فسَدَ أمرُ أنوشتكين الدزبري، نائبِ المستنصِرِ بالله الفاطميِّ، صاحِبِ مصر، بالشَّام، وكان الوزيرُ أبو القاسم الجرجرائي يقصِدُه ويَحسدُه، إلَّا أنَّه لا يجِدُ طريقًا إلى الوقيعةِ فيه، وأحسَّ الدزبري بما يجري، فأظهر ما في نفسِه، وأحضر نائبَ الجرجرائي عنده، وأمر بإهانتِه وضَرْبِه، ثمَّ إنه أطلق لطائفةٍ مِن العسكَرِ يَلزَمونَ خِدمَتَه أرزاقَهم، ومنع الباقينَ، فحَرَّك ما في نُفوسِهم، وقوِيَ طَمَعُهم فيه، بما كوتبوا به من مِصرَ، فأظهروا الشَّغبَ عليه، وقصَدوا قصْرَه، وهو بظاهِرِ البلد، وتَبِعَهم من العامَّة من يريد النَّهبَ، فاقتتلوا، فعَلِمَ الدزبري ضَعْفَه وعَجْزَه عنهم، ففارق مكانَه، وسار إلى بعلبك، فمنعه مستحفِظُها، وأخذ ما أمكَنَه أخذُه مِن مال الدزبري، وتَبِعَه طائفةٌ من الجند يَقفُونَ أثره، وينهبون ما يَقدِرونَ عليه، وسار الدزبري إلى مدينةِ حماة، فمُنِعَ عنها، وقُوتِلَ، وكاتب المقَلَّد الكناني الكفرطابي، واستدعاه، فأجابه وحضر عنده في نحو ألفَي رجلٍ مِن كفرطاب وغيرها، فاحتمى به، وسار إلى حلب، ودخلها، وأقام بها مُدَّةً، وتوفي في منتصَفِ جمادى الأولى من هذه السنة، فلما توفِّيَ فسدَ أمر بلاد الشام، وزال النِّظامُ، وطَمِعَت العرب، وخرجوا في نواحيه، فخرج حَسَّان بن المفرج الطائي بفلسطين، وخرج مُعِزُّ الدَّولة بن صالح الكلابي بحَلَب، وقصَدَها وحصرها، ومَلَك المدينةَ، وامتنع أصحابُ الدزبري بالقلعة، وكتبوا إلى مصرَ يَطلُبونَ النجدة، فلم يفعلوا، واشتغَلَ عَساكِرُ دمشق ومُقَدَّمُهم الحسين بن أحمد الذي ولي أمرَ دمشق، بعد الدزبري، بحَربِ حسَّان، ووقع الموت في الذين في القَلعةِ، فسَلَّموها إلى مُعِزِّ الدَّولة بالأمانِ.
سار صلاحُ الدين إلى خلاط وجعَلَ طريقَه على ميافارقين مَطمَع ملكها، حيث كان صاحِبُه قطب الدين، صاحِبُ ماردين، قد توفِّي ومَلَك بعده ابنُه، وهو طفل، وكان حُكمُها إلى شاه أرمن، وعسكَره فيها، فلمَّا توفِّيَ طَمِعَ في أخْذِها، فلمَّا نازلها رآها مشحونةً بالرجال، وبها زوجةُ قطب الدين المتوفى، ومعها بناتٌ لها منه، وهي أختُ نور الدين محمد، صاحِبِ الحصن، فأقام صلاحُ الدين عليها يحصُرُها من أول جمادى الأولى، واشتد القتالُ عليه ونُصِبَت المجانيق والعرادات، فلم يصِلْ صلاح الدين إلى ما يريد منها، فلما رأى ذلك عدل عن القوة والحَربِ إلى إعمال الحيلة، فراسل امرأةَ قطب الدين المقيمة بالبلدِ يقول لها: إنَّ أسدَ الدين يرنقش قد مال إلينا في تسليمِ البلد ونحن نرعى حقَّ أخيك نور الدين فيك بعد وفاتِه، ونريد أن يكونَ لك في هذا الأمرِ نَصيبٌ، وأنا أزوِّجُ بناتِك بأولادي وتكونُ ميافارقين وغيرها لك وبحُكمِك؛ ووضَعَ مَن أرسل إلى أسد يُعَرِّفُه أن الخاتون قد مالت للمُقاربة والانقياد إلى السلطان، وأنَّ مَن بخلاط قد كاتبوه ليُسَلِّموا إليه، فخُذْ لِنَفسِك، واتَّفَق أنَّ رسولًا وصَلَه مِن خلاط، يبذلون له الطاعةَ، وقالوا له من الاستدعاءِ إليهم ما كانوا يقولونَه، فأمر صلاح الدين الرسولَ، فدخل إلى ميافارقين، وقال لأسدٍ: أنت عمَّن تقاتِلُ، وأنا قد جئتُ في تسليم خلاط إلى صلاحِ الدين، فسُقِطَ في يَدِه، وضَعُفَت نفسه، وأرسل يقتَرِحُ أقطاعًا ومالًا، فأُجيبَ إلى ذلك، وسَلَّمَ البلد آخر جمادى الأولى، وعَقَدَ النكاح لبعضِ أولاده على بعضِ بنات الخاتون، وأقَرَّ بيدها قلعةَ الهتاخ لتكونَ فيها هي وبناتُها.
هبةُ اللهِ بن علي بن هبة الله بن محمد بن الحسن مجد الدين أبو الفضل بن الصاحب أستاذ دار المستضيء بأمر الله، انتهت إليه الرئاسةُ في زمانِه، ووليَ حجابةَ الباب في أيام المستنجدِ، وبلغ رتبةَ الوزراءِ، وولَّى وعَزَل وماج الرفض في أيامِه، وشمخت المبتدعةُ، ولَمَّا بويع الناصِرُ قَرَّبَه وحكَّمَه في الأمور، ثم إنَّ بعض النَّاسِ سعى به فاستدعيَ إلى دار الخلافة وقُتِلَ بها ثمَّ عُلِّقَ رأسُه على بابِ دارِه، وكان سيئَ الطريقة يرتكب المعاصيَ، بخيلًا خسيس النفس، ساقطَ المروءةِ، مذمومَ الأفعالِ، كان إذا رجع من متصَيَّده وقد صَحِبَه شيءٌ من لحوم الصيد، قطع راتبَه من اللَّحمِ واجتزأ بلحمِ الصَّيدِ عنه ولم يقدِرْ أحدٌ على أن يأكل له لقمةً ولا ينتَفِعَ مِن ماله بشيءٍ، ولما هلك خلَّفَ من الأموال شيئًا كثيرًا، وكان رافضيًّا محترقًا شديد التعَصُّب لهواه، معلِنًا بغُلَوائِه، ظهر بسببه سبُّ الصحابة رضي الله عنهم على ألسنة الفَسَقة الرَّافضة في الأسواق وفي المشاهد والمزارات، ولم يجسر أحدٌ من أهل السنة على إنكار ذلك، لا بِيَدِه ولا بلسانِه؛ خَوفًا من بطشِه وبأسِه! وحُكي أنه رئِيَ في المنام في الليلة التي قُتِلَ في صبيحتها كأنه يشبر عنُقَه ويقَدِّرُها بيده، فأصبح وقُصَّ منامُه على رجلٍ ضريرٍ كان يعبِّرُ الرؤيا ولم يقُلْ له إنَّه رآه بنَفسِه، فقال له: إن هذا الرائي لهذا المنام يُقتَلُ وتحَزُّ رَقَبتُه؛ لأنَّ الله تعالى يقولُ: {فَقُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ * ثُمَّ قُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ}.
في ثالث عشر ربيع الآخر قُتِلَ المركيس الفرنجي، صاحِبُ صور، وهو أكبَرُ شياطينِ الفرنج، وقيل في سبب قتله: إن صلاح الدين راسل مُقَدِّمَ الإسماعيلية، وهو سنان، وبذَلَ له أن يُرسِلَ مَن يقتُلُ مَلِك الإنكليز، وإن قَتَل المركيسَ فله عشرةُ آلاف دينار، فلم يمكِنْهم قتلُ ملك الإنكليز، ولم يَرَه سنان مصلحةً لهم؛ لئلَّا يخلو وجه صلاح الدين من الفرنجِ ويتفَرَّغ لهم، وطَمِعَ في أخذ المال، فعَدَل إلى قتل المركيس، فأرسل رجلينِ في زي الرُّهبان، واتَّصَلا بصاحب صيدا وابن بارزان، صاحِبِ الرملة، وكانا مع المركيس بصور، فأقاما معهما ستة أشهُرٍ يُظهِرانِ العبادة، فأنِسَ بهما المركيس، ووَثِقَ بهما، ثمَّ عَمِلَ الأسقف بصور دعوةً للمركيس فحَضَرَها، وأكل طعامَه، وشَرِبَ مُدامَه، وخرج من عنده، فوَثَب عليه الباطنيَّان, فجَرَحاه جراحًا وثيقةً، وهرب أحدُهما، ودخل كنيسةً يختفي فيها، فاتَّفَق أن المركيس حمل إليها ليشدَّ جراحه، فوثب عليه ذلك الباطنيُّ فقتله، وقُتِلَ الباطنيَّان بعده، وقيل: بل قتله ملك الإنكليز وضع له هذان الرجلانِ فقتلاه لينفرد بمُلْك الساحل الشامي، فلما قُتِلَ المركيس وَلِيَ بعده مدينة صور كند- قائد- من الفرنج، من داخل البحر، يقال له الكند هري، وتزوج بالملكة في ليلته، ودخل بها وهي حامل، وليس الحَملُ عندهم ممَّا يمنع النكاح، وهذا الكند هري هو ابنُ أخت ملك الإنكليز من أمِّه، ومَلَكَ الكند هري هذا بلاد الفرنج بالساحل بعد عودة ريتشارد ملك الإنكليز.
في سادس عشر جمادى الآخرة قدم الأمير صلاح الدين محمد الحاجب بن الصاحب بدر الدين حسن بن نصر الله ناظر الخاص إلى الإسكندرية في تحصيل المال، فجلس بالخمس، وبين يديه أعيان أهلها، فجاءه الخبر بأن الفرنج الذين وصلوا ببضائع المتجر، وهم في ثمان عشاريات من مراكب بحر الملح، قد عزموا على أن يهجموا عليه، وأن يأخذوه هو ومن معه، فقام عَجِلًا من غير تأنٍّ يريد الفرار، وتسارع الناس أيضًا يفرون، فهجم الفرنج من باب البحر، فدافعهم من هناك من العتالين، حتى أغلقوا باب البحر، وقتلوا رجلًا من الفرنج، فقتل الفرنج نحو عشرين من المسلمين، وانتشروا على الساحل، وأسروا نحو سبعين مسلمًا، وأخذوا ما ظفروا به، ولحقوا بمراكبهم، وأتوا في الليل يريدون السورَ، فتراموا ليلتَهم كلها مع المسلمين إلى الفجر، فأخذ كثير من المسلمين في الرحيل من الإسكندرية، وأخرجوا عيالهم، وقام الصياح على فقد من قُتِل وأُسِر، وباتوا ليلة الجمعة مع الفرنج في الترامي من أعلى السور، فقَدِمت طائفة من المغاربة في مركب ومعهم زيت وغيره من تجاراتهم، فمال الفرنج عليهم وقاتلوهم قتالًا شديدًا حتى أخذوهم عَنوة، وأخرجوهم إلى البر، وقطَّعوهم قطعًا، وأهل الإسكندرية يرونهم فلا يغيثونَهم، فقدم الخبر بذلك في ليلة السبت عشرينه، فاضطرب الناس بالقاهرة، وخرج ناظر الخاص نجدة لولده، ومضى معه عدة من الأمراء، وخرج الشيخ أبو هريرة بن النقاش في عدة من المطوعة، يوم الأحد الحادي والعشرين، وقدموا الإسكندرية، فوجدوا الفرنج قد أقلعوا، وساروا بالأسرى، وما أخذوه من البر ومن مركب المغاربة، في يوم الثلاثاء الثاني والعشرين، فعادوا في آخر الشهر إلى القاهرة.
هو الأميرُ طامي بن شعيب المتحمي، أحدُ أشهر أمراء عسير في الدولة السعودية الأولى، تولَّى إمارة الإقليم بعد وفاة ابنِ عمه عبد الوهاب بن عامر «أبو نقطة» المتحمي سنة 1224هـ. كان طامي ذا بِنيةٍ صحيحة وقوية، قصيرًا في بنائه ذا لحية طويلة بيضاء مهيبة، عيناه تقذفان شررًا، يمتاز بروحٍ سَمحة، ومهذَّب تجاه رئيس الأتراك؛ ولذا كان محمد علي بعد اعتقالِه غالبًا ما يتحدَّثُ معه معجبًا به. أبدى طامي نشاطًا كبيرًا لتوطيد الحكم السعودي في عسير والمخلاف السليماني, قاد طامي عملياتٍ عسكريةً ناجحة مكَّنتْه من الاستيلاء على اللحية، ثم الحديدة في اليمن؛ وهي أقصى نقطة وصل إليها الحكم السعودي في اليمن، ومع بداية الحملات العثمانية على الجزيرة العربية التي قادها محمد علي باشا ضدَّ الدولة السعودية الأولى كان لطامي بن شعيب مواقِفُ بطولية، جعلت محمد علي يحسبُ له حسابًا، كان محمد علي قد ركَّز بعد احتلاله لتربة على التقدُّم جنوبًا، فاستولى على رنية، ثم بيشة، وتقدَّم إلى بلاد عسير لتتبع طامي، الذي احتمى في البداية ببلدتِه طبب في عسير، ثم غادرَها وتحصَّن بحصنٍ له في مسلية في وادي بيش، فأرسل محمد علي في طلبِه والبحث عنه، فأدركوه متوجهًا إلى حصن في تهامة فيه مالٌ وسلاح ومتاعٌ، فغدر به حسن بن خالد الحازمي أحَدُ الأشراف، فقبض على طامي, فقُبض عليه في نهاية المطاف، فأخذه محمد علي معه مكبَّلًا بالحديد إلى مصر، حيث أُركِبَ جملًا وطِيفَ به في شوارع القاهرة، ثم أُرسِلَ إلى الأستانة، وشُهِرَ به، ثم أُعدِمَ وصُلِبَ هناك.
أعلن الميرزا حسين علي دعوتَه البهائية، وأنَّه الوريثُ الحقيقي للباب علي بن محمد الشيرازي مؤسِّس فرقة البابية الضالة. وفي عكَّا بذل البهاءُ جُهدًا كبيرًا في نشر دعوتِه وكسْبِ الأنصار والأتباع، فأعلن حقيقةَ شَخصِه، وأبطل ما كان يدَّعيه "الباب" حتى انسلخ هو وأتباعُه من شريعة الباب، ولم يبقَ مِن كلامه إلا ما كان فيه إشارةٌ أو إيماءة تبشِّرُ بمَقدَم البهاء، ولم يكتفِ بادعاء النبوة، بل تجاوزها إلى ادِّعاء الألوهية، وأنه القيومُ الذي سيبقى ويخلد، وأنه روح الله، وهو الذي بعث الأنبياءَ والرسُل، وأوحى بالأديان، وزعم أنَّ الباب لم يكن إلا نبيًّا مهمته التبشير بظهوره. وجعل البهاء الصلاةَ ثلاث مرات: صبحًا وظهرًا ومساء، في كل مرة ثلاث ركعات، وأبطل الصلاةَ في جماعة إلا في الصلاة على الميت، وقصَر الوضوء على غَسلِ الوجه واليدين وتلاوة دعاءين قصيرين. وحدَّد شهر الصوم بتسعة عشر يومًا من كلِّ عام الذي هو عنده تسعة عشر شهرًا. ويكون الصوم في شهر "العلاء" (21:2 مارس)، وهذا الشهر هو آخر الشهور البهائية. وجعل الحجَّ إلى مقامه في "عكا"، وهو واجب على الرجال دون النساء، وليس له زمنٌ معين أو كيفية محدَّدة لأدائه، كما غيَّر في أحكام الزواج والمواريث، وبدَّل في أحكام العقوبات، وفرض نوعًا من الضرائب على أتباعِه لتنظيم شؤونهم تقَدَّر بنسبة (19%) من رأسِ المال وتُدفَعُ مرة واحدة فقط. وكان من تعاليم "البهاء" إسقاطُ تشريع الجهاد وتحريمُ الحرب تحريمًا تامًّا، ومصادرة الحُرِّيات إلا حرية الاستماع إلى تعاليم البهاء!!
بعد الحرب مع روسيا التقى مندوبو الدولةِ العُثمانيَّة ومندوبو روسيا في بلدة قرب استانبول على بحر مرمرة تُسمَّى سان ستفانو، وذلك بعد محادثات تقَدَّمَ فيها الروس قليلًا عن خطِّ وقف إطلاق النار الذي اتُّفِق عليه، ونُقِلَ أيضًا مركزُ المحادثات من أدرنة إلى هذه القريةِ، وقدَّمَ المندوبُ الروسي شروطًا مسبقةً وطلب التوقيعَ عليها مباشرةً، وإلا تتقَدَّم الجيوش الروسية وتحتل استانبول، ولم يكن للعثمانيين من خيارٍ سوى التوقيع، وتنص المعاهدةِ على: تعيينِ حُدودٍ جديدة للجبل الأسودِ لإنهاء النزاع، وتحصُلُ هذه على الاستقلالِ، وإذا حَدَثت خلافاتٌ جديدةٌ تحلُّها روسيا والنمسا، تستقِلُّ إمارة الصرب وتُضافُ لها أراضٍ جديدةٌ، وتحدَّدُ الحدود حسبَ الخريطةِ المرفقة، وبمساعدة الروس تأخذ بلغاريا استقلالًا إداريًّا وتدفع مبلغًا محدَّدًا إلى الدولة العثمانية، ويكون موظفو الدولة والجندُ من النصارى فقط، وتُعَيَّن الحدود بمعرفة العثمانيين والروس، ويُنتَخَب الأمير من قِبَل السكان، ويُخلِّي العثمانيون جنودَهم نهائيًّا من بلغاريا، ويحِقُّ للعثمانيِّين نقلُ جنودهم إلى ولايات أخرى ضِمنَ الأراضي البلغارية، تحصل دولةُ رومانيا على استقلالها التام، يتعهَّدُ الباب العالي بحماية الأرمن النصارى من الأكرادِ والشركس، يقومُ الباب العالي بإصلاح أوضاع النصارى في جزيرة كريت، تدفعُ الدولة العثمانية غرامةً مالية حربية قدرها 245.217.391 ليرة ذهبية، ويمكِنُ لروسيا أن تتسلم أراضيَ مقابل المبلغ، تبقى المضائِقُ البوسفور والدردنيل مفتوحةً للسفن الروسية في زمن السِّلمِ وزَمَن الحرب، يمكِنُ للمسلمين الذين يعيشون في الأراضي التي اقتُطِعَت من الدولة العثمانية أن يبيعوا أملاكَهم ويهاجروا إلى حيث يريدون من أجزاءِ الدولةِ العُثمانية.
عُقِدَ مؤتمر الدار البيضاء الدولي بالمغربِ بدعوة من الملك محمد الخامس؛ ملك المغرب بعد عدة لقاءات واجتماعات بين ممثِّلي الدول الأفريقية التي وقَّعت فيما بعد ميثاقَ المنظمة. اشترك في هذا المؤتمر سِتُّ دول، هي: الجمهورية العربية المتحدة، والمغرب، وحكومة الجزائر المؤقتة، وغانا، وغينيا، ومالي. كما حضر المؤتمر مراقبان من ليبيا وسيلان، على الرغمِ من أن سيلان ليست دولةً أفريقية. وكان الهدف من المؤتمر تبادُلَ وجهاتِ النظر في المشاكل الأفريقية، والمشاركة الجماعية في تحرير دول القارة، ودعم الدول المستقلة. وكانت أهم القرارات التي اتَّخَذها المؤتمَرُ مساندة شعب الجزائر وحكومته المؤقتة؛ لتحقيق استقلاله، واستنكار الاستعمار الصهيوني، وضرورة حل قضية فلسطين والاعتراف بالحقوق الفلسطينية، واستنكار التجارب الذرية خاصةً الفرنسية التي تجري على أراض أفريقية، وتأييد مطالب المغرب في موريتانيا. ووقع المجتَمِعون في نهاية المؤتمر ميثاقًا لتنظيم العلاقات بينهم يضمن أهم المبادئ التالية: مبدأُ الوحدة الأفريقية، مبدأ عدم الانحياز، مبدأ محاربة الاستعمار القديم والجديد بجميع أشكاله. مبدأ المحافظة على سيادة الدول ووحدة أراضيها، والتعاون بين الدول الأفريقية. وأنشأ ميثاق الدار البيضاء عِدَّة لجانٍ لتنسيق العمل بين الدول الأعضاء، وتحقيق التعاون في جميع المجالات، وسَمَح ميثاق المجموعة بقَبول عضوية كل دولة أفريقية، على أن يوافِقَ الأعضاءُ على قبولها بالإجماع. وعلى الرغمِ من جميع هذه الإيجابيات فإنَّ الانسجام بين الدول الأعضاء لم يكنْ كاملًا، ولكن مع ذلك فإن تشكيلَ هذا التجمُّع أسهم في نشرِ فكرة الوحدة الأفريقية، وإبراز الشخصية الأفريقية.
كانت سَلْطنة عُمانَ من بيْن أوائل الدُّول التي نالَت استقلالَها في المنطقةِ. بعدَ أنْ أنهى السُّلطان قابوس دِراساتِه العسكريةَ في لَنْدن وقِيامِه بجولةٍ حولَ العالم، تمَّ استدعاؤه إلى الوطَنِ، ووُضِعَ قابوس في عُزْلة في قصْر صلالةَ؛ بسَبب تَعارُض أفكارِه التقدُّميةِ العالمية مع مُيول والِدِه في الإبقاءِ على محافظةِ وانعزاليةِ عُمان. وبدَعْمٍ مِن البريطانيين والصَّفوة السياسية في عُمان استولَى السُّلطان قابوس (البالغ مِن العُمر 30 عامًا) على الحكْمِ إثرَ انقلابٍ نفَّذه ضِدَّ أبيه سعيدِ بن تَيمور، ثم نَفى والدَه إلى لَندن؛ حيث مات هناك عام 1972م، وما إنْ تَسلَّم السُّلطانُ قابوس السُّلطةَ في يوليو 1970م حتى حصَل على اعترافٍ عالميٍّ كامل يَمنَحُه الاستقلالَ التامَّ عن بِريطانيا. وتمَّ تَغييرُ اسمِ الدَّولة من "سَلْطنة مسْقطَ وعُمان" إلى "سَلْطنة عُمان"، وبالإضافةِ إلى دَور قابوس كسُلْطانٍ يَشغَلُ قابوس مناصبَ رئيسِ الوزراء، ووزيرِ الخارجية، ووزيرِ الماليَّة، ووزيرِ الدِّفاع. جاء آل بوسعيد إلى حُكْمِ عُمان عام 1154هـ / 1741م، وما زالوا يَحكُمون إلى الآن، ويعودُ تاريخُ بوسعيد إلى أحمدَ بنِ سعيد الذي عُيِّن مُستشارًا لسيف بنِ سُلطان، آخِر مَن حكَمَ عُمان مِن اليعاربةِ، فلمَّا رأى اضطرابَ الأمورِ في البلادِ، وضَعْفَ الحاكمِ سيفِ بن سُلطان، وتفتُّتَ البلاد في عهْدِه؛ عمِلَ على تَوحيد الصُّفوف، وقضى على القواتِ الفارسيةِ الموجودةِ بالبلاد، وعلى إثْر ذلك بُويِعَ إمامًا للبلادِ، وتوالى الأئمةُ مِن آل بوسعيد حتى آل الأمْرُ للسُّلطان قابوس بنِ سعيد.
هو نور مُحمَّد تراقي أوَّلُ رئيسٍ لأفغانستانَ بعدَ الانقِلابِ الشُّيوعيِّ على مُحمَّد داود. وُلِدَ تراقي عامَ 1335هـ 1917م في قريةِ (ميدو) في ولاية غَزْنة، وسافَرَ في 1353هـ / 1934م إلى الهِنْد، وبَقِيَ في بومباي 4 سنواتٍ، وهناك اعتنَقَ الفِكْر الشيوعيَّ، وعندما رجَعَ إلى بلادِهِ عَمِلَ في مُؤسَّسة السُّكَّر التِّجاريَّةِ بوزارةِ الماليَّة، والتَحَقَ أيضًا بجامعةِ كابلَ، ثم ابتُعِثَ إلى أمريكا كمُلحَقٍ ثَقافيٍّ سنةَ 1373هـ، وبقي هناك مُدَّة أربَعِ سنواتٍ، ثم عاد إلى أفغانستانَ، وأسَّسَ عام 1385هـ / 1965م أوَّلَ نواةٍ للحِزْب الشُّيوعي الأفغانيِّ، وكان اللقاءُ الأوَّلُ في بيتِهِ، وانتُخِبَ أمينًا عامًّا للحِزْب بالإجماعِ، وفَشِلَ في الانتخاباتِ العامَّةِ التي جَرَتْ، وتسلَّمَ الحُكمَ نتيجةَ انقِلابٍ على الرئيس مُحمَّد داود، وتسلَّم تراقي رئاسةَ الجُمهوريةِ في جُمادى الأولى 1398هـ / نيسان 1978م واحتفَظَ لنفسه برئاسةِ الحُكومةِ، وعيَّنَ بابرك كارمل نائِبَهُ، واشتدَّتْ في عَهدِهِ أعمالُ العُنفِ في البلادِ، وجرتِ الدِّماءُ، وساد الإرهابُ، وخاف الناسُ، أمَرَ نورُ محمد تراقي بإخراج مُحمَّد داود من السجن، وقُتِلَ هو بعد قَتلِ أبنائِهِ الـ 29 أمامه، كما قَتَل جميعَ مُستشاريه ورجال حُكومتِهِ، كان محمد تراقي يُتقِن لُغةَ الأوردو، واللغةَ الإنجليزيَّةَ إضافةً إلى لُغتِهِ البَشْتو، وألَّفَ عددًا من الكُتُب، منها: (البقرةُ الصَّفْراء)، و (تعالَوْا لنبدأَ العَمَلَ)، و (اللَّحْم المُجفَّفُ)، وكُلُّها استِهْزاءٌ بالإسلامِ. وينتمي هو إلى قَبيلةِ البَشْتو، وكانت نهايةُ محمد تراقي على يَدِ صديقِهِ ورَفيقِهِ حفيظ الله أمين إثْرَ عَودتِهِ من (هافانا) عاصمةِ كوبا.
هو أميرُ المؤمنين، الناصِرُ لدينِ الله، أبو المطرِّف عبد الرحمن بن محمد بن عبد الله بن محمد بن عبد الرحمن بن الحكم بن هشام بن الداخل عبد الرحمن، كان أبوه محمَّدٌ وَلِي عَهْد والده عبد الله بن محمد، فقَتَله أخوه أبو القاسِمِ المطرِّف، فقَتَله أبوهما به. ولَمَّا قُتِلَ محمد، كان لابنِه عبد الرحمن عشرونَ يومًا. ووليَ الخلافةَ بعد جَدِّه عبد الله. قال ابن حزم: "كانت خلافتُه من المُستطرَف؛ لأنَّه كان شابًّا، وبالحَضرةِ جماعةٌ مِن أعمامه، وأعمامِ أبيه، فلم يعتَرِضْ معترِضٌ عليه. واستمَرَّ له الأمر وكان شهمًا صارِمًا ". نظر أهلُ الحَلِّ والعقدِ مَن يقومُ بأمرِ الإسلام، فما وجدوا في شبابِ بني أميَّةَ مَن يَصلُحُ للأمرِ إلَّا عبدُالرحمن بن محمد، فبايعوه، وطلب منهم المالَ فلم يَجِدْه، وطلب العُدَدَ فلم يجِدْها، فلم يزَل السَّعدُ يخدُمُه إلى أن سار بنَفسِه لابن حفصون، فوجده مجتازًا لوادي التُّفاح، ومعه أكثَرُ من عشرين ألف فارس, فهزمه وأفلت ابنُ حفصون في نفرٍ يسيرٍ، فتحصَّنَ بحِصن مبشر. ولم يزل عبدُ الرحمن يغزو حتى أقام العَوَج، ومهَّدَ البلاد، ووضع العدلَ، وكثُرَ الأمنُ، ثم بعث جيشًا إلى المغرب، فغزا سجلماسة، وجميعَ بلاد القبلة، وقتَلَ ابنَ حفصون. ولم تزَلْ كلمته نافذةً, وصارت الأندلسُ أقوى ما كانت وأحسَنَها حالًا، وصَفا وجهُه للروم، وشَنَّ الغاراتِ على العدُوِّ، وغزا بنَفسِه بلادَ الروم اثنتي عشرة غزوةً، ودوخَّهم، ووضع عليهم الخَراجَ، ودانت له ملوكُها، فكان فيما شرط عليهم اثنا عشر ألف رجلٍ يصنعون في بناء الزهراءِ التي أقامها لسُكناه على فرسخ من قُرطُبة. كلُّ مَن تقدَّمَ مِن آباءِ عبد الرحمن لم يتسَمَّ أحَدٌ منهم بإمرةِ المؤمنين، وإنما كانوا يُخاطَبونَ بالإمارة فقط، وفعل مِثلَهم عبدُ الرحمن إلى السَّنَةِ السابعة والعشرين مِن ولايته، وكان قد تلقَّبَ بأمير المؤمنين لما رأى مِن ضَعفِ الخلافةِ في بغداد, وظهورِ الشِّيعةِ العُبَيدية بالقيروان وادِّعائِهم لقبَ الخلافة، وما آلت إليه البلادُ مِن التفرُّقِ والتشَتُّت، فرأى أنَّه أحَقُّ بإمرةِ المؤمنين فتسمَّى بأمير المؤمنين وخليفةِ المُسلِمين سنة 316، ولم يزَلْ منذ وليَ الأندلسَ يستنزِلُ المتغلِّبينَ حتى صارت المملكةُ كُلُّها في طاعته، وأكثَرُ بلادِ العدوة، وأخاف ملوكَ الطوائف حوله. قال عبدُ الواحد المراكشي: " اتَّسَعت مملكة الناصر، وحَكَم على أقطار الأندلس، ومَلَك طنجةَ وسبتة وغيرَهما من بلاد العدوة، وكانت أيامُه كلُّها حروبًا, وعاش المسلمون في آثارِه الحميدة آمنينَ ". وقد ابتدأ الناصِرُ ببناء مدينة الزهراء في أوَّلِ سنة خمس وعشرين وثلاثمائة، فكان يَقسِمُ دَخْلَ مملكتِه أثلاثًا: فثُلُثٌ يرصُدُه للجند، وثلُثٌ يدَّخِرُه في بيتِ المال، وثُلُثٌ ينفقه في الزهراء, وكان دخَلُ الأندلس خمسة آلاف ألف دينار وأربعمائة ألف وثمانين ألفًا، ومن السوق والمُستخلَص سبعمائة ألف دينار وخمسة وستون ألفًا. ويقال: إنَّ بناء الزهراء أُكمِلَ في اثنتي عشرة سنة، بألفِ بنَّاءٍ في اليومِ، مع البنَّاءِ اثنا عشر فاعلًا. حكى أبو الحسن الصفار: " أنَّ يوسف بن تاشفين مَلِكَ المغرب لَمَّا دخل الزهراء، وقد خَرِبَت بالنيران والهَدْمِ، من تسعين سنةً قبل دخولِه إليها، وقد نقل أكثَر ما فيها إلى قُرطُبة وإشبيليَّة، ونظر آثارًا تَشهَدُ على محاسنها، فقال: الذي بنى هذه كان سفيهًا. فقال أبو مروان بن سراج: كيف يكونُ سفيهًا وإحدى كرائمِه أخرجت مالًا في فداءِ أُسارى في أيَّامِه، فلم يوجَدْ ببلادِ الأندلسِ أسيرٌ يُفدَى ". وقد افتتح سبعينَ حِصنًا -رحمه الله. بدأ عبدَ الرَّحمنِ الناصرَ المرَضُ وبقي فترةً على ذلك، إلى أن توفِّيَ في هذه السنة في صدر رمضان، فكانت إمارتُه خمسين سنة وستة أشهر، ثم خَلَفه ابنُه الحكمُ الذي تلقَّبَ بالمُستنصِر.
هو سلطان المغرب أبو يعقوب يوسف بن تاشفين بن إبراهيم بن ترقنت الصنهاجي اللمتوني المغربي البربري، الملقَّب بأمير المسلمين، وبأمير المرابطين، وبأمير الملثمين. ولد سنة 430. كان أحدَ من ملك البلاد ودانت بطاعته العباد، واتسعت ممالكه، وطال عمره. وقلَّ أن عُمِّرَ أحد من ملوك الإسلام ما عمر. تولى إمارة البربر واستولى على المغرب ثم الأندلس والسودان، وكان يخطب لبني العباس، وهو أول من تسمى بأمير المسلمين من المرابطين، ولم يزل على حاله وعِزِّه وسلطانه إلى أن توفي سنة 500. قال ابن خلدون: "تسمَّى يوسف بن تاشفين بأمير المسلمين، وخاطَبَ الخليفة لعهده ببغداد، وهو أبو العباس أحمد المستظهر بالله العباسي، وبعث إليه عبد الله بن محمد بن العربي المعافري الإشبيلي وولده القاضي أبا بكر بن العربي الإمام المشهور، فتلطفا في القول وأحسنا في الإبلاغ وطلبا من الخليفة أن يعقد لأمير المسلمين بالمغرب والأندلس؛ فعَقَدَ له وتضمن ذلك مكتوبًا من الخليفة منقولًا في أيدي الناس، وانقلبا إليه بتقليد الخليفة وعهده على ما إلى نظره من الأقطار والأقاليم، وخاطبه الإمام الغزالي والقاضي أبو بكر الطرطوشي يحضانه على العدل والتمسك بالخير". وإنما احتاج أمير المسلمين إلى التقليد من الخليفة المستظهر بالله مع أنه كان بعيدًا عنه وأقوى شوكةً منه؛ لتكون ولايته مستندة إلى الشرع، وهذا من ورعه، وإنما تسمى بأمير المسلمين دون أمير المؤمنين أدبًا مع الخليفة حتى لا يشارِكَه في لقبه؛ لأن لقب أمير المؤمنين خاص بالخليفة, وكان أمير المسلمين حين ورد عليه التقليد من الخليفة ضرب السكةَّ باسمه ونقش على الدينار لا إله إلا الله محمد رسول الله، وتحت ذلك أمير المسلمين يوسف بن تاشفين, وكتب على الصفحة الأخرى عبد الله أحمد أمير المؤمنين العباسي, وكان ملكه قد انتهى إلى مدينة أفراغة من قاصية شرق الأندلس، وإلى مدينة أشبونة على البحر المحيط من بحر الأندلس، وذلك مسيرة ثلاثة وثلاثين يومًا طولًا، وفي العرض ما يقرب من ذلك، وملك بعدوة المغرب من جزائر بني مذغنة إلى طنجة إلى آخر السوس الأقصى إلى جبال الذهب من بلاد السودان, ولم يُرَ في بلد من بلاده ولا عَمَلٍ من أعماله على طول أيامه رسمُ مَكسٍ ولا خَراجٌ، لا في حاضرة ولا في بادية إلا ما أمر الله به، وأوجب حكم الكتاب والسنة من الزكوات والأعشار وجزيات أهل الذمة وأخماس الغنائم, وقد جبى في ذلك من الأموال على وجهها ما لم يَجْبِه أحد قبله. يقال: إنه وُجِد في بيت ماله بعد وفاته ثلاثة عشر ألف ربع من الوَرِق، وخمسة آلاف وأربعون ربعًا من مطبوع الذهب, وكان زاهدًا في زينة الدنيا وزهرتها، وَرِعًا متقشِّفًا، لباسه الصوف لم يَلبَس قطُّ غيره، ومأكله الشعير ولحوم الإبل وألبانها مقتصرًا على ذلك، لم يُنقَل عنه مدة عمره على ما منحه الله من سعة الملك وخوَّله من نعمة الدنيا، وقد رد أحكام البلاد إلى القضاة وأسقط ما دون الأحكام الشرعية، وكان يسير في أعماله بنفسه فيتفقد أحوال الرعية في كل سنة، وكان محبًّا للفقهاء وأهل العلم والفضل مكرمًا لهم صادرًا عن رأيهم، يُجري عليهم أرزاقهم من بيت المال، وكان مع ذلك حسن الأخلاق متواضعًا كثير الحياء جامعًا لخصال الخير. هو الذي بنى مدينة مراكش في سنة خمس وستين وأربعمائة، اشتراها يوسف بماله الذي خرج به من الصحراء. وكان في موضعها غابة من الشجر وقرية فيها جماعة من البربر، فاختطها وبنى بها القصور والمساكن الأنيقة, وهو الذي أخذ الأندلس من ملوك الطوائف وأسر المعتمد بن عباد في أغمات.. توفي في قصره بمراكش يوم الاثنين لثلاث خلون من المحرم, وعاش سبعين سنة مَلَكَ منها مدة خمسين سنة, وكان قد عهد بالإمرة من بعده لولده علي الذي بويع له ولُقِب بأمير المسلمين كذلك.
في سادس ربيع الآخر مات الأمير بدر الدين بيليك النائب، واتهم أن المَلِكَ السعيد سَمَّه؛ وذلك أنه اختصَّ بجماعة من المماليك الأحداث، ومن بعده اضطربت أمورُ الملك السعيد، وأقام الملك السعيد بعده في نيابةِ السلطنة الأمير شمس الدين آقنسنقر الفارقاني، وكان حازمًا، فضم إليه جماعة منهم شمس الدين أقوش، وقطليجا الرومي، وسيف الدين قلج البغدادي، وسيف الدين بيجو البغدادي، وعز الدين ميغان أمير شكار، وسيف الدين بكتمر السلاح دار, فثقَّل الأمير آقسنقر على خاصكية السلطان، فحدثوا السلطانَ في أمره، واستعانوا بالأمير سيف الدين كوندك الساقي، وكان الملك السعيد قد قَدَّمَه وعظَّمَه لأنه ربِّيَ معه في المكتب، فقبض على آقسنقر الفارقاني وهو جالسٌ في باب القلة، وسُجِنَ وأهين ونُتِفَت لحيته وضُرِب، ثم أُخرج بعد أيام يسيرة ميتًا، فاستقر بعده في النيابة الأمير شمس الدين سنقر الألفي المظفري، فكرهه الخاصكية وقالوا، هذا ما هو من الظاهريَّة وخيلوا الملك السعيد منه أنه يريد أن يثور بخشداشيته- زملاء مهنته- مماليك الملك المظفر قطز، فعزله سريعًا، وولى الأمير سيف الدين كوندك الساقي نيابة السلطة وهو شابٌّ، فعضده الأمير سيف الدين قلاوون الألفي ومال إليه، وكان من جملة المماليك السلطانية الخاصكية شخصٌ يعرف بلاجين الزيني، وقد غلب على الملك السعيد في سائر أحوالِه، وضم إليه عدة من الخاصكية، وأخذ لاجين لهم الإقطاعات والأموال الجزيلة، وتنافر كوندك النائب ولاجين، فتوغرت بينهما الصدور، وأعمل كل منهما مكرهَ في أذية الآخر، وضم النائبُ إليه جماعة من الأمراء الكبار، وصار العسكرُ حزبين، فآل الأمرُ إلى ما آل إليه من الفساد، وتغير السلطانُ على الأمراء، وقبض في السابع عشر على الأمير جودي القيمري الكردي فنفرت منه قلوبُ الأمراء لا سيما الصالحيَّة: مثل الأمير سيف الدين قلاوون، والأمير شمس الدين سنقر الأشقر، والأمير علم الدين سنجر الحلبي، والأمير بدر الدين، بيسري، وأقرانهم فإنهم كانوا يأنفون من تمَلُّك الملك الظاهر عليهم، ويرون أنهم أحقُّ منه بالملك، فصار ابنه الملك السعيد يضَعُ من أقدارهم، ويقَدِّمُ عليهم مماليك أصاغر، ويخلو بهم وكانوا صِباحَ الوجوه، ويعطهيم مع ذلك الأموال الكثيرة، ويسمَعُ من رأيهم ويُبعِدُ الأمراءَ الكبار، واستمر الحالُ على هذا إلى أن كان يوم الجمعة الخامس عشر، فقبض السلطان على الأمير شمس الدين سنقر الأشقر، والأمير بدر الدين بيسري، وسجنهما بالقلعة ثلاثة وعشرين يومًا، فزادت الوحشة بينه وبين الأمراء، ودخل خالُه الأمير بدر الدين محمد بركة خان إلى أختِه أم السلطان، وقال لها: قد أساء ابنك التدبير بقبضه على مثل هؤلاء الأمراء الأكابر، والمصلحةُ أن تردِّيه إلى الصواب، لئلا يَفسُد نظامُه وتَقصُر أيامه، فلما بلغ الملك السعيد ذلك قبض عليه واعتقله، فلم تزل به أمه تعنِّفُه وتتلطف به، حتى أطلقهم وخلع عليهم وأعادَهم إلى ما كانوا عليه، وقد تمسَّكَت عداوته من قلوبهم، وتوهَّم منه بقية الأمراء، وخَشُوا أن يعامِلَهم كما عامل الأميرَ بيليك الخازندار- ممسك خزنة المال- مع حفظه له المُلك وتسليم الخزائن والعساكر إليه، فلم يكافئْه إلا بأن قتله بالسمِّ، فاجتمع الأمراء وهموا أن يَخرُجوا عنه إلى بلاد الشام، ثم اتفقوا وصعدوا إلى قلعة الجبل، ومعهم مماليكُهم وألزامهم وأجنادُهم وأتباعهم، ومن انضَمَّ إليهم من العساكر، فامتلأ منهم الإيوانُ ورحبة القصر، وبعثوا إلى الملك السعيد: بأنَّك قد أفسدت الخواطِرَ، وتعرضتَ إلى أكابر الأمراء، فإما أن ترجِعَ عما أنت عليه، وإلا كان لنا ولك شأن، فلاطفهم في الجوابِ وتنَصَّلَ مما كان منه، وبعث إليهم التشاريفَ فلم يلبسوها، وترددت الأجوبةُ بينهم وبينه إلى أن تقرَّر الصلحُ، وحلف لهم إنَّه لا يريد بهم سوءًا، وتولى تحليفَه الأمير بدر الدين الأيدمري فَرَضُوا وانصَرَفوا.
هو الأميرُ الكبيرُ المَهيبُ سَيفُ الدين أبو سعيد تنكز نائِبُ السلطنة بالشام، جُلِبَ إلى مصر وهو حَدَثٌ، فنشأ بها، وكان أبيض يميل إلى السمرة، رشيق القَدِّ، مليح الشَّعر، خفيف اللحية قليل الشَّيب، حَسَن الشَّكلِ، جلبه الخواجا علاء الدين السيواسي، فاشتراه الأمير حسام الدين لاجين، فلما قُتِلَ لاجين في سلطنته صار من خاصكية السلطان الناصر، وشهد معه وقعة وادي الخزندار ثم وقعة شقحب، سمع صحيح البخاري غير مرة من ابن الشحنة، وسمع كتاب الآثار للطحاوي، وصحيح مسلم. تولى نيابةَ السلطان بدمشق في شهر ربيع الآخر سنة 712 وتمكَّن في النيابة, وسار بالعساكِرِ إلى ملطية فافتتحها وعظُمَ شأنُه وهابه الأمراءُ بدمشق ونوَّاب الشام، وأمِنَ الرعايا به ولم يكُنْ أحدٌ من الأمراء ولا من أربابِ الجاه يَقدِرُ يظلِمُ أحدًا ذِمِّيًّا أو غيره خوفًا منه؛ لبطشه وشِدَّة إيقاعه, ثمَّ تغير السلطان الناصر على تنكز, وكان سَبَبُ تغير الحال بينهما- مع أن السلطان متزوج من بنته وأراد كذلك تزويجَ ولديه من بناته- لَمَّا قَتَل تنكز جماعةً من النصارى بسَبَبِ افتعالهم الحريقَ بدمشق، عَنَّف عليه السلطان، وأن في ذلك سببًا لقتل المسلمين في القُسطنطينية، وزاد الأمرَ أنَّه أمَرَه بإحضار الأموال المتحَصَّلة من جرَّاء هذه الحادثة وأن يجهِّزَ بناتِه، فاعتذر تنكز بانشغالِه بعمارةِ ما أكَلَه الحريقُ وأنَّه أنفق تلك الأموالَ في ذلك، وزاد الأمرَ كذلك سعايةُ بعض الحاسدين عليه لدى السلطانِ حتى أمر السلطان بإحضارِه إلى مصر، فخرج جيشٌ من مصر لإحضاره من دمشقَ، وكان تنكز قد عرف بالأمرِ، فخرج وأخرج أموالَه وأهله، فوصلَ إليه الأمراء من القاهرةِ وعَرَّفوه مرسومَ السلطان وأخَذوه وأركبوه إكديشًا- حصانًا غير أصيل يُستخدَم في حمل الآلات والعدَّة- وساروا به إلى نائب صفد، وأمر طشتمر بتنكز فأُنزِلَ عن فرسه على ثوب سرج، وقيده قرمجي مملوكُه، وأخذه الأمير بيبرس السلاح دار، وتوجَّه به إلى الكسوة، فحدث له إسهالٌ ورِعدةٌ خيفَ عليه منه الموتُ، وأقام بها يومًا وليلة، ثم مضى به بيبرس إلى القاهرة, وفي يومِ الثلاثاء سابِعَ المحرم وصل الأمير سيف الدين تنكز نائِبُ الشام وهو متضَعِّفٌ، بصحبة الأمير بيبرس السلاح دار، وأُنزِلَ من القلعة بمكانٍ ضَيقٍ حَرَجٍ، وقَصَد السلطان ضَرْبَه بالمقارعِ، فقام الأميرُ قوصون في الشفاعة له حتى أجيبَ إلى ذلك، وبعث إليه السلطان يُهَدِّدُه حتى يعترف بما له من المالِ، ويَذكُر من كان موافِقًا على العصيان من الأمراء، فأجاب تنكز بأنَّه لا مال له سوى ثلاثين ألف دينار وديعةً عنده لأيتامِ بكتمر الساقي، وأنكر أن يكون خرجَ عن الطاعة، فأمر السلطانُ في الليلِ فأُخرِجَ مع ابن صابر المقَدَّم وأمير جندار، وحُمِلَ في حراقة –سفينة- بالنيل إلى الإسكندرية، فقَتَلَه بها إبراهيم بن صابر المقَدَّم في يوم الثلاثاء خامس عشر ودفنوه بالإسكندرية، وقد جاوز الستينَ، ثم نقل من الإسكندرية بعد ثلاث سنين ونصف أو أكثر، بشفاعةِ ابنتِه زوجة السُّلطانِ الناصر، فأَذِنَ في ذلك وأرادوا أن يُدفَنَ بمدرسته بالقدس الشريف، فلم يُمكِنْ، فجيء به إلى تربته بدمشق وقيل: كانت وفاتُه بقلعة إسكندرية مسمومًا، وتأسَّفَ الناسُ عليه كثيرًا، وطال حُزنُهم عليه، وفي كل وقتٍ يتذكَّرون ما كان منه من الهَيبةِ والصيانةِ والغَيرةِ على حريمِ المسلمينَ ومحارم الإسلام، ومن إقامتِه على ذَوي الحاجاتِ وغَيرِهم؛ يشتَدُّ تأسفهم عليه. ويُذكَرُ أنَّ لتنكز هذا أوقافًا كثيرة، من ذلك مرستان بصفد، وجامع بنابلس وعجلون، وجامع بدمشق، ودار الحديث بالقدس ودمشق، ومدرسة وخانقاه بالقدس، ورباط وسوق موقوف على المسجد الأقصى، وتُتبِّعَت أموال تنكز، فوجِدَ له ما يجِلُّ وَصفُه واشتملت جملةُ ما بيع له على مائتي ألف دينار، فكان جملةُ العين ستمائة ألف دينار وأربعمائة دينار، ومع ذلك كان له أعمالٌ جدية في دمشق فأزال المظالمَ، وأقام منارَ الشَّرعِ، وأمَرَ بالمعروف، ونهى عن المنكر، وأزال ما كان بدمشق وأعمالها من الفواحِشِ والخانات والخَمَّارات، وبالغ في العقوبةِ على ذلك حتى قَتَل فيه، وغيرها من عمارة المدارس والأوقاف والمساجد.