما هم يَصُولون ويَجُولون في أفغانستان كما يَشاؤون.
دخَلَ كارمل أفغانستانَ مع القوات الرُّوسية على متن دبَّابة رُوسية من نوع (تي 72)، وكانوا قد سَبَقوه وهو ما يَزال في مُوسكو يُذِيع بَياناتِه على الشعبِ الأفغاني، فاجتازوا نهْرَ جَيحون ممارسينَ الإرهابَ بكلِّ صُوره وأشكالِه، ثم بدَأَ النقلُ الجويُّ الضخم؛ حيث وصَلَ أكثرُ من 300 طائرةِ نقْلٍ ضخمةٍ لنقْلِ الجنود والعَتادِ والمؤنِ إلى كابُلَ، وهاجمت القواتُ الرُّوسية قصرَ الأمانِ ومحطةَ الإذاعةِ، كما جرَّدت وَحدات الجيشِ الأفغاني من سِلاحِها، ثم تَلا ذلك إرسالُ الجيشِ الأربعين الرُّوسي، فتوزَّعت قوَّاته على العواصم الإقليميةِ، ثم نُوقِش مَوضوعُ هذا التدخُّل في هيئة الأُمَمِ، مع المطالَبةِ بالانسحابِ الفوريِّ وغيرِ المشروط، ولكنْ دُون جَدْوى؛ فكالعادةِ عندما يكونُ الأمرُ متعلِّقًا بدولةٍ إسلامية لا يُحرِّكون ساكنًا! واسْتنكَرَت الدولُ الإسلامية هذا التدخُّل السافرَ، ولكنَّ القوَّات الروسيةَ تابعَت تَزايُدَها، فوصَلَ عددُها إلى 75 ألفًا، وأخذَتْ تَستعمِل الغازاتِ السامةَ ضدَّ المجاهدين، وحتى ضدَّ السُّكَّان المحلِّيين، فكَثُرَ اللاجِئون إلى باكستانَ، ولم يَنْقَضِ عام 1400هـ حتى كان عددُ الضحايا المسلمينَ مليونَ شخصٍ، ثم وصَل عددُ القواتِ الروسيةِ بعدَ سنتينِ إلى 150 ألفًا، وتمَّ عقْدُ اتفاقيةٍ مع كابُلَ مُدَّتها خمسُ سنواتٍ، تعهَّدَت فيها موسكو بتأمينِ الخُبراءِ والمعدَّاتِ والتدريبِ؛ حيث لم تَنسحبِ القواتُ السُّوفيتيةُ التي بلَغ عددُها في أفغانستانَ 110 آلاف جُنديٍّ، إلا بمُوجِب اتفاقِ جِنيف الذي وُقِّع في 14 إبريل 1988م، وفي 15 فِبراير 1989م انسحَبَت كافَّة قُوَّات الرُّوس بعد أنْ فَقَدوا 15 ألفَ جُنديٍّ.
هو عبدُ الملك بن مَرْوان بن الحَكَم بن أبي العاصِ بن أُمَيَّة، أبو الوَليد الأُمَويُّ أَميرُ المؤمنين، وُلِدَ سنة سِتٍّ وعشرين بالمدينة, شَهِدَ الدَّارَ –يعني يومَ مَقْتَل عُثمان-مع أبيه، وله عَشْرُ سِنين، وهو أوَّلُ مَن سَارَ بالنَّاس في بِلاد الرُّوم سنة ثنتين وأربعين، وكان أَميرًا على أهلِ المدينة وله سِتَّ عَشرةَ سنة، وَلَّاهُ إيَّاها مُعاوِيَةُ، وكان يُجالِس الفُقَهاء والعُلَماء والعُبَّاد والصُّلَحاء, بُويِعَ بالخِلافَة في سنة خَمس وسِتِّين في حَياةِ أبيهِ، في خِلافَة ابن الزُّبير، وبَقِيَ على الشَّامِ ومِصْرَ مُدَّة سَبْعِ سِنين، وابن الزُّبير على باقي البِلاد ثمَّ اسْتَقَلَّ بالخِلافَة على سائِر البِلاد والأقاليم بعدَ مَقْتَل ابنِ الزُّبير، وقد كان عبدُ الملك قبلَ الخِلافَة مِن العُبَّاد الزُّهَّاد الفُقَهاء المُلازِمين للمَسجِد، التَّالِين للقُرآن، وكان رِبْعَةً مِن الرِّجال أَقْرَب إلى القِصَر. قال عنه نافعٌ: رَأيتُ المدينةَ وما فيها شَابٌّ أَشَدُّ تَشْميرًا، ولا أَفْقَهُ ولا أَقْرَأُ لِكِتابِ الله مِن عبدِ الملكِ بن مَرْوان. قال عبدُ الملك: كُنتُ أُجالِس بَرِيرَةَ قبلَ أن أَلِيَ هذا الأَمْرَ، فكانت تَقولُ: يا عبدَ الملك، إنَّ فِيكَ خِصالًا، وإنَّك لَجَدِيرٌ أن تَلِيَ أَمْرَ هذه الأُمَّةِ، فاحْذَر الدِّماء ; فإنِّي سَمِعْتُ رَسولَ الله صلَّى الله عليه وسلَّم يقول: ((إنَّ الرَّجُلَ لَيُدْفَع عن بابِ الجَنَّة أن يَنْظُرَ إليها على مِحْجَمَةٍ مِن دَمٍ يُريقُه مِن مُسلِم بِغيرِ حَقٍّ. كان فُقَهاء المَدينة أَربعَة: سَعيدُ بن المُسَيِّب، وعُرْوَةُ، وقَبيصَةُ بن ذُؤَيْب، وعبدُ الملك بن مَرْوان قبلَ أن يَدخُل في الإمارة. لم يَزَلْ عبدُ الملك مُقيمًا بالمدينة حتَّى كانت وَقْعَة الحَرَّةِ، واسْتَولى ابنُ الزُّبير على بِلادِ الحِجازِ، وأَجْلَى بَنِي أُمَيَّة منها، فقَدِمَ مع أَبيهِ الشَّامَ، ثمَّ لمَّا صارَت الإمارةُ مع أَبيهِ وبايَعه أهلُ الشَّام أَقامَ في الإمارةِ تَسعةَ أَشهُر، ثمَّ عَهِدَ إليه بالإمارةِ مِن بَعدِه. بُويِعَ عبدُ الملك بالخِلافَة في مُسْتَهَلِّ رَمضانَ سنة خَمسٍ وسِتِّين، واجْتَمع النَّاسُ عليه بعدَ مَقتلِ ابنِ الزُّبير سنة ثلاث وسَبعين. كان عبدُ الملك له إقْدامٌ على سَفْكِ الدِّماء، وكان عُمَّالُه على مَذهَبِه; منهم الحَجَّاجُ، والمُهَلَّبُ، وغيرُهم، وكان حازِمًا فَهِمًا فَطِنًا، سَائِسًا لِأُمُور الدُّنيا، لا يَكِلُ أَمْرَ دُنياهُ إلى غَيرِه، وكان عبدُ الملك يقول: أَخافُ المَوتَ في شَهْرِ رَمضان، فيه وُلِدْتُ وفيه فُطِمْتُ وفيه جَمَعْتُ القُرآنَ، وفيه بايَعَ لِيَ النَّاسُ، فمات في النِّصف مِن شَوَّال حين أَمِنَ الموتَ في نَفسِه. وكان عُمُرُهُ سِتِّين سنة، وقِيلَ: ثلاثًا وسِتِّين سنة. وكانت خلافَتُه مِن لَدُن قَتْلِ ابنِ الزُّبير ثلاث عَشرةَ سنةً وأربعة أَشهُر إلَّا سبع ليالٍ، وقِيلَ: وثلاثة أَشهُر وخمسة عَشرَ يومًا. ودُفن خارِجَ بابِ الجابِيَة. صلَّى عليه ابنُه الوَليدُ ووَلِيَ عَهْدَهُ مِن بَعدِه.
قام خير الدين بربروسا والي الجزائر في هذا العام بتوجيه ست وثلاثين سفينة خلال سبع رحلات إلى السواحل الإسبانية في الحوض الغربي للبحر المتوسط، وبفضل الله ثمَّ مساعدات الدولة العثمانية وموارد خزينة الجزائر المتنوِّعة من ضرائبَ وسبيٍ ومغانمَ وزكاة والعُشر والجِزية والفيء والخراج، وما يقوم به الحكَّام ورؤساء القبائل والعشائر من دفْعِ العوائد وغيرها- أصبحت دولة الجزائر لها قاعدةٌ اقتصادية قوية، لقد تضرَّرت إسبانيا من نجاح خير الدين في الشمال الإفريقي، وكانت إسبانيا يتزعَّمها شارل الخامس إمبراطور الدولة الرومانية المقدسة، والتي كانت تضم وقتذاك إسبانيا وبلجيكا وهولندا وألمانيا والنمسا وإيطاليا، وكانت الدولة الرومانية المقدَّسة تدفع عن أوروبا النصرانية الخطرَ العثماني؛ لذا يمكن القول بأن الصراع بين شارل الخامس وبين ببليربكية الجزائر كان بمثابة فتح جبهة حربية جديدة ضِدَّ الدولة العثمانية في الشمال الإفريقي.
وُلِدَ المعَلِّمُ محمَّدُ بنُ لادِن عام 1326ه الموافِق 1908م في وادي دوعن بحَضرَمَوتَ، ثمَّ هاجَرَ إلى السُّعوديَّةِ للعَمَلِ، وكان أمِّيًا لا يُجيدُ القِراءةَ والكِتابةَ، لكِنَّه ذو فِطنةٍ وذَكاءٍ، وعَزيمةٍ ومُثابَرةٍ، وقُدرةٍ على تحَمُّلِ المَسؤوليَّةِ؛ فانخَرَط في أعمالِ المُقاوَلاتِ والبِناءِ، واكتَسَب خِبراتٍ كَبيرةً، ثمَّ أنشَأَ شَرِكةً صَغيرةً في مجالِ المقاوَلاتِ، وقام ببناءِ مُنشَآتٍ حُكوميَّةٍ، حتى أصبَحَت شَرِكتُه مِن كُبرى شَرِكاتِ المَملكةِ، والتي عُرِفَت بعد ذلك بمجموعةِ (بن لادِن)، ومِن أشهَرِ مَشاريعِه التي نَفَّذَها: تَوسِعةُ الحَرَمينِ الشَّريفَينِ، وعِمارةُ مَسجِدِ قُبَّةِ الصَّخرةِ بالمسجِدِ الأقصى، وطَريقُ الهَدَا الموصِلُ بين مكَّةَ والطَّائِفِ، وعَدَدٌ مِن الأعمالِ الكَبيرةِ في شَرِكةِ أرامكو بالمَنطِقةِ الشَّرقيَّةِ وغَيرِها، توفِّيَ -رَحِمَه اللهُ- وعُمِّرَ 59 عامًا، عندما اصطَدَمت طائِرتُه المِروحيَّةُ وهو يتفَقَّدُ مَشروعَ الهَدَا.
تَولَّى حزبُ العملِ الحُكمَ في إسرائيلَ برئاسة إيهود باراك، وواصَلَت إسرائيلُ عمليةَ توَسُّعِها الاستيطانيِّ، حيث صدرت الأوامرُ بإنشاء 2600 وحدةٍ سكنيةٍ في المُستَوطَنات القائمة في الضفة الغربية وقطاع غزَّةَ، بالإضافة إلى طرح عطاءات ببناءِ 3370 وَحْدةً سكنيةً جديدةً مُوزَّعةً على العديد من المستوطناتِ بالضفة الغربية وقطاع غزَّةَ، وقد رافقت هذا المخططَ حملةٌ إعلاميةٌ ضخمةٌ؛ لتضليلِ الرأي العام العالمي، وهذه الحملة تركَّزت على إعلان باراك عن عزمه إزالة 42 موقعًا استيطانيًّا عشوائيًّا، إلَّا أنَّ المستوطنين واصَلوا عمليات الاستيلاء على الأراضي، خصوصًا مُستوطناتِ مجمع غوش قطيف، وذلك فى مخالفةٍ واضحةٍ لما جاء في مذكرة شرم الشيخ، التي وقَّعَتْها السُّلْطة الوطنية الفِلَسْطينية مع حكومة باراك بتاريخ 5/9/1999م، والتي أكَّدت التزامَ إسرائيلَ بوقف النشاطاتِ الاستيطانيةِ في الأراضي المحتلَّة.
عَبَر سَعيدُ خُذَيْنَة والي خُراسان النَّهْرَ وغَزا الصُّغْدَ، وكانوا قد نَقَضوا العَهْدَ وأعانوا التُّرْكَ على المسلمين، فقال النَّاسُ لسَعيدٍ: إنَّك قد ترَكتَ الغَزْوَ، وقد أغار التُّرْكُ، وكَفَرَ أَهلُ الصُّغْد. فقَطَع النَّهْرَ وقَصَد الصُّغْدَ، فلَقِيَه التُّرْكُ وطائِفَة مِن الصُّغْدِ فهَزَمهم المسلمون، فقال سَعيدٌ: لا تَتَّبِعوهم فإنَّ الصُّغْدَ بُستان أَميرِ المؤمنين وقد هَزَمتُموهم، أَفَتُريدون بَوارَهُم؟ وقد قاتَلْتُم يا أَهلَ العِراق الخُلَفاء غَيرَ مَرَّةٍ، فهل أَبادوكُم؟ وسار المسلمون فانْتَهوا إلى وادٍ بينهم وبين المَرَج، فقَطَعَه بَعضُهم وقد أَكْمَن لهم التُّرْكُ، فلمَّا جاءَهم المسلمون خَرجوا عليهم، فانْهزَم المسلمون حتَّى انْتَهوا إلى الوادي، فصَبَروا حتَّى انْكَشفوا لهم. وقيل: بل كان المُنْهَزِمون مَسْلَحَة المسلمين، فما شَعَروا إلَّا والتُّرْك قد خَرَجوا عليهم مِن غَيْضَةٍ وعلى الخَيْلِ شُعْبَة بن ظَهير، فأَعجَلَهم التُّرْك عن الرُّكوبِ، فقاتَلَهم شُعبةُ فقُتِلَ وقُتِلَ نَحو مِن خمسين رَجُلًا وانْهَزَم أَهلُ المَسْلَحَة، وأَتى المسلمين الخَبَرُ، فَرَكِبَ الخَليلُ بن أَوْس العَبْشَمِي -أَحَدُ بَنِي ظالِم- ونادَى: يا بَنِي تَميمٍ إِلَيَّ أنا الخَليلُ! فاجْتَمَع معه جَماعَةٌ، فحَمَل بهم على العَدُوِّ فكَفُّوهم حتَّى جاء الأَميرُ والنَّاسُ فانْهَزَم العَدُوُّ، فصار الخَليلُ على خَيْلِ بَنِي تَميمٍ حتَّى وَلِيَ نَصْرُ بن سِيار، ثمَّ صارت رِياسَتُهم لأَخيهِ الحَكَم بن أَوْسٍ، فلمَّا كان العام المُقبِل بَعَث رِجالًا مِن تَميمٍ إلى وَرَغْسَر فقالوا: لَيْتَنا نَلقَى العَدُوَّ فنُطارِدُهم. وكان سَعيد إذا بَعَث سَرِيَّةً فأصابوا أو غَنِموا وسَبَوْا رَدَّ السَّبْيَ وعاقَبَ السَّرِيَّة.
بعدَ مُرورِ عامينِ أو ثلاثةِ أَعوامٍ مِنَ الحِصارِ الظَّالمِ في شِعْبِ أبي طالبٍ نُقِضتْ الصَّحيفةُ وفُكَّ الحِصارُ؛ وذلك أنَّ قُريشًا كانوا بين راضٍ بهذا الميثاقِ وكارهٍ له، فسعى في نَقْضِ الصَّحيفةِ مَنْ كان كارهًا لها, وكان القائمُ بذلك هشامُ بنُ عَمرٍو مِن بني عامرِ بنِ لُؤَيٍّ, وكان يَصِلُ بني هاشمٍ في الشِّعْبِ مُستَخفِيًا باللَّيلِ بالطَّعامِ, فإنَّه ذهب إلى زُهيرِ بنِ أبي أُمَيَّةَ المخزوميِّ -وكانت أمُّه عاتِكَةَ بنتَ عبدِ المُطَّلبِ- وقال: يا زُهيرُ، أَرَضيتَ أنْ تَأكُلَ الطَّعامَ، وتَشربَ الشَّرابَ، وأَخوالُكَ بحيث تعلمُ؟ فقال: ويحكَ، فما أصنعُ وأنا رجلٌ واحدٌ؟ أما والله لو كان معي رجلٌ آخرُ لقمتُ في نَقضِها. قال: قد وجدتَ رجلًا. قال: فمن هو؟ قال: أنا. قال له زُهيرٌ: ابْغِنا رجلًا ثالثًا. فذهب إلى المُطْعِمِ بنِ عَدِيٍّ، فذكَّرهُ أَرحامَ بني هاشمٍ وبني المُطَّلبِ ابنيْ عبدِ مَنافٍ، ولَامَهُ على مُوافقتِهِ لِقُريشٍ على هذا الظُّلمِ، فقال المُطْعِمُ: ويحكَ، ماذا أصنعُ؟ إنَّما أنا رجلٌ واحدٌ. قال: قد وجدتَ ثانيًا. قال: من هو؟ قال: أنا. قال: ابغِنا ثالثًا. قال: قد فعلتُ. قال: من هو؟ قال: زُهيرُ بنُ أبي أُمَيَّةَ. قال: ابغِنا رابعًا. فذهب إلى أبي البَخْتريِّ بنِ هشامٍ، فقال له نحوًا ممَّا قال للمُطْعِمِ، فقال: وهل مِن أحدٍ يُعينُ على هذا؟ قال: نعم. قال: مَن هو؟ قال زُهيرُ بنُ أبي أُمَيَّةَ، والمُطْعِمُ بنُ عَدِيٍّ، وأنا معك. قال: ابغِنا خامسًا. فذهب إلى زَمعةَ بنِ الأسودِ بنِ المُطَّلبِ بنِ أسدٍ، فكلَّمهُ, وذكر له قرابتَهُم وحقَّهُم، فقال له: وهل على هذا الأمرِ الذي تُدعوني إليه مِن أحدٍ؟ قال: نعم. ثم سَمَّى له القومَ، فاجتمعوا عند الحَجُونِ، وتعاقدوا على القيامِ بنَقضِ الصَّحيفةِ، وقال زُهيرٌ: أنا أَبدأُكم فأكونُ أوَّلَ مَن يتكلَّمُ. فلمَّا أصبحوا غَدَوْا إلى أَنْدِيَتِهِم، وغدا زُهيرٌ عليه حُلَّةٌ، فطاف بالبيتِ سبعًا، ثمَّ أقبل على النَّاسِ، فقال: يا أهلَ مكَّة، أنأكلُ الطَّعامَ, ونَلبَسُ الثِّيابَ, وبنو هاشمٍ هَلْكى، لا يُباع ولا يُبتاعُ منهم؟ والله لا أقعدُ حتَّى تُشَقَّ هذه الصَّحيفةُ القاطعةُ الظَّالمةُ. قال أبو جهلٍ, وكان في ناحيةِ المسجدِ: كذبتَ، والله لا تُشَقُّ. فقال زَمعةُ بنُ الأسودِ: أنت والله أَكْذَبُ، ما رضينا كتابتَها حيث كُتِبتْ. قال أبو البَخْتريِّ: صدق زَمعةُ، لا نرضى ما كُتِبَ فيها، ولا نُقِرُّ به. قال المُطْعِمُ بنُ عَدِيٍّ: صدقتُما، وكذب مَن قال غيرَ ذلك، نبرأُ إلى الله منها وممَّا كُتِبَ فيها. وقال هشامُ بنُ عَمرٍو نحوًا من ذلك. فقال أبو جهلٍ: هذا أمر قُضِيَ بليلٍ، وتُشُووِر فيه بغيرِ هذا المكانِ. وأبو طالبٍ جالسٌ في ناحيةِ المسجدِ، إنمَّا جاءهُم لأنَّ الله كان قد أَطلعَ رسولَه صلى الله عليه وسلم على أمرِ الصَّحيفةِ، وأنَّه أرسلَ عليها الأَرَضَةَ، فأكلتْ جميعَ ما فيها من جَورٍ وقَطيعةٍ وظُلمٍ إلا ذكرَ الله عزَّ وجلَّ، فأَخبر بذلك عمَّه، فخرج إلى قُريشٍ فأخبرهم أنَّ ابنَ أخيهِ قد قال كذا وكذا، فإنْ كان كاذبًا خَلَّيْنا بينكم وبينه، وإنْ كان صادقًا رجعتُم عن قطيعتِنا وظُلمِنا. قالوا: قد أنصفتَ. وبعد أنْ دار الكلامُ بين القومِ وبين أبي جهلٍ، قام المُطعمِ إلى الصَّحيفةِ لِيَشُقَّها، فوجد الأَرَضَةَ قد أكلتْها إلَّا (باسمِك اللَّهمَّ)، وما كان فيها مِن اسمِ الله فإنَّها لم تأكلْهُ. ثم نقضَ الصَّحيفةَ وخرج رسولُ الله صلى الله عليه وسلم ومَن معه مِنَ الشِّعبِ، وقد رأى المشركون آيةً عظيمةً مِن آياتِ نُبوَّتِه، ولكنَّهم كما أخبر الله عنهم: (وَإِن يَرَوْا آيَةً يُعْرِضُوا وَيَقُولُوا سِحْرٌ مُّسْتَمِرٌّ ) أعرضوا عن هذه الآيةِ وازدادوا كُفرًا إلى كُفرهِم.
لمَّا قتل عَلِيُّ بن أبي طالِب رضي الله عنه بايَع أهلُ الكوفَة الحسنَ بن عَلِيٍّ، وأطاعوه وأحبُّوه, فاشْتَرط عليهم: إنَّكم سامِعون مُطيعون، مُسالِمون مَن سالَمْتُ، مُحارِبون مَن حارَبْتُ. فارتاب به أهلُ العِراق وقالوا: ما هذا لكم بصاحب. فما كان عن قَريب حتَّى طعنوه، فازداد لهم بُغْضًا، وازداد منهم ذُعْرًا، فعند ذلك عرَف تَفرُّقَهُم واخْتِلافَهُم عليه, وكان أهلُ العِراق أشاروا على الحسن أن يَسير إلى الشَّام لمُلاقاة مُعاوِيَة فخرج بهم، ولمَّا بلغ مُعاوِيَةَ ذلك خرَج هو أيضًا بجَيشِه وتَقارَب الجَيشان في مَسْكِن بناحِيَة الأنبارِ، لمَّا رأى الحسنُ الجيشان في مَسْكِن بناحِيَة الأنبار هالَهُ أن تكونَ مَقتلةٌ كبيرةٌ تَسيلُ فيها دِماءُ المسلمين فرَغِب في الصُّلْح، استقبل الحسنُ بن عَلِيٍّ مُعاوِيَةَ بن أبى سُفيان بكَتائِبَ أمثالِ الجِبال، قال عَمرُو بن العاص لمَّا رأى ضَخامةَ الجَيشين: إنِّي لأرى كَتائِبَ لا تُوَلِّي حتَّى تَقْتُلَ أقرانَها. فقال مُعاوِيَةُ: أي عَمرُو، إن قتَل هؤلاء هؤلاء، وهؤلاء هؤلاء، مَن لي بأُمور النَّاس؟ مَن لي بضَيْعَتِهم؟ مَن لي بِنِسائِهم؟ عرَض الحسنُ بن عَلِيٍّ على عبدِ الله بن جَعفَر أَمْرَ الصُّلْح، قال له: إنِّي قد رأيتُ رَأْيًا، وإنِّي أُحِبُّ أن تُتابِعَني عليه. قال: قلتُ: ما هو؟ قال: قد رأيتُ أن أَعْمِدَ إلى المدينة فأنزِلُها، وأُخَلِّيَ بين مُعاوِيَة وبين هذا الحديثِ، فقد طالت الفِتنَةُ، وسُفِكَتْ فيها الدِّماءُ، وقُطِّعَتْ فيها الأرحامُ، وقُطِّعَت السُّبُلُ، وعُطِّلَت الثُّغورُ. فقال ابنُ جَعفَر: جزاك الله عن أُمَّةِ محمَّد خيرًا، فأنا معك، وعلى هذا الحديثِ. فقال الحسنُ: ادْعُ لي الحُسينَ. فبعَث إلى حُسين فأتاهُ، فقال: أي أخي، إنِّي قد رأيتُ رَأْيًا، وإنِّي أُحِبُّ أن تُتابِعَني عليه. قال: ما هو؟ فقَصَّ عليه الذي قال لابنِ جَعفَر، قال الحُسينُ: أُعيذُك بالله أن تُكَذِّبَ عَلِيًّا في قَبرِه، وتُصَدِّقَ مُعاوِيَةَ!. فقال الحسنُ: والله ما أردتُ أَمْرًا قَطُّ إلَّا خالَفتَني إلى غَيرِه، والله لقد هَمَمْتُ أن أَقْذِفَكَ في بيتٍ فأُطَيِّنَهُ عليك حتَّى أقضِيَ أمري. فلمَّا رأى الحُسينُ غَضبَه قال: أَمْرُنا لأَمْرِك تَبَعٌ، فافْعَل ما بَدا لك. فقام الحسنُ فقال: يا أيُّها النَّاسُ، إنِّي كنتُ أَكْرَهَ النَّاسَ لأوَّلِ هذا الحديثِ، وأنا أَصْلحتُ آخرَه، لِذي حَقٍّ أَدَّيْتُ إليه حَقَّهُ أَحَقَّ به مِنِّي، أو حَقٌّ جُدْتُ به لصَلاحِ أُمَّةِ محمَّد صلَّى الله عليه وسلَّم، وإنَّ الله قد وَلَّاك يا مُعاوِيَة هذا الحديثَ لِخيرٍ يَعلمُه عندك، أو لِشَرٍّ يَعلمُه فيك، {وَإِنْ أَدْرِي لَعَلَّهُ فِتْنَةٌ لَكُمْ وَمَتَاعٌ إِلَى حِينٍ} [الأنبياء: 111]. وبهذا التَّنازُل تَحَقَّقَ في الحسنِ ما أَخبَر به النَّبِيُّ صلَّى الله عليه وسلَّم بقولِه: (إنَّ ابني هذا سَيِّدٌ، ولَعلَّ الله أن يُصْلِحَ به بين فِئتَين عَظيمَتين مِن المسلمين). ولمَّا تَمَّ الصُّلْحُ بشُروطِه برَز الحسنُ بين الصَّفَّيْنِ وقال: ما أَحببتُ أنَّ لي أَمْرَ أُمَّةِ محمَّد صلَّى الله عليه وسلَّم على أن يُهْراقَ في ذلك مِحْجَمَةُ دَمٍ. وكان يقول: إنِّي قد اخْتَرتُ ما عند الله، وتَركتُ هذا الأمرَ لمُعاوِيَة. وأمَّا طلبُ الحسنِ لأن تكونَ الخِلافَة له مِن بعدِه فليست صحيحة، قال جُبيرُ بن نُفيرٍ: قلتُ للحسنِ بن عَلِيٍّ: إنَّ النَّاس يَزعُمون أنَّك تُريدُ الخِلافَة. فقال: كانت جَماجِم العرب بِيَدِي يُسالِمون مَن سالمتُ، ويُحارِبون مَن حاربتُ، فتَركتُها ابتغاءَ وجهِ الله، ثمَّ أَبْتَزُّها بِأَتْياسِ أهلِ الحِجازِ!. وجاء في نَصِّ الصُّلْح في إحدى الرِّوايات: بل يكونُ الأمرُ مِن بعدِه شُورى بين المسلمين.
بعد أن منَّ الله على المسلمينَ بفتح عكا، فُتِحَت صور وحيفا وعثليث وبعض صيدا بغيرِ قِتالٍ، وفَرَّ أهلُها خوفًا على أنفُسِهم، فتسَلَّمَها الأميرُ علم الدين سنجر الشجاعي، فقَدِمَت البشائرُ بتسليم مدينة صور في التاسع عشر، وبتسليم صيدا في العشرينَ منه، وأنَّ طائفةً مِن الفرنج عصَوا في برجٍ منها، فأمر السلطانُ بهدم صور وصيدا وعثليث وحيفا، فتوجَّه الأمير شمس الدين نبا الجمقدار بن الجمقدار لهدم صور، واتفق أمرٌ عجيب، وهو أن الفرنج لَمَّا قدموا إلى صور كان بها عزُّ الدين نبا واليًا عليها من قِبَل المصريين، فباع صور للفرنجِ بمالٍ، وصار إلى دمشقَ!
بعد أن ضمَّ الملك عبدالعزيز الحجازَ عام 1344هـ رأى أنَّ من أولى الواجبات أن يعمَلَ على تأمين سلامة الحجاج، ويعيدَ ريعَ أوقاف الحرمين الموجودة في العالم الإسلامي، ويعمَلَ على تشغيل سكَّة حديد الحجاز، لكنه اصطدم بالامتيازاتِ التي يتمتَّعُ بها رعايا الدول الأوروبية، والتي حصلت عليه تلك الدولُ مِن خلال المعاهدات التي تمَّت بينها وبين الدولة العثمانية في جميعِ أراضي الدول العثمانية الواسعة، بحيث تُطَبِّقُ هذه الدول قوانينَها على مواطنيها في أراضي الدولة العثمانية، ولم يُستثْنَ الحجازُ في تلك المعاهدات على الرَّغمِ مِن خصوصيته؛ لوجود الحرمين والأماكن المقدسة، فكانت هذه المعاهداتُ تَكفُلُ للمواطن الأوروبي العادي من تلك الدولِ التمتُّعَ بامتيازاتٍ هي في الأساس تُمنَحُ للدبلوماسيين فحَسْبُ، في حين أنَّ السيادة الوطنية تتطلَّبُ خضوع الأجانب للقوانين والأنظمة السائدة في البلاد التي يقيم فيها؛ ولذلك وجدت قضيةُ الامتيازات الأجنبية في الحجاز طريقَها للعديد من القضايا المطروحة للتباحُثِ بين الطرفين الملك عبد العزيز وممثِّلي الحكومة البريطانية، وكان ممثِّلو بريطانيا قد عقدوا جلسةً في مارس 1926م أكَّدوا فيها ضرورة توطيد السلام في المنطقة، وحماية النفوذ البريطاني في سواحلها، وانتزاع اعتراف رسمي من عبد العزيز بمركز بريطانيا المتميِّز في فلسطين ومناطق الانتداب في العراق، وتأكيد التزام ابن سعود بعدمِ التدخُّل في شؤون مشيخات الخليج العربي، وأن يقَدِّمَ ضماناتٍ أكيدةً على حماية وحرية طرق الحج، وسلامة الرعايا المسلمين في أراضي الإمبراطورية البريطانية، والتعاون مع بريطانيا في محاربةِ تجارةِ الرقيق، والاعتراف من جانبه بنظام الامتيازات الأجنبية التي حصلت عليها بريطانيا من الدولة العثمانية، إلَّا أنَّ نقطة الامتيازات أثارت نقاشًا بين المسؤولين البريطانيين قبل أن يثيرها الملك عبدالعزيز معهم، فكان نائب الملك في الهند يحذِّرُ من التدخل في شؤون الأماكن المقدسة، وأن تتِمَّ المعاهدة مع ابن سعود من دونِ حاجةٍ لشروط تتعلَّقُ بالحجاز. ولَمَّا اتفقوا على التعَرُّف على موقف ابن سعود من هذه المسألة بإرسال جوردون وكيل القنصل البريطاني في جدة، ولَمَّا التقى به في وادي العقيق في خريف 1926م وعرض عليه مقترحاتِ الحكومة البريطانية الخاصة بالامتيازات الأجنبية في الحجاز رفَضَها ابنُ سعود وبشدَّةٍ، وأكَّدَ عليه أنَّ إدخال هذه القضية في المعاهدة المزمَع عَقدُها سوف يؤدِّي إلى إلحاق الضرر بالعلاقة بين البلدين، كما رفض ابنُ سعود فكرةَ تفضيل البريطانيين في الحجاز يقابِلُه تفضيل الرعايا السعوديين في بريطانيا، وأكد ابن سعود أنَّ المساواة أساسٌ بين المسلمين أثناء وجودِهم في أراضي الحجاز ونجد وما حولها, وبعد أن رفع جوردن تقريرَه عن المباحثات قرَّرت حكومته حذفَ الامتيازات من المعاهدة تمامًا، وفي فبراير 1927م تقرَّر استئنافُ المفاوضات مع الملك عبدالعزيز على أساس أنَّ بريطانيا حريصةٌ على إنجاحها والتوصُّل إلى إقامةِ علاقةٍ متينةٍ معه، وقدَّمت بعض التنازلات ضمانًا لنجاحها؛ إذ كانت قلقةً من الوجود السوفيتي في شبه الجزيرة العربية، ومِن القضايا التي تمَّ التباحثُ حولها رغبةُ بريطانيا في تسيير وإدامة المواصلات الجوية بينها وبين مملكة الحجاز ونجد؛ لأهمية ذلك في ترابُط أطراف الإمبراطورية البريطانية، وإقامة مركز وقود لتموين الطائرات في رأس السفانية، وتشييد محطتين للهبوط الاضطراري في الأحساءِ، إلا أن عبد العزيز اعترض على تشييد مطارات في تلك المنطقة تخصُّ الطيران البريطاني، كما هو الحال في صحراء العراق الجنوبية. وكان لهذه المباحثات بين الملك عبدالعزيز والبريطانيين أثرُها في صياغة معاهدة جُدة التي تم توقيعها بين الطرفين في ذي القعدة من هذا العام.