عن عائشةَ رضي الله عنها قالت: قال النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم للمُسلمين: «إنِّي أُريتُ دارَ هِجرتِكُم ذاتَ نَخلٍ بين لابَتَيْنِ». وهُما الحَرَّتانِ، فهاجر مَن هاجر قِبَلَ المدينةِ، ورجع عامَّةُ مَن كان هاجر بأرضِ الحَبشةِ إلى المدينةِ، وتَجهَّز أبو بكرٍ قِبَلَ المدينةِ، فقال له رسولُ الله صلى الله عليه وسلم: «على رِسْلِكَ، فإنِّي أرجو أن يُؤذنَ لي». فقال أبو بكرٍ: وهل ترجو ذلك بأبي أنت؟ قال: «نعم». فحبَس أبو بكرٍ نَفْسَهُ على رسولِ الله صلى الله عليه وسلم لِيصحبَهُ، وعلَف راحِلتينِ كانتا عنده وَرَقَ السَّمُرِ -وهو الخَبَطُ- أربعةَ أَشهُرٍ. قال ابنُ شهابٍ: قال عُروةُ: قالت عائشةُ: فبينما نحن يومًا جُلوسٌ في بيتِ أبي بكرٍ في نَحْرِ الظَّهيرةِ، قال قائلٌ لأبي بكرٍ: هذا رسولُ الله صلى الله عليه وسلم مُتقنِّعًا، في ساعةٍ لم يكن يأتينا فيها، فقال أبو بكرٍ: فِداءٌ له أبي وأمِّي، والله ما جاء به في هذه السَّاعةِ إلَّا أَمْرٌ، قالت: فجاء رسولُ الله صلَّى الله عليه وسلَّم فاسْتأذَن، فأُذِنَ له فدخل، فقال النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم لأبي بكرٍ: «أَخْرِجْ مَن عندك». فقال أبو بكرٍ: إنَّما هُم أَهلُك، بأبي أنت يا رسولَ الله. قال: «فإنِّي قد أُذِنَ لي في الخُروجِ». فقال أبو بكرٍ: الصُّحبة بأبي أنت يا رسولَ الله؟ قال رسولُ الله صلى الله عليه وسلم: «نعم». قال أبو بكرٍ: فَخُذْ -بأبي أنت يا رسولَ الله- إحدى راحِلَتي هاتينِ، قال رسولُ الله صلى الله عليه وسلم: «بالثَّمنِ». قالت عائشةُ: فجَهَّزناهُما أَحَثَّ الجِهازِ، وصنعنا لهُما سُفْرَةً في جِرابٍ، فقطعتْ أسماءُ بنتُ أبي بكرٍ قِطعةً مِن نِطاقِها فربطتْ به على فَمِ الجِرابِ، فبذلك سُمِّيت: ذاتَ النِّطاقينِ. قالت: ثمَّ لَحِقَ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم وأبو بكرٍ بِغارٍ في جبلِ ثَوْرٍ، فَكَمَنَا فيه ثلاثَ ليالٍ، يَبيتُ عندهما عبدُ الله بنُ أبي بكرٍ، وهو غلامُ شابٌّ، ثَقِفٌ لَقِنٌ، فَيُدْلِجُ مِن عندهِما بِسَحَرٍ، فيُصبحُ مع قُريشٍ بمكَّةَ كَبائِتٍ، فلا يسمعُ أمرًا، يُكتادانِ به إلَّا وعاهُ، حتَّى يأتيَهُما بخبرِ ذلك حين يَختلِطُ الظَّلامُ، ويَرعى عليهِما عامرُ بنُ فُهيرةَ، مولى أبي بكرٍ مِنْحَةً مِن غَنَمٍ، فيُريحُها عليهِما حين تَذهبُ ساعةٌ مِنَ العِشاءِ، فيَبيتانِ في رِسْلٍ، وهو لبنُ مِنْحَتِهِما ورَضِيفِهِما، حتَّى يَنْعِقَ بها عامرُ بنُ فُهيرةَ بِغَلَسٍ، يفعلُ ذلك في كُلِّ ليلةٍ مِن تلك اللَّيالي الثَّلاثِ، واسْتأجر رسولُ الله صلى الله عليه وسلم وأبو بكرٍ رجلًا مِن بني الدِّيلِ، وهو مِن بني عبدِ بنِ عَدِيٍّ، هادِيًا خِرِّيتًا -والخِرِّيتُ الماهرُ بالهِدايةِ- قد غَمَسَ حِلْفًا في آلِ العاصِ بنِ وائلٍ السَّهميِّ، وهو على دينِ كُفَّارِ قُريشٍ، فأَمِناهُ فدَفعا إليه راحِلَتَيْهِما، وواعَداهُ غارَ ثَوْرٍ بعدَ ثلاثِ ليالٍ، بِراحِلَتيهِما صُبْحَ ثلاثٍ، وانطلق معهما عامرُ بنُ فُهيرةَ والدَّليلُ، فأخذ بهم طريقَ السَّواحلِ. قال: سُراقةُ بنُ جُعْشُمٍ: جاءنا رُسُلُ كُفَّارِ قُريشٍ، يجعلون في رسولِ الله صلى الله عليه وسلم وأبي بكرٍ، دِيَةَ كُلِّ واحدٍ منهما، مَن قَتلهُ أو أَسَرهُ، فبينما أنا جالسٌ في مجلسٍ مِن مجالسِ قَومي بني مُدْلِجٍ، أقبل رجلٌ منهم حتَّى قام علينا ونحن جُلوسٌ، فقال يا سُراقةُ: إنِّي قد رأيتُ آنفًا أَسْوِدَةً بالسَّاحلِ، أُراها محمَّدًا وأصحابَه، قال سُراقةُ: فعرَفتُ أنَّهم هُم، فقلتُ له: إنَّهم لَيسوا بهِم، ولكنَّك رأيتَ فُلانًا وفُلانًا، انطلَقوا بِأَعْيُنِنا، ثمَّ لَبِثْتُ في المجلسِ ساعةً، ثمَّ قمتُ فدخلتُ فأمرتُ جاريتي أن تَخرُجَ بفَرسي، وهي مِن وراءِ أَكَمَةٍ، فتَحبِسَها عليَّ، وأخذتُ رُمحي، فخرجتُ به مِن ظَهرِ البيتِ، فَحَطَطْتُ بِزُجِّهِ الأرضَ، وخَفضتُ عالِيَهُ، حتَّى أتيتُ فَرسي فركِبتُها، فرفَعتُها تُقَرِّبُ بي، حتَّى دَنوتُ منهم، فعَثَرَتْ بي فَرسي، فخَررتُ عنها، فقمتُ فأَهويتُ يدي إلى كِنانتي، فاسْتخرجتُ منها الأَزلامَ فاسْتقسَمتُ بها: أَضرُّهُم أم لا، فخرج الذي أَكرهُ، فركِبتُ فَرسي، وعصيتُ الأَزلامَ، تُقَرِّبُ بي حتَّى إذا سمعتُ قِراءةَ رسولِ الله صلى الله عليه وسلم، وهو لا يَلتفتُ، وأبو بكرٍ يُكثِرُ الالتِفاتَ، ساختْ يَدا فَرسي في الأرضِ، حتَّى بَلغتا الرُّكبَتينِ، فخررتُ عنها، ثمَّ زجرتُها فنهَضتْ، فلم تكدْ تُخرِجُ يدَيها، فلمَّا استوت قائمةً إذا لِأثَرِ يدَيها عُثانٌ ساطعٌ في السَّماءِ مِثلُ الدُّخانِ، فاسْتقسَمتُ بالأَزلامِ، فخرج الذي أَكرهُ، فنادَيتُهم بالأَمانِ فوقفوا، فركِبتُ فَرسي حتَّى جِئتُهم، ووقع في نفسي حين لَقِيتُ ما لَقِيتُ مِنَ الحَبسِ عنهم أن سَيظهرُ أَمْرُ رسولِ الله صلى الله عليه وسلم، فقلتُ له: إنَّ قومَك قد جعلوا فيك الدِّيةَ، وأخبرتُهم أخبارَ ما يُريدُ النَّاسُ بهِم، وعرضتُ عليهم الزَّادَ والمتاعَ، فلم يَرْزآني ولم يَسألاني، إلَّا أن قال: «أَخْفِ عَنَّا». فسألتُه أن يَكتُبَ لي كتابَ أَمْنٍ، فأمر عامرَ بنَ فُهيرةَ فكتب في رُقعةٍ مِن أَديمٍ، ثمَّ مَضى رسولُ الله صلى الله عليه وسلم. وعن عُروةَ بنِ الزُّبيرِ: أنَّ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم لَقِيَ الزُّبيرَ في رَكْبٍ مِنَ المسلمين، كانوا تُجَّارًا قافِلين مِن الشَّأْمِ، فكَسا الزُّبيرُ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم وأبا بكرٍ ثِيابَ بَياضٍ، وسمِع المسلمون بالمدينةِ مَخرجَ رسولِ الله صلى الله عليه وسلم مِن مكَّةَ، فكانوا يَغدون كُلَّ غَداةٍ إلى الحَرَّةِ، فيَنتظِرونَهُ حتَّى يَرُدَّهُم حَرُّ الظَّهيرةِ، فانقلبوا يومًا بعد ما أطالوا انتظارَهُم، فلمَّا أَوَوْا إلى بُيوتِهم، أَوفى رجلٌ مِن يَهودَ على أُطُمٍ مِن آطامِهِم، لِأَمْرٍ يَنظرُ إليه، فبصر برسولِ الله صلى الله عليه وسلم وأصحابِه مُبَيَّضِين يَزولُ بهِم السَّرابُ، فلم يملِك اليَهوديُّ أن قال بأعلى صوتِه: يا مَعاشِرَ العربِ، هذا جَدُّكُم الذي تَنتظِرون، فثار المسلمون إلى السِّلاحِ، فتَلَقَّوْا رسولَ الله صلى الله عليه وسلم بظَهْرِ الحَرَّةِ، فعَدل بهِم ذاتَ اليمينِ، حتَّى نزل بهِم في بني عَمرِو بنِ عَوفٍ، وذلك يومَ الاثنينِ مِن شهرِ ربيعٍ الأوَّلِ، فقام أبو بكرٍ للنَّاسِ، وجلس رسولُ الله صلى الله عليه وسلم صامتًا، فطَفِقَ مَن جاء مِنَ الأنصارِ -ممَّن لم يَرَ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم- يُحَيِّي أبا بكرٍ، حتَّى أصابتِ الشَّمسُ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم، فأقبل أبو بكرٍ حتَّى ظَلَّلَ عليه بِردائِه، فعرَف النَّاسُ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم عند ذلك.
لما أُخمدت ثورات المسلمين في الأندلس بالقوة وألغي الإسلام رسميًّا في مملكة غرناطة، تعرض المسلمون لحملة شرسة لتنصيرهم بالقوة, وكان الأندلسيون على صلة وثيقة بإخوانهم في المغرب، الذين كانوا يقفون معهم في محنتهم يحاولون تثبيتهم على دينهم، ومن ذلك فتوى مفتي وهران: أحمد بن بوجمعة المغراوي، وهو أندلسي من بلدة المغرو بمقاطعة قلعة رباح، حيث أرسل لهم فتوى في غرة رجب سنة 910 (18/ 11 / 1504 م) هذا نصها: " الحمد لله والصلاة والسلام على محمد وآله وصحبه وسلم تسليمًا، إخواننا القابضين على دينهم كالقابض على الجمر، من أجزل الله ثوابَهم فيما لقُوا في ذاته، وصبروا النفوسَ والأولاد في مرضاته، الغرباء القرباء إن شاء الله، من مجاورة نبيه في الفردوس الأعلى من جناته، وارثو سبيل السلف الصالح في تحمل المشاق، وإن بلغت النفوس إلى التراقِ. نسأل الله أن يلطف بنا، وأن يعيننا وإياكم على مراعاة حقه بحسن إيمان وصدق، وأن يجعل لنا ولكم من الأمور فرجًا ومن كل ضيق مخرجًا. بعد السلام عليكم من كتابه إليكم، من عُبيد الله أصغر عبيده، وأحوجِهم إلى عفوه ومزيده، عبيد الله أحمد بن بوجمعة المغراوي ثم الوهراني، كان الله للجميع بلطفه وستره، سائلًا من إخلاصكم وغربتكم حسن الدعاء بحسن الخاتمة والنجاة من أهوال هذه الدار، والحشر مع الذين أنعم الله عليهم من الأبرار، مؤكِّدًا عليكم في ملازمة دين الإسلام، آمرين به من بلغ من أولادكم إن لم تخافوا دخول شرٍّ عليكم من إعلام عدوكم بطويَّتكم. فطوبى للغرباء الذين يَصلحون إذا فسد الناس، وإنَّ ذاكِرَ الله بين الغافلين كالحيِّ بين الموتى. فاعلموا أن الأصنام خشب منجور، وحجر جلمود لا يضر ولا ينفع، وأن المُلكَ مُلك الله، ما اتخذ الله من ولد وما كان معه من إله. فاعبدوه، واصطبروا لعبادته. فالصلاةَ ولو بالإيماء، والزكاةَ ولو كأنها هديةٌ لفقيركم أو رياء؛ لأن الله لا ينظر إلى صوركم ولكن إلى قلوبكم. والغُسلَ من الجنابة ولو عومًا في البحور. وإن مُنِعتم فالصلاةَ قضاءً بالليل لحقِّ النهار، وتسقط في الحُكم طهارةُ الماء، وعليكم بالتيمم ولو مسحًا بالأيدي للحيطانِ، فإن لم يمكن فالمشهورُ سقوط الصلاة وقضاؤها لعدم الماء والصعيد، إلَّا أن يمكنكم الإشارة إليه بالأيدي والوجه إلى تراب طاهر أو حجر أو شجر مما يتيمَّم به، فاقصدوا بالإيماء، نقله ابن ناجي في شرح الرسالة لقوله عليه السلام: "فآتوا منه ما استطعتم" وإن أكرهوكم في وقت صلاة إلى السجود للأصنام، أو حضور صلاتهم، فأحرِموا بالنيَّة وانووا صلاتَكم المشروعة، وأشيروا لِما يشيرون إليه من صنمٍ ومقصودكم الله. وإن كان لغير القبلة تسقط في حقِّكم كصلاة الخوف عند الالتحام. وإن أجبروكم على شرب الخمر، فاشربوه لا بنيَّة استعماله. وإن كلَّفوا عليكم خنزيرًا، فكلوه ناكرين إيَّاه بقلوبكم ومعتقدينَ تحريمَه. وكذا إن أكرهوكم على محرَّم. وإن زوَّجوكم بناتِهم فجائز لكونهم أهل الكتاب. وإن أكرهوكم على إنكاحِ بناتكم منهم، فاعتَقِدوا تحريمه لولا الإكراهُ، وأنكم ناكرون لذلك بقلوبكم، ولو وجدتم قوة لغيرتموه. وكذا إن أكرهوكم على رِبًا أو حرام، فافعلوا منكِرينَ بقلوبكم، ثم ليس عليكم إلا رؤوس أموالكم، وتتصدَّقون بالباقي إن تبتم لله تعالى، وإن أكرهوكم على كلمة الكفر، فإن أمكنكم التورية والإلغاز فافعلوا. وإلا فكونوا مطمئني القلوب بالإيمان إن نطقتم بها ناكرين لذلك. وإن قالوا اشتموا محمدًا، فإنهم يقولون له مَمَّد، فاشتموا ممَّدًا، ناوين أنه الشيطان، أو ممَّد اليهود فكثير بهم اسمه. وإن قالوا عيسى ابن الله، فقولوها إن أكرهوكم، وانووا إسقاط مضاف أي عبد الله مريم معبود بحق. وإن قالوا قولوا المسيح ابن الله فقولوها إكراهًا، وانووا بالإضافة للمِلْك، كبَيتِ الله لا يلزم أن يسكُنَه أو يحُلَّ به. فإن قالوا قولوا مريم زوجة له فانووا بالضمير ابن عمها الذي تزوجها في بني إسرائيل ثم فارقها قبل البناء، قاله السهيلي في تفسير المبهم من الرجال في القرآن، أو زوَّجها الله منه بقضائه وقدره. وإن قالوا عيسى توفي بالصلب، فانووا من التوفية والكمال والتشريفِ من هذه، وأمانته وصلبه وإنشاء ذِكرِه، وإظهار الثناء عليه بين الناس، وأنه استوفاه الله برفعه إلى العلو وما يعسر عليكم فابعثوا فيه إلينا نرشدكم إن شاء الله على حسب ما تكتبونَ به. وأنا أسأل الله أن يبدل الكَرَّةَ للإسلام؛ حتى تعبدوا الله ظاهرًا بحولِ الله من غير محنة ولا وَجلةٍ، بل بصدمةِ الترك الكرامِ. ونحن نشهد لكم بين يدي الله أنكم صدقتم الله ورَضِيتم به. ولا بد من جوابكم. والسلام عليكم جميعًا. بتاريخ غرة رجب سنة 910، عرف الله خيره. يصل إلى الغرباء إن شاء الله تعالى" قال الأستاذ محمد عنان: "عثرت على هذه الوثيقة خلال بحوثي في مكتبة الفاتيكان الرسولية برومة. وهى تقع ضمن مجموعة خطية من المخطوطات البورجوانية (Borgiani), وقد ورد وصف هذا المخطوط في فهرس مكتبة الفاتيكان (فهرس دللافيدا) بأنه المقدمة القرطبية. وفي صفحة عنوانه بأنه كتاب نزهة المستمعين. وتشغل هذه الوثيقة في المخطوط المشار إليه أربع صفحات (136 - 139) ومن جهة أخرى فقد عثرت بنص هذه الوثيقة مثبتًا في إحدى مخطوطات الألخميادو المحفوظة بمكتبة أكاديمية التاريخ بمدريد (مجموعة سافدرا)"
لمَّا رجَع خالدُ بنُ الوليدِ مِن هَدْمِ العُزَّى بعَثهُ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم إلى بني جَذيمَةَ داعِيًا إلى الإسلامِ لا مُقاتِلًا, فخرَج في ثلاثمائةٍ وخمسين رجلًا مِنَ المُهاجرين والأنصارِ وبني سُليمٍ، فانتهى إليهم فدَعاهُم إلى الإسلامِ فلم يُحسِنوا أن يَقولوا: أَسلَمْنا، فجعلوا يَقولون: صَبَأْنا، صَبَأْنا. -فحملها خالد على أنها سُخرية بالإسلام لأن قريشًا كانت تقول لمن أسلم صبأ تعييرا له- فجعَل خالدٌ يَقتُلُهم ويَأْسِرُهُم, ودفَع إلى كُلِّ رجلٍ ممَّن كان معه أَسِيرًا، فأمَر يومًا أن يَقتُلَ كُلُّ رجلٍ أَسِيرَهُ, فأبى ابنُ عُمَرَ وأصحابُه حتَّى قَدِموا على النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم فذكَروا له، فرفَع صلى الله عليه وسلم يَديهِ وقال: (اللَّهمَّ إنِّي أَبْرَأُ إليك ممَّا صنَع خالدٌ) مَرَّتين. وكانت بنو سُليمٍ هُم الذين قَتَلوا أَسْراهُم دون المُهاجرين والأنصارِ, وبعَث رسولُ الله صلى الله عليه وسلم علِيًّا, فَوَدَى لهم قَتلاهُم وما ذهَب منهم.
هو إسماعيلُ بن فرج بن إسماعيل بن يوسف بن نصر بن الأحمر، أبو الوليد، السلطانُ الغالِبُ بالله أميرُ المؤمنينَ، خامِسُ ملوك دولة بني نصر بن الأحمر بغرناطة في الأندلس، كانت لأبيه ولايةُ مالقة وسبتة، فتولَّاهما من بعده. وكان الملك بغرناطة أبو الجيوش نصرُ بن محمد الفقيه، وهو موصوف بالضَّعفِ، فثار عليه إسماعيلُ وزحف من مالقة إلى غرناطة سنة 713 فبويع فيها، وخرج نصرٌ إلى وادي آش. وأراد بطرس الأوَّلُ بن ألفونس الحادي عشر أحد ملوك الإسبان أن يستفيدَ مِن فرصة الفتنة في غرناطة فاقتحم الحصونَ يُريدُها، فكانت بين جيشِه وجَيشِ إسماعيل وقائعُ هائلة انتهت سنة 717 بمَقتَلِ بطرس. وفي سنة 724 تحَرَّك إسماعيل للجِهادِ، فامتَلَك بعضَ الحصون، وعاد إلى غرناطة ظافِرًا. وكان حازمًا مِقدامًا جميل الطلعةِ جهيرَ الصوت كثيرَ الحياء بعيدًا عن الصبوة، تميز عهده بالاستقرارِ وحُسنِ السياسةِ وإحياء فريضة الجهاد، ومحاربةِ الفَسادِ والبِدَع. اغتاله ابنُ عَمٍّ له اسمه محمد بن إسماعيل بطعنة خنجر في غرناطة في 26 رجب من هذه السنةِ.
هو الإمام، الفقيه الحافِظٌ، عالم الوقت، أبو عثمان ويقال: أبو عبد الرحمن ربيعةُ بنُ أبي عبد الرحمن فروخ القرشي، التيمي مولاهم، المشهور بربيعة الرأي، من موالي آل المنكدر. أحد أئمة الاجتهاد ومن أوعية العلم. أدرك جماعة من الصحابة رضي الله عنهم, وروى عن أنسِ بن مالكٍ، وعن كثير من التابعين، كان بصيرًا بالرأي، حتى لُقِّبَ بهذا اللقب، عليه تفقَّه الإمام مالك، كان صاحِبَ الفتوى في المدينة، وكان صاحِبَ اجتهادٍ، كريمًا عابدًا، أقدمه السفاح الأنبار ليوليه القضاء, فتوفِّي فيها, وقيل توفي بالمدينة, وطلبه المنصورُ للقضاءِ. قال الإمام مالكٌ: ذهَبَت حلاوةُ الفِقهِ منذ مات ربيعةُ، قال: الشافعي، حدثنا سفيان: كنا إذا رأينا طالبا للحديث يغشى ثلاثة ضحكنا منه: ربيعة، ومحمد بن أبي بكر بن حزم، وجعفر بن محمد؛ لأنهم كانوا لا يتقنون الحديث.
استحوذ جلالُ الدين بن خوارزم شاه على بلاد أذربيجان وكثيرٍ من بلاد الكرج، وكسر الكرجَ وهم في سبعين ألف مقاتل، فقتل منهم عشرين ألفًا من المقاتلة، واستفحل أمره جدًّا وعظم شأنه، وفتح تفليس فقتل منها ثلاثين ألفًا، وقتل من الكرج سبعين ألفًا في المعركة، وقتل من تفليس تمامَ المائة ألف، وقد اشتغل بهذه الغزوة عن قصد بغداد، وذلك أنه لما حاصر دقوقا سبَّه أهلها ففتحها قسرًا وقتل من أهلها خلقًا كثيرًا، وخرب سورها وعزم على قصد الخليفةِ ببغداد؛ لأنه فيما زعم عمل على أبيه حتى هلك، واستولت التتر على البلاد، وكتب إلى المعظَّم بن العادل يستدعيه لقتال الخليفة ويحَرِّضه على ذلك، فامتنع المعظَّم من ذلك، ولما علم الخليفة بقصد جلال الدين بن خوارزم شاه بغداد انزعجَ لذلك وحصن بغداد واستخدم الجيوشَ والأجناد، وأنفق في الناس ألف ألف دينار، وكان جلال الدين قد بعث جيشًا إلى الكرج فكتبوا إليه أن أدرِكْنا قبل أن نهلك عن آخرنا، وبغداد ما تفوتُ، فسار إليهم.
وفاة وزير الدولة لشؤون مجلس الوزراء السُّعودي الدكتور عبدُ العزيز الخويطر رحمه الله، الذي يُصنَّف من أقدمِ الوُزراء في المملكة. وُلد الخويطر في عُنيزة عامَ (1347هـ) الموافقَ (1925م)، ودرس فيها مرحلتَي الابتدائيَّة والمتوسِّطة، ثم انتقَل إلى المعهدِ العلميِّ السعودي بمكَّة المكرَّمة؛ لإكمال دِراستِه الثانوية، ثم ذهب إلى القاهرة ولندن لمواصلةِ دِراساتِه العليا في التاريخِ والفلسفة. ويُعدُّ الخويطر أوَّلَ سعوديٍّ يحصُل على شهادةِ الدكتوراه من بريطانيا، وكان ذلك عامَ (1960م). ويَعُدُّه البعضُ عميدَ الوُزراء السعوديِّين؛ إذ عاصَرَ خمسةً من الملوك هم: سعودٌ، وفَيصلٌ، وخالدٌ، وفهدٌ، وأخيرًا الملكُ عبد الله رحمهم الله. وقد تقلَّد عددًا من الوِزارات، وهي: وِزارة الشؤون الاجتماعية، وِزارة المالية، وِزارة العمل، وِزارة التَّربية والتعليم، وزارة التَّعليم العالي، وِزارة الصحَّة، وِزارة الزِّراعة، وأخيرًا وِزارة الدَّولة لشؤون مجلسِ الوُزراء حتى وفاتِه.
وجَّه أبو أحمد الموفَّق ولَدَه أبا العباسِ في نحوٍ مِن عشرة آلافِ فارس وراجلٍ، في أحسَنِ هيئةٍ وأكملِ تجَمُّل لقتال الزنج، فساروا نحوَهم فكان بينه وبينهم من القتالِ والنِّزال في أوقاتٍ متعدِّدة ووقعاتٍ مشهورةٍ، استحوذ أبو العباس بن الموفِّق فيها على ما كان استولى عليه الزنجُ ببلاد واسط وأراضي دجلة، هذا وهو شابٌّ حَدَثٌ لا خبرةَ له بالحرب، ولكِنْ سَلَّمَه الله وأعلى كلمَتَه وسَدَّد رَميَتَه وأجاب دعوتَه، وفتح على يديه وأسبَغَ نِعَمَه عليه، وهذا الشابُّ هو الذي وليَ الخلافةَ بعد عمه المعتمد، ثم ركب أبو أحمد الموفَّق ناصر دين الله في بغداد في صفر منها في جيوشٍ كثيفة، فدخل واسط في ربيع الأوَّل منها، ثم سار بجميعِ الجيوش إلى صاحب الزنج وهو بالمدينة التي أنشأها وسمَّاها المنيعة، فقاتل الزنجُ دونها قتالًا شديدًا فقهرهم ودخلها عَنوةً وهربوا منها، فبعث في آثارِهم جيشًا، فلَحِقوهم إلى البطائح يقتُلون ويأسرون، وغَنِمَ أبو أحمد من المنيعة شيئًا كثيرًا، واستنقذ من النساء المُسلمات خمسةَ آلافِ امرأة، وأمر بإرسالهنَّ إلى أهاليهن بواسط، وأمر بهدمِ سُورِ البلد وبطَمِّ خندقها وجعلها بلقعًا بعد ما كان للشَّرِّ مَجمعًا، ثم سار الموفَّق إلى المدينة التي لصاحب الزنج التي يقال لها المنصورة، وبها سليمان بن جامع، فحاصروها وقاتلوه دونها فقُتِلَ خَلقٌ كثيرٌ من الفريقين، ورَمى أبو العباس بن الموفَّق بسهمٍ أحمدَ بن هندي أحدَ أمراء صاحب الزنج فأصابه في دماغِه فقَتَله، فشَقَّ ذلك على الزنجِ جِدًّا، وأصبح الناسُ محاصِرينَ مدينة الزنج يومَ السبت لثلاث بقين من ربيع الآخر والجيوشُ المُوَفَّقية مُرتَّبة أحسنَ ترتيب، فتقدم الموفَّق واجتهد في حصارِها، فهزم الله مقاتِلَتَها وانتهى إلى خَندقِها، فإذا هو قد حُصِّنَ غايةَ التحصين، وإذا هم قد جعلوا حول البلدِ خمسةَ خنادقَ وخمسة أسوار، فجعل كلمَّا جاوز سورًا قاتلوه دون الآخَرِ، فيَقهَرُهم ويجوز إلى الذي يليه، حتى انتهى إلى البلد فقتل منهم خلقًا كثيرًا وهرب بقيَّتُهم، وأسَرَ مِن نساءِ الزِّنج من حلائل سليمان بن جامع وذويه نساءً كثيرةً وصِبيانًا، واستنقذ من أيديهم النساءَ المُسلِمات والصبيانَ مِن أهل البصرة والكوفة نحوًا من عشرة آلاف نسمةٍ فسَيَّرَهم إلى أهليهم، ثمَّ أمر بهدم أسوارِها ورَدْم خنادِقِها وأنهارِها، وأقام بها سبعةَ عشر يومًا، بعث في آثارِ مَن انهزم منهم، فكان لا يأتونَ بأحدٍ منهم إلَّا استماله إلى الحقِّ برِفقٍ ولِينٍ وصَفحٍ، فمن أجابه أضافه إلى بعض الأمراءِ - وكان مقصودُه رجوعَهم إلى الدينِ والحَقِّ- ومن لم يُجِبْه قتله أو حبَسَه، ثم ركب إلى الأهواز فأجلاهم عنها وطرَدَهم منها وقتلَ خلقًا كثيرًا من أشرافهم؛ منهم أبو عيسى محمد بن إبراهيم البصري، وكان رئيسًا فيهم مُطاعًا، وغَنِم شيئًا كثيرًا من أموالهم، وكتب الموفَّق إلى صاحب الزنج- قبَّحَه الله- كتابًا يدعوه فيه إلى التوبةِ والرجوع عمَّا ارتكبه من المآثِمِ والمظالمِ والمحارمِ، ودعوى النبوَّةِ والرِّسالة، وخرابِ البُلدانِ واستحلالِ الفُروج الحرام، ونبَذَ له الأمانَ إن هو رجَعَ إلى الحق، فلم يَرُدَّ عليه صاحِبُ الزنج جوابًا، فسار أبو أحمد الموفَّق إلى مدينةِ صاحب الزنج وحصار المختارة، فلمَّا انتهى إليها وجدَها في غاية الإحكام، وقد حَوَّط عليها من آلات الحصار شيئًا كثيرًا، وقد التفَّ على صاحب الزنج نحوٌ من ثلثمائة ألفِ مقاتلٍ بسيفٍ ورُمحٍ ومِقلاعٍ، ومن يكثر سوادهم، فقَدَّم الموفَّق ولدَه أبا العباس بين يديه فتقَدَّم حتى وقف تحت قصرِ الملك فحاصَره محاصرةً شديدةً، وتعجَّبَ الزنج من إقدامِه وجرأتِه، ثم تراكمتِ الزِّنجُ عليه من كلِّ مكان فهزمهم وأثبتَ بهبوذ بن عبدالوهاب أكبَر أمراءِ صاحبِ الزنجِ بالسِّهام والحجارةِ، ثم خامر جماعةٌ من أصحاب أمراءِ صاحِب الزنج إلى الموفَّق فأكَرَمهم وأعطاهم خِلَعًا سَنِيَّة، ثم رَغِبَ إلى ذلك جماعةٌ كثيرون فصاروا إلى الموفَّق، ثم ركب أبو أحمد الموفَّق في يوم النصف من شعبان ونادى في الناسِ كلِّهم بالأمان إلى صاحبِ الزنج، فتحول خلقٌ كثيرٌ من جيش صاحب الزنج إلى الموفَّق، وابتنى الموفَّق مدينةً تجاه مدينة صاحب الزنج سمَّاها الموفَّقيَّة، ليستعينَ بها على قتال صاحب الزنج، ثم جرت بينهم حروبٌ عظيمة، وما زالت الحربُ ناشبةً حتى انسلخت هذه السنةُ وهم محاصِرونَ للخبيثِ صاحِبِ الزنج، وقد تحوَّل منهم خلقٌ كثيرٌ، فصاروا على صاحِبِ الزنج بعد ما كانوا معه، وبلغ عددُ من تحول قريبًا مِن خمسين ألفًا من الأمراءِ الخواصِّ والأجناد، والموفَّق وأصحابُه في زيادةٍ وقوَّة ونصرٍ وظفَرٍ.
بعد أن طلب أميرُ الأحساءِ وزعيمُ بني خالد: سليمان بن محمد بن غرير آل حميد الخالدي من حاكِمِ العُيينة التخلُّصَ مِن الشيخ محمد بن عبد الوهاب, فكتب إلى عثمان يتوعَّدُه ويأمُرُه أن يقتُلَ هذا المطَوَّع الذي عنده في العُيينة, وقال: إن المطوع الذي عندكم بلغنا عنه كذا وكذا، فإما أن تقتُلَه، وإما أن نقطَعَ عنك خراجَك الذي عندنا!! وكان عنده للأمير عثمان خراجٌ من الذهب، فعظم على عثمانَ أمرُ هذا الأمير، وخاف إن عصاه أن يقطَعَ عنه خراجه أو يحارِبَه، فقال للشيخ: إنَّ هذا الأمير كتب إلينا كذا وكذا، وإنه لا يحسن منا أن نقتُلَك، وإنا نخاف هذا الأمير ولا نستطيع محاربتَه، فإذا رأيتَ أن تخرُجَ عنا فعلْتَ، فقال له الشيخ: إن الذي أدعو إليه هو دينُ الله وتحقيقُ كلمة لا إله إلا الله، وتحقيقُ شهادة أنَّ محمدًا رسول الله، فمن تمسَّك بهذا الدين ونصره وصَدَق في ذلك نصره الله وأيَّدَه وولَّاه على بلاد أعدائه، فإن صبَرْتَ واستقمْتَ وقَبِلْتَ هذا الخير، فأبشِرْ فسينصرُك الله ويحميك من هذا البدوي وغيره، وسوف يولِّيك الله بلادَه وعشيرته, فقال: أيُّها الشيخُ، إنَّا لا نستطيعُ محاربته، ولا صبرَ لنا على مخالفتِه، فخرج الشيخ عند ذلك وتحوَّل من العُيينة إلى بلاد الدرعية، جاء إليها ماشيًا- فيما ذكروا- حتى وصل إليها في آخر النهار، وقد خرجَ من العيينة في أوَّلِ النهار ماشيًا على الأقدام لم يَرحَلْه عثمان، فدخل على شخصٍ مِن خيارها في أعلى البلد يقال له محمد بن سويلم العريني، فنزل عليه.
سار مُعِزُّ الدولة من بغداد إلى الموصِل قاصدًا ناصِرَ الدولة الحمدانيَّ، فلما سمع ناصِرُ الدولة بذلك سار عن المَوصِل إلى نصيبين، ووصل معزُّ الدولة فمَلَك الموصِلَ في شهر رمضان، وظلم أهلَها وعسَفَهم، وأخذ أموالَ الرَّعايا، فكَثُرَ الدُّعاءُ عليه، وأراد معِزُّ الدولةِ أن يملِكَ جميعَ بلاد ناصرِ الدولة، فأتاه الخبَرُ من أخيه ركنِ الدولة أنَّ عساكِرَ خراسان قد قَصَدَت جرجان والريَّ، ويستمِدُّه ويطلب منه العساكِرَ، فاضطُرَّ إلى مصالحة ناصر الدولة، فتردَّدَت الرسل بينهما في ذلك، واستقَرَّ الصلح بينهما على أن يؤدِّيَ ناصِرُ الدولة عن الموصِل وديار الجزيرةِ كُلِّها والشَّام، كلَّ سنةٍ ثمانية آلاف ألف درهم، ويخطُبَ في بلاده لعمادِ الدولة، ورُكن الدولة، ومُعِز الدولة بني بُويه، فلما استقَرَّ الصُّلحُ عاد معز الدولة إلى بغداد فدخَلَها في ذي الحِجَّة.
هو حَبْرُ الأُمَّةِ، وهو أحدُ المُكْثِرين مِن الرِّوايَةِ عن النَّبِيِّ صلَّى الله عليه وسلَّم، شَهِدَ مع عَلِيٍّ الجَملَ وصِفِّينَ، وكان والِيًا له على الكوفَة، كُفَّ بَصَرُهُ في آخِرِ عُمُرهِ، وكان في مكَّة ثمَّ انْتَقل إلى الطَّائِف، وتُوفِّي فيها وهو ابنُ واحدٍ وسبعين سنة، ودُفِنَ فيها.
بعد رحيلِ نابليون بونابرت إلى فرنسا أقبلَ كليبر على تصريفِ الأمورِ بكُلِّ همَّةٍ، فأعَدَّ تنظيمَ الحكومةِ وقَسَّم القُطرَ المصريَّ إلى ثمانية أقاليم إدارية، وبادر بالكتابةِ إلى الصدر الأعظم ينفي رغبةَ فرنسا في انتزاعِ مِصرَ مِن تركيا، ويذكُرُ الأسبابَ التي جعلت فرنسا تُرسِلُ حَملتَها إلى مصرَ، وهي محاولةُ إلقاء الرُّعبِ في قلوبِ الإنجليز، وتهديدُ ممتلكاتهم في الهندِ، وإرغامُهم على قَبولِ الصلح مع فرنسا، بالإضافةِ إلى الانتقامِ ممَّا لحِقَ بالفرنسيين من أذًى على أيدي المماليك، وتخليصِ مِصرَ مِن سيطرة البكوات وإرجاعِها إلى تركيا، ثمَّ طلبَ كليبر من الصدر الأعظم فتحَ باب المفاوضات من أجلِ جلاء الفرنسيين عن مصر، وقد جرت هذه المفاوضاتُ بالفعل في مدينة العريش، وأسفَرَت عمَّا يسمَّى باتفاقية العريش (24 يناير 1800م) التي نصَّت على: جلاء الفرنسيين عن مصر بكامِلِ أسلحتِهم وعَتادِهم، وعودتهم إلى فرنسا. هدنةٌ ثلاثةَ شهور قد تطولُ مدتها إذا لزم الأمر، ويتم خلالَها نقلُ الحملة. الحصولُ من الباب العالي أو حلفائه- أي الإنجليز وروسيا- على بلادِه على أن تتعهَّدَ تركيا وحلفاؤُها بعدم التعرُّضِ لهذا الجيش بأيِّ أذًى. غيرَ أن الحكومة البريطانية عندما بلغَتْها أنباءُ مفاوضات العريش كانت قد اتخَذَت موقفًا من شأنِه تعطيلُ اتفاقية العريش عن إبرامِها؛ إذ كانت تخشى من أن يعودَ جيشُ فرنسا المحاصَر في مصر إلى ميادين القتالِ في أوروبا، فترجَحَ كِفَّةُ الجيوش الفرنسية ويختَلَّ ميزان الموقِفِ العسكري في القارة. ولَمَّا كان من المعتقد في ضوء رسائِلِ الضباط والجنود الفرنسيين إلى ذويهم في فرنسا- والتي وقعت في أيدي رجالِ البحرية البريطانية- أنَّ الحملةَ الفرنسيَّةَ تمضي ببطء داخِلَ الأراضي المصرية؛ فقد فضَّلت حكومة لندن أن يبقى الفرنسيون في مصرَ أو يُسَلِّموا أنفُسَهم كأسرى حرب؛ ولذلك أصدرت في 15 ديسمبر 1799م أوامِرَ صريحة إلى اللورد سدني سميث القائِدِ العام للأسطول البريطاني في البحر المتوسط برَفضِ أي اتفاق أو معاهدة بشأن الجلاءِ عن مصر، طالما كان هذا الاتفاقُ لا ينصُّ على ضرورة أن يسلِّمَ الفرنسيون أنفسهم كأسرى حرب تسليمًا مُطلقًا دون قيدٍ أو شرط، فأعَدَّ سدني سميث رسالةً بهذا المعنى إلى كليبر وصَلَتْه في أوائل مارس 1800م.
لَمَّا قُتِلَ خفاجة بن سفيان استعمل الناسُ ابنه محمدًا، وأقره محمد بن أحمد بن الأغلب أبو الغرانيق- صاحِبُ القيروان- على ولايته, كان ذلك في عام خمس وخمسين ومائتين، وفي رجب من عام سبع وخمسين ومائتين قُتِلَ الأميرُ محمد، قتله خَدَمُه الخصيان نهارًا وكتموا قَتْلَه، فلم يعرَفْ إلَّا مِن الغد، وكان الخدَمُ الذين قتلوه قد هربوا فطُلِبوا فأُخِذوا وقُتِلَ بعضُهم، ولَمَّا قُتِلَ استعمل محمَّدُ بن أحمد بن الأغلب على صقلية أحمدَ بن يعقوب بن المضاء بن سلمة، فلم تطُلْ أيَّامُه.
هو القاسِمُ بن محمَّد بن أبي بَكْرٍ الصِّدِّيق، أَحَدُ الفُقَهاء السَّبعَة بالمَدينَة، مِن سادات التَّابِعين, كان ثِقَةً عالِمًا، مات أَبوهُ وعُمُرُه سَبعُ سَنوات, تَرَبَّى في حِجْرِ عَمَّتِه عائِشَة رَضِيَ الله عنها فتَفَقَّهَ عليها، فكان فَقيهًا إمامًا وَرِعًا كَثيرَ الحَديثِ، قال أبو الزِّناد: ما رَأيتُ أَحَدًا أَعلمَ بالسُّنَّةِ مِن القاسِم بن محمَّد، وما كان الرَّجُل يُعَدُّ رَجُلًا حتَّى يَعرِفَ السُّنَّة، وما رَأيتُ أَحَدًا أَحَدَّ ذِهْنًا مِن القاسِم. قِيلَ: إنَّه مات بقُدَيْد، فقال: كَفِّنُونِي في ثِيابِي التي كُنتُ أُصَلِّي فيها، قَميصي ورِدائي، هكذا كُفِّنَ أبو بَكرٍ. وأَوْصَى أن لا يُبْنَى على قَبرِه.
وصَلَ السلطانُ بيبرس إلى المدينة النبويَّةِ في خامس عشر من ذي القعدة، فلم يقابِلْه جماز ولا مالك أميرا المدينة وفَرَّا منه، ورحل منها في سابع عشر، وأحرم فدخل مكَّةَ في خامس ذي الحجة، وأعطى خواصَّه جملةً من المال ليفَرِّقوها سرًّا، وفرق كساويَ على أهل الحرمينِ وصار كواحدٍ مِن الناس، لا يحجُبُه أحَدٌ ولا يحرُسُه إلا الله، وهو منفَرِدٌ يصلي ويطوف ويسعى، وغَسَلَ البيتَ، وصار في وسط الخلائق، وكلُّ من رمى إليه إحرامَه غَسَلَه وناولَه إيَّاه، وجلس على باب البيت، وأخذ بأيدي النَّاسِ ليُطلِعَهم إلى البيت، فتعلَّق بعض العامَّة بإحرامه ليَطلَعَ فقَطَعه، وكاد يرمي السُّلطانَ إلى الأرض، وهو مستبشر بجميعِ ذلك، وعَلَّق كسوة البيت بيده وخواصِّه، وتردد إلى مَن بالحرمين من الصالحين، هذا وقاضي القضاة صدر الدين سليمان بن عبد الحق الحنفي مرافِقُه طول الطريق، يستفتيه ويتفهَّمُ منه أمر دينه، ولم يغفُل السلطان مع ذلك تدبيرَ الممالك، وكتاب الإنشاء تكتُبُ عنه في المهمات، وكتب إلى صاحِبِ اليمن كتابًا ينكر عليه أمورًا، ويقول فيه: سطرتُها من مكة المشرَّفة، وقد أخذت طريقها في سبع عشرة خطوة يعني بالخطوة المغزلة، ويقول له: الملك هو الذي يجاهِدُ في الله حَقَّ جهاده، ويبذلُ نَفسَه في الذبِّ عن حوزةِ الدين، فإن كنتَ ملكًا فأخرج التتارَ، وأحسَن السلطانُ إلى أميري مكة، وهما الأمير نجم الدين أبي نمي والأمير إدريس بن قتادة، وإلى أمير ينبُع وأمير خليص وأكابر الحجاز، وكتب منشورين لأميري مكَّة، فطلبا منه نائبًا تقوى به أنفسُهما، فرتَّبَ الأمير شمس الدين مروان نائب أمير جاندار بمكة، يرجع أمرُهما إليه ويكون الحَلُّ والعقد على يديه، وزاد أميري مكة مالًا وغِلالًا في كلِّ سنة بسبَبِ تسبيل البيتِ للنَّاسِ، وزاد أمراءَ الحجاز إلَّا جمازًا ومالكًا أميري المدينة، فإنهما انتزحا من بين يديه، وقضى السلطانُ مَناسِكَ الحج وسار من مكَّةَ في الثالث عشر، فوصل إلى المدينة في العشرينَ منه، فبات بها وسار من الغدِ، فجَدَّ في السير ومعه عدةٌ يسيرة حتى وصل إلى الكرك بُكرةَ يوم الخميس آخره، ولم يعلم أحدٌ بوصوله إلا عند قبر جعفر الطيَّار بمؤتة، فالتَقَوه هناك، ودخل السلطانُ مدينة الكرك وهو لابس عباءةً، وقد ركب راحلةً، فبات بها ورحل من الغد.